اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الفتن وخطرها للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فإن الله سبحانه وتعالى هو مدبر الكون، لا يقع فيه شيء إلا بأمره وتدبيره وإرادته، ولا يقع في هذا الكون شيء إلا عن حكمة بالغة، فهو الذي يعلم مآلات الأمور، ويبلو عباده ويمتحنهم كما قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:35]، وإذا قدر أمراً يسر أسبابه، وبين المخارج منه، ووفق لذلك من شاء من خلقه، وإن من حكمته سبحانه وتعالى أن يمتحن أهل الأرض بما يجدون من الضراء، وبما يجدون من السراء أيضاً، وقد كتب ذلك كله في القدر، فكل ما يقع من ذلك مكتوب عند الله تعالى في أم الكتاب؛ ولهذا قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:22-23]، (لكيلا تأسوا) هذا التعليل لكتابة ذلك في أم الكتاب؛ ولكتابته في القدر السابق، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ [الحديد:23] أي: لا تحزنوا على ما فاتكم من هذه الدنيا، وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23] أي: بالسراء في هذه الحياة الدنيا، ولذلك على الإنسان أن يعلم أن هذه الدار ذات ألوان، وسيركب فيها الإنسان طبقاً عن طبق، وسيمر به كثير من الأطوار.
وهذه الأطوار المنوعة يمثلها خلق الإنسان، فالإنسان خلق فيها تسعة أطوار كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:12-16].
تسعة أطوار يمر بها خلق الإنسان، ونحن نشاهد أحد هذه الأطوار مع ما فيه من الأطوار الداخلية، فهذا الطور الذي طواه الله تعالى بقوله: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون:14]، المقصود به تنامي الإنسان بعد ميلاده، فقد خلق من ضعف، ثم لم يزل يزداد تقدماً وقوة إلى أن وصل إلى منتهى قوته فبدأ في الضعف والشيبة.
ويمر به في هذا الطور وحده كثير من الأطوار كالفراغ والانشغال، والصحة والمرض، والغنى والفقر، والرضا والغضب، واللذة والألم، وغير ذلك من الأطوار التي تصابحه وتماسيه، ويجدها في كل أحيانه، وهي أعراض لم يكتب الله سبحانه وتعالى فيها الأجل إلا عند نهايته، فما يصيب الإنسان من الأعراض لو قدر به الأجل لكان أجله إما بالفرح، وإما بالحزن، وإما بالرضا، وإما بالغضب، وإما بالصحة، وإما بالمرض، أو غير ذلك من الأعراض التي تعتريه، وآخرها هو العرض الأخير الذي به أجله، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وسلم حال الإنسان، ( فخط خطاً مربعاً، وخط بداخله خطاً، ثم أخرج منه خطاً آخر طويلاً، ثم خط خطوطاً عن يمين الخط الذي بداخل المربع، وخطوطاً عن شماله، ثم وضع إصبعه على الخط الداخلي، فقال: هذا الإنسان، ووضع إصبعه على الخط الخارجي فقال: وهذا أمله، ووضع إصبعه على المربع وقال: وهذا أجله، وأشار إلى الخطوط التي عن يمينه وعن شماله فقال: وهذه أعراض إن أخطأه هذا أصابه هذا ).
فهذا مثال نبوي واضح لما يعترينا من الأعراض، ولما يحل في دنيانا هذه من التدبير التي ينبغي أن يكون زيادةً في الإيمان، وزيادةً في التقرب إلى الله تعالى، فأهل الإيمان كلما رأوا طوراً من هذه الأطوار ذكروا الله سبحانه وتعالى، إذا غربت الشمس فجاء الظلام ذكروا الله تعالى الذي امتن بالظلام على الأبدان، وإذا طلعت الشمس فجاء الضياء ذكروا الله فأقبلوا عليه بالشكر للامتنان على هذه النعمة، ولذلك فإنه سبحانه وتعالى امتن علينا بالضياء، وامتن علينا بالظلام، وكلاهما لا يصلح لوقته إلا هو، وجعل ذلك ذكرى وعبرة، فتفاوت الليل والنهار، وتكوير كل واحد منهما على الآخر هو تذكرة للغافلين والمشغولين عن الله تعالى بأن يئوبوا إليه ويتذكروا، ولهذا قال الله تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [الفرقان:61-62].
وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان إذا رأى الهلال أول مستهله يقول: أيها الخلق المتردد في منازل التقدير! والمتصرف في فلك التدبير! آمنت بمن نور بك الظلم، وأسفر بك البهم، وجعلك آيةً من آيات وحدانيته، وعلامةً من علامات سلطانه، وامتحنك بالزيادة والنقصان، والطلوع والأفول، والإنارة والكسوف، وفي كل ذلك أنت له مطيع، وإلى أمره سريع، فسبحان الذي خلقك وخلقني وقدرك منازل.
هذا القمر آية من آيات الله سماه الله بذلك في كتابه: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً [الإسراء:12]، وهذه الآيات لا بد من الاعتبار بها، وقد قال الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً [الإسراء:59].
فالعبد يحتاج إلى ما يخوفه من الله، ولا يتم ذلك ما دام غارقاً في الطغيان، وما دام يحس بالاستغناء، فلذلك يبتليه الله تعالى ليئوب إليه ويرجع، ولهذا فكل ما يظهر في الأرض من الفساد، وكل ما يحصل فيها من الفتن، وكل ما يحصل فيها حتى من السيئات والذنوب أو من الطاعات والقرب كله ذكرى وعبرة للمعتبرين، فالإنسان إذا رأى العاصين المعرضين عن الله الذين يقبلون ويدبرون لا يبالون، ولا يخطر أمر الآخرة على خلد أحد منهم، ولا يتذكرون الموت، ولا يتذكرون العرض على الله، هذه عبرة وموعظة؛ لأنه يتعظ في هؤلاء كيف كانت لهم عقول كبيرة يتصرفون في أمورهم ويبيعون ويشترون، ومع ذلك هم بهذه الغفلة عن هذا الأمر العظيم الكبير الذي فيه يختصم الملأ الأعلى؟ لا يرجون لله وقاراً، أمر عظيم جداً؛ ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـعمرو بن العاص رضي الله عنه -وقد كان إسلامه متأخراً، فما أسلم إلا بعد صلح الحديبية- قال له عمر : يا عمرو ! والله إن كنا لنعدك من أعقلنا، فما الذي أخرك عن الإسلام؟ فقال: يا أمير المؤمنين! إنا كنا مع مشيخة من قريش، كنا نعدهم أهل كمال وفطنة، فلما حاربوا هذا الأمر وأعرضوا عنه شغلنا برأيهم، فلما ماتوا نظرنا فإذا الحق واضح. فلذلك عجب عمر من تأخر إسلام عمرو بن العاص مع تمام عقله، ودهائه وفطنته، كيف يتأخر عن الإسلام وهو بهذا الوضوح، وآياته بينات ظاهرة باهرة.
ومن الغريب أيضاً: أن بعض من كان مشركاً في وقت من الأوقات، ورأى بعض هذه الآيات عجب من نفسه: كيف لم يؤمن عند ظهور تلك الآيات؟! فإن أبا سفيان بن حرب رضي الله عنه كان خرج إلى مزرعة له بالطائف هو و صفوان بن أمية بن خلف ، فلما رجع من الطائف وكان على حدود الحرم بين عرفة ومزدلفة رأيا ذئباً يطرد أرنباً، فلما دخلت في الحرم رجع الذئب عنها، فقال أبو سفيان لـصفوان : ما رأيت كاليوم عجباً! ذئب جائع يريد أرنباً فتدخل في الحرم فيتركها!! فوقف الذئب وكلمهما بكلام فصيح، فقال: بل أمركما أعجب من أمري، يأتيكما محمد صلى الله عليه وسلم بالحق من عند الله تعالى فتعرضان وتكذبان!، فمكثا ساعةً لم يفكرا في هذا الأمر، مكثا ساعةً لا يستطيع أحد منهما جواباً حيرةً من هذا الأمر، ثم التفت أبو سفيان إلى صفوان فقال: لا تحدث بهذا الأمر؛ فإنك إن حدثت به لم يبق بين جبليها أحد، أي: سيخرج أهل مكة جميعاً، فتعاهدا على كتمانه، فلما أسلما حدث أبو سفيان بهذا الخبر العجيب!
ونظير ذلك أيضاً ما حصل له عندما خرج بعد عقد الهدنة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية، خرج أبو سفيان في تجارة قريش إلى الشام، فلما كانوا بغزة جاءهم الطلب، فإذا هرقل ملك الروم يدعوهم للحضور عنده، فأتي بهم وكانوا عدداً من الرجال من التجار، فلما أتوه وجدوه في دسكرة، أي: قبة عظيمة له، وعنده عظماء الروم جميعاً قد جمعهم فيها، برلمان الروم يجتمعون لسماع أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال هرقل لترجمانه: ( قل لهم: أيكم ألصق نسباً بهذا الرجل؟ قال أبو سفيان : فقلت: أنا، فقال: قربوه عندي واجعلوا أصحابه عند ظهره، ففعلوا، فقال له: إني سائلك عن هذا الرجل فلا تكذب، وقال لأصحابه: إذا كذب فكذبوه، سأل هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أسئلةً تدل على تمام عقله وفطنته، وقد سأله عن النبي صلى الله عليه وسلم: هل كنتم تؤثرون عليه كذباً قبل أن يقول ما قال؟ قال: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قال: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قال: نعم، كيف الحرب بينكم وبينه؟ قال: سجال، قال: فهل يغدر؟ قال: لا، ونحن منه الآن في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: لم أجد مسألةً أدخل فيها شيئاً إلا هذه، ونحن منه الآن في مدة ما ندري ما هو فاعل فيها، سأله: أأشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ قال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قال: بل يزيدون، قال: أيرجع أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، فرد هرقل على أبي سفيان فقال: قد سألتك: هل كنتم تؤثرون عليه كذباً؟ فقلت: لا، فقد علمت أنه لم يكن ليترك الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك عن نسبه فقلت: هو فينا ذو نسب، وكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك: هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه من ملك لقلت: رجل يطلب ملك أبيه، وسألتك: هل قاتلتموه؟ فقلت: نعم، وقلت: إن الحرب بينكم وبينه سجال، فكذلك أمر الإسلام حتى يتم، أو قال: أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: أأشراف الناس اتبعوه أما ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك: هل يرجع أحد منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، فكذلك الإيمان حين يخالط بشاشة القلوب، وسألتك: أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، فكذلك أمر الإسلام حتى يتم، وسألتك: هل يغدر أم لا؟ فذكرت أنه لا يغدر، فكذلك الرسل لا تغدر، فإن كان ما قلت حقاً فليملكن موضع قدمي هاتين، ولو كنت عنده لتجشمت لقاءه ولغسلت عن قدميه )، وكانت هذه القصة في ذلك الوقت و أبو سفيان أشد ما يكون عداوةً للنبي صلى الله عليه وسلم.
قال: ( فخاطب الروم، فقال لهم: يا معشر الروم! هل لكم في أن يدوم ملككم أم تبايعوا هذا الرجل وتتبعوه؟ فحاصوا حيصة الحمر إلى الأبواب فوجدوها مغلقة، فدعاهم فقال: قد كنت أمتحن حرصكم على دينكم فقد رأيت، فسجدوا له ورضوا عنه، فكثر اللغط عنده وأخرجنا، قال أبو سفيان : فمنذ سمعته يقول ما قال وأنا أعلم أن أمر الإسلام سيتم حتى أدخل الله علي الإيمان )، ومع هذا قال لأصحابه لما خرجوا: ( لقد كبر أمر ابن أبي كبشة حتى إن ملك بني الأصفر ليخافه ).
فلذلك لا بد أن نعلم أن الجميع من تقدير الله، وأن الإيمان ليس ميراثاً يرثه الإنسان عن آبائه وأجداده، وليس قناعةً عقليةً يقتنع بها إذا رأى المعجزات والآيات، أو قرأ وتدبر، إنما هو نور يقذفه الله في قلب من شاء من خلقه، ولهذا قال تعالى: وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا [الشورى:52].
وقال تعالى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمْ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمْ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ [الأنعام:109-111].
فلا يمكن أن يؤمن إلا من قدر الله له الإيمان، ولهذا قال الله تعالى: وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [يونس:99-100].
فلذلك يهدي الله تعالى لنوره من يشاء، ويصرف عن هذا النور من يشاء، وقد تعهد بصرف الذين لا يرتضي خدمتهم للدين عن الإيمان وعن الالتزام، فقال تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [الأعراف:146].
ضمان وتعهد من الله تعالى، وهذا الضمان والتعهد أسبابه واضحة في حياة الناس، وهي الفتن التي ينزلها الله تعالى كل ليلة وكل يوم، وهذه الفتن منها ما ينزل في السنة فيكون عامياً، ومنها ما يكون يومياً، ومنها ما يكون في عمر كل إنسان، ومنها ما يكون في القرون، فهي متفاوتة الدرجات والأنواع، ولكنها عقبات في طريق السير إلى الله تعالى، ومزالق على طريق الهداية والاستقامة، ولهذا قال الله تعالى في قصة المعراج: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً [الإسراء:60].
هناك أمران عجيبان في العهد المكي:
أحدهما: نزول قول الله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46]، فعندما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات على أهل مكة قالوا: تباً لك تزعم أن النار تحرق، وتزعم أنه ينبت فيها الشجر؟ فكان ذلك سبباً لفتنة بعض من دخل الإسلام، لم يرتض الله تعالى إيمانهم فردهم على أعقابهم، نسأل الله السلامة والعافية.
والأمر الثاني: قصة الإسراء والمعراج لما حصلت كانت فتنةً لأقوام، ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم نام في وسط الليل بين أظهرهم في بيت أم هانئ بمكة، فجاءه جبريل ففرج له سقف البيت -رفع سقف البيت ولم يخرجه من الباب- فدخل به إلى المسجد الحرام، فشق صدره وغسله من زمزم، ثم خرج به من باب بني جمح، فإذا دابة بين الفرس والحمار وإذا هي البراق، فدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليركبها فشمست منه -أي: نفرت- فوضع جبريل يده على ظهرها، وقال: مه، فما ركبك خير منه فاستكانت له، فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم البراق وسار به جبريل إلى الشام حتى وصلا عند بيت المقدس، فربط البراق بالحلقة التي يربط بها الأنبياء دوابهم، فدخل فوجد الأنبياء جميعاً ينتظرونه للصلاة، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك نصب له المعراج فعرج به إلى سماء الدنيا، فاستأذن جبريل فقيل: من؟ فقال جبريل : قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء فإذا آدم عليه السلام، وإذا عن يمينه أسودة، وعن شماله أسودة، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى، فسلم عليه فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: فسألت جبريل عن تلك الأسودة؟ فقال: نسم بنيه -أي: أرواح بني آدم- أما الذين عن يمينه فأهل السعادة إذا نظر إليهم ضحك، وأما الذين عن شماله فأهل الشقاء إذا نظر إليهم بكى، ثم ارتفع فاستأذن جبريل عند باب السماء الثانية، فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، فقيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء الثانية، فإذا عيسى بن مريم ويحيى بن زكريا ابنا الخالتين عليهما السلام، فسلم عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، فردا عليه السلام وقالا: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم ارتفعا فاستأذن جبريل عند باب السماء الثالثة فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء الثالثة، فإذا يوسف عليه السلام، وإذا هو قد أوتي شطر الحسن -أي: نصفه- فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح، ثم ارتفع فاستأذن جبريل عند باب السماء الرابعة فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء الرابعة، فإذا إدريس عليه السلام، فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم عرج به إلى السماء الخامسة فاستأذن جبريل ، فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء الخامسة، فإذا هارون بن عمران عليه السلام، فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم عرج به إلى السماء السادسة، فاستأذن جبريل فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، فقيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً به ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء السادسة، فإذا موسى بن عمران عليه السلام وإذا هو رجل آدم شديد كأنه من رجال شنوءة -أي: كرجال الأزد- وفي رواية: كأنه من رجال الهند -أي: من رجال شرق آسيا وهم طوال أقوياء- فسلم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فرد عليه السلام، وقال: مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح. ثم عرج به إلى السماء السابعة فاستأذن جبريل فقيل: من؟ فقال: جبريل ، قيل: ومن معك؟ قال: محمد، قيل: أوقد بعث إليه؟ قال: نعم، قيل: مرحباً ونعم المجيء جاء. ففتح له باب السماء السابعة فإذا إبراهيم عليه السلام، وإذا أشبه الناس به صاحبكم -أي رسول الله صلى الله عليه وسلم-، وإذا عنده عدد كبير من الأطفال، فقال إبراهيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح، أبلغ أمتك أن الجنة إنما هي قيعان، غراسها التكبير والتحميد والتهليل، قال: فسألت جبريل عن أولئك الأولاد فقال: أولاد المؤمنين الذين يموتون قبل بلوغ الحنث وهم عند إبراهيم عليه السلام. فإذا في السماء السابعة البيت المعمور، وإذا هو كل يوم يدخله سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه بعد، و إبراهيم مسند ظهره إليه، ثم عرج به حتى بلغ سدرة المنتهى، فإذا هي يغشاها الأمر من أمر الله فتتغير له ألوانها تارةً تصفر، وتارةً تخضر، وتارةً تحمر، يغشاها أمر الله تعالى فتتغير ألوانها من أجل ذلك، وإذا ورقها كآذان الفيلة، وإذا نبقها كقلال هجر، وإذا في أصلها -أي: في جذعها- أربعة أنهار: نهران داخلان، ونهران خارجان، فسألت جبريل فقال: أما النهران الداخلان فنهران في الجنة، وأما النهران الخارجان فنيل مصر والفرات، ثم بعد ذلك وقف جبريل في هذا المكان وقال: هذا مكاني لا أتعداه، وعرج برسول الله صلى الله عليه وسلم حتى سمع صريف القلم، ثم رجع فمر بعد أن فرضت عليه الصلاة، وبعد أن تردد بين موسى وربه رجع إلى بيت المقدس، ومنه انطلق إلى مكة فمر بعير قريش، فرأى العير وأهلها بتفاصيل أمورهم، وشرب من قدح هناك لأحد بني هاشم، ولم يكن ليشرب من قدح لغيرهم؛ لأنه حرمت عليه الصدقة، ثم رأى إبلهم عند انطلاقها فسبقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء قبل طلوع الفجر إلى مكة )، فلما حدث بهذا الأمر كان فتنةً عظيمةً على الناس، فكثير من الذين أسلموا ولم تتشرب قلوبهم بشاشة الإيمان ارتدوا بعد أن سمعوا هذه القصة، وقالوا: كيف يسير الراكب بين المسجد الأقصى والمسجد الحرام في ليلة واحدة؟! بل كيف يعرج إلى السموات على دابة؟! واستغربوا هذا الأمر استغراباً عظيماً، وكان أبو بكر غائباً، فاستقبله كفار أهل مكة فقالوا: أسمعت ما زعم صاحبك؟ زعم أنه في ليلة واحدة ذهب إلى الشام، ثم إلى السموات السبع، ثم رجع فأصبح عندنا بمكة، فقال: إن كان قالها فقد صدق. فزادت هذه الفتنة أبا بكر إيماناً وتصديقاً، وارتد بسببها آخرون، نسأل الله السلامة والعافية، ولذلك قال الله تعالى: وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً [الإسراء:60].
إن الفتن من حكمة الله تعالى، وهي النكبات على الطريق تصد أقواماً عن الاستمرار على طريق الحق، وترد آخرين قبل أن يريدوا طريق الحق، فالناس جميعاً ممتحنون بطريق واحد لا يرتضي لهم الله إلا هو، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، طريق واحد هو الصراط المستقيم، وهو المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وهو تمثيل للصراط الأخروي، فالصراط الدنيوي هو هذه المحجة البيضاء، والصراط الأخروي جسر منصوب على متن جهنم أدق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، ( فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدواً، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم )، لكن بقدر استقامة الإنسان على الصراط الدنيوي تكون استقامته على الصراط الأخروي، فالذي لا يثبت في أزمات الدنيا وفتنها يخشى عليه أن ينكب على وجهه في نار جهنم من فوق ظهر الصراط يوم القيامة، والذي يثبت على طريق الحق فلا يدخل يميناً ولا شمالاً في بنيات الطريق يرجى له أن يثبته الله يوم القيامة على الصراط، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم مثل لنا هذا الصراط الدنيوي بلا حب بين سورين، وفي السورين أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور، وفوق السورين داعي الله ينادي: ( يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه، وفي كل باب داع يدعو إليه )، فهذا الطريق الذي نسلكه محفوف بكثير من المخاطر، عن يمينه وشماله أبواب مفتحة، وعليها ستور، وفي كل باب داع يدعو إليه: إلي إلي، لكن فوق السورين داعي الله ينادي: ( يا عبد الله! لا تلج الباب؛ فإنك إن تلجه لم تخرج منه، وداعي الله هو برهان الله في قلب كل مؤمن )، ويتفاوت سماع الإنسان لذلك بقدر إيمانه ومستواه في الإيمان، فمن كان إيمانه أقوى كان ابتعاده عن المعصية وإعراضه عن كل ما يؤدي إلى سخط الله أشد، ومن كان إيمانه أضعف كان إلى سماع ذلك الداعي الذي في الباب أقرب، وربما تأثر به، وربما دخل، نسأل الله السلامة والعافية.
ومن هنا فهذه الفتن التي تظهر في هذه الدنيا هي مثل ما يحصل على الصراط من الكلاليب التي هي كشوك السعدان، ومثل ما يحصل عليه من المراقب، أي: المرتفعات والمنعرجات الخطيرة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح: ( أنه يقف يوم القيامة على مرقب من الصراط وهو يقول: اللهم سلم سلم، ودعاء الأنبياء يومئذ: اللهم سلم سلم )، جميع الأنبياء يومئذ ما لهم دعاء إلا هذا الدعاء على الصراط: ( اللهم سلم سلم )، والأمر شديد جداً، وهذا الدعاء يذكرنا بالخطر الذي نحن فيه، فالمؤمن في طريق الحق أمامه كثير من العراقيل والعقبات، وهو كل يوم يشهد كثيراً من الفتن:
منها: فتنة الرجل في أهله وماله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [التغابن:14-15].
ومنها: كذلك فتنته في جيرانه، فجيرانه إما أن يكونوا صالحين، وإما أن يكونوا طالحين، فإن كانوا صالحين فكثيراً ما يفتن بصلاحهم؛ لأنه إما أن يغلو فيهم فيفرط، وإما أن يقصر فيهم فيفرط، وإن كانوا طالحين فإما أن يتمنى ما هم فيه فذلك منزلق عظيم، وإما أن يعادوه فتحصل له مشكلة دنيوية من مخالطتهم، وربما فرط في حق من حقوقهم، فذلك كله من الفتنة في الجيران.
ومثل ذلك: فتنة الدنيا نفسها فهي دار الغرور، وكل يوم من أيامها يسمع الإنسان ما لم يكن سمعه من قبل، وهذا السماع هو المؤثر في إدراك الإنسان، وهو المكون للرأي العام، فالرأي العام الذي يتصوره الإنسان عن كل أمر من الأمور سببه ما يسمعه وما ينقل إليه من أخبار، فالإنسان البدوي المنقطع عن الناس الذي لا يسمع أخبار العالم تصوره عن الأمور كلها على حسب بيئته وما ينطلق منه، فإذا خالط الحضارة وسمع الأخبار تغير تصوره بالكلية، فعرف أن كثيراً من الأمور كان يدركها على وجه الخطأ، أي: كان يتصورها على وجه وهي على خلافه، وكذلك كل من لا يخالط الناس إذا رأى وجوه الناس الآن سيتصور تصوراً عن كل إنسان، قد يتصور الثقة في إنسان ويتصور خلافها في آخر، لكن إذا خالطه يبدو له ذلك؛ لأن النظرة العجلاء لا يحصل بها الحكم، وإنما يحصل بها مجرد التصور.
ومن هنا فإن كثيراً من الناس إنما يتحدد تصوره وتتحدد مواقفه بحسب الفتن التي يعايشها وتكون في زمانه، وهذه الفتن هي مشكلات الرأي العام، وعلى ذلك يتفاوت الناس فيها تفاوتاً عظيماً.
فمنهم من لم يكن يسلك طريق الحق أصلاً، ولكنه كان يمني نفسه بذلك، يريد أن يلتزم وأن يكون من الصالحين، وإذا رأى المتوضئين في آخر الليل يمشون في ظلم الليل إلى المساجد يتمنى أن يكون فيما هم فيه، ولكن ذنوبه تقعد به عن ذلك، وإذا رأى الصائمين القائمين تمنى أن يلحق بهم، ولكن ذنوبه تقعد به عن ذلك، وإذا رأى المتصدقين المنفقين تمنى أن يكون كذلك ولكن ذنوبه تقعد به عن هذا، وهكذا في كل خير يراه، فهذا يميل وراء الحق، لكن إذا فتن تحصل فتنة تصده عن السلوك فلا يسلك طريق الحق أصلاً، والذين لا يرتضيهم الله تعالى أنواع منوعة، فمنهم الذين لا تحصل لديهم الإرادة ولا الهمة، همتهم تتعلق ببطونهم وفروجهم، فجميع ما لديهم من الهمم والعزائم إنما تتعلق فقط بشهواتهم، مثل الحيوانات البهيمية تماماً، وهؤلاء هم أقصى الناس عن الله تعالى.
والنوع الثاني: لهم همم ولكن تلك الهمم لا يصحبها عمل، يسوفون ويتمنون على الله الأماني، وكل إنسان منهم يود أن يؤتى صحفاً منشرة، ويتمنى أن يكون من أهل الجنة، وإذا ذكر له حال أهل الفردوس الأعلى من الجنة تمنى أن يكون منهم في قرارة نفسه، لكن هيهات وشتان بين حاله وحالهم، كل اتكالاته واعتماداته على مجرد التمني والأحلام، إن الأماني والأحلام تضليل.
والنوع الثالث: يسلكون الطريق فعلاً، ولكنهم سرعان ما يتساقطون إذا واجهتهم فتنة من الفتن انقلبوا على وجوههم، نسأل الله السلامة والعافية، كما قال الله تعالى: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11].
فهؤلاء يسلكون طريق الحق، لكن سرعان ما يتساقطون إذا واجهتهم أية فتنة أو أية مشكلة؛ لأنهم دخلوا الطريق وهم يظنون أنه مفروش بالورود، ولم يدخلوه وهم يتوقعون ما فيه من الأشواك، وما يتعرضون له من الفتن، وإن الشارع لم يغترنا عن طريق الحق، فالذين يعرفون الحق يعلمون أنه مسلك صعب، وقد قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات )، وقال: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل )، وقال: ( إذا أحب الله عبداً ابتلاه ).
فلذلك طريق الحق لا بد أن يجد فيه الإنسان كثيراً من النكبات والعراقيل والعقبات، ومن لم يتوقعها لم يعرف طريق الحق، فأنتم يا إخواني تعلمون أن أنبياء الله أكرم على الله منكم قطعاً، فلا أحد منكم الآن يتوقع لنفسه مقام إبراهيم خليل الرحمن، أو مقام موسى كليم الرحمن، أو مقام محمد صلى الله عليه وسلم سيد الأنبياء والمرسلين والخلائق أجمعين، أليس هؤلاء قد أوذوا غاية الأذى، وتعرضوا لكثير من المشكلات في الحياة الدنيا.
ألم يخرج إبراهيم من داره بمؤامرة أهله وذويه؟ ألم يرم في النار التي لا يستطيع الطير المرور من فوقها؟ ألم يظهر الله على يديه المعجزة العجيبة فلم يؤمن بها إلا رجل وامرأة؟ فآمن له لوط، لم يؤمن به من أهل كوثا إلا لوط وسارة، كل ذلك عرفتموه، وبعد أن هاجر إلى الشام هل نجا أيضاً من الابتلاءات؟ وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [البقرة:124]، لما رزق الولد على كبر السن والحاجة إليه، لما بلغ معه السعي أوحى الله إليه أن يذبحه ويتقرب به إلى الله، فلما عرض ذلك على الولد كان مقام الولد مقاماً مشرفاً، وهذا المقام أيضاً فتنة؛ لأن الولد لو قال: لا وأنا لا أقبل لكان عدواً لله، وكان ذلك يسقطه من قلب إبراهيم بالكلية، لكن لما قال: يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ [الصافات:102]، كان هذا أبلغ في الامتحان؛ لأنه ولد صالح وصابر، ويدعو إلى الامتثال لأمر الله، ويعين على طاعته، امتحان عجيب.
وكذلك قبل هذا أمر أن يحمل أم ولده وولده الصغير، إلى واد موحش غير ذي زرع، ليس فيه ماء ولا مرعى، ويتركهما في هذا المكان دون أن يبين لهم العلة والسبب، ولما كر راجعاً إلى الشام رفعت إليه الجارية رأسها فقالت: يا إبراهيم ! آلله أمرك بهذا؟ فأشار برأسه أي نعم، قالت: إذاً لا يضيعنا. جارية مؤمنة تعلم أن ما أمر الله به من الأوامر لا يمكن أن يترتب عليه إلا الخير، وهذا حال أهل الإيمان، بخلاف من سواهم؛ فإنهم يظنون أن الحكمة تقتضي أن يتركوا بعض الأمر، وأن أوامر الشرع قد يترتب عليها في بعض الأحيان إجحاف أو ضرر، ويخافون امتثال أمر الله تعالى في كثير من المواقف؛ لأنهم يظنون أن هذه المواقف سترتب عليهم ضرراً يفقدون به وظائفهم ومناصبهم، أو يفقدون به حكمهم، أو يفقدون به علاقاتهم وصداقاتهم، أو يفقدون به مالاً أو جاهاً أو غير ذلك، والواقع خلاف ذلك بالكلية. فهذه فتنة يبتلي الله بها من شاء.
كما قال موسى بن عمران عليه السلام لما ابتلى الله بني إسرائيل بمشاهدة المعجزة، وأمرهم بالسجود حين نتق الجبل فرفعه فوق رءوسهم فكان كالظلة وهم ينظرون، فأمرهم بالسجود فلم يسجدوا إلا على أطراف جباههم خوفاً أن يسقط الجبل على رءوسهم، فأخذتهم الرجفة الشديدة، فقال موسى: إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ [الأعراف:155-156].
فـموسى عليه السلام عرف حكمة الفتنة: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ [الأعراف:155]، عرف حكمة الفتنة فخاطب الله تعالى خطاب العارف الذي لا يعترض شيئاً من أمر الله تعالى ولا من قدره، ويؤمن به تمام الإيمان.
ولذلك فهذه الفتن التي تعرض لنا في كل يوم من أيامنا هي امتحانات تختلف فيها مواقف الناس وتتباين تبايناً عظيماً، فنحن اليوم في أيام الفتن، وهذه الأمة سيحصل فيها كثير من الفتن والمشكلات أخبر بها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
منها الفتن الكبرى التي بين يدي الساعة، كخروج المسيح الدجال ، يخرج من خلة بين الشام والعراق فعاث يميناً وعاث شمالاً، وما بين خلق آدم وقيام الساعة فتنة أعظم من فتنة المسيح الدجال ، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه، حتى إن نوحاً وهو أول الأنبياء إلى الأرض أنذره قومه، وهو يعلم أنه سيأتي بعده الأنبياء، لكن أنذره قومه إيذاناً بشدة هذه الفتنة، ولذلك فإنه يبتلى الناس به بما يشهدون على يديه من جريان الأمور الخارقة للعادة، فإنه يقتل الرجل ويقسمه بالمنشار نصفين، ويمشي بينهما ثم يدعوه فيقوم كأنه لم يمس ببأس، ويمر على القرية الخربة فتتبعه كنوزها كأعاسيب النحل، ويمر على القوم وهم مسنتون -أي: في شدة عظيمة- فيصدقونه، فيأمر السماء فتمطر، ويأمر الأرض فتنبت، فتروح عليهم ماشيتهم أسبل ما كانت ضروعاً، ويمر بالقرية وهم في نعمة فيكذبونه فيأمر السماء فتمسك، ويأمر الأرض فتيبس، فتروح عليهم مواشيهم أشد ما كانت لأواء وشدة، فكل ذلك فتنة عظيمة، وهي من أعظم الفتن، لكن ما يبديه هذا المخلوق الذي خلقه الله فتنةً وابتلاءً للناس، وما يظهره الله على يديه لا يساوي شيئاً من ملكوت الله وقدرته، ولذلك قال الله تعالى: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57]، قال أهل التفسير: لم يذكر المسيح الدجال في القرآن إلا في موضع واحد وهو هذه الآية: لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غافر:57] أي: من خلق المسيح الدجال ، فما يجري الله على يديه من الخوارق أكبر منه خلق السموات والأرض، وخلق العالم كله، وتدبير هذا الكون، فذلك من أمر الله سبحانه وتعالى.
ومنها كذلك: فتنة خروج يأجوج ومأجوج، وهم من كل حدب ينسلون، يخرجون من كل حدب، أي: من جميع الطرق، ومن جميع الجهات، لا يدري البشر من أين أتوهم، حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا [الأنبياء:96-97]، فخروج أولئك القوم المفسدين هو من الفتن العظيمة التي ننتظرها بين يدي الساعة.
وهكذا غير ذلك من الفتن كخروج الدابة التي هي مؤذنة بأن الوعد قد حق على الناس، وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]، تخرج من صدع خلف الصفا والناس في أعظم المسجدين حرمةً، أي: في المسجد الحرام في يوم جمعة في رمضان، لا يفوتها هارب، ولا يدركها طالب، ثم تتوارى في شعب أجياد، وهي موعظة وآية من آيات الله وفتنة عظيمة.
كذلك من هذه الفتن: تراجع الحق وتراجع أهله، وما يشهده أهل الأرض من فشو الفساد، فقد قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41].
من هذه الفتن: ما يظهر في الأرض من أنواع الفساد، وتراجع الحق وأهله، وما يحصل من ظهور المنكرات وقوة أهلها، فقد قال الله تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، فإفساد أهل الفساد في الأرض هو فتنة يبتلي الله بها عباده، فهو قادر على ألا يقع فساد في الأرض، قادر على أن يكون سلوك الناس جبراً كما يحصل في طعامهم وشرابهم، أليس الإنسان يطعم ويشرب ثم بعد ذلك لا يستطيع متابعة طعامه وشرابه بتفصيله في الجوف، بعضه يذهب إلى الدم، وبعضه يذهب إلى العروق، بعضه يذهب إلى البشرة، وبعضه يذهب إلى الشعر، وبعضه يخرج في العرق، وبعضه يكون شحماً، وبعضه يكون لحماً، وبعضه يكون في العظام، وبعضه يكون في العضلات، لا متابعة للإنسان لشيء من ذلك، كله بتيسير الله وتدبيره، وتصرفات الإنسان كلها كان بالإمكان أن تكون كذلك أن تكون جبراً كما يطعمه ويشربه، لكن أراد الله تعالى أن يرتب الأوامر والنواهي على تصرفات الإنسان الظاهرة، فجعله بالخيار في الظاهر، وكلفه بالشرع ولم يكلفه بالقدر، فالقدر هو الجبر الباطني، وهذا لا تكليف به، التكليف إنما هو بالشرع الظاهري الذي يمكن أن يستجيب له الإنسان، ويمكن أن يعرض عنه.
ومن هنا فالفتن التي تحصل من تسليط الكفار على المؤمنين كحالنا اليوم، فأنتم اليوم لا تسمعون أخباراً في مذياع، ولا تقرءون نشرةً ولا خبراً إلا وفيها كثير مما تدمع له الدموع، وتتألم له القلوب، وتنفطر له الأكباد من شأن المؤمنين في كل مكان، فهم اليوم من المذلة والهوان بحال لم يصلوا إليه في العصور القريبة، تغلبت عليهم قوى الشر فذهبت خيراتهم وقسمتهم إلى أوزاع، وتحكمت في مصائرهم، ولا تجد منكراً ينكر عليها، لا تسمعون صوتاً مرتفعاً في وجه أمريكا، أو في وجه النظام العالمي الجديد كما يسمى، بل أقوى الناس هو الذي إذا تكلم تكلم عن الشرعية الدولية وقال: هذا مخالف للقانون الدولي ولأنظمة الأمم المتحدة ولكذا ولكذا، هذا كله امتحان وابتلاء وهو فتن يشهدها الناس، ونحن اليوم نشهد منها تسليط الكفار على المسلمين، وغزوهم لبلاد المسلمين، فكل أرض من أرض الإسلام هي عرضة لغزو الكفار، ولاحتلالها، واستغلال ما فيها من الخيرات، وتهديم البيوت على أهلها.
وقد شهدنا بالأمس القريب في مدينة واحدة وهي الفلوجة وحدها تدمير مئات المنازل على أهلها، وجرح ألف جريح تنزف دماؤهم اليوم في المستشفيات، وقتل أكثر من خمسمائة قتيل بأنواع الأسلحة العجيبة، سمعتم أحد القادة العراقيين يحدث عن أن أقوى الدبابات وأعتاها حسب علمه هو تلك التي تزن أربعةً وأربعين طناً، وأن الصاروخ الواحد يأتي فيحملها فلا يرى في أي اتجاه ذهبت، وعلى مسافة خمسمائة متر يجدون بعض حطامها، فهذا كله ابتلاء وامتحان من الله سبحانه وتعالى للمؤمنين لمثل هذه الفتن التي حصلت في بلادهم، إن هذا الواقع المزري والحاصل إنما هو ابتلاء وامتحان لكم، فأنتم تشاهدون مثلاً الآن اليهود عليهم لعائن الله وهم يبنون جدارهم العازل في فلسطين، ويجرفون بيوت الفلسطينيين، ويجرفون حدائقهم ومصادر أرزاقهم ولا يتكلم أحد، ولا ينكر ذلك أي أحد، وهذا ابتلاء وامتحان من الله تعالى لهذه الأمة، فقد قال الله تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً [الإسراء:8].
فإذا عاد المؤمنون إلى ما تركوه من أمر دينهم وهو الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقاموا بالحق الذي أوجب الله عليهم فسيعيد الله إليهم ما عودهم من العزة والمكانة، وسيعودون إلى ما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من القوة والعزة بالله تعالى، فهذه الأمة لم تكن يوماً من الأيام تتقوى على أعدائها بالعدة أو العدد، فأول هزيمة مني بها الكفار أمام المسلمين كانت تلك التي وقعت ببدر يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان، وكان عدد المسلمين المقاتلين ثلاثمائة مقاتل، ولم يكن لهم من السيوف إلا ثمانية، ولم يكن لهم من الخيل إلا ثلاثة، ولم يكن لهم من الإبل إلا مائة بعير، يتعاقب على كل بعير ثلاثة، وكانت أزوادهم لا تعدو بضع تمرات يجعلها الرجل في يده ليس له غذاء سواها، وعندما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم للتقدم في وقت الضحى لقتال المشركين وقف أمامهم فقال: ( تقدموا إلى جنة عرضها السموات والأرض )، تقدم شاب منهم وفي يده تمرات يأكلها فقال: ( بخ بخ، عرضها السموات والأرض، إنه لعمر طويل إن بقيت حتى آكل هؤلاء التمرات، ثم رمى بهن وتقدم فقاتل حتى قتل )، عمر طويل أن يبقى حتى يأكل تلك التمرات التي هي زاده وغذاؤه من هذه الدنيا، فيتقدم ويقاتل فيقتل في سبيل الله.
ولم تكن عدة المؤمنين يوماً من الأيام مساويةً لعدة العدو ولا لعددهم أبداً، معارك المسلمين المشهودة في مشارق الأرض ومغاربها، وقد فتحوا الأرض ودوَّخوها يميناً وشمالاً لم يكن شيئاً منها بقوة السلاح، ولا بكثرة العدد، وإنما كان بالإيمان، عندما كان الاتصال بالله سبحانه وتعالى والتوكل عليه، وقصد وجهه بالأمر كله، وعدم الخوف ممن سواه كانت تلك المعارك البطولية، وكانت تلك المشاهد العجيبة، ولذلك حدثنا عدد من الصحابة أنهم في يوم بدر كانوا يتبعون الكافر من أجل ضربه بالسيف، فيطير رأسه قبل أن يلاقيه السيف، وهم ينظرون، يضربه الملائكة وهم ينظرون.
فلذلك لا بد أن ترجع هذه الأمة إلى ما تركها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تراجع ما نالت به القوة والشرف بين الأمم، وأن تعلم أن هذه الفتن التي تمر بها ما هي إلا تمحيص وابتلاء.
ولذلك فإن مواقف الناس في كل فتنة من الفتن تنقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: صرحاء المنافقين المكذبين الذين يقولون: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب:12]، وهؤلاء يتنكرون للدين، ويزعمون أن الأمر لا يزداد إلا شدةً، وأن الكفار أقوى وأعتى، ولا يمكن أن يقف في وجههم أحد، وبذلك يؤلهون الكفار، فيعتقدون أنهم يملكون لهم من الأمر شيئاً، وهم بذلك يهزءون من النصوص الواردة عن الله سبحانه وتعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
والموقف الثاني: موقف مرضى القلوب الذين دون هؤلاء، وهو الخوف من الأعداء، والسعي لتثبيط المؤمنين عن الجهاد في سبيل الله، والسعي كذلك للإفساد فيما بين المؤمنين للتخذيل، وهذا الموقف ذم الله أهله بقوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً * يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً [الأحزاب:18-20].
هؤلاء يتهربون من المسئوليات، ولا يريدون تحملها بوجه من الوجوه، وبذلك يسعون للتخذيل والتعويق، هذه مهمتهم ووظيفتهم، و سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ [الأحزاب:19]، أي: عابوكم بألسنة شديدة، فيعيبون أهل الإيمان بتلك الألسنة الحداد على أهل الإيمان، ما فيهم من القوة هو ما في ألسنتهم فقط، ولا يوجهونه إلى الكفار، بل لا يوجهونه إلا إلى أهل الإيمان فقط.
والموقف الثالث: موقف الذين يريدون الدنيا ويؤثرونها على الآخرة، فهم يهتمون بمصالحهم الخاصة، وينكفئون على شئونهم الخاصة، ويتركون أمر العامة، يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً [الأحزاب:13]، وهؤلاء لا يهتمون بأمر هذه الأمة، قتل من قتل، وجرح من جرح، وهدم ما هدم من البيوت لا يعنيهم هذا، إنما يعنيهم سلامة بيوتهم وأجسادهم، فما دام أحدهم يجد ملء بطنه ويجد سلامةً في أسرته لا يعنيه أمر العامة.
والموقف الرابع: هو الموقف المشرف الذي يقفه أهل الإيمان والصدق مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [الأحزاب:23-24].
ولذلك فمثال ما نحن فيه الآن من تاريخ الأمة ما حصل يوم الأحزاب عندما جاءت الأحزاب قريش والأحابيش وغطفان من غرب المدينة فأحاطوا بها من الجهة الغربية، وجاء اليهود بنو قريظة ومن معهم من بني النضير من الجهة الشرقية، فأحاطوا بالمدينة إحاطة السوار بالمعصم، وقطعوا عنها كل الإمدادات، وحاصروا النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فيها، ليس لهم أي مدد خارجي، يرميهم أهل الأرض جميعاً عن قوس واحدة كما قال ابن رواحة :
والناس إلب علينا فيك ليس لنا إلا السيوف وأطراف القنا وزر
ويحصرونهم في ذلك المكان الضيق الذي ليس له أي امتداد خارجي، ظهرت هذه المواقف الأربعة، فقال الله تعالى: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب:12]، هذا الموقف الأول موقف الصرحاء، قالوا: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب:12]، قالوا: يعدكم محمد أنه ستفتح عليكم كنوز كسرى وقيصر، وها أنتم اليوم لا يستطيع أحد منكم أن يخرج لقضاء حاجته، ونحن نعلم أنه لم تمض ست سنوات على هذا القول الذي قاله المنافقون حتى فتح الله كنوز كسرى وقيصر وأنفقت في سبيل الله، فحقق الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وعده، ونحن لا نشك في هذا الوعد بل نعلم أنه متحقق لا محالة، فتقدم أو تأخر لا بد أن يتحقق، إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:9].
ثم قال في الموقف الثاني: وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13]، هؤلاء هم المخذلون يقولون: يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ [الأحزاب:13] ماذا تريدون؟ هل تريدون أن تقاتلوا أمريكا؟ هذا لا يمكن أن يقع، لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا [الأحزاب:13].
والموقف الثالث بينه بقوله: وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ [الأحزاب:13]، أي: ليست داخل الحصن، وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً * وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيراً [الأحزاب:13-14]، (ثم سئلوا الفتنة) أي: الردة عن الإسلام، (لآتوها) أي: لأعطوها من سألهم، أو (لأتوها) أي: لوقعوا فيها، (وما تلبثوا بها) أي: ما تأخروا عنها (إلا قليلاً).
والموقف الرابع المشرف هو الذي بينه الله تعالى بقوله: وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً [الأحزاب:22]، هذا موقف مشرف لا محالة، وهو الذي ينبغي أن يكون عليه أهل الإيمان في كل زمان.
وأنتم اليوم تشهدون افتراق الناس إلى هذه الأقسام الأربعة، تشهدون صرحاء المنافقين الذين يقولون: مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً [الأحزاب:12]، ويرون أن الدين لم يعد صالحاً للتطبيق، وأنه لا يمكن أن يذكر شيء اسمه جهاد، ولا يمكن أن يذكر شيء اسمه استشهاد، ولا يمكن أن تذكر غنيمة، ولا يمكن أن يذكر شيء من أحكام ذلك، ويرون أن مجرد ذكر إقامة حد من حدود الله أو الجهاد في سبيل الله هو من الإرهاب المقيت المذموم عندهم، وهؤلاء هم صرحاء المنافقين.
والقسم الثاني: هم المخذلون المنهزمون يقولون: نعم هذا صحيح ولكن ليس الوقت وقته، فنحن ضعفاء وذوو عجز واستكانة، ولا يمكن أن نقدم شيئاً في مثل هذا الوقت، فما علينا إلا أن ننحني أمام العاصفة حتى تتجاوز، وهؤلاء هم المخذلون، ونحن نشهدهم بين أظهرنا.
والموقف الثالث كذلك: موقف الذين ينكفئون على مصالحهم، فيتركون أمر العامة، يقولون: مجرد سماع الأخبار لا يزيدنا إلا حزناً وإشكالاً، فدعونا ننقطع عن الأخبار ونستريح من شأن العامة، ونهتم بمتاجرنا ووظائفنا ومصالحنا الخاصة، ولا يعنينا أمر العامة، وهذا الأمر نحن لا يمكن أن نقدم فيه شيئاً، فدعونا من مجرد الحزن والألم.
والموقف الرابع: هو الموقف المشرف وقليل أهله، قليل هم أولئك الذين يعلمون أن ما وعده الله لا بد أن يتحقق.
وهم يفون لله بما عاهدوه عليه صادقين مقبلين غير مدبرين، ويعلمون أن الموتة التي كتب الله عليهم واحدة وسينالونها لا محالة، أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمْ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النساء:78]، ويعلمون أن الرزق الذي كتب الله لهم لا يمكن أن ينتقص، سواءً كان وظيفةً أو مالاً أو جاهاً فلا يمكن أن ينقصه أحد، مَا يَفْتَحْ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر:2]، ( ويعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وأن ما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، رفعت الأقلام وجفت الصحف )، وهم بذلك يتحققون قول الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [الأنعام:17]، ويتحققون قوله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [يونس:107]، فهم يعلمون أن ما قدره الله لا بد أن يقع، وبذلك لا يريدون إلا إحدى الحسنيين قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة:52]، وهم يطالعون العبر وأيام الله يتذكرون أيام الله في الخالين، يتذكرون أن قوم نوح قد ملأوا الأرض، ولم يكن جيش من الجيوش أو قدرة أرضية لتقف في وجوههم، لكن أمر الله السماء فانفتحت أبوابها بالماء المنهمر، وأمر الأرض فتشققت عيوناً فالتقى الماء على أمر قد قدر، ما نبع منه من الأرض، وما نزل منه من السماء التقى على أمر قد قدر، وهذا الماء جند من جنود الله لا يمكن أن يقف في وجهه أحد.
ثم بعد هذا يذكرون أيضاً أن عاداً الذين كانوا يقولون: مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت:15]، قد سخر الله عليهم الريح العقيم ثمانية أيام حسوماً، فلم يبق إلا ديارهم، كانوا جميعاً كجذوع النخل المنقعر، تساقطوا فانشقت أشغفة قلوبهم من هول ما رأوه من الريح العقيم، تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ [الأحقاف:25].
ويعلمون أن ثمود وهم أولو القوة والشدة، وقد جعل الله أجسامهم أكبر أجسام البشر قد سلط الله عليهم الصيحة فشقت أشغفة قلوبهم، فماتوا موتة رجل واحد.
ويعلمون أن قوم لوط المفسدين في الأرض قد أرسل الله عليهم الحاصب فرفع قريتهم حتى سمع أهل السماء أصوات كلابهم، ثم ردها على الأرض، ثم أتبعهم بحجارة من سجيل، فلم تبق لهم باقية.
ويعلمون أن فرعون الذي كان يقول: أَنَا رَبُّكُمْ الأَعْلَى [النازعات:24] أمر الله البحر فانفتح أمامه حتى توسط فيه هو وجنوده ثم أمره فالتطم عليهم فلم تبق لهم باقية، لم يخرج منهم من ذلك البحر إلا حليهم، وما كان عليهم من الذهب والفضة رماه البحر لبني إسرائيل امتحاناً وفتنةً لهم أيضاً بفتنة السراء، أو جثة فرعون أبقاها الله حجةً على كل الطغاة وكل الملحدين، وكل من يستنكر قدرة الله ها هي جثة فرعون بين أيديكم، وقد شاهدناها وما زالت إلى اليوم قائمةً، فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [يونس:92]، آية لكل من تجبر وتكبر في الأرض وطغى وبغى، لا يمكن أن يصل إلى مقام فرعون الذي كان يقول: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51]، لا يمكن أن يصل أحد من طغاة العالم اليوم إلى مستوى فرعون الذي كان يقول هذا الكلام، ومع ذلك ها هي جثته باقية خالدة آيةً من آيات الله تعالى بين أيدي الناس وهم ينظرون إليها، فإذا كان أهل الإيمان يتذكرون أيام الله وابتلاءه للسابقين، فإن هذا مما يثبتهم في الفتنة.
ولهذا فإن الناس يحتاجون في كل الفتن إلى ثلاثة أمور:
الأمر الأول: مراجعة الإيمان بقدر الله سبحانه وتعالى، لا بد أن يتذكر الإنسان أن ما كتبه الله لا بد أن ينفذ، فأنت جنين في بطن أمك كتب معك أجلك وعملك ورزقك وشقي أو سعيد، فالله يأمر الملك بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد، وما كتبه الله عليك لا يمكن أن تفر منه بوجه من الوجوه، وتذكر الإيمان بالقدر في مثل هذه الأوقات مهم جداً للإنسان؛ لأنه يزيل عنه الرعب والخوف من المخلوقين، ويقتضي منه اللجاء إلى الخالق وحده؛ لأنه الذي يعلم مآلات الأمور ومصائرها، وإليه تصير الأمور، ومن سواه لا يعلم شيئاً من ذلك، ومن هنا يحسن في هذا المقام إنشاد بعض الشعر الشعبي لأحد مشايخ هذه البلاد وهو الشيخ محمد بن عبد الله و ... رحمة الله عليهما يقول:
ما نهرب عن فعل الجليل أبدجا علان ... عن شفاة اخلق فيه قبيل الله يخلق ما تخلق
وأنا قاعد أشكي في تذلي وأشكي في هروبي من ... سابق اخلق
ما يظهر لي شجاع لا عني ... ... اخلق ... ... يخلق لا تخلق
هذا الإيمان بالقدر الذي لا بد من مراجعته.
وكذلك يقول أيضاً رحمه الله:
ياللي في ... ... قلبك و... طي طي بك الشداد متحي في الشدة وفي الإهانة
و... قلبك بي كلي الكبد اللي نشفانة
واحل في ... هون هون ما ... قادر ... لا لاهي يخلق بعد كون اللي كاتب ملامة
هذا الأمر الأول وهو مراجعة إيماننا بقدر الله.
الأمر الثاني الذي نحتاج إليه في مثل هذا الوقت هو: مراجعتنا لوحي ربنا، ففيه مشاهد من سبقنا، والعبر والدروس والتجارب عن كل أمر نعيشه، فأنت إذا كنت ستسافر إلى أرض لم ترها من قبل، أنت لم تسافر إلى الصين، إذا أردت أن تسافر إلى الصين فقطعاً ستبحث عن الذين سافروا إلى الصين من إخوانك وتسألهم عن حياة أهل ذلك البلد، وعن طرق معايشهم، وكيف يتعاملون مع الناس، وتتعلم بعض أنظمتهم التي هي ضرورية للقادم الجديد على تلك الأرض، أليس الحال كذلك؟ فكذلك السائر على طريق الأمم السابقة يحسن به أن يطلع على أخبارهم، ولا أحد أصدق من الله حديثاً، فأخبار الأمم جميعاً ها هي في قرآننا، ها هي بين أيدينا في الوحي المنزل الذي هو الحق، وإذا قرأنا منها شيئاً كان تثبيتاً لنا وبياناً لواقعهم، فيمكن أن نحمل عليه واقعنا، فنأخذ العبر والدروس من الذين سبقوا، وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمْ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:45-46]، آيات بينات في هذا الوحي، فيها خبر من قبلنا، وخبر ما يأتي بعدنا، وفصل ما بيننا، ما أحوجنا إلى مراجعتها وتبيانها.
الأمر الثالث: الاتصال بأهل العلم، فأهل العلم هم حجة الله القائمة على الناس، هم الموقعون عن رب العالمين، اختارهم الله من الخلائق ليأتمنهم على وحيه، وأنتم تعلمون أن الإنسان إذا كان لديه شيء شريف جداً وهو في بيته لا يمكن أن يضعه في مكان القذر، مصحفك في بيتك أين تضعه؟ تختار له أطهر مكان من بيتك وأنظفه أليس كذلك؟ كذلك هذا الوحي يختار الله له من الخلائق أطهرهم وأنظفهم، فهو الذي يأتمنهم عليه؛ لأنه وحي الله ولم يكن ليجعله بدار هوان، الخلائق جميعاً أواني الله كما قال ابن متّالي رحمه الله:
والخلق كلهم أواني الله فما لآنية أن تباهي
بما بها إذ هين أن يجعلا في غيرها الشهد وفيها الحنظلا
فالجميع أواني الله، فلذلك يختار الله تعالى لوحيه من يستطيع القيام به، فيمتحنهم بأن يأتمنهم على وحيه، ولم يكن ليجعل وحيه بدار هوان، ولم يكن ليأتمن على وحيه المفلسين، فأنت إذا كان لديك مال جزيل، وأردت أن تودعه في الليل أحد الحاضرين لن تختار من له سوابق عدلية، ومن هو معروف لدى مفوضيات الشرطة، مع أن مفوضيات الشرطة يعرف لديها الجميع، لكن لن تختار المفلسين لتأتمنهم على مالك، ولا يمكن أن تختار إلا من كان أميناً لتودع لديه مالك، ولهذا قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله في افتخار أهل المغرب على أهل المشرق، يقول:
الغرب خير وعند ساكنهأمانة أوجبت تقدمه
فالشرق من أجل ذاكيودعه بالليل ديناره ودرهمه
الدينار الشمس، والدرهم القمر، وهما للمشرق؛ لأنهما يطلعان من المشرق لكنه في الليل يودعهما عند المغرب، وهذا دليل على أمانة المغرب.
فكذلك أنت تختار الأمناء لتأتمنهم على مدخراتك وعلى ما هو غال نفيس لديك، ولا يمكن أن تختار المفلسين لتودع لديهم مالك، والله تعالى يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ [غافر:19]، يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، ولا يمكن أن يأتمن على الوحي المفلسين أبداً، فالجميع كلهم لله سبحانه وتعالى، وبعران ربي في البلاد كثير، ولذلك يختار منهم من يأتمنهم على الوحي، وهؤلاء الأمناء في هذه الأمة هم بمثابة الرسل في بني إسرائيل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، وإن أمتي يسوسهم العلماء )، وفي الحديث الآخر: ( علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل )؛ فلذلك يحتاج إلى الاتصال بأهل الذكر الذين ائتمنهم الله على وحيه؛ ليبينوا للناس المواقف التي ينبغي أن يتخذوها، وهم موازين الله في الأرض، فلا بد أن يزن الإنسان نفسه بهم، فيعرف هل موقفه سليم أو غير سليم؟ ولا يمكن أن يعرف الإنسان ذلك من تلقاء نفسه، فالإنسان المؤمن الصادق عليه أن يتهم نفسه على مواقفه، فلا بد أن يتهم نفسه على مواقفه، وذلك يقتضي منه أن ينظر إلى من يأتمنه على نفسه فيقول: ما هو الموقف السليم الذي ينبغي أن أقفه في مثل هذا الوقت؟ ولا يمكن أن تعرف من هو أمين في وقت الاختلاط والشدة إلا بائتمان الله له، فمن ائتمنه الله على الوحي تعرف أنه أمين فتأتمنه على سرك وعلى موقفك، فيختار لك الوجه الصحيح، ويتحمل هو منه ما تحمل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أفتي على غير ثبت فإثمه على مفتيه ).
ولذلك فهذه الأمور الثلاثة لا بد أن نعض عليها بالنواجذ في أوقات الفتن:
أولاً: مراجعة الإيمان بالقدر ومدارسته، ويحسن أن يكون أهل كل مسجد يراجعون آيات القدر وأحاديثه وما ورد فيه، وكذلك ما يتعلق بقصص السابقين وأخبارهم والفتن التي حصلت في الوحي، ولهذا فإن أهل الأندلس لما كثرت عليهم المشكلات في زمانهم قام أبو عمرو الداني الإمام شيخ القراء جميعاً دون منازع، فألف كتاب الأحاديث الواردة في الفتن، جمعها جميعاً في كتاب له وهو مطبوع في مجلدين الآن ومحقق وبالإمكان أن يرجع إليه، وفائدته عظيمة إذ ذاك لأهل الأندلس؛ لأنهم يعيد عليهم الدهر نفسه، فتعود عليهم التجارب التي قد سبقت، وبهذا نحتاج نحن أيضاً إلى مراجعة الفتن وأحاديثها، وآياتها، وتدبرها، وبيان أيام الله، فهي نذارة موسى التي أمره الله أن ينذر بها قومه، وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ [إبراهيم:5] كما في سورة إبراهيم ، فالتذكير بأيام الله من المهمات التي تثبت الناس على طريق الحق.
والثالث: الالتفاف حول أمناء الله سبحانه وتعالى وأمناء الرسل، والأخذ منهم، ووزن المواقف بمشورتهم ورأيهم، فهذه الأمور لا يستغني عنها أحد في أوقات الفتنة.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يجعلنا أجمعين في قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم، وأن يجعل ما نقوله ونسمعه حجةً لنا لا علينا. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , الفتن وخطرها للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
https://audio.islamweb.net