اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الحج أحكامه وفوائده وشروطه للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى لما خلق الخلق بين حكمته في خلق الإنس والجن فقال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المَتِينُ[الذاريات:56-58].
وقد بين لهم ما يعبدونه به؛ لأنهم لا يستطيعون أن يصلوا إليه بنفع ولا بضر، ولا يمكن أن يتقربوا إليه إلا بما شرع لهم، فأرسل إليهم الرسل ليروهم المحجة وليقيموا عليهم الحجة: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لأَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء:165]، وقد قفى على آثارهم بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فجاء على فترة من الرسل واقتراب من الساعة وجهالة من الناس بالحنيفية السمحة، التي هي الدين عند الله تعالى، كما قال الله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
وقد أكمل الله خطابه لأهل الأرض وتوجيهه لهم ودينه إليهم بهذا الدين، الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك قال فيه: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً [المائدة:3].
والدخول في هذا الدين هو الإسلام، وأي قرار يتخذه الإنسان من تلقاء نفسه بالاستسلام لأمر الله جل جلاله والانقياد لحكمه، فلا يمكن أن يكون الدخول في الإسلام بمجرد الميراث أو التسمية أو الجنسية، بل لا بد أن يكون قناعة وقراراً يتخذه الإنسان من تلقاء نفسه، وفرق بين مسلمة الدار ومسلمة الاختيار، فإذا اختار الإنسان الإسلام سبيلاً ورضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً رسولا، فلا بد أن يتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله ليطبقه على وفق ما يرضي الله جل جلاله، وليعلم أن الله بنى هذا الدين على خمسة أركان بيّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين في قوله: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، وصوم رمضان).
وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً عندما سأله جبريل عن الإسلام في حديث عمر في صحيح مسلم فقال: ( الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً ).
فهذه الأركان الخمسة إذا أكملها الإنسان كان بنيانه متكامل الأساس، كملت أركانه، وركن الشيء هو جانبه القوي، وإذا نقص واحد منها فإنه كان كالذي يسكن في بيت متهدم الجانب، لا يأمن فيه الإنسان على نفسه ولا على ماله، فلا بد أن يحرص الإنسان على إكمالها، وليبدأ أولاً بتحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فلا يقبل الله شيئاً من هذه الأركان إلا بشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وكل عمل من أعمال بني آدم التي يتقرب بها إلى الله لا بد أن تجمع بين هاتين الشهادتين، فشهادة أن لا إله إلا الله تقتضي الإخلاص في العمل، وأن يقصد به الإنسان وجه الله الكريم وحده، وأن لا يكون له شرك فيه، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل: ( أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه ).
وكذلك لا بد في كل عمل صالح أن يحقق الإنسان فيه شهادة أن محمداً رسول الله بأن يتابع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن لا يبتدع، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية لـمسلم : (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
فكل عمل لم يخلص فيه صاحبه لله فإنه منافٍ لشهادة أن لا إله إلا الله، ولا يتقبله الله، وكل عمل ابتدع فيه الإنسان وخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو منافٍ لشهادة أن محمداً رسول الله فلا يتقبله الله، فالصلاة، والزكاة، والصوم، والحج لا بد أن يحقق في كلها شهادة أن لا إله إلا الله بالإخلاص لله، ويحقق في كلها شهادة أن محمداً رسول الله، بمتابعة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى.
والحج ركن من هذه الأركان إجماعي، فمن أنكر وجوبه فإنه كافر يستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وهو خارج من الملة، ولا يمكن أن يقبل الله منه أداءه وهو منكر لوجوبه، وهو واجب مرة واحدة في العمر، فإذا أداه الإنسان مرة في العمر فإنه أدى فرض العين، ويبقى بعد ذلك فرض الكفاية، فيجب على المسلمين في كل عام إقامة الموسم حتى لو قدر أن عدد المسلمين حصر في أفراد قد حجوا جميعاً، فإنه يجب إقامة الموسم، ولا يحل تعطيله كل عام.
والحج فيه كثير من الفوائد للإنسان، فمن أعظم هذه الفوائد: أنه إكمال لأركان الإسلام وبيت الإنسان، فالإنسان كيانه الحقيقي هو دينه؛ ولذلك الإنسان إذا جرد من الدين ولم يكن له امتثال ولا اجتناب، فإنه قد تودع منه والبهيمة خير منه، كما قال الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ [البينة:6].
وكلما ازداد الإنسان نصيباً من الدين ورفع درجة فيه ازدادت درجته في الجنة، وقد قال الله تعالى: وَلَلآخِرَةُ أَكْبرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبرُ تْفضِيلاً [الإسراء:21]، وقال تعالى: هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ [آل عمران:163]، وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أهل الجنة ليتراءون الغرف كما يتراءى أهل الأرض الكوكب الدري في السماء)، فالمصلون متفاوتون في صلاتهم تفاوتاً عظيماً، فإذا صليتم العصر هنا في المسجد والصفوف ممتلئة، فلا يمكن أن يتساوى أهلها في أدائها، فمنهم من تكتب له صلاة واحدة بمليارات الصلوات، ومنهم من تكتب له بمئات الآلاف، ومنهم من تكتب له بالآلاف، ومنهم تكتب له بالمئات، وأقلهم حظاً من تكتب له بعشر حسنات، والله يضاعف لمن يشاء.
وكذلك في الزكاة والصوم والحج، وتفاوت الناس فيها يشمل تفاوتهم في معرفة أحكامها وتفاوتهم في هيئة أدائها، وتفاوتهم في الإقبال على الله فيها، وتفاوتهم كذلك بإتقانها وإحسانها، فإحسان العمل متفاوت، وأنتم تعلمون أن العمل الواحد كالبنيان ونحوه، قد يتخصص فيه عشرات من الناس، فقد يكون لدينا الآن مئات من المتخصصين في البنيان، لكنهم متفاوتون فيه تفاوتاً عظيماً في إتقانهم له، وفي تنسيقهم للبنيان وأدائه، فكذلك التفاوت في العمل وإتقانه، وهذا العمل لا بد فيه من مجاهدة أياً كان، صلاةً أو صوماً أو حجاً أو زكاةً، لا بد أن يجاهد الإنسان فيه نفسه ويأطرها على الحق، حتى لا يأخذ الشيطان شيئاً منه، فإن الشيطان عدو للإنسان وهو يتربص به الدوائر، ويعلم أن رفع درجة الإنسان إنما هي بالعمل الصالح، فيحاول أن يخدش عمله وأن ينقصه، فلا بد أن يحقق الإنسان عداوته لله بالسعي لتحسين عمله، فكلما تقدم به العمر زاد إحساناً لصلاته، وازداد إتقاناً لزكاته، وصيامه، وحجه، وذكره وقراءته، وغير ذلك من أنواع الطاعات والقرب.
ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:62]، فمن عجز عن العمل في الليل فله فرصة في النهار، ومن عجز عن العمل في النهار فله فرصة بالليل، وكل مذكر من عند الله تعالى وحجة ساطعة وبرهان قاطع لله جل جلاله على عباده، ومن لم يتقن الحج في العام الماضي ففرصته أن يتقنه في هذا العام، ومن لم يتقن صيام رمضان في الماضي ففرصته أن يتقنه في المستقبل وأن يعزم على ذلك، وهكذا في زكاته وفي كل شئونه، بل إن العبادة الواحدة تجّزأ إلى أجزاء ففيها أركان وفرائض أساسية، وفيها واجبات دون ذلك، وفيها سنن ومندوبات مكملة بحسب التشريع، فالتشريع كله ثلاث درجات: ضروريات، وحاجيات، وتحسينيات، فالضروريات هي: الأركان الأساسية التي لا يمكن أن تتحقق الحقيقة إلا بها، والحاجيات هي: الواجبات التي لا يستقيم إنتاجها وأداؤها إلا بها، والكماليات والتحسينيات هي: ما زاد على ذلك مما يتفاوت الناس فيه.
فالصلاة تعرفون أركانها فإذا تركها الإنسان جهلاً أو نسياناً أو سهواً، فإنه يجبرها بسجود السهو، ثم بعد ذلك السنن والمندوبات الأخرى التي هي دون هذا فلا يلزم بطلان بتركها عمداً، ولا يلزم سجود بتركها سهواً، وهكذا في الصوم والزكاة والحج فهي متفاوتة، وأيضاً فحسب الأداء يكون التدرج فنعلم أن الصلاة مثلاً عدد من الركعات، فصلاة الصبح ركعتان، وصلاة الظهر أربع، وصلاة العصر أربع، وصلاة المغرب ثلاث، وصلاة العشاء أربع في حق المقيم. والرباعيات تقصر في حق المسافر، فإذا أدرك الإنسان ذلك علم أن الركعتين الأوليين من صلاة العصر مثلاً لا بد فيهما من التأني ومجاهدة النفس على الإتقان؛ ولذلك شرعت فيهما السورة بعد الفاتحة، وشرعت فيهما الإطالة والركود، كما في حديث سعد بن أبي وقاص في الصحيح أنه قال لعمر لما شكاه بنو أسد إليه أنه لا يحسن أداء الصلاة، قال: (والله إني لأصلي لهم صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أركد في الأوليين وأخفف في الأخريين، فقال عمر : ذلك الظن بك).
فلا بد أن يركد الإنسان في الأوليين؛ لأن الصلاة بمثابة سيارة تسوقها وأنت مسرع في الاتجاه إلى الله جل جلاله، وسائر في طريق الوصول إليه، والسيارة لها سرعات متفاوتة، فالدرجة الأولى تكون السيارة فيها ثقيلة، وفي التي تليها كذلك، ثم بعد ذلك إذا وصلت إلى السرعة الثالثة خفت السيارة، فإذا وصلت إلى الرابعة زادت الخفة والسرعة، وهكذا فكذلك ركعات الصلاة.
ومن هنا لا بد أن يحاول الإنسان في كل عبادة يقوم بها أن يحسن آخرها وختامها، فهو ختامه، وخاتمة الإنسان هي المسيطرة والمهيمنة على عمله كله، فالأعمال بخواتيمها، فإذا أتقنها الإنسان لم يضره ما سبقها، فتكون الخاتمة مكفرة لما سبق، وإذا فرط فيها وضيع، فإنه حتى لو أحسن في الماضي فقد جاء بعد ذلك الماضي ما ينقصه ويضره، فلذلك لا بد أن يعالج الإنسان نفسه، ويجاهدها على إتقان العبادة، وأدائها على الوجه السليم.
ومن فوائد الحج: أنه كذلك سبب لتكفير سيئات الإنسان في الماضي، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( فمن حج فلم يفسق فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).
ويوم مولد الإنسان لا يكون عليه فيه سيئة، وحدد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بقوله: (من ذنوبه)، أما حسناته فتبقى له، وسيئاته تمحى فيخرج من حجه ويرجع كيوم ولدته أمه من السيئات، أما من ناحية الحسنات فله ما مضى منها، ومثل ذلك قول الله تعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنْ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ َ[البقرة:203]. فمعنى قوله: (لا إثم عليه) أنه قد كفرت سيئاته، سواء تعجل في يومين أو تأخر فأتم ثلاثة أيام بمنىً، وهي أيام التشريق بعد يوم العيد، فسواءً تقدم أو تأخر فإنه يخرج من ذنوبه كيوم ولدته يومه.
وكذلك من فوائد الحج: أنه سبب لدخول الجنة كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة )، (ليس له جزاء إلا الجنة) معناه: ليس له مثوبة دون الجنة، فصاحبه إذا أتقنه وأداه على وجهه فجزاؤه الجنة.
وكذلك من فوائده: استجابة الدعاء فيه، ففيه مواطن هي مظنة لاستجابة الدعاء، وقد ثبت عن ابن عباس أنه قال: ترفع الأيدي إلى الله في سبعة مواضع: عند رؤية البيت الحرام، وعلى الصفا وعلى المروة، وبعرفة، وبجمع، وبعد رمي الجمرة الأولى، وبعد رمي الجمرة الثانية. فهذه سبعة مواضع في الحج ترفع الأيدي إلى الله فيها، فمعناه: أنها مظنة لاستجابة الدعاء عند رؤية البيت الحرام، وأول ما يرى الإنسان بيت الله الحرام، فهذا مظنة لاستجابة الدعاء فليهل به.
وكذلك عند وقوفه على الصفا فهي من شعائر الله، وعند وقوفه على المروة فهي من شعائر الله، وشعائر الله ما أشعر به بحكم وعظمه وميزه.
ثم ذلك الوقوف بعرفة فهو مكان استجابة الدعاء، ولا يمر على الشيطان يوم هو فيه أخزى من يوم عرفة لكثرة من يرى من المغفور لهم، ولكثرة ما يرى من قضاء حوائج المسلمين، ثم بعد ذلك الوقوف بجمع وهي المزدلفة، وذلك يوم العيد في الصباح، وهو الموقف الذي يذكر فيه الإنسان لله نعمته يثني بها عليه كما قال الله تعالى: فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنْ الضَّالِّينَ [البقرة:198].
والموقف السادس: وهو بعد رمي الجمرة الأولى، وهي الجمرة الصغرى وهي الشرقية من الجمار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رماها تياسر فوقف قدر هذ سورة البقرة، فدعا الله سبحانه وتعالى ثم انصرف إلى الجمرة الوسطى فرماها، ثم تيامن فوقف قدر هذ سورة البقرة فدعا، فهذان الموضعان يستجاب فيهما الدعاء، أما جمرة العقبة فليس بعدها دعاء؛ لأنها نهاية الرمي، ويشرع بعدها الانصراف لئلا يؤدي المكث إلى الزحام.
وكذلك من فوائد الحج: أنه مؤتمر عام للمسلمين يلتقي فيه قاصيهم ودانيهم مشارقهم ومغاربهم، فيطلع بعض على أحوال بعض، ويشعر بعض بما يعانيه بعض، ويحس بآماله وآلامه، ويجد نفسه معه في خندق واحد.
وكذلك من فوائده: ما يشهده الإنسان من المنافع الدينية والدنيوية، ففيه تذكير بمشاهد القيامة، فالإنسان يخرج في رحلة هي أقدس رحلة يسير فيها في حياته، فهي تذكير له برحلته إلى الدار الآخرة عندما يموت فيحمل على الرقاب إلى قبره، وفيها تجرد لله من كل شيء، كما قال السيد قطب - رحمه الله-: إن المحرم يتجرد لله من كل شيء حتى من ملابسه الخاصة، فمعناه: أنه لا بد أن يتجرد إلى الله من حظوظ نفسه ومن ذنوبه ومن أعماله، ويتخلص للحج ولا ينشغل عنه بأي شيء سواه.
فلذلك يتذكر الحاج بثيابه وهي ثياب إحرامه أكفانه، ويتذكر ببقعة المطاف الساهرة، وهي أرض مستديرة كالكرسفة البيضاء يقف الواقف على وجهها فيرى طرفها الآخر، ويجتمع فيها الناس جميعاً كالفراش المبثوث وكالجراد المنتشر، وكذلك الوقوف بصعيد عرفة ومباهاة الله ملائكته بالحجاج يذكر بالعرض على الله جل جلاله: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:18]، وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30]. وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إنكم ملاقو الله حفاة عراة غرلاً مشاة، كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء:104] ).
وكذلك السير من عرفة إلى مزدلفة مذكر بالصدر، فعندما يصدر الناس من قبورهم وينادون هلم إلى ربكم فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وهم يصدرون ليروا أعمالهم: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَه [الزلزلة:7-8].
وتذكر الإنسان لمشاهد القيامة بهذه المواقف والبقاع المقدسة من أهم فوائدها عليه؛ لأنه يزيده إيماناً، ويزيده حثاً على تقديم شيء لنفسه، وزيادة ترشيح كفة حسناته، وقد قال الله تعالى: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ [الحج:28]، وذكر أهل العلم أن ذلك يشمل المنافع الدنيوية والمنافع الدينية.
وكذلك من فوائد الحج: أنه أيضاً سبب للغناء، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير صدأ الحديد)، وما ينفقه الإنسان من النفقات في حجه مخلوف لا يمكن أن يدور عليه العام إلا وقد عوض ما أنفقه من عند الله سبحانه وتعالى دون جهد ولا عناء.
وكذلك فإن من فوائد الحج أيضاً: أن الإنسان فيه يدخل في ضيافة الله جل جلاله، وأنتم تعرفون أن الإنسان محب للإكرام، ويحب أن يكون ضيفاً لكريم وأكرم الأكرمين هو الرب جل جلاله، وهو الذي ينادي الحجاج ليكرمهم، فيدعوهم إلى هذه المشاعر وهو الذي يؤشر لهم، فالذين يخرجون إلى الحج هم وفد الله، هو الذي أنزل أسماءهم وأعطاهم التأشيرات ويسر لهم ما يوصلهم، وهو الذي ناداهم فأجابوا، وأمر خليله صلى الله عليه وسلم بدعوتهم كما قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ[الحج:26-28].
لكن الحج الذي هذه فوائده مشروط بكثير من الشروط، ككل امتحان نتيجته كبيرة، فلا بد أن يكون شاقاً، ولا بد أن يكون الإنسان مستعداً له؛ ولذلك الحج المبرور له ثلاثة شروط:
الشرط الأول: أن يكون الإنسان فيه مستعداً له بالحلال؛ بأن يكون الزاد من حلال والراحلة من حلال، فإذا تزود الإنسان للحج من حرام، أو كان حجه من حرام كأكل مال الناس بالباطل، وكالغلول من المال العام، وكالسرقة وكالربا وكالغش، وكسؤال الناس وهو ليس من أهل المسألة، فإن حجه ليس مبروراً، وقد أخرج الطبراني في معجمه وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن العبد إذا كان زاده من حلال، وراحلته من حلال، فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، حجك مبرور، وسعيك مشكور، وذنبك مغفور. وإذا كان زاده من حرام وراحلته من حرام، فوضع رجله في الغرز فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، حجك غير مبرور، وسعيك غير مشكور، وذنبك غير مغفور ).
فلا بد أن يحرص الإنسان على أن يكون زاده من حلال، وأن تكون راحلته من حلال، وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أشرف البرية على رحل خلق قديم وقطيفة لا تساوي أربعة دراهم، وهو يقول: ( اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة )، وهو يريد أن يكون حجه من حلال، وهو أشرف الثقلين وأحبهم إلى الله جل جلاله، ومع ذلك يقول: ( اللهم حجة لا رياء فيها ولا سمعة ).
وقد كان الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني - رحمه الله تعالى - يقول:
إذا حججت بمالٍ أصله سحت فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبة ما كل من حج بيت الله مبرور
والسحت هو الحرام، وقد جاء عن ابن عباس و ابن عمر أن رجلاً قال عند كل واحد منهما: ما أكثر الحجيج! فقال: قل ما أكثر الركب، بل ما أقل الحجيج، فقليل هم أولئك الذين وفقوا لأن يكون زادهم من حلال ورواحلهم من حلال.
ثم الشرط الثاني من شروط بر الحج: أن يوفق الإنسان لأدائه على وفق ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال: (خذوا عني مناسككم)، وبين ما يرضي الله سبحانه وتعالى من الحج ورد ما كان من عمل الجاهلية، وأقام الحج على ما كان عليه في أيام إبراهيم عليه السلام، وتممه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، وجاء في وقته، فإن الحج فرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، فلما كان العام التاسع كانت أشهر الحج إذ ذاك نسيئاً، أي: قد حولت عن وقتها، كما كان أهل الجاهلية يفعلون، وقد رد الله النسيئة بإنزال سورة التوبة، وقد أنزلت في الحجة في العام التاسع، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر في الحج ولم يحج هو من عامه، وبعد نزول سورة التوبة أرسل علياً لإعلانها لأهل الموقف، فأعلنها للناس: بَرَاءَةٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ المُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللهِ وَأَنَّ اللهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ[التوبة:1-3]، فكانت البراءة المطلقة من المشركين، فأعلنها علي بن أبي طالب باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج، ونادى مناديه في فجاج منىً و مكة: ألا يحج بعد العام المشرك؛ لأن الله أنزل في هذه السورة قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة:28].
ولما كان العام العاشر من الهجرة ودخل شهر رمضان أرسل صلى الله عليه وسلم الرسل في أنحاء جزيرة العرب يدعو الناس لشهود الحج معه، وقال: ( إني خارج من عامي هذا، فمن استطاع أن يشهد معي الحج فليشهد )، فجاء إلى المدينة خلق كثير من أنحاء جزيرة العرب، كلهم يريد أن يحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وصف جابر بن عبد الله كثرتهم قال: (فلما أقلته راحلته نظرت بين يديه فإذا مد البصر وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك، وكان الناس يلتحقون به في الطريق)، وفي حديث ابن عباس أنه لما مر بفج الروحاء استقبله ركب، فقال: ( من القوم؟ فقالوا: المسلمون، فقالوا: ومن أنت؟ فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت إليه امرأة صبياً في خرقة، فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر ).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم استقبل علي بن أبي طالب و أبا موسى وقد جاءا من اليمن ومعهما حجيج اليمن فاستقبلهما بمكة، فجاء خلق كثير فشهدوا الموقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحجوا معه ولا يحيط بهم عبد، وفيهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المعروفين مائة وأربعة وعشرون ألفاً من الصحابة المسمين المعروفين، فضلاً عمن سواهم من الخلائق ومن الأعراب، ومن لم يسم ومن لم يعرف.
وأدى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجة، فأحرم من ذي الحليفة لخمس بقين من ذي القعدة، ولما جاء إلى مكة طاف في البيت وسعى بين الصفا والمروة، وقد لبد شعره وساق هديه وقلده فلم يحل، ولما كان اليوم الثامن من ذي الحجة وهو يوم التروية ركب راحلته وخرج إلى منى فصلى بها الخمس، أي: الظهر في وقتها قصراً، والعصر في وقتهاً قصراً، والمغرب في وقتها، والعشاء في وقتها قصراً، والفجر في وقتها، فلما كان وقت الضحى ركب راحلته فاتجه إلى عرفة وهو يلبي، ومن أصحابه من يلبي ومن يكبر ومن يسبح، ولم ينكر أحد منهم على أحد، ودون عرفة وقبل الوصول إليها نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبة من أدم قد بنيت له على طرف وادي عرنة، عند أول عرفة، فنزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى اقترب الزوال، فقربت له راحلته فركب عليها، ووضع رجليه في غرزها فقام خطيباً، وأمر جرير بن عبد الله أن يستنصت الناس، فقال: (أيها الناس! أنصتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة طويلة بين فيها حقوق بعضهم على بعض، وما بقي من مناسكهم، وذكر فيها بحرمة الزمان والمكان، وأوصى فيها بالنساء خيراً، وبعد ذلك أمر بلالاً فأذن وأقام، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً في أول وقت الظهر، ثم ركب راحلته فاتجه إلى الجبل، فظن الناس أنه سيصعده حتى إذا وصل إلى الصخرات التي دونه وجه راحلته إلى جهة القبلة، فوقف وقال: (وقفت هاهنا وعرفة كلها موقف)، ثم بدأ يكبر ويهلل ويدعو، وقال: (أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير).
وقد قال سفيان بن عيينة لمن سأله فقال: هذا ثناء لا دعاء، فقال: أما سمعت قول أمية بن أبي الصلت :
إذا أثنى عليك المرء يوماً كفاه من تعرضه الثناء
ثم بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الحال، وفي بعض الأحيان يوجه الناس ويأمرهم وينهاهم حتى غربت الشمس، ومكث هنيهة بعد الغروب.
ثم انطلق إلى جمع أي: إلى مزدلفة و بلال بين يديه يقول له: (يا رسول الله! الصلاة الصلاة، فيقول: إن الصلاة أمامك)، وكلما مر بركب يقول: السكينة السكينة ويشير بيديه، حتى نزل بمزدلفة عند المشعر الحرام، فأذن بلال وأقام فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم أمره فأقام فصلى العشاء قصراً، ثم نام رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وعجل الضعفة من أهله إلى منىً، وبات هو وأصحابه هنالك حتى طلع الفجر فصلى الصبح في أول وقتها، ثم وقف عند المشعر الحرام فكبر الله كثيراً وأثنى عليه، وما زال يكبر ويدعو حتى كان الإسفار الأعلى، فخالف المشركين وكانوا لا ينفرون من مزدلفة حتى يرون الشمس على ثبير، وكانوا يقولون: أشرق ثبير كي ما نغير. فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغار عند الإسفار الأعلى واتجه إلى منى، فتجاوز منزله وهو بمسجد الخيف، وتجاوز الجمرة الأولى والجمرة الثانية والجمرة الثالثة وهي جمرة العقبة، فلما وصل إلى أسفل الوادي رد ناقته إلى الجمرة فرماها من أسفلها، وجعل منىً عن يمينه ومكة عن شماله، ووقف فرمى الجمرة وهو راكب على راحلته بسبع حصيات يكبر مع كل حصاة، ثم نزل فنحر ثلاثاً وستين من بدنه، ووكل علياً على نحر باقيها، ثم دعا أبا طلحة فحلق شق رأسه الأيمن فأمره بتوزيعه بين أصحابه، ثم أمره فحلق شق رأسه الأيسر فخص به أبا طلحة للبركة.
ثم بعد ذلك جيء لرسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم ومرق من الإبل التي نحرها هو و علي ، وقد أخذ من كل ناقة منها مزعة من لحم فطبخت في قدر واحد، فأكل منه هو و علي وشرب من مرقها، ثم وقف للناس يسألونه وهو راكب على راحلته وهو مردف الفضل بن العباس ، (فما سئل يومئذٍ عن شيءٍ قدم ولا أخر إلا وقال: افعل ولا حرج، ومن الناس من يقول له: نحرت قبل أن أرمي، ومنهم من يقول: حلقت قبل أن أنحر، فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج).
ثم انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فطاف طواف الإفاضة، وصلى ركعتين خلف مقام إبراهيم، ثم رجع إلى منى فصلى بها الظهر، وأقام بها حتى كان وقت الزوال من اليوم الحادي عشر فذهب إلى الجمرة الصغرى وهي أدناها إلى منزله؛ لأن منزله كان بمسجد الخيف، فرماها وهو مستقبل القبلة بسبع حصيات، ثم تياسر فدعا قدر هذ سورة البقرة، ثم ذهب إلى الجمرة الوسطى فرماها مستقبل القبلة بسبع حصيات، ثم تيامن فدعا قدر هذ سورة البقرة، ثم ذهب إلى جمرة العقبة وهو الكبرى فتجاوزها ورماها من جهة الغرب مكانه الذي يرمي منه، ورماها بسبع حصيات ثم انصرف إلى منزله.
وهكذا في اليوم الثاني عشر وفي اليوم الثالث عشر، وقد خطب الناس في اليوم الثاني عشر، وقال: (إنا نازلون غداً إن شاء الله بمحصب بني كنانة حيث تعاهدوا على حرب الله ورسوله)، فأقيمت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبته بالمحصب، ولما نزل بالمحصب صلى به أربعة فرائض في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وهي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وبعد العشاء ذهب إلى البيت الحرام فطاف طواف الوداع.
فلما رجع إلى منزله يريد الانصراف إلى المدينة وجد صفية بنت حيي أم المؤمنين تبكي، فقال: ( حلقى عقرى أحابستنا هي، فقيل: إنها قد أفاضت، فقال: فلتنفر إذاً )، فنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكر قافلاً راجعاً إلى المدينة، وأمر عبد الرحمن بن أبي بكر أن يذهب بـعائشة إلى التنعيم فتحرم من هنالك وتطوف وتسعى عمرة؛ لأنها جاءت وقد أحرمت من المدينة فحاضت فلم تعتمر عمرتها حتى خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منى، فأمرها أن تحرم بحجتها، وأرادت أن ترجع بحجة وعمرة، فأمر عبد الرحمن فخرج بها إلى التنعيم فطافت وسعت وحلت، ثم أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكديد أو بكراع الغميم، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بين للناس مناسكهم، وكان يبينها دائماً في كل مشهد ويقول: ( خذوا عني مناسككم ).
وإذا أدى الإنسان حجته على وفق ما أداها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا دليل على أن حجه مبرور.
أما الشرط الثالث من شروط بر الحج فهو: أن يكون الإنسان بعد الحج خيراً منه قبل الحج، فإذا كان الإنسان قبل الحج سيء الأخلاق، وكان شديد الغضب، وسيء المعاملة لجيرانه وأهله، أو كان غير بر بوالديه، أو غير محسن إلى زوجه، فجاء بعد الحج وقد تحسنت أخلاقه وتغيرت حالته فهذا دليل على أن حجه مبرور.
وكذلك إذا كان غير حريص على أداء الصلاة جماعة، فجاء بعد الحج وهو حريص على الصف الأول، كلما أذن المؤذن أجابه، أو كان لا يقدر على الوضوء أو الغسل ويتمم للفرائض دائماً، فجاء بعد الحج قادراً على ذلك فكان يتوضأ ويغتسل، فهذا دليل على أن حجه مبرور.
ومثل ذلك من ترك ما كان يفعله من المحرمات كأكل الربا أو أكل الغيبة، أو الكذب أو المشي بالنميمة، أو غير ذلك مما هو محرم شرعاً، فوجد نفسه طائعة لتركه بعد الحج، فذلك دليل على أن حجه مبرور.
ومثل ذلك من وجد نفسه مقبلةً على الطاعة ووجدها سهلة عليه، فسهل عليه ذكر الله وسهلت عليه قراءة القرآن، والاستماع إلى العلم والحضور للدروس، وتكثير سواد المسلمين في الدعوة والاجتماعات في المساجد، فهذا دليل على أن الله وفقه واختار له الخير، فحجه مبرور إن شاء الله.
وإذا رجع الإنسان كما هو ولم يتغير شيء من حاله خرج سيء الخلق فرجع سيء الخلق، أو خرج وهو مقبل على المعصية ورجع كذلك، فهذا دليل على أن حجه مع الأسف لم يغير حالته فليس مبروراً.
وإذاً نقف على هذا الحد، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا أجمعين الحج المبرور، وأن يجعل عملنا خالصاً لوجهه الكريم. والحمد لله رب العالمين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الحج أحكامه وفوائده وشروطه للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
https://audio.islamweb.net