اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , العدل بين الناس للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
فإن الله سبحانه وتعالى شرع لعباده قيماً، بها تعاملهم فيما بينهم، وبها صلاح أحوالهم، ومن أعظم هذه القيم: قيمة العدل، فقد أمر الله بهذه القيمة في كتابه فقال تعالى: وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى[الأنعام:152]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ[النحل:90]، وقال تعالى: وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ[المائدة:8]، والعدل الذي هو قيمة من قيم الدين هو كذلك مقتضى الخلق والكرم، فهو قيمة إنسانية، شرعها الله سبحانه وتعالى وأكدها رسوله صلى الله عليه وسلم في خُلُقه وتعامله مع الناس، وبقدر تحقيق الإنسان لهذه القيمة يحقق استخلافه في الأرض ومهمته التي ابتعث من أجلها فيها، فلذلك لا بد أن يحرص كل واحد من البشر على أن يكون من أهل العدل والإنصاف.
والإنصاف هو تكميل للعدل، وهو من قيم الأشراف ولكنه قليل فيهم، فلذلك نحتاج أولاً إلى تعريف العدل ما هو، وكثير من الناس يتوهم أن العدل دائماً معناه: المساواة، فيريد المساواة بين الذكر والأنثى من أولاده فيما يتعلق بميراثهم مثلاً، ويريد المساواة بين من لم يساوِ الله بينهم في كتابه، وهذا مفهوم خاطئ، فقد قال الله تعالى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ[القلم:35]، وقال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ[السجدة:18].
فليست المساواة عدلاً دائماً، بل قد تكون عدلاً وقد تكون جوراً، فإذا حصل الترجيح لأحد الطرفين على الآخر بوجه مقبول شرعاً تكون المساواة جوراً لا عدلاً، وإن لم يحصل ترجيح كانت المساواة مطلوبة في القسمة، وفي كل ما يقبل المساواة من الأخرى، ولهذا فالعدل يقتضي من الإنسان التحقق بالصدق، ويقتضي منه كذلك القيام بالحق، فالإنسان الذي يتصدق وهو عليه ديون غير عادل هنا؛ لأنه وإن فعل أمراً مأذوناً فيه مطلوباً شرعاً، إلا أنه لم يعدل؛ لأنه ضيع حقوقاً أخرى مطلوبة، وهكذا في التصرفات كلها، فيطلب في العدل الصدق، ويطلب فيه أن يكون صاحبه منطلقاً من هذا المبدأ الذي هو الصدق في عمله، فالصدق ليس فقط في الأقوال، بل يشمل الأفعال كذلك.
وقد وصف الله نفسه سبحانه وتعالى بالعدل، وسمى نفسه: العدل، فهو الحكم العدل جل جلاله، ونفى الظلم على نفسه مطلقاً، والظلم أحد القيم المضادة للعدل، فالظلم من أضداد العدل، وقد قال الله تعالى: وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ[فصلت:46]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ[يونس:44].
ومجالات العدل تختلف باختلاف أحوال الناس، فمن ذلك العدل القلبي، وهو يقتضي الولاء بأهل الإيمان، وبأهل الله جل جلاله، والبراء من أعداء الله ومن كل من تبرأ الله منه ورسوله صلى الله عليه وسلم. فهذا عدل في التعامل؛ لأنه إذا ساوى بين الطرفين، من يجب الولاء له ومن يجب البراء منه، فهو غير عادل وغير مصيب، والعدل في الاعتقاد يقتضي ولاءً لأهل الله تعالى، وبراءً وعداءً من أعداء الله جل جلاله، ويقتضي كذلك اعتقاد إيصال الحقوق إلى أهلها، فمثلاً: حقوق الرب جل جلاله هو مستحقها، ولا يمكن أن يوصل شيء منها إلى عباده، ولا إلى المخلوقين مطلقاً، فذلك جور لا عدل، وقد قال الله تعالى في سورة الأنعام: فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ[الأنعام:136]، فهذا حكم جائر لا عادل؛ لأنهم جعلوا بعض ما لله جل جلاله لعباده المخلوقين الذين لا يملكون لأنفسهم ولا لغيره نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
والعدل يقتضي أن يوصف الباري جل جلاله بصفاته، وأن يفرد بألوهيته وربوبيته، وألا يوصف مخلوق بشيء من صفات الإلهية، حتى لو كان المخلوق هو أحب الخلق إلى الله وأخشاهم وأرضاهم له، فلا يمكن أن يوصف بشيء من الصفات الإلهية؛ لأن هذا من الجور لا من العدل.
وكذلك من العدل في الاعتقاد: أداء حق النبي صلى الله عليه وسلم إليه، فالرسول صلى الله عليه وسلم هو أمنّ الناس على الناس، وأزكاهم عند الله سبحانه وتعالى وأخشاهم له وأرضاهم عنده.
فمن حقه صلى الله عليه وسلم تعزيره وتوقيره ومحبته وإجلاله والدفاع عنه، وتعظيمه وتعظيم صحابته الكرام، وتعظيم آل بيته الطاهرين، وتعظيم أزواجه أمهات المؤمنين، فقد قال الله تعالى: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً[الفتح:8-9]، وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[الأعراف:156-157].
ويخالف ذلك أمران:
الأول: الغلو فيه بأن يصفه الإنسان ببعض ما للإله من الصفات، وهذا الذي قال فيه: ( لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، ولكن قولوا: عبد الله ورسوله ).
والأمر الثاني: هو الجفاء ونقص حقه صلى الله عليه وسلم، وأنتم تسمعون ما يحصل في هذه الأيام من اعتداء النصارى في الدانمرك والنرويج على جناب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا تحد لمشاعر المسلمين جميعاً، فإنه لا يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء، ولا ينقص من قدره، بل يزيد قدره صلى الله عليه وسلم، ولكنه تحدٍ لمشاعر المسلمين، فمن المعلوم أنه كذب وبهتان وزور، ولا يمكن أن يصدقه عاقل، فأنتم تعلمون جميعاً أن الله اصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم من البشرية، فكمَّله خلقاً وخلقاً وعقلاً وديناً، وكمل له هذا الدين، فجعله أكمل الناس في خلقه وصورته، وأكملهم كذلك في فكره وعقله وتصرفه، وأكملهم كذلك في عدالته وحكمه، وأكملهم كذلك في الشرع الذي أنزل إليه وتطبيقه له وعقله به.
فلا يمكن أبداً أن يوصف إليهم الخصائص، ولا أن ينسب إليهم ما يخالف أمره ويخالف سنته بالكلية.
وكذلك العدل مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الله اختارهم لهذا المقام الرفيع، وهو صحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فمن العدل إليهم: محبتهم جميعاً وموالاتهم جميعاً، وعدم معاداة أحد منهم، والتماس أحسن المخارج لهم، وألا يذكروا إلا بخير.
فنحن نعلم أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ليسوا معصومين، وأنهم مثل غيرهم يمكن أن تقع منهم المعاصي والسيئات، لكنهم أولى الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لقربهم منه ومحبتهم له وجهادهم معه، وأولى الناس بتكفير سيئاتهم لما قدموا من الأعمال الصالحة، ولما يحصل لهم من الأجور من أجور من بعدهم، فكل من سجد منكم الآن سجدة لله، أو ذكر الله، أو قرأ شيئاً من القرآن لهم أجره إلى يوم القيامة، فلذلك هم أولى الناس بالتماس أحسن المخارج، وألا يظن بهم ظن السوء أبداً، ويوالون جميعاً ولا يعادى أحد منهم، ونمسك عما شجر بينهم، ونعلم أنهم اجتهدوا، فمنهم من أصاب فله أجران، كـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ومن معه، ومنهم من أخطأ فله أجر واحد وليس عليه إثم في اجتهاده، كالذين خالفوا علياً رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا العدل يقتضي كذلك عدم نقل الروايات الكاذبة والمنقولة عن الضعفاء والمتروكين والوضاعين والكذابين من أمثال نوح بن أبي مريم و أبي مخنف، وهي التي يعتمد عليه المؤرخون، فكثير من المؤرخين في حكايتهم عن الصحابة لا يعتمدون على أقوال أهل السنة والجماعة وأئمة الحديث، فإنهم كانوا يكفون عن هذا الباب ولا يدخلونه، وإنما يعتمدون على روايات أهل الرفض والنصب والوضاعين والكذابين والمتروكين، وهؤلاء لا يعتمد عليهم في الرواية، فلذلك لا تظنوا أن ما ينقل في التاريخ أو يذكر فيه يمكن أن يصح منه شيء عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما عرف من الأئمة وحصل التواتر به، أما ما يرويه الوضاعون والكذابون فإنه مردود عليهم، ومن العدل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يؤخذ الحكم عليهم من تلقاء هؤلاء الكذابين.
وكذلك العدل مع أمهات المؤمنين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فقد اختارهن الله واصطفاهن بهذا الجلال الكريم، وشرفهن بهذا الشرف الرفيع، وجعلهن مأجورات أجرين عظيمين وعدهن الله بهما، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً * يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً[الأحزاب:28-31].
وقد امتثلن ذلك فوعدهن الله أجرين عظيمين ورزقاً كريماً، وقد تحقق ذلك لهن، ومع ذلك فكن على أشد الخوف ألا يتقبل الله منهن، وقد دخل ابن عباس رضي الله عنهما على أم المؤمنين عائشة عند موتها، فلما استأذن ترددت في الإذن له، فقيل: ولمَ لا تأذنين لابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: أخاف أن يمدحني، فلما دخل عليها قال: كيف أنت يا أماه؟ قالت: بخير إن اتقيت، فقال: قد فعلتِ وأثنى عليها ابن عباس رضي الله عنهما بما يعلم، ولكنها تقول: بخير إن اتقيت؛ لأن الله يقول في خطابه لهن: وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً[الأحزاب:31].
وقد اتقين الله سبحانه وتعالى واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، وقد خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا التخيير، وبدأ بـعائشة أم المؤمنين وقال: ( إني محدثك أمراً فلا تتعجلي حتى تستأمري أبويك، فقالت: وما هو؟ فأخبرها أن الله أمره أن يخير أزواجه بين الدنيا والآخرة، قالت: أبهذا أستأمر أبوي، والله لا أستأمر أحداً فيه، أختار الله ورسوله والدار الآخرة ).
وقد شرفهن الله سبحانه وتعالى بهذا المقام الرفيع، وجعلهن أمهات لكل المؤمنين، فقد قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ[الأحزاب:6]، إذاً: فمن العدل إليهن: احترامهن وتوقيرهن وبرهن أكثر مما نبر أمهاتنا؛ لأنهن أفضل وأعلى مقاماً، فلذلك لا بد من برهن جميعاً، واحترامهن وتقديرهن، فهذا هو العدل إليهن.
وكذلك العدل مع السلف الصالح والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورثوا علمهم للذين نقلوه عنهم من التابعين، والتابعون ورثوه لمن بعدهم، وهكذا حتى وصل إلينا الكتاب والسنة، ووصل إلينا هذا العلم الشريف، فكل من نقل إلينا هذا العلم فإن من العدل إليه محبته وإنصافه وتقديره واحترامه، وقد قال الله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ[الحشر:10].
وكل طعن فيهم إنما هو طعن في الدين وفي منزله جل جلاله، وقد سمع مالك رحمه الله رجلاً يتكلم في بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويطعن في بعض السلف فدعاه، فقال: أأنت من المهاجرين الأولين ؟ قال: لا، قال: أفأنت من الأنصار الذين آووا ونصروا؟ قال: لا، قال: فأنا أشهد أنك لست من الذين اتبعوهم بإحسان؛ لأن الله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ[الحشر:10]، لأنه يلعنهم ويطعن فيهم.
فيجب تقدير سلفنا الصالح وأئمتنا وعلمائنا في مختلف العصور، والتماس أحسن المخارج لهم، ونحن نعلم أنهم غير معصومين، وأنهم يخطئون ويصيبون، وقد قال مالك رحمه الله: (ما منا أحد إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم).
ويخالف هذا العدل إليهم صنفان من الناس:
الصنف الأول: الغالون فيهم، فنحن نعلم أن بعض الناس يغلو في بعض الأئمة والعلماء، فيرون أن كل أقوالهم واجتهاداتهم صواب، وأن الدين هو ما عندهم فقط، وأن ما سواه ليس بدين، ويرون انتماءهم وانتسابهم إلى إمام من الأئمة، سواءً كان مجتهداً من المجتهدين المتبوعين كـمالك و الشافعي و أحمد و أبي حنيفة أو غير ذلك، ويرون أن كل ما لا يعلمه هذا الإمام من السنة أو ما لم يصل إليه، أو مالم يأخذ به فهو ضعيف، ويقول بعضهم: كل حديث لم يأخذ به أصحابنا فهو إما موضوع وإما منسوخ وإما معلق.
وكذلك يقول آخرون: نحن خليليون فإن ضل خليل ضللنا، قد قال ذلك اللقاني رحمه الله، وهو غلط في تصوره، ولكنه يقصد أنه هو لن يتعلم إلا من هذه الوجه وفي هذه المدرسة، لكن لا يقصد العصمة قطعاً لـخليل ولا يدعي ذلك، فهو من أهل السنة ويعلم أن خليلاً رحمه الله من أئمة أهل السنة، وأنه غير معصوم وأنه يخطئ ويصيب، وأنه لم يدعِ العصمة لنفسه أبداً، وأيضاً لا يمكن أن يدعي اتباعه في كل ما يقوله، فـخليل رحمه الله في كثير من المسائل يذكر الخلاف من غير ترجيح، فلا يمكن أن تتبعه في القولين معاً، وهو يقول: ( وحيث قلت: خلاف، فذلك لاختلاف التشهير، وحيث ذكرت قولين أو أقوالاً فذلك لعدم اطلاعي في الفرع على أرجحية النصوص)، وإذا كان متبوعاً فستكثر عليك الطرق، وتتردد كثيراً عندما تأتيك الأقوال والخلافات في مختصره، فبهذا يعلم أن العدل يقتضي عدم الغلو في الناس.
الصنف الثاني: الطاعنون فيهم، فبعض الناس يطعن في السلف الصالح وفي أئمة الهدى وفقهاء الإسلام، ويريد الرد عليهم مطلقاً، يرد الصواب والخطأ، وهذا لا شك أنه غلط ومنافٍ لهذا العدل الذي يقتضي قبول ما لديهم من الحق، ورد ما عندهم مما يخالفه، ومعرفة أنهم اجتهدوا في طلب الحق، وأن من أصاب منهم له أجران، ومن أخطأ فله أجر، وقد قال ابن القيم رحمه الله: (زلات العلماء أقذار، وهم بحار، وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث).
ومثل ذلك نقوله في دعاة الإسلام والعاملين لهذا الدين في مختلف العصور، فنحن نعلم أنهم غير معصومين، ولكنهم بذلوا أرواحهم وأجسادهم من أجل الدفاع عن شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ومن أجل حماية بيضة هذا الدين، والقيام بحقه بحسب ما أداهم اجتهادهم إليه، وقد يكون الاجتهاد خطأً، وقد يكون غلطاً، وقد يخطئ بعضهم في كثير من المسائل وقد يجهلها، لكن يكفي أنهم ضحوا بأرواحهم وبأوقاتهم وبكل ما يملكونه في سبيل الله وفاءً لله في بيعته، وإذا قارنت نفسك بهم لا تجد نفسك تصل إلى شسع نعل أحدهم، فيما قدموه لهذا الدين وما بذلوه من أجله، وآثارهم بادية، والذين اتبعوهم واهتدوا على أيديهم وانتفعوا بكتبهم كثير، ولو كان في كتبهم بعض الأخطاء، ولو كانت مردوداً عليها في بعض الجوانب، لكن لا يمكن أن يقارنوا بجهودنا نحن ولا بما نقدمه، فلذلك لا بد من احترامهم جميعاً، وعدم الغلو فيهم، فلا تزدريهم ولا تحتقر شيئاً من جهودهم، ولا شك أن من ازدرائهم واحتقار جهودهم ما يشاع من التكفير والتفسيق والتبديع لكثير من الذين تقدموا، إما من العلماء وإما من الدعاة، وللمعاصرين كذلك، فمثل هذا النوع يقال لصاحبه:
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
ففرق كبير بين الطاعن والمطعون فيه، وهو لا يدعي لنفسه أنه مساوٍ له ولا مخالف له، فكيف يطعن فيه إذاً ؟
وأيضاً فإن هذا الطعن لا يضر هذه المسيرة ولا يوقفها، فالقافلة تسير والكلاب تنبح، فلا تتوقف القافلة من أجل نباح الكلاب أبداً، ولا يمكن أن يضرها ذلك.
كذلك بالمقابل الذين يتعصبون لهم وينزلونهم أكثر من منزلتهم، ويوصلونهم إلى المقام مثلما يوصل الروافض أئمتهم، حيث يقول بعضهم: إن أئمتنا بلغوا مبلغاً لم يبلغه ملك مقرب ولا نبي مرسل، فهذا النوع من الغلو الذي لا يرضاه أحد منهم ولا يقره، فهم بشر يخطئون ويصيبون، وقصارى أمرهم أنهم اجتهدوا في اتباع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بما أداهم إليه علمهم وعقولهم واجتهادهم، فمن أصاب منهم في ذلك كان مأجوراً أجرين، ومن أخطأ كان مأجوراً أجراً واحداً، والأجر الواحد والأجران اضربها فيما شئت من الأعداد بحسب فضل الله سبحانه وتعالى وكرمه، فإنه يضاعف لمن يشاء إلى سبع وسبعين إلى أضعاف كثيرة، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس وغيره.
وكذلك من مجالات العدل: عدل الإنسان مع أبويه، وأهل بيته الأدنين، فأنتم تعلمون أن أبوي الإنسان هما أمنَّ الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته وآل بيته، فأمنّ الناس عليك والداك اللذان نزلاك، وقد أوصاك الله بالإحسان إليهما، فقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[النساء:36]، وقال تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً[الإسراء:23]، وقال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً[العنكبوت:8]، فلا بد من القيام بحقهما، لكن لا بد أن يكون ذلك بعدل وإنصاف، فإن كثيراً من الناس يخالف هذا العدل إلى الاتجاهين معاً، فمن الأولاد من تحمله العاطفة على بر والديه، ويظن أن برهما يقتضي طاعتهما في كل ما أمرا به، وعدم مخالفة أمرهما مطلقاً، ولم يأمر الله بذلك في كتابه، بل أمر بالإحسان إليهما، ونهى عن طاعتهما فيما يخالف الشرع فقال: وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا[لقمان:15].
فإذا منع المرأة مثلاً عن حضور الدروس أو تعلم ما أوجب الله تعلمه عليها، أو منع الشاب مثلاً من الذهاب إلى المسجد والصلاة فيه أو دراسة العلم الشرعي، فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في معروف ).
وكذلك في المقابل بعض الناس يجفو والديه، والعقوق من أعظم الذنوب وأشدها، فضرره عظيم؛ لأن العاق لا يوثق به مطلقاً:
لا تثقن بصداقة عقق لقطعه من وصله منك أحق
ومن العقوق لهما: ما نشهده في كثير من الأحيان في هذا الزمان من إقصاء الوالدين عن شغل حياة الإنسان، فكثير من الأولاد لا يسأل والديه ولا يستشيرهما، ولا يعرض عليهما شيئاً من أمره، يتخذ قرارته بمعزل عن الوالدين، فيتصف والداه بما وصف به ... :
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ولا يستأمرون وهم شهود
ولا شك أن هذا مجاوز للحد، ومنافٍ للبر وللعدل في حقهما، فالعدل في حقهما الإحسان إليهما وتقبيلهما، وأن يخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن يكرمهما بكل ما يستطيع من أنواع الإكرام، وأن يشاورهما في أمره، ويعرض عليهما شئونه، فكل ذلك مما يقتضيه برهما.
وكذلك من مجالات العدل: العدل بين الأزواج، فالزوج من حق زوجته عليه أن يقوم بجميع حقوقها من النفقة والسكنى والإكرام، والمعاشرة بالمعروف، والقوامة والنصيحة والتعليم، وغير ذلك من حقوق الزوجة على الزوج، فإذا قصر في شيء من هذه الحقوق فإن ذلك غير عدل.
ومثل هذا أيضاً إذا أدى الحق الدنيوي وضيع الحق الأخروي، فكثير من الأزواج يؤدي الحق الدنيوي إلى زوجته ليكرمها إكراماً دنيوياً، ولكنه لا ينهاها عن المنكر ولا يمنعها منه، فيضيع الحق الأخروي، وهذا منافٍ للعدل في حقها.
وكذلك الزوج له حق عظيم على الزوجة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول فيما أخرجه أبو داود في السنن بإسناد صحيح: ( لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها )، وقال للمرأة التي سألته عن حق زوجها كما في الصحيح: ( إنما هو جنتك أو نارك )، وهذا يقتضي أن تقوم المرأة بحق زوجها، وأن تطيع أمره ما دام في معروف، وأن تبره غاية البر أكثر من برها لأبويها، فحقه آكد من حقهما.
وعادات المجتمع كثيراً ما تؤدي إلى خلاف هذا، ففي المجتمعات البدوية تنشأ البنت على الأخلاق التي تعودت عليها لدى أمها، فتسمع أمها لا تخاطب أباها إلا بالكلام السيئ، ولا تطيع له أمراً، ولا توجه له أي تقدير ولا احترام، فتظن المرأة أن هذا هو الأدب مع الزوج وهو حقه، فتنشأ على ذلك وتعامل زوجها بما أدركت أمها تعامل به زوجها، ولا يتعلم البنات عادةً من أحكام الزواج ولا من المعاشرة إلا ما يأخذن من أمهاتهن في مثل هذا التصرف، وهذا لا شك مخالف للشرع ومنافٍ له، والعدل يقتضي أن تقوم بحق زوجها وأن ترعاه، وأن تحفظه في بيته وفي نفسها، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ما هنالك من الحقوق، فإضاعة شيء من هذه الحقوق منافية للعدل.
ومثل ذلك: عدل الرجل أيضاً بين أزواجه إذا كان له أزواج، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم، وكان إذا أراد السفر يقرع بين أزواجه فأية واحدة خرجت القرعة لها خرج بها، وكان يقول: ( اللهم هذا قسمي فيما أملك، فلا تكلفني ما لا أملك).
وكذلك كان أصحابه الكرام، وكانوا يعدلون في القسم في المبيت، وفيما استطاعوا و لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فيبقى فقط ما يتعلق من ميل القلب، فهو معفو عنه ولا يستطيعه الإنسان؛ لأن الله تعالى يقول: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ[النساء:129].
أما العدل الآخر الذي هو داخل في الطوق وهو المأمور به في سورة النساء أيضاً، فيجب على الإنسان العدل ما استطاع، وميل القلب مرفوع عنه الإثم فيه؛ لأنه لا يقدر عليه.
كذلك العدل مع الأولاد، فإن من حقهم على الإنسان أولاً أن يزرعهم في المكان الصالح الطيب، قال تعالى: وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّه[الأعراف:58] وألا يزرعهم في المكان المشبوه الذي يخرج منه الذرية الفاسدة، فإذا كانت الأم وهي وعاء الولد فاسدة مفسدة، فالحية لا تلد الحيي، ولا تكون ذريتها إلا مثلها، فلذلك لا بد أن يبحث الإنسان عن المنبت الطيب الصالح، وأن يبحث عن العفة والدين، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في قوله: ( تنكح المرأة لأربع: لمالها ولجمالها، ولحسبها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك ).
وكذلك أن يسميهم أسماء حسنة، فذلك من حقهم على والدهم، ( وأحب الأسماء إلى الله: عبد الله وعبد الرحمن ).
وكذلك أن يربيهم تربيةً صالحة، وأن ينشئهم على الطاعة، وأن يحثهم على ما فيه مصلحة لهم في أمور دينهم ودنياهم.
وكذلك أن يعدل فيما بينهم، لأن ترجيح بعضهم على بعض كثيراً ما يكون سبباً للغيرة والمحاباة، وكثيراً ما يؤدى ذلك إلى قطيعة الرحم وحصول الخلاف، ونحن نعلم أن أسرةً كريمة هي من أكرم الأسر التي عرفت على وجه الأرض، أسرة يعقوب عليه السلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ).
فهذه أكرم أسرة معروفة اجتمع فيها هذا العدد من الأنبياء، ومع ذلك حصل في أسرة يعقوب عليه السلام ما حصل مما قص الله علينا في كتابه، ولله الحكمة البالغة، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]، لكن مع ذلك فنحن نعلم أن الأولاد لديهم حساسية شديدة، وبالأخص إذا كانوا غير أشقاء، فتحصل الحساسية الشديدة فيما بينهم، فلا بد من مراعاة ذلك والعدل إليهم فيه؛ لئلا تقع البغضاء بينهم فيكون ذلك سبباً للشحناء والبغضاء.
وقد انتبه لهذا نبي الله يعقوب عليه السلام لما قص عليه ابنه يوسف عليه السلام رؤياه التي رأى في المنام، ومنامات الأنبياء وحي، فبيّن له رؤياه أنه رأى أحد عشر كوكباً والشمس والقمر رآهم ساجدين له، وقد فهم يعقوب تعبير هذه الرؤيا بالملك، وأن أبويه وإخوته جميعاً سيسجدون له لله سبحانه وتعالى شكراً على ما أولاه من هذه النعمة، أو إجلالاً لوجهه هو على أن ذلك كان مباحاً في الملل السابقة، ولما سمع يعقوب الرؤيا منه: قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً[يوسف:5]، حذره من ذلك.
وقد أحس إخوة يوسف بمحبة أبيهم له، فكان ذلك سبباً لما حصل فيما بينهم، أي: توقعوا أنه أحب إلى أبيهم منهم وهم عصبة، فكان ذلك سبباً لما قالوا في أبيهم ولما عملوا مع يوسف عليه السلام، فإذا كان الحال كذلك فكيف بالأسر الأخرى البعيدة كل البعد من هذا، فلا بد أن يجتهد الإنسان في عدله بين أولاده.
وقد ثبت عن النعمان بن بشير بن سعد رضي الله عنهما أن أمه عمرة بنت رواحة حثت أباه بشير بن سعد على أن يهب للنعمان حديقةً، والنعمان هو أول مولود ولد من الأنصار بعد الهجرة، فأعطاه حديقة هي أحب ماله إليه، فقالت: ( لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأخذ بيد النعمان وأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! أشهدك أني نحلت ولدي هذا حديقتي، فقال: أكل ولدك نحلت مثلها؟ قال: لا، قال: أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على زور )، وفي رواية: ( جور )، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم منه ذلك لما يؤدي إليه من الترجيح ومخالفة العدل.
ومحل ما ذكر إذا لم يكن هناك سبب يدعو إلى ترجيح بعض الأولاد، كما لو كان بعضهم أضعف من بعض، أو كان بعضهم أحوج من بعض، أو كان بعضهم أفضل من بعض فيرجح، ومثل ذلك: إذا كان أحد الأولاد متزوجاً والآخرون غير متزوجين، فالمتزوج واجباته ومؤنه أكبر من مؤن غيره، فلا مانع لترجيحه، ودليل هذا ما ثبت عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه قال لها عند موته: قد كنت وهبتك جذاذ خمسين وسقاً من النخل الذي في العالية، فلو كنت حزتيه لملكتيه، وأما اليوم فإنما هو مال وارث، وإنما هما أخواك وأختاك، قالت: أما أخواي فـعبد الرحمن ومحمد ، وأما أختاي فإنما هي أسماء فمن الأخرى؟ فقال: ذا بطن بنت خارجة، فكانت أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق.
فـأبو بكر رجح عائشة لفضلها ولكثرة مؤنها، فهي كانت تكفل كثيراً من الأيتام، وترعى كثيراً من المساكين وتنفق على كثير من الأسر، فلذلك رجحها أبو بكر وخصها بعطية، ولم يرد أنه أعطاها أحداً من عياله سواها؛ لمزيتها في الإسلام وفضلها.
ومثل ذلك تخصيص عمر رضي الله عنه لـحفصة أم المؤمنين بالنظارة على وقفه الذي بخيبر بعد موته كما في الصحيح، فقد جعل نظارته إلى حفصة فإن ماتت فأصلح آل عمر ، فهذا التخصيص له سبب والترجيح إذا كان لمرجحٍ ليس منافياً للعدل، وإنما يكون جوراً إذا كان ترجيحاً بلا مرجح.
ومثل ذلك العدل إلى الجيران، فلا بد أن يحسن الإنسان إليهم ما استطاع، وأن يؤدي حقوقهم إليهم، وأرجحهم في ذلك أقربهم باباً، فجار الإنسان الذي يقترب بابه منه أولى من الأقصى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الجار أحق بسقبه )، وفي رواية في صحيح البخاري أيضاً: ( الجار أحق بسقبه )، والسقب: القرب، والباء إما أن تكون بمعنى السببية، أي: الجار أحق بسبب سقبه أي لقربه، أو أن يكون المعنى أحق بسقبه أي: بقرب جاره، أي: بمساعدته له وتقريبه له بما يستطيع.
والجار المؤمن له حقان والجار الكافر له حق واحد، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فلا يمكن المساواة بينهما، ولكن لا بد من أداء حق كل إليه.
وكذلك العدل من الحاكم تجاه المحكومين، فالحاكم الذي يبسط يده على مال الأمة ومقدراتها ويتصرف في أملاكها لا بد أن يكون منطلقاً من العدل بينهم، وهذا يقتضي أن يحرص على أداء جميع الحقوق حرصاً شديداً، فقد قال عمر رضي الله عنه: (إني أخاف إذا عثرت البغلة السوداء في سواد العراق في الليلة الظلماء أن أحاسب عليها)، وعندما وقف عمر بعرفة قال: (اللهم إنه كبرت سني وانتشرت رعيتي وضعفت فخذني إليك غير مضيع)، وسأل الله أن ينال الشهادة في سبيله وموتاً في حرم رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهذا يقتضي أنه كل ما يحصل في الرعية من أنواع الفجور والمخالفة على الراعي منه حق، فلا بد أن يسعى لرده، فما يحصل من غلاء الأسعار، أو من انتشار الربا، أو من انتشار الفاحشة، أو من انعدام الأمن وحصول القتل، أو الاعتداء على الأموال والأبضاع أو غير ذلك، فالراعي مسئول عنه شرعاً، ويجب توفير الأمن والأمان لكل رعيته، ويجب عليه أن يقوم بالعدل الذي يقتضي توصيل هذه الحقوق إلى أهلها أجمعين.
ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنكم ستحرصون على الإمارة بعدي، وإنها ندامة يوم القيامة، وإنها نعمت المرضعة وبئست الفاطمة )، ومعنى (نعمت المرضعة): أي: ما دام الإنسان فيها كأنها مرضعة له، فسينال منها ما يسره، لكن ليست الفاطمة عندما يخرج الإنسان منها، سواءً أن كان ذلك في الدنيا أو بالموت، فإنها بئست الفاطمة، تبقى بعد ذلك ندامتها ومسئوليتها.
ولهذا كان عدد من السلف رضوان الله عليهم يقولون: (اللهم إنا نعوذ بك من ذنوب ذهبت ملذاتها وبقيت تبعاتها)، والذنوب إذا ذهبت ملذاتها لا يبقى منها إلا التبعات والمشكلات، شؤم الذنوب وضررها على القلب، وضررها على البصر وضررها على الجوارح كلها، بالإضافة إلى تبعتها الأخروية.
وهذا العدل يقتضي أن يعدل في وقته في تقسيمه بين الرعية، وأن يعدل في التولية، ( فمن ولى على عصابة رجلاً وفيهم من هو خير منه فقد خان الله ورسوله والمؤمنين ).
ولا بد أن يعدل كذلك في توزيع الخيرات وتوزيع الفرص بين الناس، ولا بد أن يعدل في الأحكام، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر: ( أن بني إسرائيل كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم القوي لم يقيموا عليه الحد)، فهذا منافٍ للعدل بالكلية، فلذلك لا بد أن يكون أولياء الأمور أهل عدل في هذا كله.
وهذا يقتضي منهم أن يحرصوا على تولية الأمناء، وأن يحرصوا في أنفسهم على ألا يخصوا أو يختصوا أقاربهم أو من يعرفونه بأية ولاية، أو بأية أثرة.
وكذلك عدل الرعية، فيجب على الرعية في خطابها للراعي العدل، والعدل يقتضي أن يشهد الإنسان بما يراه من حق وباطل، فلا يحملك ما تراه من الحق والعدل على تناكر أو تجاهل، أو إنكار الباطل الموجود، ولا يحملك كذلك وجود الباطل على إنكار الحق أو تجاهله وهو موجود، فلا بد أن يكون الإنسان عدلاً ينظر بعينين؛ لأنه إذا نظر بعين واحدة فكانت عين الرضا:
فعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
وإذا كانت عين السخط أيضاً لم تبدِ إلا المساوي، وما من أحد إلا وله جانبان: جانب إيجابي وجانب سلبي، وإذا نظر الإنسان إلى أحد الجانبين فقط، فهذا منافٍ للعدل، ويبقى بعد ذلك الوزن بين الجانبين، فإذا رجحت الحسنات على السيئات فلا شك أن العدل هو الأخذ بالراجح، فعدل الله تعالى يوم القيامة بين عباده ويضع الميزان القسط ليوم القيامة، فتوزن فيه أعمال العباد، فمن رجحت حسناته فاز، ومن رجحت سيئاته غوى، ولذلك قال الله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ[الأنبياء:47]، وقال سبحانه: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ[المؤمنون:102]، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ[المؤمنون:103]، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ[المؤمنون:104].
والعدل مع الراعي أيضاً يقتضي ألا يكلف ما لا يطيقه، فلا بد أن يعرف إمكانياتنا وواقعنا ومحيطنا الدولي وغير ذلك، فلا نتطلب ما لا نستطيعه نحن، فلينظر كل واحد منكم لو كان مكان الراعي ماذا يستطيع أن يعمل، وكيف ستكون الضغوط عليه، وكيف ستكون استجابته لتلك الضغوط، وحينئذٍ سينصف ويعدل.
وكذلك أيضاً من العدل إلى الراعي وولي الأمر أيضاً: نصحه والدعاء له بظهر الغيب بالتسديد والتوفيق، فذلك من حقه وأداء الحقوق إلى مستحقيها من العدل الذي لا بد منه.
وكذلك العدل في المجتمع كله، فالعدل قيمة فردية كما ذكرنا في هذه المجالات، لكنه أيضاً قيمة اجتماعية، فيلزم لتحقيق الأمن والاستقرار ووحدة المجتمع، ووحدة الصف، وعدم القطيعة والنزاع والاختلاف أن يحقق العدل بين الناس، فإن العدل مقتضٍ لأن يضع الناس السلاح فيما بينهم، وإذا كان كل إنسان يصله إليه حقه كما هو، فإنه لن يقع الحسد ولن تقع البغضاء ولن يقع الاعتداء، ولذلك عرف الناس هذا في أيام الخلفاء الراشدين، وفي أيام عمر بن عبد العزيز وفي أيام المهدي العباسي، حتى قال أحد الشعراء:
تلقى الأمان على حياض محمد ثولاء مخرفة وبيض أطلس
لا ذي تخاف ولا لهذا صولة تهدى الرعية ما استقام الريس
فإذا حصل العدل ونال كل إنسانٍ حقه، فإن ذلك يقتضي من الجميع المساواة، لكن إذا حصلت الأثرة، فكان في الشعب بعض الطبقات مسحوقة وممنوعة من الوصول إلى حقها، وحقها أنواع، فمثلاً: حق التعليم، فالعلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله لم يخصه النبي صلى الله عليه وسلم بشريحة ولا بلون ولا بلغة، بل جاء به وأوصله للناس كافة، وقد بعث إلى الأخضر والأسود وإلى كافة الناس، فاختصاص شريحة أو لون أو لغة بهذا العلم الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم أو بالثقافة أو بالدراسة هذا منافٍ للعدل.
ومثل ذلك الدين، فالدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله دين الله، وليس دين الناس، وقد شرعه الله لجميع العباد، فلا بد أن يأخذوا به جميعاً ذكوراً وإناثاً، كبارا وصغاراً، من مختلف الألوان ومن مختلف الألسنة، وإذا كان الدين مختصاً بشريحة أو بلون أو بمستوى اجتماعي أو اقتصادي، فإن ذلك منافٍ للعدل، بل الدين للجميع، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ[الحجرات:13]، فهذا يشمل الذكر والأنثى، والأبيض والأسود، والمثقف وغيره، فالجميع يدخلون في ذلك.
ومثل هذا: العدل في خيرات الأوطان، فالله خلق الأرض وما عليها للبشر، وجعلها كفاتاً أحياءً وأمواتاً، وقال: خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً[البقرة:29]، فكل ما فيها ملكه الله تمليك استخلاف ووكالة للبشر، وهم يتصرفون فيه تصرف الرشيد ينتظرون العزل في كل حين، وكل إنسانٍ منهم له حقه مما خلق الله له في هذه الأرض، فلا يمكن أن يمنع أحد من حقه فيما خلق الله له، وإذا حصل ذلك كان ظلماً واعتداءً، وهو البغي الذي وصفه الشعراء قديماً بما قالوا، فقد قال قيس بن زهير العبسي:
تعلم أن خير الناس بيت على جفر الهباءة لا يريم
ولولا ظلمه لأقمت أبكي عليه الدهر ما طلع النجوم
ولكن الفتى حمل بن بدر بغى والبغي مرتعه وخيم
وكما قال آخر:
والبغي مرتع مبتغيه وخيم
فإذا حصل البغي لا بد أن تقع المشكلات والحروب الأهلية والمنافسات، التي ليس فيها مصلحة، وهي تهلك الحرث والنسل، والذين يثيرونها يكونون وقوداً لها، فتقضي عليهم وتحرقهم هذه المشكلات، ولا يبقى لها بعد ذلك إلا الظلام والضرر، وقد ذكر البخاري رحمه الله في الصحيح أن السلف كان يعجبهم أن ينشدوا في وقت الفتن قول الشاعر:
والحرب أول ما تكون فتية تسعى بزينتها لكل جهول
حتى إذا اتقدت وثار ضرامها برزت عجوزاً غير ذات خجول
فكانوا يعجبهم من ينشد هذا؛ لأنه يحذر من الفتن من بداية نشأتها، ويحذر من عواقبها وما يترتب عليها، فلذلك لا بد أن يدرك الناس أن العدل هو الذي يمنع حصول هذه المشكلات، فإذا لم يمنع أي أحد من حقه ووصلت الحقوق إلى مستحقيها، فإن الأمن والأمان سيضرب بعطن، وسينتشر في الأرض، ويصل كل إنسانٍ إلى حقه بإنصاف، وحينئذٍ سيتعاونون وينسجمون فيما بينهم ويحققون كتلة واحدة كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر.
وكذلك من مجالات العدل: العدل إلى الأعداء، فالأعداء الذين يعادونك قسمان:
القسم الأول: هم من أهل القبلة من المسلمين، وهؤلاء ذكر الله ما يتعلق بعداوتهم فقال: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الحجرات:9-10].
والقسم الثاني: أن يكونوا من أهل الكفر، والمعادون لك من أهل الكفر، فهؤلاء منعك الله سبحانه وتعالى أن تكون عداوتهم لك سبباً لجورك وتركك للعدل، قال تعالى: ((وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ))، أي: بغضاؤهم، عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى[المائدة:8].
ولذلك كان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أعدائه من الكفرة ومن المنافقين مضبوطاً بهذه القاعدة، فعندما خرج إلى مكة في عام الحديبية ومعه ألف وخمسمائة من أهل الجنة، وهم الذين بايعوا تحت الشجرة، أراد أن يدخل مكة بالقوة، وقد جاء محرماً بعمرة، فمنعه قريش من ذلك، فلم يلتفت إلى منعهم وتقدم لدخولها حتى لو أدى ذلك إلى الحرب، ولكن الله أظهره عليهم، فمكنه من فرسانهم الذين تركوهم رصداً، فعفا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطلق سراحهم أجمعين، وكانوا ثمانين رامياً، ثم تقدم لدخول مكة فبركت ناقته، فقال الناس: حب حب خلأت القصواء، فقال: ( ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة، ثم قال: والله لا تسألني قريش خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أجبتهم إليها )، فعدل ذات اليمين ونزل بالحديبية، وصالح قريشاً على الصلح المعروف، وكان ذلك سبب إسلام كثير من رجالاتهم وقادتهم كـخالد بن الوليد و عمرو بن العاص و عثمان بن أبي طلحة وغيرهم من كبار قادة قريش.
وكذلك في عدله إليهم فإنه يوم بدر كان قد أعطى اللواء علي بن أبي طالب ، وكان اللواء من عهد جده قصي في بني عبد الدار قد أوصى به قصي لبني عبد الدار، فلما جاءت قريش سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مع من لواء قريش اليوم؟ قيل: عند بني عبد الدار، فقال: نحن أحق بالعدل منهم، فأخذ اللواء من علي وأعطاه مصعب بن عمير )، وهو من بني عبد الدار.
وكذلك فإن من عدله صلى الله عليه وسلم مع اليهود والنصارى: موافقتهم بما هو في شرعهم الصحيح غير المبدل والمحرف، فعندما قدم المدينة وجد اليهود يصومون يوم عاشوراء، فقال عليه الصلاة والسلام: ( ما هذا اليوم الذي تعظمونه؟ قالوا: يوم أنجى الله فيه موسى من فرعون وجنوده، قال: نحن أحق بموسى منكم. فصامه وأمر أصحابه بصيامه )، وهو مصدق لما بين يديه من الحق كما وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك.
ولهذا فإنه صلى الله عليه وسلم (كان في مجلس مع أصحابه ذات يوم، فحدثهم أن الجبار جل جلاله يقبض السموات السبع فيجعلهن على إصبع، والأرضين السبع فيجعلهن على إصبع، والجبال فيجعلها على إصبع، والبحار فيجعلها على إصبع، والشجر والدواب والبشر فيجعلهم على إصبع، ثم يهزهن فيقول: أنا الملك أين الجبارون أين المتكبرون؟).
فدخل حبر من اليهود، فلما دخل جلس بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! أما علمت أن الله تعالى يقبض السموات السبع والأرضين السبع، وحدثه بمثل ما حدث به رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله )، فصدق الخبر بما أخبر به.
وهكذا في تصديقه لعلمائهم في بعض ما يحدثون به مما هو حق، فهو من العدل معهم والإنصاف لهم، وكذلك في ضيافته للمشركين، فقد أتاه عامر بن الطفيل وهو سيد بني عامر بن صعصعة وابن سيدهم من بني كلاب، وأنتم تحفظون جميعاً قول جرير :
فغض الطرف إنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فهذا جده جعفر بن كلاب سيد قومه، وقد كان سيدهم في الجاهلية، وهو من الشجعان المعروفين وهو يقول:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر وفارسها المشهور في كل موكب
فما سودتني عامر عن وراثة أبى الله بأن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي شذاها وأرمي من رماها بمنكبي
وقد قتل القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا شباباً حفظة لكتاب الله يعلمون الناس الخير، وكانوا يذهبون إلى الجبل فيأتون بالحطب فيبيعونه فيتصدقون بثمنه، فلما أرسل عمه أبو البراء ملاعب الأسنة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليه القراء يدعون الناس إلى الإسلام بنجد، أمر هؤلاء القراء أن يصلوا إليه، وأمر عليهم المنذر بن عمرو ، وفي هؤلاء القراء عامر بن فهيرة ، وفيهم عمرو بن أبي أمية الضمري وافد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفيهم حرام بن ملحان وأخوه سليم بن ملحان ، فاعتدى عليهم عامر بن الطفيلي فقتلهم، ولم ينج منهم إلا رجلان كانا في السقاية، أحدهما: عمرو بن أبي أمية الضمري ، ورجل معه من الأنصار، فلما أتيا ورأيا هذا الوضع أراد عمرو أن يفر إلى النبي صلى اله عليه وسلم فيخبره بما حصل، فقال له الأنصاري: لا أرغب بنفسي عن مكان قتل فيه المنذر بن عمرو ، فتقدم إليهم فقاتل فقتل.
ومع هذا جاء عامر وابن عمه أربد بن ربيعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأكرم ضيافتهما، فقال له عامر : ( يا محمد! لأملأنها عليك خيلاً جرداً ورجالاً مرداً، فقال: يأبى الله ذلك وابنا قيلة )، ابنا قيلة: هي الأوس والخزرج وهم الأنصار، فدعا عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدما خرجا من عنده، فقال: ( اللهم اكفني عامراً و أربد بما شئت )، فأما عامر فأخذته غدة كغدة البعير ومات في بيت امرأة ابن سلول شر ميتة، وأما أربد فوقعت عليه صاعقة فأحرقته وجمله، وهو أخو لبيد بن ربيعة العامري صحابي، الشاعر المعروف، صاحب المعلقة المشهورة: عفت الديار محلها فمقام، وهو الذي يقول في مرثيتهم:
بلينا وما تبلى النجوم الطوالع وتبقى الديار بعدنا والمصانع
وما المرء إلا كالشهاب وضوئه يحور رماداً بعد إذ هو ساطع
وما المال والأهلون إلا وديعة ولا بد يوماً أن ترد الودائع
وهذه يقول فيها:
ففارقني جار بأربد نافع.
وكذلك من عدله صلى الله عليه وسلم قوله يوم بدر في المطعم بن عدي للخيال بن نوفل وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد أدخل النبي صلى الله عليه وسلم في جواره بعد موت أبي طالب عام الحزن، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو أن المطعم بن عدي حي فكلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له )، ولذلك لما مات رثاه حسان بن ثابت وهو شاعر النبي صلى الله عليه وسلم وصحفي الإسلام الناطق الرسمي يقول فيه:
ولو أن مجداً خلد الدهر واحداً من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
فقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم على هذا.
وكذلك مدح حسان لبعض من كانت له صداقة مع النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين أو قرب نسبي منهم، فحسان لما جرد نفسه للدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( كيف تهجو قريشاً وأنا منهم؟ قال: يا رسول الله! والله لأسلنك منهم كما تسل الشعرة من العجين، فقال: اذهب إلى أبي بكر فاستعن به )، وكان أبو بكر مشهوراً بالخبرة في النسب، فأتاه فتعلم منه أنساب قريش وأحسابها، وكل ما يذكر فيها، فلما جاء شعره إلى ديار مكة إذا فيه:
وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
فهو هنا يمدح كرام الأصل من آل هاشم، وذكر منهم عبد الله بن عبد المطلب والد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأشقاؤه ومنهم أبو طالب ، ويطعن في الذين ليست أمهم فاطمة وهي فاطمة بنت عمرو بن عائد بن عمران بن مخزوم ، وهؤلاء منهم الحارث والد أبي سفيان وهو يرد عليه، وهو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم، لكنه فرق بين الأخوين بقوله:
وإن كرام الأصل من آل هاشم بنو بنت مخزوم ووالدك العبد
وهذه القيمة وهي قيمة العبد كانت أيضاً موجودة لدى بعض المشركين من قريش، فنجدها مثلاً في شعر ضرار بن الخطاب يوم أحد فإنه يقول:
عجبت لفخر الأوس والخيل دائر عليهم غداً والدهر فيه بصائر
وفخر بني النجار وإن كان معشر ببدر أصيبوا كلهم ثم صابر
وفي مدح المهاجرين يقول:
فيُعد أبو بكر وحمزة فيهم ويدعى علي وسط من أنت ذاكر
أولئك لا من نتجت في ديارها بنو الأوس والنجار حين تفاخر
ولكن أبوهم من لؤي بن غالب إذا عدت الأنساب كعب وعامر
هم الطاعنون الخيل في كل غزوة غداة الهياج الأطيبون الأكابر
فهذا إنصاف وعدل حتى من المشركين فيما كانوا عليه، ونظير هذا ما قال أبو سفيان (لما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله اثني عشر سؤالاً وكان صادقاً فيها، فقال: ما نسبه فيكم؟ فقال: هو فينا ذو نسب، وسأله: هل كانوا يتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فقال: لا، وسأله: ضعفاء الناس أتباعوه أم أقوياؤهم ؟قال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، قال: أيرجع أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه ؟ قال: لا، قال: هل يغدر ؟ قال: لا. ونحن الآن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة )، فقد كان أبو سفيان منصفاً في ردوده على هرقل .
ولذلك كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يثنون بما علموا من الخير على أصولهم ولو كانوا من المخالفين لهم في الدين، بقدر ما فيهم، فقد أخرج مسلم في الصحيح عن عمرو بن العاص رضي الله عنه في أنه لما سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تقوم الساعة إلا والروم أكثر الناس، قال: أأنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: أجل، قال: أما إن فيهم لأربعة صفات فأثنى على أربع صفات، ثم قال: وخامسة.. )، أي: خصلة خامسة شريفة وهي: أمنعهم من ظلم الملوك، أي: أنهم أمنع الناس من ظلم الملوك، فبيّن ما فيهم من الصفات الحميدة التي يشهد بها، وزاد الصفة الخامسة الجميلة الحميدة وهي: أنهم أمنع الناس من ظلم الملوك.
ونظير هذا أيضاً إقرار أبي بكر الصديق رضي الله عنه و عمر معه رضي الله عنه أيضاً لـمتمم بن نويرة في ثنائه على أخيه مالك بن نويرة ، ومالك قد ارتد فيمن ارتد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قاتل الصحابة وقتل وهو أسير في إمرة خالد بن الوليد رضي الله عنه، فجاء أخوه متمم بن نويرة إلى المدينة وأنشد بين يدي أبي بكر الصديق رثاءه له، وأنشد فيه:
نعم القتيل إذا الرياح تناوحت خلف البيوت قتلت يا ابن الأزور
أدعوته بالله ثم غدرته لو هو دعاك بذمة لم يغدر
فقال أبو بكر : لا والله ما دعوته لله وما غدرت.
واستنشده عمر بعض رثائه لأخيه، فأنشده قصيدته العينية المشهورة التي مطلعها:
لعمري وما دهري بتأبين هالك ولا جزعاً مما أصاب فأوجعا
لقد كفن المنهال تحت ردائه فتىً غير مبطال العشيات أروعا
ولا برماً تهدى النساء لعرسه إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا
وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً
فسأله عما يعرف في أخيه؟
فقال: كان أخي يبيت في الليلة الشاتية، وعليه الشملة الفلوت، الشملة: أي ما يشتمل فيه الإنسان من اللباس الضيق، الفلوت: أي المتفلتة المتشققة، وهو بين المزادتين غير المعتدلتين: أي يجلس بين قربتين باردتين غير معتدلتين، يركب الجمل الثفال، أي: الحرور، يقود الفرس الحرون تجذبه للوراء فيصبح يتهلل، فهو يبيت في الليلة الشاتية بين المزادتين غير المعتدلتين، يركب الجمل التفال ويقود الفرس الحرون ومع ذلك يصبح يتهلل.
فهذا الصبر وكرم الخلق أثنى به على أخيه فأقره على ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه و أبو بكر الصديق .
وهكذا نجد أن قيمة العدل مع العدو هي قيمة من قيم المسلمين، استمرت فيهم، فـصلاح الدين الأيوبي رحمه الله لما دخل بيت المقدس فاتحاً، وقد كان همه من صغره فتح بيت المقدس، كان يهتم بذلك اهتماماً عجيباً، فلما دخل بيت المقدس تذكر اليوم الذي دخل فيه الصليبيون بيت المقدس، فقد أزهقوا الأرواح وأراقوا الدماء حتى سالت الشوارع بدماء المسلمين، وقتلوا النساء والولدان في داخل المسجد، فلما دخل صلاح الدين فاتحاً أمر ألا يقتل أحد في مدينة القدس، وكسا أهلها جميعاً بمن فيهم النصارى كساهم جميعاً، وأخرج البهجة، وأقر كتاب عمر الذي كتب إلى نصارى القدس، فأقرهم عليه مع أنهم استعانوا بالصليبيين الآتين من أوروبا ونقضوا العهد، ولكن أقرهم على العهد القديم الذي كتبه عمر رضي الله عنه.
حتى إن النصارى شهدوا بهذا ومؤرخوهم إلى الآن، وكثير من المنصفين من المستشرقين يشهدون بالبون الشاسع بين يوم دخول الصليبيين لبيت المقدس ويوم دخول المسلمين له، مستردين بعد خمس وتسعين سنة.
ولهذا فإننا لا يحملنا ما نراه من انتفاشة الباطل وانتفاخته، ومن كيد أعدائنا ومن تطاولهم على الإسلام ومقدساته ومن اعتدائهم على الشيوخ والنساء والأطفال وانقيادتهم للمجاهدين وكيدهم للدين، وتطاولهم على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، لا يمنعنا ذلك أبداً من العدل والتحلي بقيمه.
ومع ذلك نعلم أن الدوائر التي خرجت عن المألوف وتمادت في طغيانها واعتدائها لا ينفع معها إلا الغلظة والشدة، فقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً[التوبة:123].
وهم الذين لا يردعهم إلا ذلك، إما من سواهم وهم الذين لم يعتدوا فإن الله قال فيهم: لا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ[الممتحنة:8-9].
وهذا هو العدل، وهو التفريق بين الطائفتين، أي: التفريق بين الكافر المسالم الذي لم يعتدِ على المسلمين ولم يكثر عليهم سواد العدو، وبين الكافر المعتدي الذي لا يقبل منهم صرفاً ولا عدلاً، ولا يقبل منهم الحوار ولا النقاش أصلاً ولا المجادلة، ففرق بين الطائفتين في الحكم الشرعي وفي العدل أيضاً.
هذه إذاً: بعض جوانب العدل، وقد حاولت ربطها بمسيرة هذا الدين وتاريخه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى العصور المتأخرة، ولم آتِ على كل ما يتعلق بالعدل، فإن من العدل ما يتعلق بالأحكام القضائية وما يتعلق بالفتوى وتصوير المسائل، ومن العدل: العدل بين الطلاب في النظر والمساواة بينهم في التعليم، ومن العدل: العدل بين أصحاب الأسئلة في ترتيب أسئلتهم، وغير ذلك من أنواع العدل، وقد ذكر الشيخ محمد عالي رحمة الله عليه فيما يتعلق بالتدريس قواعد يقول فيها:
حلل مقاصد هذا الدرس يا هذا واجعل عناصره إلاك أهدافا
وأم فيه ذويه فعل مقتدر وانظر إليه جماعات وأفذاذا
تراك إن لم تكن يا شيخ ممتثلاً هذا تقوم بحق الدرس أما ماذا؟
فمن العدل النظر إليهم بإنصاف، والمساواة بينهم فيما هم فيه، والنظر إلى مجالسهم، ولكن ما لا يدرك كله لا يترك ما تيسر منه.
فأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
وأسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يرزقنا العدل والاستقامة، وأن يهدينا إلى سواء الصراط، وأن يأخذ بنواصينا أجمعين إلى البر والتقوى، وأن يجعلنا أجمعين هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , العدل بين الناس للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
https://audio.islamweb.net