اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الخطاب الدعوي للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى بنى هذه الحياة الدنيا على سنن ثابتة لا تتغير، وهذه السنن هي من أمر الله سبحانه وتعالى وقدره، ولا يمكن أن تتخلف، كما لا يتخلف دوران الفلك، وتعاقب الليل والنهار.
ومن هذه السنن: ارتباط الأسباب بمسبباتها، فالدعوة سبب للهداية، لكنها لا تؤدي إلى هذه النتيجة إلا إذا سارت على وفق سنتها، وعلى وفق ما أراد الله لها، والهداية التي تؤدي إليها الدعوة هي هداية الإرشاد، أي: إنارة الطريق للناس، وأن يعرفوا ما خلقوا من أجله، وما أمرهم به ربهم سبحانه وتعالى، وما جاءهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن تنير هذه الطريق للناس مالم تكن هذه الدعوة مضبوطة بضوابط الشريعة، مرتبطة بالمنهج النبوي الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المنهج الناجح والمثال لسلوك طريق الحق، وقد بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( تركتكم على المحجة البيضاء، أو على مثل البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك )، فما تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي ارتضاه الله للثقلين الإنس والجن، وهو منهج الله المستقيم، وهو صراطه المؤدي إلى جنته، وهو حبله المتين، من تمسك به عصم.
وهذا الحبل المتين الذي تركنا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو مثل المحجة البيضاء ليلها كنهارها، وهذا مقتض لبيان كل ما يقع فيه من اللبس والخطأ، وضمان لمعرفة الخطأ من الصواب إذا التبس، فإنه لو وكل إلى اجتهادات الرجال، لتغير وتبدل، كحال الديانات السابقات التي عهد بحفظها إلى أصحابها، فترون ما حصل فيها من التحريف والتبديل.
أما هذا الدين المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فإنه معصوم من التغيير والتبديل، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [فصلت:42]، وقد تعهد الله بحفظه وتولى ذلك بنفسه، لم يكله إلى ملك مقرب، ولا إلى نبي مرسل، فهو محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى الحي القيوم، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، ( لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يرفع إليه أمر الليل قبل النهار، وأمر النهار قبل الليل )، فلذلك لا يمكن أن يقع فيه اختلال ولا اختلاف إلا اتضح للناس خطؤه وبان لهم زيفه، وذلك من عصمة الله سبحانه وتعالى لصراطه المستقيم.
ومن حكم ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأت بعده رسول إلى البشرية، لا يمكن أن يأتي بعده نبي، فهو خاتم النبيين، فإذا كان الأمر موكولاً إلى اجتهادات الرجال أبداً وإلى تقويمهم فإن ذلك مقتض لزواله، وحاجة الناس إلى من يجدده، لكن الله سبحانه وتعالى تعهد بحفظه، وقد علم أنه لن يرسل رسولًا بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فلذلك لا بد لمن يسلك طريق محمد صلى الله عليه وسلم أن يسلكها على بصيرة بها، وأن يتعرف على ضوابط سيره، ومعارجات طريقه، وما يعرض له من المشكلات في هذا الطريق.
إن من الواجب علينا في الخطاب الدعوي المقدم للناس، الذي ينوب فيه صاحبه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويؤدي فيه أمانه الله التي عرضها على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان، والذي عهد إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبليغه للناس في آخر موقف شهده مع الناس فقال: ( ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع )، وعهد إلينا بحفظه كذلك، وذكر الفضل العظيم لمن حفظه، فقال فيما أخرج عنه أصحاب السنن، من حديث ابن مسعود رضي الله عنه: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه )، وبين كذلك وظيفة الذين يحمونه ويبينونه للناس، فيما أخرجه أبو عمر بن عبد البر في مقدمة التمهيد، و الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث من حديث ابن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين ).
فهذه البصيرة بالأمر الذي يدعو الإنسان إليه، ضابط من أهم ضوابط الخطاب الدعوي، فالذي يريد أن يدعو على غير علم، ولا يريد أن يتصل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا منهجه، ولا يريد أن يسلك طريق الذين سبقوه، ولا أن يستفيد مما كانوا عليه ومما أخذوا به لا بد أن يتردى في الوحل.
فلا بد إذاً من هذه البصيرة المقتضية لأن يعرف الإنسان برهانه في كل ما يقوم به، وأن تكون له حجة من الله سبحانه وتعالى في كل ما يعمل، ومن كان على ذلك فهو على نور من ربه، إذا وقف فعن علم يقف، وإذا تقدم فعن علم يتقدم، ومن كان هكذا فلن يشك في أمر من الأمور، ولن يلتبس عليه شيء من المشتبهات.
ثم بعد هذا لا بد من ضابط آخر آكد من سابقه ألا وهو: الإخلاص لله سبحانه وتعالى، وقصد وجهه الكريم بالأمر كله، فكل خطاب يقدمه الإنسان على طريق الدعوة لا بد أن يكون مخلصاً فيه لله تعالى، وإلا كان ضره أكثر من نفعه، لا بد أن يكون الإنسان مخلصاً في كل كلمة تصدر منه، وكل تصرف يصدر منه، وإلا فإن عدم الإخلاص مضر ضرراً بالغاً بمقدم الخطاب وبسامعه؛ لذلك لا بد من مراجعة الإخلاص في كل قول يقوله الإنسان، وأن يعلم أن الكلمة التي يقولها أمانة عنده، وأنها ستعرض عليه بين يدي الله في طائره يحمله في عنقه، وستشهد عليه جوارحه بما قال، ويشهد عليه الملائكة الكرام المزكون عند الله تعالى بما لفظ.
ثم بعد هذا لا بد من ضابط آخر وهو: التوسط والاعتدال في الأمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الشطط، وحذر كذلك من الإفراط ومن التفريط، فلا بد أن يكون هذا الخطاب وسطاً بين الإفراط والتفريط، فالإفراط مقتض من الإنسان أن يبالغ في الأمر مبالغة تخرج به عن نطاق الشرع، وحينئذ لا بد أن يدخله الهوى، والهوى ضد الشرع، والمتمسك به عابد لشريك لله هو الهوى، فالهوى شريك من الشركاء التي تعبد من دون الله عز وجل.
والذي يتشبث بهواه، ويقدمه على خطاب الله مذموم في القرآن بغاية الذم، فإنه قد اتخذ إلهه هواه، وتعرفون أن ذلك مبين في سورة النازعات أنه سبب لدخول النار، وأن مخالفة الهوى ونهي النفس عنه سبب لدخول الجنة.
ثم بعد هذا لا بد أن يدرك الإنسان معنى هذا التوسط، وأن الإفراط المنهي عنه ليس تجاوزاً لما كان عليه الناس، وليس تجاوزاً للقول الذي كان فيه الإنسان نفسه، بل المقصود بالنهي عن الإفراط: تجاوز المنهج النبوي، فإذا كنا نحن في طور من أطوار ضعفنا، أو في طور الطلب والازدياد من العلم، أو في طور الاستضعاف في الوسائل فأخذنا بما لدينا وبما نستطيع، ثم تجددت نعمة من عند الله سبحانه وتعالى اقتضت زيادة في الأداء والعطاء، فليس إعمال تلك النعمة بإفراط ولا غلو ولا مجاوزة.
ومثل ذلك في المقابل، جاء النهي عن التفريط الذي هو التقصير، وهو: ركون إلى الراحة، وإخلاد إلى الأرض، وهذا التفريط مقتض من الإنسان بترك بعض ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورده على الله سبحانه وتعالى فيكون متخيراً، فما وافق هواه ووافق وقته أخذ به، وما خالفه تركه، وأنتم تعرفون أن فاعل ذلك غير مخلص لله سبحانه وتعالى، بل يأخذ ما يريد ويرد ما يريد، وقد بين الله أن هذا من شأن المنافقين وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [النور:48-50].
فلا بد من الاستسلام لأمر الله كله، وإلا فما الفرق بين المسلمين واليهود، إذا كان المسلم يأخذ ما يوافقه ويترك ما يخالفه؟ أليس اليهود يقولون: نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض؟ أليسوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين معه: نؤمن بما معكم وجه النهار، ونخالفكم بقيته؟
فإذاً لا بد أن يستسلم المسلم لأمر الله كله، وأن يأخذ بالمنهج كله، وقد شرط الله ذلك في الإيمان فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
إن هذا المنهج الوسطي مفيد في هذا الخطاب الدعوي في أمور أخرى منها:
أولاً: توصيله بما لا يستطيع الإنسان الوصول إليه بذاته وطاقاته ووسائله المحدودة، فالإنسان إذا أخذ بهذا المنهج المعتدل الوسطي الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، فإن الحوادث لا تستفزه، فإذا جاء الترغيب والترهيب، لم يكن لهما أي تأثير عليه، وإذا جاءت السراء والنعمة لم تضره، وإذا جاءت الضراء والمحنة لم تذله ولم ترده عما أخذ به.
ثم بعد هذا لا بد من الأخذ بهذا الضابط فيما يتعلق بالتعامل مع الناس، فالناس قلما تجتمع قلوبهم على الأمر، وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم:( الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة )، فلو أن الإنسان مال مع بعضهم على حساب بعض فإن ذلك سيؤدي من الآخرين إلى النفرة، وقد صح في الصحيح ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قوم من الأنصار يترامون -أي: يرمون غرضاً نصبوه- فقال: ارموا وأنا مع بني فلان، فأمسك الآخرون فقال: ما بالكم؟ فقالوا: كيف نراميهم وأنت معهم؟ فقال: ارموا وأنا معكم كلكم )، فلذلك لا بد من هذا التوازن، وهو مقتض لتأليف القلوب.
أما التعامل بمقابل هذا التعامل فهو مقتض للفرقة والاختلاف والنزاع، فالإنسان إذا عدل عن هذه الوسطية، ومال إلى جانب الإفراط والمبالغة، فكثيراً ما يكون خطابه الدعوي تحميساً يصل إلى حد الانفجار دون أن يستغل ذلك في مجراه الصحيح، وفي وجهه المستقيم.
وأيضاً إذا جاء بالبرودة والتماوت، ولم يؤد الغرض المقصود من هذا الخطاب كان ذلك سبباً أيضاً لتفلت الناس من حوله، وعدم أخذهم بقوله، ثم بعد هذا كثيراً ما يؤدي ذلك -أيضاً- إلى ردود أفعال غير محمودة، مثلما يحصل في كثير من الأحيان من تكفير بعض الناس لبعض على غير أساس شرعي، فليس التكفير مذموماً شرعاً مطلقاً، بل التكفير المذموم شرعاً هو تكفير المسلمين، تكفير من كان آخذاً بالإسلام محقاً فيه فهذا المذموم شرعاً، أما تكفير الكافرين فهو غير مذموم شرعاً، ولا يمكن أن يلومه عاقل.
ثانياً: ومن نتائج هذه الوسطية أيضاً: أنها مقتضية لإمكان الرجعة وللأخذ بالخط الأعدل، فإذا تبين للإنسان خطأ في بعض تلك الجزئيات والخطوات استطاع الرجوع عن كثب، ولم يكن حينئذ حيث لا يمكنه الرجوع، فأنتم تعرفون أن الطرق السريعة إذا أخذ الإنسان بآخر خط منها لا يمكنه أن يرجع إذا أراد ذلك ولا أن يتوقف أصلاً؛ لأنه قد وصل إلى النهاية في الخط، فإذا أراد الإنسان التوقف أو الرجوع فليأخذ بالوسط، أو بالخط الذي يمكنه من الرجعة.
كذلك من ضوابط هذا الخطاب: أن يكون مما يتناسب مع الناس، فالخطاب الدعوي إذا كان يشغل الناس بما لا يعيشونه في حياتهم اليومية، ولا يجدونه في واقعهم، أو يتشاغل عما يهتمون به وينفقون فيه ساعات دوامهم، فهو خطاب فاشل؛ لأنه في واد والناس في واد آخر، فلذلك لا بد أن يكون مهتماً باهتمامات الناس، ولا بد أن يكون مصاحباً للناس في تطوراتهم وأحوالهم.
ومن هنا فإن الخطاب الدعوي مرتبط بزمانه ومكانه، فحديثنا الآن -مثلاً- عما كان الناس يتحدثون عنه في بداية انتشار هذه الصحوة وصلاحية الإسلام بالتطبيق، أو نحو ذلك من الطرح الذي تجدونه في الكتب القديمة المؤلفة في بداية الصحوة، هو أخذ بما لم يعد محلاً للنقاش، ورجوع في الوسط وفي أثناء الطريق، فلذلك لا يمكن أن يأخذ به، وإنما مثاله مثال من وصل في سرعة السير إلى السرعة الخامسة، ثم أراد أن يتراجع منها مباشرة إلى السرعة الثانية أو الثالثة دون أن يمر بالرابعة، فهذا مضر بسيارته، ولا يمكنه من الوصول إلى هدفه، والذي يعيشه الناس ويهتمون به له مراعاة في الشرع، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبه وفي توجيهه للناس يتحدث عن الوقائع التي يشهدها الناس، ويتكلم فيما يتعلق بحياتهم اليومية، وتعرفون خطابه للمؤمنين في غزوة المريسيع، لما حصلت الشحناء والبغضاء بين واردة المهاجرين وواردة الأنصار، فقال هذا: ( يا للمهاجرين! وقال الآخر: يا للأنصار! فقال: أدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟! دعوها فإنها منتنة ).
فقد كان أهل الجاهلية إذا حصل خلاف بينهم تعزى كل إنسان منهم بعزاء الجاهلية فدعا ذويه وناصريه, وكل يتقوى على الآخر بقبيلته، فجاءت الدعوة الإسلامية فردت هذا المنهج بالكلية، والمهاجرون والأنصار التعزي بهم ليس تعزياً بقبائل ولا بفرق، بل هو دعوى بلقب شرعي شريف، فالله سبحانه وتعالى شرف المهاجرين من المؤمنين بهجرتهم إلى الله ورسوله، وشرف الأنصار بهجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ومع ذلك فالنبي صلى الله عليه وسلم ينكر التعزي بهذا العزاء؛ لما فيه من الشبه بتعزي أهل الجاهلية بعزائهم، ويجعله مثل تعزي أهل الجاهلية تماماً، فيقول: ( أدعوى الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم؟! دعوها فإنها منتنة ).
كذلك فإنه صلى الله عليه وسلم كان اهتمامه في خطابه الدعوي بأمور الناس، وبما يعيشونه جامعاً بين أمر الدنيا وأمر الآخرة، فما يتعلق بأمر الآخرة قد سمعتم مثاله، وما يتعلق بأمور الدنيا مثل قوله صلى الله عليه وسلم فيما روت عائشة في الصحيحين في خطبة الاستسقاء، أنه صلى الله عليه وسلم قال: ( إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم، ثم قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:2-4] لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين )، فهنا تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أمر يهم الناس من أمور دنياهم، وهو ما هم فيه من الجدب واللأواء والضنك، وضيق المعاش، فتحدث عن ذلك في خطبته فقال: ( إنكم شكوتم جدب دياركم، واستئخار المطر عن إبان زمانكم )، وذكر الحلول الشرعية، وهي أن الله سبحانه وتعالى أمرهم أن يدعوه، ووعدهم أن يستجيب لهم إذا دعوه.
ثم إن رسول صلى الله عليه وسلم -كذلك- في عنايته بما يعيشه الناس من أمور حياتهم كان يحدثهم بما يشبهها من حياة الآخرين لتكون تجارب لهم، وحتى في شئون بيته الخاصة، فهذه عائشة أم المؤمنين تروي عنه حديث أم زرع في الصحيحين، وقد بين فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لعائشة كأبي زرع لـأم زرع غير أنه لا يطلقها، وهذا الحديث فيه ذكر لكثير من الحالات الاجتماعية في خصائص البيت، وبعض هموم النساء, وما يجدنه في بيوتهن من المضايقة.
وفي بداية الحديث جلس إحدى عشرة امرأة تعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، وهذه الأمثلة لحياة الناس وسلوكهم، وتصرفاتهم الاجتماعية محل عناية النبي صلى الله عليه وسلم بها، وبيانها لأمته، كل ذلك يدخل في هذا النطاق، وفي نطاق عيش الخطاب الدعوي مع هموم الناس وما هم فيه، فمن المشكلات ما يتكرر في كل حال وهي الاجتماعيات التي يعيشها الناس، كهموم البيت، ومشكلات العلاقة بين الزوجين، وكذلك تربية الأولاد، وأمور المعاش، وما يعرض فيه من الضيق والسعة، وأمور الجيران وحقوقهم، فهذه أمور متكررة، لا بد من علاجها في الخطاب الدعوي، ولا بد أن تأخذ حيزها المناسب فيه؛ لأنها مما يعيشه الناس، ومما يتكرر في حياتهم اليومية.
ومثل ذلك شئون العالم من حولنا، فلا بد في ضوابط الخطاب الدعوي أن تتناول هذا الهموم والشئون، فهؤلاء البشر يرتبطون جميعاً في دوائر ارتباط، قاصيه ودانيه فيها سواء، والعالم اليوم أصبح كالقرية الواحدة، ووسائل الإعلام والاتصال معينة على ذلك، فمن لم يعتن بالحضارة وأوجهها وتناقلها، وبأنواع أنماط معاش الناس وما يتعلق بذلك فلا بد أن يدهمه بعض المحظور في بلاده، فنحن اليوم إذا لم نتحدث عن أوجه حياة الغربيين، وما يعيشونه في بلادهم، ما كان منه إيجابياً وما كان منه سلبياً، فسيدهمنا ذلك في بلادنا، وسيأتي عبر وسائل الإعلام التي لا نستطيع التأثير فيها، وستخلق به كثير من المنهزمين أمام ضغط هذه الحياة، والمبهورين كذلك بالحياة المادية الغربية، ومن هنا فلا بد أن يكون الخطاب الدعوي ناقلاً لتجارب الآخرين، ولا بد أن يكون مطلعاً على تداول هذه الحضارة ورقيها وهبوطها، وبيان ما يتعلق بذلك من التأثير على نفسيات الناس وثقافتهم، واهتمامهم.
كذلك من هذه الضوابط: أن الخطاب الدعوي السليم لا بد أن يكون مشاركاً في تكوين الرأي العام لهذا البشر، فالبشر يتصرف على أساس القناعة، وهذه القناعة ليست فطرة فطر الله عليها الناس، بل قد قال الله تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا [النحل:78]، لكن الله أعطانا وسائل للتطلع على ما حولنا، وهذه الوسائل هي التي ندرك من خلالها قناعاتنا، وهي التي تتكون من خلالها القناعات، ولذلك قال: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78]، فهذه هي وسائل الإحاطة بما حولنا، ومن خلالها يتكون الرأي العام، وكذلك قال الله في امتنانه على الإنسان: أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:8-10]، فهذه الوسائل التي امتن الله بها سيستغلها الناس، واستغلالهم لها مقتض للتعرف على ما حولهم، ومن خلال ذلك ترسخ فيهم القناعات التي على أساسها يبنون مواقفهم وتصرفاتهم.
ومن هنا فالرأي العام مؤثراته الأساسية خمسة هي:
أولاً: البيت الذي يتربى فيه الإنسان.
ثانياً: المدرسة التي يدرس فيها.
ثالثاً: الشارع الذي يعيش فيه.
رابعاً: وسائل الإعلام التي يسمعها.
خامساً: التأثر بالمصاحبة، وهذه تدخل فيها الدعوة، التأثر بالمصاحبة، أي: بأخلاقيات الناس ومعاملتهم، فهذه المؤثرات الخمس هي التي يبنى من خلالها التصور العام للإنسان الذي نسميه الرأي العام، وعلى أساسها تكون المواقف.
إننا في زماننا هذا قد بلينا بفساد أكثر هذه الوسائل وانحرافها، وعدم استغلالها الاستغلال الصحيح، فمثلاً أولاً: لا بد أن يكون الخطاب الدعوي مؤثراً في صلاح البيوت؛ لأن البيت هو أول وسيلة تؤثر في الرأي العام لدى الذين يتربون فيه.
ثانياً: لا بد للخطاب الدعوي أن يكون مؤثراً في المدارس التي يدرس فيها الناس؛ لأن هذه المدراس مؤثرة في قناعاتهم واهتماماتهم، ولذلك لاحظوا أن الطلاب الذين يدرسون في المدراس، ويأخذون مواد شتى عن أساتذة متنوعين، في نهاية تخرجهم من تلك المدرسة سترسخ لديهم قناعات، فمجوعة منهم ستتأثر بأستاذ مادة من المواد، فستهتم بتلك المادة، ومجموعة أخرى لا تتأثر بأستاذ من الأساتذة لكن تأثرت بمادة وتذوقتها فاهتمت بتلك المادة، ومجموعة أخرى رأت الجميع كلاً وتعباً، فتأثرت بذلك انطواء وانزواء وقطعاً لمشوار التعلم وطريقه، فهذا ما تشهدونه في كل مدرسة يتخرج منها الناس، وهذا من المؤثرات في الرأي العام، فلا بد من دخول الخطاب الدعوي للمدارس حتى يكون مؤثراً في اختيار التخصصات، وفي اختيار مناهج الأساتذة، وفي تقويم الأشخاص، وحتى في اختيار المواصلة في طريق طلب العلم، وحفز الناس على ذلك.
ثالثاً: من المؤسسات المؤثرة في الرأي العام الشارع، وهذه أيضاً لا بد أن يدخلها الخطاب الدعوي بقوة، لما لها من الخطر العظيم الذي نبه إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه في الصحيحين حينما قال: ( إياكم والجلوس في الطرقات! قالوا: يا رسول الله! ما لنا من مجالسنا بد نتحدث فيها، فقال: فإذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقة، قالوا: وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال: غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف, والنهي عن المنكر ).
فهذه هي أوجه تدخل الخطاب الدعوي في الشارع، غض البصر، وكف الأذى، ورد السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه إذا ظهرت في الشارع فسيتأثر تأثراً إيجابياً، وستكون المعلومات المتلقاة عن طريقه، أو الأخلاق المكتسبات عن طريقه، مؤدية إلى النتيجة المطلوبة في الصلاح.
رابعاً: من المؤسسات المؤثرة: وسائل الإعلام، وهذه الوسائل يسمعها الناس رضوا أم أبوا، فكثير من الناس لديه هواية تتبع وسائل الإعلام، فيسمع نشرة الأنباء في إذاعة معينة، ثم إذا انتهت نقل الموقع إلى إذاعة أخرى ستعيد عليه الكلام نفسه، ثم ينتقل إلى إذاعة أخرى وهكذا، وآخرون أيضاً لديهم هذه الهواية في تتبع الشاشات التلفزية، فهم يتنقلون من قناة إلى قناة، كلما انتهى برنامج أو بث قناة من القنوات انتقلوا عنها إلى قناة أخرى، وآخرون أيضاً شغلوا بوسائل الإعلام المقروءة، فلا يكتب عمود في جريدة ولا مجلة إلا تابعوه, وجل أوقاتهم مشغولة بذلك.
وآخرون أيضاً شغلوا بوسيلة الإعلام التي هي أكثر شيوعاً أو إثارة في زماننا هذا، ألا وهي: الإنترنت، فهم يتتبعون المواقع التي تعد بمئات الآلاف، ويشغلون بها، فتأخذ حيزاً كبيراً من أوقاتهم، واهتماماتهم، لا شك أن هذه الهواية لا بد أن تؤثر في صاحبها، فالإنسان الذي سمع الخبر خمس مرات، وسمع تحليله كذلك من عدة أوجه لا بد أن يأخذ منه موقفاً، والإنسان الذي قرأ التحاليل حول هذا الموضوع، وسمع وجهات النظر المتباينة لا بد أن يكون له موقف منه، وهكذا في كل وسائل الإعلام لا بد أن تترك أثرها في سامعها، وهذا الأثر منه ما هو إيجابي، ومنه ما هو سلبي، فالأثر الإيجابي إذا كانت وسائل الإعلام تؤدي دورها الحقيقي في صدق النقل ...
لا بد أن تكون وسائل الإعلام موضوعية في التحليل، وألا يقع الإسراف في تتبع ما منه بد، فعلى الإنسان أن يقتصر على ما لا بد منه، فإذا تجاوز ما منه بد فستستغرقه الفواصل الموسيقية والدعايات لأنواع من التجارات ونحو ذلك، فتأخذ أيضاً حيزاً من وقته، وتضيع عليه فرصاً من عمره.
ولذلك لا بد أن يدخل الخطاب الدعوي إلى وسائل الإعلام، ولا يكفي مجرد الدخول من هذا القبيل، بل لا بد أن يكون ذلك الدخول مؤثراً، فأنتم تعلمون أن وسائل الإعلام اليوم لم تعد وسيلة تثقيف فقط، بل في المقابل أيضاً أصبحت وسيلة إرهاق، وأصبحت وسيلة حرب، وأصبحت وسيلة تضليل، كل ذلك تستغل له وسائل الإعلام، فقد اكتشف الناس منذ الحرب على الإسلام في أفغانستان خطر وسائل الإعلام، فإن وسائل الإعلام مملوكة للغربيين، وهي خاضعة لهم، وقد استغلوها للحرب على المسلمين وتضليلهم، فلا تنقل الأخبار الصحيحة أبداً، وقد ذكرت لكم مثالها فيما قبل على نحو ما قال الشاعر:
إن يعلموا الخير أخفوه وإن علموا شراً أذاعوا
وإن لم يعلموا كذبوا.
أو كما قال الآخر:
إن يسمعوا سبة طاروا بها فرحاًعني وما سمعوا من صالح دفنوا
صم إذا سمعوا خيراً ذكرت به وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا
وهكذا فيما يتعلق بالتضليل، فإن وسائل الإعلام تشتغل الآن بالتحسين والتقبيح، فكثير من الموضات في الملابس، وفي حلق الشعر، وفي تصفيفه، وحتى في أسلوب الكلام، وفي هيئة النطق، كلها تبث عن طريق وسائل الإعلام، فيتأثر بها فئام من الناس.
وكذلك فيما يتعلق بالإرهاب، فإن وسائل الإعلام في كثير من الأحيان تكون وسيلة للإرهاب، سواء كان ذلك الإرهاب فكرياً، كما شهدتم في الفترة الماضية في وسائل إعلامنا هنا، فإن استغلالها قد كان استغلالاً ارهابياً بشعاً، أريد به صرف الناس وتشكيكهم في آرائهم، وتشكيكهم حتى في اعتقاداتهم، وتشكيكهم في قناعاتهم، وفي كثير من مسلمات دينهم وتراثهم، واختلاق حرب وهمية ليس لها أي أساس، ولا يسعفها أي دليل، وكذلك شغل الناس في أوقاتهم كلها بما لا فائدة فيه، وحصر النقاش الذي كان من المهم أن يكون علمياً دقيقاً في مسائل هي من المسلمات وليست محل بحث، حتى تتطرق الأذهان إلى أنها محل للبحث والأخذ والرد، ويسأل عن الرأي المقابل ما هو في هذه المسألة إذا وجد الاهتمام بها، فمن المعهود لدى الناس أن وسائل الإعلام لم تكن راعية يوماً من الأيام لفقه ولا لأصول، ولا لحديث، ولا لغير ذلك من المواد العلمية المهمة، فإذا رأوا تركيزها على مادة من المواد، واستدعائها لمن يناقش تلك المادة، ظنوا أن الأمر فيه جديد، وكأن تشريعاً جديداً أنزل من السماء، وأن الأمر قد تجدد فيه ما ليس معهوداً لدى الناس.
ومثل ذلك: التشكيك في أمور من أمور الدين، فقد سمعنا في وسائل إعلامنا في الحملة الماضية من يقول في التلفزيون وفي الإذاعة: إن الجهاد باطل بعد فتح مكة ولا يحل، وقد سمعتم ذلك لا محالة، وتكرر هذا الكلام وأعيد كثيراً من المرات، وهذا من الإرهاب الفكري الواضح، فهو رد على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو دعوى أن غزوة حنين، وغزوة الطائف، وغزوة تبوك وغيرها من الغزوات التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة كلها باطلة محرمة، وأن عمل الخلفاء الراشدين كذلك في فتح مشارق الأرض ومغاربها كله باطل، وهذا يقتضي أيضاً بطلان وجودنا نحن هنا، فما الذي أتى بنا نحن هنا إلى هذه البلاد، أليس الجهاد في سبيل الله، والغزو لإعلاء كلمة الله؟ فالمتكلم بذلك يكذب نفسه؛ لأنه ما جلس هنا، وما تكلم من هذا الموقع إلا بسبب الجهاد في سبيل الله، هو الذي أوصله إلى هذا المكان.
ومثل ذلك أيضاً: بعض الأقوال المشابهة لهذا الكلام، فقد سمعنا من المتحدثين من يقول: إن طاعة ولي الأمر واجبة مالم يأمر بكفر بواح، وقد أعيد هذا الكلام على الأسماع في التلفزيون، وفي الإذاعة مراراً وتكراراً، وهذا مقتض؛ لأن ولي الأمر إذا أمر بشرب الخمر أو بالزنا أو بغير ذلك وجب أن يفعله الإنسان؛ لأنه قال: تجب طاعته ما لم يأمر بكفر بواح، وهذا قد يكون خطأ في القول، وقد يكون صاحبه أراد حقاً فانحرف إلى باطل، وهو من الباطل البين الذي لا لبس فيه، ولا شك أن صاحبه لا يعتقده، ولا يريد أن يقوله أبداً، لكن وسيلة الإعلام التي كررته وتعمدت نشره والتنويه به، أرادت له أن يكون إرهاباً فكرياً مصادراً لقناعات الناس، ولثوابت دينهم، ولأمورهم التي لا تقبل النقاش لديهم بوجه من الوجوه.
لذلك لا بد أن يدخل الخطاب الدعوي وسائل الإعلام بقوة، وبتميز كذلك؛ حتى تكون نافعة مؤثرة؛ لأنها إذا ترك لها الحبل على الغارب حصل ما رأيتم، إما أن يقاطعها الناس ويعرضوا عنها وحينئذ تقع الخسارة، ويبقى مكان من تصور الناس ومن وسائلهم غير مشغول، وإما أن يستمعوا إليها ويأخذوها بغثها وسمينها إن كان فيها سمين، ويتشربوها كما هي، فهذا خطأ وخطر عظيم على اعتقادهم ومسلمات دينهم، فلذلك لا بد من الانتقاء في وسائل الإعلام الذي يمكن أن يحصل إذا دخلها الخطاب الدعوي المتميز المعتدل.
الخطاب الدعوي وسائله للإعلام متنوعة متعددة، فأنتم تعلمون أن الإنترنت -مثلاً- وسيلة مفتوحة للخطاب الدعوي، ويمكن من خلالها تقديم كل إنسان لواجبه، وسيطلع عليها الملايين من الناس دون حدود، لا تحتاج إلى تأشيرات، ولا إلى تذاكر سفر، بل يصل الخطاب إلى ملايين البشر في نفس اللحظة، بدل أن يجتمع الناس لمحاضرة يسمعونها في مكان ضيق، فبالإمكان حصول ذلك وكل إنسان في بيته، وفي المكان الذي هو فيه، دون أن يحتاج إلى تعب ولا إلى سفر.
ومثل ذلك: أشرطة التسجيل التي يسجل عليها الخطاب الدعوي، فقد آتت أكلها، وأثبتت جدارتها، وانتشرت في مشارق الأرض ومغاربها، ووصلت إلى أماكن لم يكن الإنسان يتصور أن تصل إليها بوجه من الوجوه، بل قد أصبحت -ولله الحمد- هواية لدى كثير من كبار السن المنزوين المنطوين، يأخذ أحدهم عدداً من الأشرطة فيكتفي بها عما كان يحصل قديماً من استماعه إلى الأخبار السالفة والقصص الماضية، فيستمع إلى أشرطة مفيدة، ولعله يجد فيها ما يسد له فراغاً، ويسليه عن كبر سنه وضعف جسمه، أو يجد فيها كذلك ما يعينه على حسن خاتمته والتزامه بالشرع.
الوسيلة الخامسة المؤثرة في الرأي العام، وهي: الصحبة، ولا شك أنه لا بد أن يدخلها الخطاب الدعوي بقوة، فهذه الصحبة فريضة واقعية على البشر، فالإنسان بطبعه ميال إلى جنسه البشري، وقد جاء في تفسير ابن عباس في قول الله تعالى في سورة النمل: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]، فما هو هذا العذاب الشديد؟ فالهدهد طائر ضعيف، لا يمكن أن يكون العذاب الذي يهدد به صعق كهربائي، أو ضرب بالعصي، فهذا قتل له، وقد ذكر القتل في الذبح، أو لأذبحنه، فما هو هذا التعذيب؟ قال: الحبس مع غير الجنس، فحبس الإنسان مع غير جنسه عذاب شديد في حقه، ولذلك يقول محمد ولد محمدي رحمه الله تعالى:
آه لمغترب بالغرب ليس لهجنس وإن كان محفوفاً بأجناس
يحتاج الإنسان إلى مخالطة من هو على مستواه، وحينئذ لا بد أن يتأثر ويؤثر، ومهمة الخطاب الدعوي أن يكون هذا التأثر والتأثير إيجابياً، فإذا كان الإنسان يؤثر في الآخرين بصفاته المحمودة، فيعاملهم معاملة حسنة، ويخاطبهم خطاباً مقبولاً شرعاً، ويشاطرهم المحبة والصدق، ويقدم لهم الخدمة التي يستطيع تقديمها، وينفع من يستطيع نفعه، فهذا لا شك أنه سيؤثر، وسيكون تأثيره إيجابياً، وكذلك تأثره هو بمن يخالطه إذا كان على هذا الوجه، فلا يتسرب إليه من كلام المخالط إلا ما كان محموداً مرضياً، فإذا مر باللغو أعرض عنه، وإذا خاطبه الجاهل قال: سلاماً، وقد بين الله ذلك في قوله: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان:72]، وقال قبلها في هذه الآيات: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [الفرقان:63].
فهذا لا بد أن يكون تأثره تأثراً إيجابياً، لكن لا يستطيع الإنسان ذلك ما لم يرفد بتقوية تعينه عليه، وهذا الرافد ينبغي أن يكون خطاباً دعوياً مستقيماً، فأنتم تعلمون أن المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان -وبالأخص إذا كان في مثل مجتمعاتنا المختلطة اليوم- لا بد أن يشهد فيه الإنسان كثيراً من الفيروسات الإيمانية، والشبه التي يسمعها من الآخرين فيتلقفها، والأقوال التي يسمعها وهي مغلوطة مكذوبة، لكنها تنقش في تصوره؛ لأنه سمعها من عدة أوجه، فهو محتاج إلى صمام أمان يرد الأشواك وما لا نفع فيه، فيفصلها عن تصوره نهائياً، وأيضاً يكون هذا الصمام شفافاً بحيث لا يمنعه وصول الحق إليه.
وقد بين الله هذا المنهج بقوله: فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:17-18]، (بشر عباد الذين يستمعون القول) فهذا مقتض لقابلية التأثير عندما يستمع الإنسان إلى القول أصلاً، ثم بعد هذا (فيتبعون أحسنه) أي: لا يستكبرون عن الاتباع والتأثر؛ لأن القول إنما يكون صواباً أو خطأً، فإن كان صواباً فالاستنكاف عنه إعراض عن الحق، وإن كان خطأً فقبوله كذلك ركون إلى الباطل، لهذا لا بد من الاستماع إلى الحق، ثم اتباع أحسنه، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18] وقد بين الله سببين لذلك:
السبب الأول: غيبي من أمر الله وهو: الهداية، أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ [الزمر:18].
السبب الثاني: راجع إلى اجتهاد الإنسان وعمله، وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18]، عنى هؤلاء الذين أعملوا عقولهم فاستفادوا من تجاربهم، واستطاعوا أن يكون تأثرهم إيجابياً حيث أعملوا عقولهم فأخذوا ما ينفعهم، وتركوا ما يضرهم، وإذا أعمل الإنسان عقله في هذا الجانب في الانتقاء فإنه لن يكون منزوياً عن الناس بالكلية، لا يريد أن يؤثر ولا أن يتأثر، وفي المقابل أيضاً لا يتأثر إلا بما كان صواباً صحيحاً، وهذا الوجه الصحيح بالتعامل مع الناس، يحتاج فيه الإنسان إلى خطاب دعوي مؤثر يبين له ما ينبغي من المخالطة، وما ينبغي من التأثر، وما يستمع إليه من الأقوال، وما يترك، فليس الإنسان كالدابة التي تقاد بزمامها، ولا هو كالحيوان المفترس كالوحوش التي لا يمكن أن تنقاد، إنما الإنسان كائن اجتماعي قابل لأن يؤثر ويتأثر.
فلذلك لا بد -فيما يتعلق بالصحبة والمخالطة- أن يوجد الخطاب الدعوي الذي يسدد، ويكون للإنسان محيط يمنعه من الانحراف، وتقويم لسيره في ذلك، والذين يسافرون إلى البلاد النائية فيخرجون من بيئاتهم ومحيطاتهم، كالطلاب الذين يدرسون في الخارج مثلاً، ففي أول خروجهم يشهدون الحاجة إلى مثل هذا النوع؛ لأنهم قد كانوا في بيئة تعودوا فيها على التبعية المطلقة، وخرجوا من عنق الزجاجة إلى الحرية المطلقة فجأة، فوجدوا أنفسهم في بيئة قد تغيرت، وفي نمط حياة مخالف لما كانوا عليه، فهم أحوج ما يكونون إلى محيط جديد يحيط بهم إحاطة السوار بالمعصم، فيقيهم الشرور، ويدلهم على الخير، ويقدم لهم التجارب الناجحة، ويساعدهم على تعدي العراقيل والعقبات، ولذلك لا ينسون فضل من يقوم بذلك في أول الأمر في وقت الحاجة إليه.
كذلك من ضوابط هذا الخطاب الدعوي: أنه لا بد أن يبدأ فيه بالأوجه المتفق عليها قبل الأوجه المختلف فيها، فالمدعو أياً كان لا بد أن يشترك معك في كثير من القناعات والآراء، حتى لو كان يهودياً أو نصرانياً فإنه يشترك معك في بعض القناعات، فابدأ أولاً بالمتفق عليه، فإذا رسخ فقد حصلت أرضية للنقاش، وهذا النقاش يطلب فيه الإقناع، وأن يكون من غير إرهاب، وأن يكون الآخذ به آخذاً بحجة تبقى معه، وقد بين الله ذلك في كتابه في قوله: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46]، فالبداية هنا كانت في المتفق عليه، قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [العنكبوت:46].
فهذه أمور متفق عليها بيننا وبينهم فنبدأ بها، ثم بعد ذلك نصل إلى المختلف فيه، (ونحن له مسلمون) فهذا مختص بنا نحن دونهم.
وهكذا لا بد أن يكون الأسلوب مع المخالف من المسلمين -أيضاً- أن يبدأ بعد نقاط الاتفاق بالمسلمات الكبرى، بالأمور الجوهرية، فالأمور الصغرى التي يختلف فيها الناس، هي محل الاجتهاد في كثير من الأحيان ينبغي أن يؤخر البحث فيها، فالخطاب الدعوي لا ينبغي أن يجعلها من الأولويات، ولا من السوابق، بل تقديمها حينئذ مقتض للتفرقة والميز، ولا ينفع الدعوة شيئاً، ولا يقدم لها أية فائدة، فذلك ينبغي أن يكون التركيز بعد نقاط الاتفاق على كبريات الأمور، وأنتم تعلمون أن المؤامرات الكفرية على الإسلام اليوم دائماً تحاول شغل المسلمين بالجزئيات، وبما لا نفع فيه، فيؤخرون الأهم، ويبدءون بالأدنى، فمثلاً المفاوضات بين المسلمين واليهود في فلسطين، النقاط الكبرى والتي هي أهم وهي مسألة الحياة أو الموت مثل قضية المسجد الأقصى لمن يكون، هل هو لليهود أو للمسلين؟ هذه القضية إلى الآن لم تناقش، ولم تعرض على مجلس للنقاش، ولا للمفاوضات.
المسألة الثانية: المهجرون من فلسطين وهم ستة ملايين مفرقون في العالم، هل سيعودون إلى بلادهم، أو يبقون مشردين مدى الحياة؟ هذه المسألة إلى الآن لم تناقش، وهكذا المسائل الكبرى التي يمكن أن تفسد القضية وتنسفها من أساسها إلى الآن لم يصل إليها النقاش، وكل الاتفاقيات التي وقع عليها إلى الآن لم تتطرق لها، فهذا النوع من الأخطاء في البداية بالجزئيات، وفي خارطة الطريق، وفي صلاحيات السلطة، وفيما يتعلق بالتمويل، وفيما يتعلق بالجهاز الأمني والتعاون إلى آخره، هذه أمور لو حصل الاتفاق على كل جزئياتها ثم جاء الخلاف في قضية من القضيتين السابقتين لنسف الجميع، فلماذا البداءة بها؟ ولماذا التركيز عليها؟ مع دناءتها وعدم فائدتها فيما يتعلق بالاتفاق.
كذلك نظير هذا -أيضاً- كثير من الجزئيات التي يناقشها الناس وبالأخص المدارس الدعوية المختلفة، ذات الطرح المختلف المتباين، كمسألة الديمقراطية مثلاً، فالمسائل الكبرى فيها يتجاهلها الناس، ويبدءون في المسائل الجزئية وفي التفصيلات، كما يتعلق بتجريح الأشخاص، وموازين النقد، ويتركون المسلمات الكبرى مثل ما يتعلق بأصول التغيير، وما يتعلق بأصول الحكم، وما يتعلق بواقع الناس، وما يتعلق بالمشهود الذي ينبغي أن يكون بديلاً.
هذه أمور كبرى يغفلها الناس في هذا المجال، فيبدءون بجزئيات تندرج في إطار هذه الكليات الكبرى، ولو لم يقع من الخلافيات إلا هذه الجزئيات لما حصل الضرر، ولو اتفق على هذه الجزئيات فقط لما حسم النزاع.
فلذلك لا بد من التحرر من الأوهام، والتحرر كذلك من العيش مع الجزئيات في الأمر كله، والأخذ بكبريات الأمور ومسلماتها وأصولها، وإذا حصل الاتفاق على هذه الأصول، وكبريات الأمور، والمحسومات بالأدلة والقطعيات، فلا ضير في الخلاف في الاجتهاديات، وهي أمور يقبل فيها الاجتهاد حينئذ، ويمكن أن يصطلح على إرجائها إلى فترة، وحينئذ إما أن يتبين الصواب لأحد الطرفين فيرجع إليه، أو يجدا وسائل لحسم النزاع بينهما.
ولذلك فكل نقاش علمي لا بد قبله من تحضير وسيلة لفض النزاع، كل مجموعة من الناس يجمعها جامع لا بد أن تبدأ في أولوياتها لما يحسم النزاع بينها، ما هو المرجع الذي يرجع إليه عند حصول النزاع؟ ولهذا جاء ترسيخ هذا المرجع في القرآن في عدد من الآيات:
منها: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [النساء:59].
وفي قوله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83].
وفي قوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:62-63].
فلا بد إذاً من التركيز على وسيلة فض النزاع إذا حصل، وهذا في أمور الدنيا، أما أمور الدين فوسيلة فض النزاع فيها هي الرجوع إلى الدليل من الكتاب والسنة، أما أمور الدنيا فبالوسائل الاجتهادية، وكذلك جزئيات أمور الدين التي لم يحسمها النص فالمرجع فيها حينئذ لا بد أن يكون محسوماً من قبل، فإذا كان المرجع -مثلاً- هو قول الأكثر كان الترجيح بكثرة الرواة كما يقول أهل الحديث، أو كان الترجيح بكثرة الكاثرة من الحاضرين، وأيضاً حتى في جزئيات هذه لا بد من بيانها للمطلوب، الأغلبية البسيطة، أو الأغلبية النسبية، أو الأغلبية المطلقة، وكلها أغلبيات معروفة في القانون الدستوري مما تعارف الناس عليه، فكل ذلك مما يمنع حصول النزاع وتسربه بالكلية، كذلك في الحسم في الرأي في أي وجه من الوجوه، فالوسائل البدائية التي كانت موجودة لدى البشر في أي رأي من الآراء يصدرون عن أمر قائدهم أو كبيرهم، وإذا خالفوه جميعاً عدل إلى قولهم، أو خالفه أكثرهم عدل إلى قولهم، هذه قد تكون غير محمودة العاقبة كما قال دريد بن الصمة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللواءفلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
وما أنا إلا من غزية إن غوتغويت وإن ترشد غزية أرشد
فلا بد أن تكون وسائل فض النزاع حاضرة في الأذهان، متفقاً عليها، مسلمة من قبل، وفي كثير من النقاشات التي تحصل، وبالأخص مع غير المسلمين، فلا بد دائماً قبل بدء النقاش من اشتراط أن تكون مراجعنا واضحة، فقد أخذت العبرة من كلام نقله المبرد عن ابن عباس رضي الله عنهما في مناقشته للخوارج عندما جلس إليهم، وقد أرسله إليهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أراد قبل الدخول في أقوال الخوارج ومناقشتها أن يحقق الأرضية البينة، فقال: ما تنقمون من ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم -يقصد علي بن أبي طالب -؟ فقالوا: ثلاثاً، فقال: لا تنقمون غيرها؟ قالوا: لا، قال: أرأيتم لو بينت لكم بالدليل صحة ما هو عليه أترجعون إليه؟ قالوا: نعم، قال: فمن خالف منكم ذلك فماذا عليه؟ قالوا: لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فقال: فما هي؟ قالوا: الأولى: أنه محا اسمه من الخلافة، قال: ألم تعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم محا اسمه من النبوة في عقد الصلح مع سهيل بن عمرو يوم الحديبية؟ فسكتوا.
فقال: هذه واحدة، فما الثانية؟ قالوا: هزم عدوه فلم يقسم الغنائم، قال: أرأيتم لو قسمت الغنائم ففي سهم أيكم ستكون أم المؤمنين عائشة ؟ فجعلوا أيديهم على وجوههم استحياء من ذلك.
فقال: هذه الثانية فما الثالثة؟ قالوا: حكم الرجال في كتاب الله، فقال: أحرب أمة محمد صلى الله عليه وسلم وقتالها أعظم أم أرنب تقتل في الحرم؟ قالوا: بل أرنب تقتل في الحرم، قال: ألم يقل الله في سورة المائدة: يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا [المائدة:95]؟ قالوا: بلى، فأقام عليهم الحجة وألزمهم بهذه الأمور الثلاثة دون أن يطول النزاع، ودون أن يتشقق، مع العلم أنه لو دخل معهم في الجزئيات مع أنهم قد أوتوا جدلاً، فسيطول الأمر، ولن يقتصر على حد.
ولذلك فإذا لم تبين النتائج من البداية، وإذا لم تؤخذ الضوابط العامة قبل الدخول في النقاش فسيكون جدلاً بيزنطياً لا نهاية له؛ لأنه كثيراً ما يؤدي إلى الخروج عن محل النزاع، ويبقى النقاش في أمر آخر لا علاقة له بالموضوع، ويكون التنقل بين موضوع وموضوع آخر, وهذا النوع من المحظورات لدى الأصوليين، فالأصوليون عندما وضعوا قواعد الجدل جعلوا من أعظمها ما يتعلق بالتحكم والمصادرة والخروج من المسألة، والخروج من المسألة: أي التي هي محل النزاع، مثل: المسكر من غير العنب هل هو محرم أم لا؟
فإذا نوقشت هذه المسألة فتشعب النزاع حتى وصل إلى علة تحريم الخمر- مثلاً - هل هي الإسكار أو غير الإسكار؟ فهذا خلاف في غير محل النزاع، ولا يؤدي إلى النتيجة المطلوبة نفسها، وهكذا، فلذلك لا بد في ضوابط الخطاب الدعوي أن يكون متقيداً بأرضية صلبة للنقاش متفق عليها بين الطرفين.
كذلك من ضوابط هذا الخطاب: أن يكون صاحبه متجرداً فيه من كل عواطفه وأهوائه، فالإنسان إذا كان يتصرف أو يقدم خطابه على أساس حميته أو غيرته فسيكون دائماً متعصباً لمجموعته أو مدرسته، وهذا مخالف لأدبيات الخطاب الدعوي العام، فلا بد أن يجتهد الإنسان في أن يكون خطابه الذي يقدمه مجرداً من العاطفة، فلك ما تحب، وضع حبك حيث أردت، لكن مع ذلك لا تصادر آراء الآخرين، ولا تصادر عواطفهم.
واعلم أن الأمر أوسع مما ذكر، ولذلك أذكر أن اثنين قد تخالفا في مسألة من مسائل الدعوة قديماً، فحضر شيخ من المشايخ فسمع كلامهما، فلما رأى حدة كل واحد منهما في رأيه، واتباعه لعاطفته، قال: يا أخوي! إن الجنة واسعة عرضها السموات والأرض، فتتسع لأهل هذا الرأي، ولأهل الرأي الآخر، فإذا أدرك الإنسان ذلك، وتبين له أن مجرد المصادرة للرأي الآخر، وأن يقال: هذا هو القول الصحيح، وهذا هو الذي نأخذ به، وهذا الذي يراه فلان وفلان من الناس، فقد خرج المجال عن أن يكون خطاباً دعوياً مؤثراً، بل أصبح تقليداً أعمى وأصبح تعصباً لطائفة، أو لفريق من الناس، وأصبح مصادرة للرأي الآخر، كما يحصل لكثير من المتعصبين، فتسمع أحدهم- مثلاً - يقول: الحافظ ابن حجر ليس من أهل السنة، وقد سمعت بعض من سئل عن الحافظ ابن حجر فقال: ليس من أهل السنة، فسألته فقلت: ما هي السنة يا أخي؟ قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم وفعله وتقريره، قلت: إذا كان الحافظ ليس من أهل قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا فعله ولا تقريره، فلست أنت منهم قطعاً؟ فلذلك لا بد أن يدرك الإنسان هنا خطر المصادرة، وخطر عدم التجرد من العاطفة.
كذلك من الضوابط في هذا المجال: لا بد أن يعلم الإنسان التفريق بين ثوابت الشرع ومتغيراته، لا بد أن يعلم أن الشرع منه وحي منزل معصوم، ومنه آراء رجال تقبل الصواب والخطأ، وهذه الآراء ليست مسلمة بالضرورة في كل شأنها، بل هي خاضعة للنقاش كما قال مالك رحمه الله: ما منا أحد إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر.
أقتصر على هذا الحد، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وسامحونا فقد عاملناكم بذكاة الحية بقطع رأسها وذنبها، مضطرين إلى ذلك، ولعل العوض إن شاء الله في الدروس القادمة.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً، اللهم صل على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آله وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به، على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى، ولك الحمد في الآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، لك الحمد أنت أحق من ذكر، وأحق من عبد، وأنصر من ابتغي، وأرأف من ملك، وأجود من سئل، وأوسع من أعطى، أنت الملك لا شريك لك، والفرد لا ند لك، كل شيء هالك إلا وجهك، لن تطاع إلا بإذنك، ولن تعصى إلا بعلمك، تطاع فتشكر، وتعصى فتغفر، أقرب شهيد، وأدنى حفيظ، حلت دون النفوس، وأخذت بالنواصي، ونسخت الآثار، وكتبت الآجال، القلوب لك مفضية، والسر عندك علانية، الحلال ما أحللت، والحرام ما حرمت، والدين ما شرعت، والأمر ما قضيت، والخلق خلقك، والعبد عبدك، وأنت الله الرءوف الرحيم، نسألك بعزك الذي لا يرام، وبنورك الذي أشرقت له السموات والأرض، أن تهدي قلوبنا، وأن تستر عيوبنا، وأن تكشف كروبنا، وأن تجعل التقى زادنا، وأن تحقق مرادنا، وأن تصلح أولادنا، وأن تخصب مرادنا.
اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، ولا تجعل إلى النار مصيرنا، واجعل الجنة هي دارنا.
اللهم استعملنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهديين غير ضالين ولا مضلين.
اللهم لا تدع لنا في مجلسنا هذا ذنباً إلا غفرته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ديناً إلا قضيته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا مبتلى إلا عافيته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا فقيراً إلا أغنيته، ولا أسيراً إلا أطلقته، ولا مجاهداً إلا أيدته ونصرته، ولا عدواً إلا كبدته وخذلته، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة هي لك رضاً وفيها لنا صلاح إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وأوهن كيد الكافرين، وانصرنا عليهم أجمعين، اللهم إنا ندرأ بك في نحورهم ونستعيذ بك من شرورهم، ونستعين بك عليهم، اللهم قاتل كفرة أهل الكتاب الذين يحاربون أولياءك ويصدون عن سبيلك، ويكذبون رسلك، اللهم لا تحقق لهم غاية، ولا ترفع لهم راية، واجعلهم لمن خلفهم عبرة وآية، وأخرجهم من بلاد المسلمين صاغرين يا ذا القوة المتين!
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا، وخذ بنواصينا إلى الخير أجمعين، اللهم وفقنا لما يرضيك عنا يا أرحم الراحمين، واجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وارزقنا التمسك بسنته عند فساد أمته، واسقنا من حوضه بيده الشريفة شربة هيئة لا نظمأ بعدها أبداً، وبيض وجوهنا يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وآتنا كتبنا بأيماننا تلقاء وجوهنا، وجوزنا على الصراط كالبرق الخاطف يا أرحم الراحمين.
اللهم إنا نسألك بوجهك الكريم الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم إنا نسألك بوجهك الكريم الفردوس الأعلى من الجنة، اللهم نسألك بوجهك الكريم الفردوس الأعلى من الجنة.
اللهم من أراد الإسلام بسوء فاشغله بنفسه، واجعل تدبيره تدميره، واجعل دائرة السوء عليه، وأنزل به المثلات، وأنزل به بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم أدخله في ردغة الخبال، وسل عليه سيف الذل والوبال، وأرنا فيه عجائب قدرتك، اللهم شل أركانه، وهدم سلطانه، وشتت أعوانه، اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً رخاء سخاء سعة وسائر بلاد المسلمين، يا أرحم الراحمين.
الله آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك وأقام منهجك، ولم تأخذه فيك لومة لائم، اللهم انصر من كان في نصره نصر للإسلام وأهله، واخذل من كان في خذلانه راحة للمؤمنين يا أرحم الراحمين.
اللهم وفقنا لما يرضيك عنا أجمعين، اللهم وفقنا لما يرضيك عنا أجمعين، اللهم وفقنا لما يرضيك عنا أجمعين.
اللهم إنا نعوذ بجلال وجهك أن تجدنا حيث نهيتنا، ونعوذ بجلال وجهك أن تفقدنا حيث أمرتنا، وأنت المستعان، وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الخطاب الدعوي للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
https://audio.islamweb.net