اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , القضاء في الإسلام للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق البشر من نفس واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً، وقد جعل هذه الأرض مستقراً لهم في الحياة ومستودعاً لهم في الممات، يعيشون فوق ظهرها ويدفنون في بطنها، ويحشرون منها؛ مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى[طه:55].
وقد علم بحكمته البالغة أن اختلاطهم في هذه الأرض محوج لهم إلى كثير من الاحتكاك الذي يؤدي إلى النزاع والخلاف في كثير من المسائل، وعلم بحكمته البالغة كذلك أن نفوس البشر ضعيفة فمن كان منهم ذا قوة فسيحاول الوصول إلى أكثر من حقه بقوته؛ لأن حقه هو القوة، ومن كان ضعيفاً فسيتنازل عن بعض حقه؛ لأن ذلك الحق لا يوجد ما يحميه؛ فلذلك شرع لهم من الأنظمة ما ينظم علاقاتهم فيما بينهم، كما شرع لهم ما ينظم علاقاتهم بربهم سبحانه وتعالى، وأقام لهم ما يزع بعضهم عن بعض؛ فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
لقد جعل الله ما يحدث بين الناس من النوازل والمشكلات راجعاً إلى الاجتهاد، وهدى أقواماً للاجتهاد باستنباط الأحكام من النصوص ليستخرجوا الحلول للمشكلات التي تتجدد، وأمر بالرجوع إلى أولئك عند التنازع فقال تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، وقد أمر الله تعالى هؤلاء بالرجوع إلى كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا[النساء:59]، والرد إلى الله بالرد إلى كتابه، والرد إلى رسوله صلى الله عليه وسلم بالرد إلى سنته.
وجعل سبحانه وتعالى هؤلاء الذين يقومون بذلك خلفاء عن الرسل وموقعين عن رب العالمين؛ فأنزلهم هذه المنزلة العظيمة السابقة، التي تقتضي مضاعفة المكانة في الدنيا ومضاعفة الأجر في القيامة، وقد بين ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه في كتابه في القضاء إلى أبي موسى الأشعري ؛ فبين فيه ما لهذه المسئولية من أجر عظيم وذخر عند الله تعالى وما لها من مكانة في هذه الحياة الدنيوية، وذلك أن صاحبها يقوم بعدل الله تعالى في الأرض، ويوصل هذا الحق إلى مستحقيه؛ فالبشر جميعاً يستحقون حظهم من عدل الله في هذه الأرض، وهو أكبر حق يتمتع به الفرد، إذ إن أبلغ حق يتمتع به الفرد هو حقه من عدل الله في الأرض؛ لأن الناس جميعاً نسبتهم إلى الله واحدة وهي العبودية له سبحانه وتعالى، فيستحقون جميعاً أن ينالهم حظهم من عدل الله تعالى، وإذا منعوا من هذا الحق فقد اعتدي على أصل شخصياتهم حتى لو لم يكن الحق متعلقاً بواحد منهم بعينه؛ فالاعتداء على واحد من البشر بمنعه حقه من عدل الله اعتداءً على البشر جميعاً بذلك؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لحد واحد يقام على الأرض خير لأهلها من أن يمطروا سبتاً )، أي: من أن يمطروا أسبوعاً كاملاً، وأنتم تعرفون ما للمطر من الفائدة ليس فقط في إحياء الأرض ونباتها واهتزازها بعد موتها وإخراج خضرتها؛ فترى الأرض مخضرة، ولكن أيضاً في تنقية الهواء الذي يتنفس به الحيوان والنبات، وفي تصفية الأجواء من كثير من أشعة الشمس ومخلفاتها، وفي إزالة كثير من الران وآثار الذنوب من هذا الهواء.
وفي تنقية المياه التي هي للشرب ولا يستغني عنها شيء من الأحياء، وكذلك في الحياة البحرية التي أصلها الماء؛ فإن الماء إذا ركد تأثرت به الحيوانات البحرية والنبات البحري؛ فإذا جاء المطر حركه فانتفع به الجميع، فهذا المطر نفعه غير محصور، بل يكفي ما فيه من بركات الله؛ فهو من رحمة الله، وأنتم تعرفون أن رحمة الله إذا نزلت في مكان فلا يسأل عن حاله؛ فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[الروم:50].
ومن بركاته أن كل قطرة من المطر تقع في يد ملك حتى يوصلها إلى مستقرها، وتعرفون ما للملائكة من البركة، وما لأثر نزولهم من التثبيت على قلوب المؤمنين؛ ولهذا كثر في أدعية النبي صلى الله عليه وسلم الاستسقاء، فقد كان يكثر الاستسقاء في كثير من أدعية، وكان يصلي صلاة الاستسقاء بأصحابه ويخطب فيها فيقول: ( إنكم شكوتم جدب دياركم واستئخار المطر عن إبان زمانه، وقد أمركم الله أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم )، ثم قال: ( الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ[الفاتحة:2-4]، لا إله إلا الله! يفعل ما يريد، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلت لنا قوة وبلاغاً إلى حين )، وكان صلى الله عليه وسلم يستسقي على منبره كذلك فلا يرفع يديه في أثناء الخطبة بأي دعاء إلا في الاستسقاء وحده، وما سوى ذلك من أدعية الدنيا والآخرة فلا يرفع فيها إلا إصبعه المسبحة، أما الاستسقاء فإنه يرفع فيه يديه معاً؛ فدل هذا على أهمية المطر، لكن حداً واحداً يقام على الأرض في أي مكان من أنحائها خير لأهلها جميعاً من أن يمطروا أسبوعاً كاملاً، كما صرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي بعض الروايات: ( من أن يمطروا شهراً )، أي: أن يدوم عليهم المطر شهراً كاملاً.
لقد كان الذين يقومون بهذه المهمة وهي الفصل بين الناس وفض نزاعهم في قديم الزمان إنما يعتمدون على الأمور الغيبية؛ فكان فصل النزاع يأتي بخوارق للعادة من عند الله تعالى، يعرف الناس بها الفصل بين الحق والباطل، وتعرفون ما قص الله تعالى في قصة ابني آدم حين اختلفا؛ فقربا قرباناً فتقبل من أحدهما؛ فأكلت النار قربانه، ولم يتقبل من الآخر فلم تأكل النار قربانه، وقد كان هذا علامة يعرف بها القسط والعدل من الباطل، إذا تقرب المتخاصمان بقربان إلى الله تعالى فأكلت النار قربان أحدهما ونجا الآخر؛ فيكون الذي أكل قربانه قد تقبل الله منه؛ فمعناه أنه هو الصادق؛ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ المُتَّقِينَ[المائدة:27].
ولذلك فإن كثيراً من أقوام الأنبياء كانوا يقترحون في المعجزات أن يأتوهم بقربان تأكله النار، كما اقترح ذلك المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم فرد الله دعواهم بقوله: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[آل عمران:183]، وكان هذا رداً على اليهود الذين اقترحوا عليه قرباناً تأكله النار.
وكان كثير من الناس بعد هذا يعتمدون في الأقضية على خوارق ليست شرعية، اعتماداً على انتشار هذه النظرة لأنها كانت قديماً في تاريخ البشرية.
لما كان عهد الجاهلية اعتمد الناس في فض النزاعات على أعمال الجن والكهانة والتنجيم، فكانوا يعتمدون على ما يحدثهم به الجن من هذه الخوارق وما يخبرونهم به مما يحصل بعضها، ولذلك فإن عبد المطلب لما أقسم أو نذر إذا منحه الله تعالى عشرة من الأولاد الذكور يحمونه حتى يحفر زمزم أن ينحر أحدهم ليتقرب به إلى الله، فأراد أن ينحر عبد الله، فمنعه أخواله من بني محزوم؛ فتحاكموا إلى كاهن خيبر فأمره أن يقدم عشر بدن لله تعالى فيستهم عليها وعلى عبد الله فإن وقع السهم على عبد الله أضاف عليها عشراً؛ حتى إذا وقع السهم على الإبل فليعلم أن الله رضي بتلك الإبل فداءً عن هذا القتيل، ففعل ذلك فوقع السهم على عبد الله وكرر فوقع عليه حتى بلغ عشراً؛ فتمت الإبل مائة فوقع السهم عليها؛ فأعاد العملية ثلاثاً ويقع السهم على الإبل فنحرها قرباناً إلى الله تعالى عند المروة؛ فكانت دية الإنسان بعد ذلك مائة ناقة من الإبل، وسار هذا حتى أقره الشرع.
فالدية في الشريعة الإسلامية لها ثلاثة أصول: أصل من الحيوان وهو مائة من الإبل، وهذه تختلف باختلاف حال الدية؛ فدية الخطأ: مخمسة بخمسة أصناف من الإبل منجمة على ثلاث سنين، تحل بأواخرها.
ودية العمد أو دية شبه العمد: وهي الدية المغلظة مثلثة فقط، وقد جاء ذلك في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن قتل الخطأ شبه العمد بأن ينزو الشيطان بين الناس، فتقع الدماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح ديته مائة من الإبل، منها أربعون خليفة في بطونها أولادها )، فهذا يقتضي التثليث، وهو تغليظ الدية، فأقر الشارع إذاً هذه المسألة؛ فهذا الأصل الأول من أصول الديات وهو مائة من الإبل.
الأصل الثاني: هو من الذهب وهو ألف دينار.
الأصل الثالث: من الفضة وهو اثنا عشر ألف درهم، فهذه هي ديات المؤمنين، وهي أصول الدية، وتقوم باختلاف الأثمان في اختلاف البلدان.
وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذا عرضت عليهم نازلة فحكموا فيها يقرهم الشارع على ذلك الحكم أو يرده عليهم؛ فالأحكام في الخلافات والنزاعات البشرية الأصل فيها الاجتهاد، فتبدأ بالاجتهاد أولاً فإذا كان موافقاً للصواب وكان من اجتهاد نبي من الأنبياء فإن الشارع يقره بالوحي على ذلك، وإن كان خطأً فإن الشارع يرد عليه ذلك، وقد حصل ذلك لـداود وسليمان عليهما السلام مرتين؛ فإحداهما في القصة التي أخبر الله عنها في سورة الأنبياء في الحرث حين نفشت فيه غنم القوم فأكلته؛ فحكم داود بأن يأخذ الغنم أصحاب الحرث، فيستغلونها سنة فيتركون معها أولادها ويستغلون ألبانها، ويأخذ أصحاب الغنم الحرث فيصلحونه سنة ويأكلون منه؛ فإذا تم الزرع وتكامل أخذ أصحاب الغنم غنمهم وأصحاب الزرع زرعهم، وقد كان حكم سليمان بأن يقوم الزرع بما أفسدته الغنم فيدفع فيه من رقابها بمقابله إذا كانت أفسدته في النهار؛ لأن على أصحابها رعايتها في النهار، وأما بالليل فإن الزرع رعايته على أهله؛ فلا يقوم شيء من رءوسها في مقابل ذلك.
والقصة الثانية: ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : (أن امرأتين اختلفتا في ولد، حين خرجتا لحاجة لهما خارج المدينة ومعهما ولداهما وإحداهما أكبر من الأخرى؛ فعدا السبع على ولد إحداهما فأكله فاختصمتا في الولد الباقي، فكل واحدة منهما تقول: هذا ولدي؛ فاختصمتا إلى داود عليه السلام فحكم به للكبرى، فلما مرتا بـسليمان أعادهما وقال: ائتوني بسكين أقسمه بينكما، فقبلت ذلك الكبرى التي حكم لها داود به ولم تقبله الصغرى، فقالت: لا، أعطه إياها، فأنا متنازلة عنه؛ فعرف أنها أمه حين رحمته ولم تقبل قسمته فأعطاها إياه)، وقد فهمه الله الحكم وأثنى عليه بذلك في كتابه: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا[الأنبياء:78-79].
وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم بعض الأقضية في زمانه، كإقراره لقضاء علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أصحاب الزبية في اليمن، ( وهم قوم جعلوا أسداً في حفرة وغطوها بحشيش، واضطروا رجلاً للخروج من فوقه فوقع في الزبية فأكله الأسد؛ فحكم علي رضي الله عنه بالقصاص، فاقتص منهم، فأقر رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القضاء )، لأن (العجماء جبار) وهؤلاء هم الذين تسببوا مباشرة في إزهاق هذه النفس المعصومة؛ فحكم عليهم علي رضي الله عنه بذلك؛ فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم إقراراً لحكمه.
وكذلك فإنه أمر عمرو بن العاص أن يقضي بين يديه في خصام فقال: (كيف أقضي بين يديك يا رسول الله؟! قال: إن أصبت الحق أقررتك وإن لم تصبه رددت عليك)؛ فكان هذا شرفاً لـعمرو بعد.
وقد نوه الشارع بمكانة القضاة القائمين بالقسط والعدل، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السنن وغيرها أنه قال: ( القضاة ثلاثة: قاضيان في النار وقاض في الجنة )، وفصلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( قاض عرف الحق فقضى به فهو في الجنة، وقاض جهل فقضى على جهل فهو في النار، وقاض عرف الحق فخالفه فقضى بخلاف الحق فهو في النار ).
وبين صلى الله عليه وسلم ما يتلقاه القضاة من الإشكال؛ لأنهم ينوبون عن الأنبياء في فصل النزاع ويوقعون عن رب العالمين في هذا الأمر الشاق؛ فقال: ( من ولي القضاء فقد ذبح بغير سكين )، وفي رواية: ( من ولّي القضاء فقد ذبح بغير سكين ).
وكذلك فإنه صلى الله عليه وسلم لما أتاه الخصم فخاطبهم خطاباً مؤثراً حتى بكى الخصمان كما في حديث أم سلمة في صحيح البخاري وغيره قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجرتي فسمع خصاماً على الباب فقام؛ فإذا خصم.. ) والخصم يطلق على الجمع والمفرد والتثنية، وهو من الألفاظ المشتركة في الإطلاق؛ فقال: ( إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه فإنما أقتطع له جمراً من نار، فليأخذه أو فليدعه؛ فبكيا، فترادا ذلك بينهما، فقال: أما إذ فعلتما فاقسماه ثم اقترعا )، (فاقسماه) أي: اقسما المال الذي تختلفان فيه بينكما بالسوية والعدل ثم اقترعا عليه، فليأخذ كل واحد منكما ما وقعت عليه قرعته، وهذا إقرار للقرعة.
وقد أقرها النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة منها: ما ثبت في حديث عائشة رضي الله عنها في قصة الإفك أن: ( النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد السفر أقرع بين نسائه؛ فأية واحدة خرجت القرعة لها خرج بها في السفر )، وهذه القرعة هي من جنس ما ذكرناه من الاعتماد على الغيبيات فيما يتعلق بالقضاء؛ لأهميته وعظم شأنه.
لقد أولى الشارع الشهادة ووسائل الإثبات عموماً اعتباراً عظيماً؛ فقد بين الله تعالى ما على الشهود من الحق وما لهم منه، وكيف يختارون، وأن يكونوا من أهل الشهادة والعدل؛ فقال تعالى: وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ[البقرة:282]؛ فبين ما على الشاهد من الحق وهو وجوب أداء الشهادة، وأن يمتنع عن قولها، وبين ما له من الحق، وهو ألا يضار، فقال: وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ[البقرة:282]، وبين أن هذا المقام لا يصلح له كل أحد، بل قال: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ[البقرة:282]، وكذلك في الطلاق قال: وَأَشْهِدُوا ذَوَي عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ للهِ[الطلاق:2].
وقد جعل الله الشهادة والقيام بالقسط حقاً عاماً على هذه الأمة فخاطبها بذلك في آيتين من كتابه؛ فقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ للهِ[النساء:135]، وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ[المائدة:8].
وبين النبي صلى الله عليه وسلم خطر الشهادة وعظم ما يترتب عليها؛ كما في حديث أبي موسى الأشعري في قصة الكندي والحضرمي فقال: ( شاهداك أو يمينه )، وكذلك في حديث عويمر العجلاني رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( بينتك أو حد في ظهرك ).
وبين النبي صلى الله عليه وسلم ما يقع عند تعارض البينات، وما على القاضي في ذلك كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وقد جاء في حديث ابن عباس كذلك في سنن البيهقي بإسناد فيه ضعف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أترى الشمس إذا طلعت؟ قال: نعم، قال: على مثلها فاشهد أو دع )، فالشهادة لا تكون إلا على الأمر البين الواضح.
وقد بين الله شرط العلم لها؛ فقال تعالى: إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ[الزخرف:86]، وقال تعالى: وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ[يوسف:81].
فمن شرط الشهادة: أن يكون الإنسان عالماً بما يشهد به.
وبين النبي صلى الله عليه وسلم كذلك أنها لا تكون إلا بعد الاستشهاد، فقال: ( خير القرون القرن الذين بعثت فيهم ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، ثم يأتي أقوام تسبق شهادتهم أيمانهم وأيمانهم شهادتهم، يظهر فيهم السمن )، فهؤلاء القوم وصفهم النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الأوصاف ليعرفوا بها، أنهم من المفضولين قطعاً؛ لأنهم ليسوا من القرون المزكاة الثلاثة؛ فبين أن شهادتهم تسبق أيمانهم وأن أيمانهم تسبق شهادتهم، وفي رواية أخرى: ( يشهدون ولا يستشهدون )، أي: أنهم يشهدون بما لم يشهدوه، وبما لم يروه، كحال اليهود.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من شهادة الزور وعدها من أكبر الكبائر، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: ( ألا أخبركم بأكبر الكبائر.. ثلاثاً، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك بالله، وعقوق الوالدين..)، وفي رواية: ( وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وقول الزور، وكان متكئاً فجلس، فقال: ألا وشهادة الزور، ألا وقول الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت! ).
وبين صلى الله عليه وسلم ما على شاهد الزور من الإثم، وعد شهادة الزور من أكبر الكبائر في أحاديث أخرى عنه صلى الله عليه وسلم.
لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم بين كثيراً من تفصيلات القضاء وأعماله، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( الصلح جائز بين المسلمين، إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً )، والأحاديث في باب تفصيلات عمل القضاء كثيرة؛ ولذلك فإنه حين ولى علياً القضاء باليمن، قال: ( يا رسول الله! توليني القضاء وأنا شاب حدث لا أدري ما القضاء! قال: فضرب صدري فقال: اللهم ثبت جنانه وسدد لسانه، قال: فما شككت في قضية بعد )، أي: كان القضاء واضحاً عنده؛ ولذلك أثنى عليه النبي صلى الله عليه وسلم بهذا كما أخرج الترمذي و الحاكم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أقضاكم علي ، وأقرؤكم أبي ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )، فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم على علي بن أبي طالب بمعرفته في القضاء، ولذلك فإن الصحابة رضي الله عنه كانوا يرجعون إلى علي في عويصات الأمور القضائية كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: اللهم إني أعوذ بك من معضلة لا أبا حسن لها، يقصد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فاستعاذ بالله أن يعيش بدون علي ؛ لأن المعضلات لا بد أن تأتي الخليفة ما دام حياً وهو يلي أمر المسلمين، وقد استعاذ بالله من الحياة إذا لم يكن فيها علي بن أبي طالب معه.
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بالقضاء؛ فكان يقضي بين المسلمين وبين الكفار إذا تقاضوا إليه، وقد خيره الله بين أن يقضي بين اليهود وأن يردهم من غير قضاء؛ لأنهم كانوا أول من غيّر القضاء في تاريخ البشرية؛ فأكلوا المال بالسحت، وزعموا أنهم مفوضون عن الله تعالى في تغيير الأحكام؛ فغيروا ما أنزل في كتبهم وحكموا بالباطل، وكان أحبارهم ورهبانهم يأكلون أموال الناس بالباطل ويحكمون فيهم بغير ما أنزل الله تعالى، حتى إنهم في أقضيتهم كانوا يكذبون على الأنبياء ويتهمونهم بالباطل، نسأل الله السلامة والعافية! وقد بين الله تعالى من قصصهم في ذلك في محكم التنزيل ونعاه ورده عليهم.
وعندما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وأقام فيها دولة الإسلام وتولى هو القضاء فيها إشعاراً بأهميته وعظمته حيث لم يتوله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كان اليهود يتخاصمون إليه في أمورهم، لكن لم يكونوا يرفعون إليه من القضايا إلا ما يريدون فيه غير حكم الله، فعندما زنى محصنان منهم وكانا من ذوي الشرف فيهم، وكانوا لا يريدون إقامة الحد عليهما قالا: نذهب إلى هذا النبي لعلنا نجد عنده تخفيفاً، فقد جاء بتخفيف الإصر، فلما جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدوا الوحي قد سبقهم، فقد أنزل الله قبل مجيئهم: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ[المائدة:41] (لم يأتوك) أي: لم يأتوك في الماضي وسيأتونك بعد قليل، يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ[المائدة:41]، أي: إن أوتيتم ما يوافق هواكم في الحكم فخذوه، وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا[المائدة:41] أي: فارفضوا الحكم، وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُقْسِطِينَ * وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ * إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ * وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[المائدة:41-47]، ثم جاءت أحكام القضاء تفصيلاً في هذه السورة في الآيات اللاحقة لهذا، وبيان ما فيها من الخطر عند اتباع الهوى ومخالفة الشرع.
وعندما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد خيره الله أن يحكم بينهم وأن يردهم؛ اختار أن يحكم بينهم، فحكم بينهم بما أنزل الله عليه من الرجم وهو موافق لما في التوراة، فلما أخبرهم به ضجوا منه وقالوا: ( ليس هذا حكم الله، لم تحكم بحكم الله يا أبا القاسم، فقال: كذبتم! إنه لفي التوراة، فأتوا بالتوراة إن كنتم صادقين، فجاءوا بالتوراة يحملونها، فجاء قارئهم يقرؤها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده على آية الرجم، فشهد عبد الله بن سلام رضي الله عنه بآية الرجم فقال: ارفع يدك، فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم، فبهت اليهود! فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد على المحصنين اللذين زنيا منهم )، وكانا من الخمسة الذين أقام عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حد الرجم، فقد أقام الحد على الغامدية وعلى ماعز بن مالك الأسلمي وعلى هذين اليهوديين، وعلى المرأة صاحبة العسيف، التي قال: ( واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها )، فاعترفت فرجمها، فهؤلاء خمسة هم الذين رجمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته.
فكان هذا تخييراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في القضاء بين الكفار أيضاً، وقد كانوا يتحاكمون إليه فيحكم بينهم بما أنزل الله.
وقد بين الله تعالى في هذه الآيات ضوابط الحكم وما على القاضي من القيام بالقسط؛ فقد قال تعالى: وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالمُؤْمِنِينَ[المائدة:43] إلى أن قال: إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ[المائدة:44]، هذا الضابط الأول، وهو الحكم بما أنزل الله، يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ[المائدة:44].
الضابط الثاني: أن يكون القاضي لا يخاف إلا الله تعالى، لا يخاف في الله لومة لائم، فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ[المائدة:44].
الضابط الثالث: أن يكون القاضي عادلاً في حكمه، لا يتقاضى رشوة ولا مالاً في مقابل الحق، وهذا هو حريته في الحكم وقيامه بالقسط، وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا[المائدة:44].
ثم بين الخطر المترتب على الإخلال بهذه الضوابط فقال: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ[المائدة:44].
وقد بين الله تعالى بالتصريح والقسم كفر من لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا[النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا [النساء:87]، فهنا أقسم سبحانه وتعالى ألا يؤمن من لم يرض بحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يجد حرجاً في نفسه منه، واستسلم له تمام الاستسلام؛ فقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ[النساء:65]، من أي نوع كان ذلك الحكم، وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65].
وقد نعى الله تعالى على المنافقين قبولهم للحكم إذا كان لصالحهم وردهم له إذا لم يكن لصالحهم، فقال: وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ[النور:48-50].
وهنا بين الله تعالى الاحتمالات التي تحول بين الإنسان وبين الحكم بما أنزل الله والحق، فهذه الاحتمالات لا تعدو ثلاثة:
الأمر الأول: مرض القلب، أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ[النور:50]؛ فالإنسان الذي لم يباشر الإيمان بشاشة قلبه هو الذي يرغب عن ملة إبراهيم، وهو الذي يرغب عن طريق الحق، وقد خسر نفسه حين رغب عن دين الله، ولا أحد أعدل من حكم الله سبحانه وتعالى، أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ[المائدة:50]، فهذا إذاً هو السبب الأول لعدم تحكيم ما أنزل الله، هو مرض القلب؛ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ[النور:50].
الأمر الثاني: الارتياب، أي: النفاق؛ بأن يكون الإنسان معلناً للإسلام في الظاهر، ولكنه يبطن الكفر في باطن أمره؛ فالذي يبطن الكفر هو الذي يظهر للناس أنه مسلم، فيقوم بالأمور الظاهرة من الإسلام، يصلي لأنها لا تفسد عليه شيئاً من مصالحه، وربما زكى وربما صام؛ لأن هذه أمور معتادة بين الناس، لكن إذا جاءت الأحكام الأخرى التي هي أشق على النفس من هذا لم يعملها أبداً؛ فهذا هو حقيقة النفاق؛ ولذلك قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا * أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:77-78]، فرد الله على المنافقين بهذا الرد البليغ، فهم لا يخيفهم من الجهاد إلا الموت، والموت قد كتب عليهم ولابد أن يموتوا، ولو كانوا في بروج مشيدة، فالذي يدعو إلى تعطيل الحدود وتعطيل الجهاد وتعطيل نصرة الحق وتعطيل الدعوة وتعطيل المساجد بسبب ضغط الأمريكان والكفار وغيرهم فهو متصف بهذا الوصف، وهو الريب في قلبه، ارتاب فأراد أن يقيم ما ظهر من أمور الدين التي لا يتكلف بها تكلفاً كبيراً وأن يترك ما فيه عناء وكلفة، لكن جوابه ما بينه الله: أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُّمُ المَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ[النساء:78]، ماذا تخافون من أعداء الله إلا الموت! هل لديهم شيء بعد الموت؟! هل بأيديهم العذاب أو الحساب أو العقاب أو مسألة القبر أو ضغطة القبر أو غير ذلك؟! هل يملكون مفاتيح الجنة أو مفاتيح النار؟!
لا، إذاً لا يملكون للإنسان شيئاً أبداً، والذي يخافه الإنسان منهم لا يعدو الموت، فهو في هذه الحياة كما قال الله: إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى[طه:72-73].
ولذلك فالذي يتصف بهذا الريب يعبده الله للعبيد؛ فهو أذل عباد الله؛ حين خضع لأذل العباد؛ فاليهود كتب الله عليهم الذلة والمسكنة: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسْكَنَةُ[البقرة:61]، ولا يستطيعون العيش على هذه الأرض إلا بحبل من الله وحبل من الناس، وقد سلط الله عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب وتعهد بذلك، فقال تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[الأعراف:167]، فكيف يرضى أحد أن يكون من المذلة والهوان بحيث يخضع لليهود ومن يسيره اليهود كالأمريكان؟ إن هذا هو غاية المذلة والهوان في هذه الحياة؛ فصاحبه أذل من البهائم والحشرات حين يخضع للذين فرض الله عليهم الذلة والمسكنة، وكتب عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، وتعهد لهم بذلك.
وقد بين الله أن الذين يقولون ذلك هم من المنافقين فقال: وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ[المائدة:53-56].
الأمر الثالث: فهو قوله: أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ[النور:50]؛ فهو الخوف من الحيف، أن يخاف الإنسان أن يكون الحكم جائراً، والحكم إذا كان من حكم الله ورسوله فلا يمكن أن ينسب إليه الجور ولا أن يتطرق إليه بوجه من الوجوه؛ فلا يمكن أن ينسب حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الجور أبداً؛ فالله تعالى هو الذي خلق العدل وهو الذي أقامه وهو الذي فرضه بين الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي عصمه الله وأيده بالمعجزات الظاهرة الباهرة الدالة على صدقه وصدق نبوته، وعلى عصمته؛ فلا يمكن أبداً أن يقع الحيف والجور في حكم الله ورسوله بوجه من الوجوه.
والذي يخاف ذلك إنما هو صاحب غلو أو تفريط، فصاحب الغلو تكبر لديه الأمور حتى يعمل من الحبة قبة وحتى يتصور أن ما يخالف رأيه هو مخالف لحكم الله ومخالف للحق بالكلية، كما حصل في أول نزعة الخوارج؛ فقد جاء رجل منهم ثائر الرأس، محدق العينين، مقصر الثياب، فوقف على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم قسمة - أي: يقسم غنيمة - فقال: ( يا رسول الله! اعدل؛ فإنها لقسمة ما أريد بها وجه الله! فابتسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: رحم الله أخي موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر، ويلك! ومن يعدل إن لم يعدل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! )، إن هذا الكلام لا يمكن أن يصدر من قلب فيه الإيمان، ولكن الغلو يذهب بالإنسان بعيداً حتى يتجاوز الحدود الممكنة؛ فإذا سمع الإنسان هذا فإنه يقف منه شعره ويقشعر منه جسده أن يوجه هذا الكلام إلى المعصوم الصادق الأمين، الذي ائتمنه الله على وحيه وائتمنه على الخلائق، فكيف يوجه إليه مثل هذا الكلام؟! وبالأخص من شخص يعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (يا رسول الله! اعدل).
فلذلك لا يمكن أن يكون حكم الله عز وجل وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم آتياً بأية مشكلة ولا بأي فساد؛ ولذلك فإن بعض مرضى القلوب في هذا الزمان يسألون في أسئلتهم وتحقيقاتهم -كما يسمونها- فيقولون: هذه الأحكام التي تدرسونها وهذه الفتاوي التي تقدمونها تترتب عليها المشكلات والحروب الأهلية والاقتصادية.. ونحو ذلك، والجواب هو: ما يكرره الذين يوجه إليهم هذا السؤال دائماً، وهو: إذا كانت هذه الأحكام من عند الله تعالى؛ فالله هو الذي خلق السموات والأرض والأرزاق والمطر والهواء والأرواح، وكل شيء بيده سبحانه وتعالى؛ فلا يمكن أبداً أن تأتي هذه المشكلات مترتبة على أحكامه، بل أحكامه هي التي تزيل المشكلات وتردها بالكلية.
وقد سألني أحدهم فقال: الضغوط إذا كانت شديدة هل تحل تعطيل الحدود؟ فقلت: إذا كانت أشد من ضغوط الله تعالى! لا يمكن أن يرضخ للضغوط إلا إذا كانت أشد من ضغوط الله الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، والسموات السبع والأرضون السبع في قبضة يمينه، ولا أحد أشد منه ضغطاً أبداً.
إن هذا القضاء الذي بين الله منزلته وبينها رسوله صلى الله عليه وسلم، وبين الله ضوابطه في كتابه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أحكامه كذلك في سنته قد أخذ مكانته في هذه الأمة في تاريخها الطويل؛ فقد كان صاحبه ذا سلطة مستقلة لا يخضع للسلطان الزماني، ولا يتدخل له في حكمه بوجه من الوجوه.
ولقد كان الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم وأرضاهم يختصمون إلى قضاتهم الذين نصبوهم، فيجلسون مجلس المخاصم، ويوجه إليهم من التهم ما يوجه إلى غيرهم، ويخاطبون بهذا الخطاب ويحكم على بعضهم في بعض الأحيان.
فقد اختصم عثمان بن عفان رضي الله عنه ورجل من الأنصار على فرس اشتراها منه؛ فشكاه الأنصاري إلى قاضي عثمان ، فلما جلسا بين يديه طلب من الأنصاري البينة فلم تكن حاضرة عنده، فطلب من عثمان اليمين فامتنع من ذلك، فما زال القاضي يقول: اقسم يميناً بالله أو لأحكمن عليك، و عثمان يقول: أما إني على الحق وأما إنها لي، ولكنه امتنع من اليمين، فحكم عليه القاضي، فأتاه رجل فسأله فقال: يا أمير المؤمنين! ألست تعلم أنك على الحق وأن الفرس لك فلماذا لا تقسم؟! فقال: خشيت أن تصادف قدري، أي: خشي أن يقسم فتصيبه مصيبة كانت في قدر الله فيقول الناس: لأنه أقسم على الباطل، فيربطونها بذلك، ولذلك كان أهل العلم يقولون: على من ولي الأمر من المسلمين أن يحرص على قطع التهمة عنه بالكلية، فلا يقف في موقف يمكن أن يتهم فيه؛ لأنه أمام أعين الناس.
ولهذا قال زياد بن أبيه : إن كذبة الأمير على المنبر بلقاء. يعني: من تولى الأمر ثم كذب على الناس كذبة فهي بلقاء، أي: مشهورة يتناقلها الناس بينهم؛ فلذلك كان عثمان يتأبى عن اليمين خشية أن تصادف قدراً فيتهمه الناس ويظنون به ظن السوء وهو الخليفة.
وكذلك فإن علياً رضي الله عنه خاصمه يهودي في درع لـعلي رضي الله عنه سرقت منه فوجدت عند يهودي؛ فخاصمه هذا اليهودي فيها إلى قاضيه شريح، فلما جلسا إليه وأجلسهما مجلس الحكم قال: ما حجتك يا أمير المؤمنين؟ قال: ما زلت جائراً منذ اليوم! فقال شريح: وما ذاك؟ قال: تقول لخصمي: يا فلان! وتكنيني فتقول: يا أمير المؤمنين! فلما رأى اليهودي هذا الخطاب أقر بالدرع وأسلم؛ لأنه رأى أن أمير المؤمنين أمام القضاء مسلوب السلطة وأنه يجلس مع خصمه سواءً بسواء، ويوجه إليه الاتهام ويؤمر بإثبات دعواه، وإذا خوطب باسم التشريف، باسم "أمير المؤمنين" يغضب من ذلك؛ لأنه جور وظلم! فأسلم اليهودي بسبب هذا؛ لما عرف من مزية الإسلام وعرف أنه دين الحق والقسط والعدل.
إن مراقبة الخلفاء للقضاء كانت عظيمة جداً؛ فقد كان عمر رضي الله عنه يتفحص أقضية ولاته وقضاته ويكتب إليهم بالتوجيه فيما يصنعون، وكتابه إلى أبي موسى الأشعري مشهور معروف، فهو أصل في كثير من القضايا التي يعتمدها القضاة، ومن قواعده العظيمة التي فيه يقول: (آس بين الناس في مجلسك ووجهك وقضائك، ولا يمنعنك قضاء قضيت فيه بالأمس فراجعت فيه نفسك، فهديت فيه إلى رشدك أن ترجع إلى الحق؛ فإن الحق قديم لا ينقضه شيء، وإن الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل).
وهذا الكتاب فيه كثير من الأمور التي هي أصول شرعية للبينات والشهادات وغيرها؛ حيث قال: (والمسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو ظنيناً في ولاء أو قرابة، و(الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً) ) إلى آخر الكتاب الطويل، الذي فيه تفصيلات قضائية كثيرة.
وكذلك فإن علياً رضي الله عنه كان يقف في مجلس شريح حين يقضي وهو لا يراه، فإذا قضى بالعدل والقسط قال علي : قالون، ومعنى قالون: حسن، أي: هذا القضاء موافق للشرع، ثم ينصرف علي بعد هذه الرقابة.
وكان معاوية رضي الله عنه يراقب عمل قضاته ويقول: هؤلاء هم الذين يقوموننا؛ فما يحصل من الظلم والحيف من تصرفات الوالي لا يمكن أن يرد إذا كان القاضي غير عدل. وكان يختار القضاة برضا أهل الأمصار؛ فيسألهم: من أعلم أهل هذه المحلة؟ فإذا تراضوا على رجل عينه للقضاء بينهم، وكان هذا الأسلوب متبعاً حتى في خلافة بني أمية وبني العباس يختارون للقضاء أعلم أهل البلد وأورعهم.
وكانت تلك سنة سائرة؛ فقد اختار معاوية رضي الله عنه لأهل مصر سليم بن عتر ، وكان مشهوراً بالقضاء والعدل، وكان قواماً لليل، ومن مشهور أموره أنه أول من دون القضاء، أي: جعل سجلاً للقضاء تكتب فيه القضايا وتثبت فيه؛ لئلا يتناكر اثنان بعد أن يحكم بينهما، وقد أصبح ذلك سنة متبعة حتى لدى الكفار اليوم في كل أنحاء الدنيا؛ فأصل السجل القضائي أول من اقترحه هو: سليم بن عتر الكندي قاضي مصر، وقد مكث في القضاء ستين سنة.
وكذلك فإن عمر بن عبد العزيز رحمه الله كان يشرف على أمور القضاة، وكان يقوم سير الرعية بعدل القضاء؛ فولى الحسن بن أبي الحسن البصري على قضاء البصرة، وولى كذلك إلياس بن معاوية بن قرة المزني وكان مشهوراً بالذكاء والعدل والقسط، وقد كان يضرب المثل بذكائه وسرعة بديهته، فكان يشبه بـعلي بن أبي طالب في سرعة بديهته، وقد ذكر عن نفسه أنه ورث القضاء عن علي بن أبي طالب فقد درس أقضيته، ووصل إليه كتاب فيه أقضية علي ؛ فقرأ منه إلياس القضاء، وكان سريع القضاء، يبت في الجلسة الواحدة في عشر قضايا وعشرين قضية؛ فلا يتأخر الخصوم على بابه أبداً، وقد لامه في ذلك بعض علماء التابعين فقالوا: إنك تتعجل في القضاء، وهو مبني على الأناة والرشد؛ فقال: أتعرف ضرب اثنين في ثلاثة؟ فقال: ستة، فقال: لقد عجلت في الجواب، فقال: إن هذا واضح لا يشك فيه! فقال: كذلك ما أقضي أنا فيه، هو عندي كضرب اثنين في ثلاثة عندك.
وكان من سرعة بديهته في القضاء: إعماله للسياسة الشرعية، وقد سبق إلى ذلك علي بن أبي طالب في كثير من المسائل؛ فإن علياً رضي الله عنه كان يعمل السياسة الشرعية في الأمور؛ فيكتشف بها خفايا عجيبة؛ فقد جيء برجل وجد قتيلاً في خربة ووجد حوله رجل يقضي حاجته ويداه ملطختان بالدم وبيده سكين، فلما جاء الحرس ووجدوا الرجل يتشحط في دمه قد ذبح ووجدوا الآخر وبيده سكين حوله أخذوا الذي بيده سكين فسألوه فقالوا: أقتلت هذا القتيل؟ قال: نعم، فجاءوا به إلى أمير المؤمنين وقد أقر بالقتل، فلما رأى وجهه عرف أنه غير قاتل بفراسته وصدقه، وعرف أن الدم الذي على يديه ليس دم إنسان بل هو دم بقرة، فحبسه عنده وقال: ائتوني بأهل السوق فجمعوا له أهل السوق، فكان ينظر في مشيتهم حتى رأى رجلاً مستعجلاً، فأمره أن يصعد الدرج فكان يصعد درجتين.. درجتين؛ فاكتشف بذلك استعجاله فدعاه في السر فقال: اصدقني فيما بيني وبينك! ألست الذي قتل الرجل؟ فقال: بلى، قال: فلأي شيء قتلته؟ قال: ثأر بيننا، فدعا الأول فقال: لم أقررت أنك قتلت الرجل ولم تقتله، قال: لو أنكرت لم أصدق بذلك، فقد وجدت في الخربة التي هو فيها، وقد ذبحت بقرة بسكين فاستعجلني البول فخرجت لقضاء حاجتي، فدخلت الخربة فلما دخلتها وجدت الرجل يتشحط بدمه وفي يدي أثر الدم وبيدي السكين، فجاء الحرس فاعتقلوني؛ فلو أنكرت لم أصدق في ذلك، فثبت القتل على القاتل وبرئ هذا الرجل.
وكذلك في أيام عمر رضي الله عنه كان رجل معترضاً فشكته امرأته إلى أمير المؤمنين وطلبت الخيار، وهو حق لها فإذا أصيب الرجل باعتراض فلم يستطع أن يأتي امرأته فلها الخيار في مفارقته، فلما شكته إلى أمير المؤمنين أنكر الرجل أن يكون به اعتراض، وهذه مشكلة في القضايا؛ لأن إثباتها صعب جداً، لا يطلع عليها الشهود، فأمره أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يخلو بأهله وأن يأتي بأثر إنزاله في ثيابها أو في ثيابه هو، فاحتال الرجل فأتى بشيء على ثياب المرأة يشبه المني فظن أمير المؤمنين أنه مني، فأمر علي بن أبي طالب أن يغلى له ماء، فأتي بماء قد أغلي فصبه عليه فإذا هو صفارة بيض، ولكن الرجل احتال بها، فلما عرفوا ذلك أقر الرجل باعتراضه.
فهذا النوع من إعمال السياسة الشرعية والحيلة قد كان مشهوراً في الإسلام ولا يدركه إلا الأذكياء من القضاة الذين لهم مكانتهم في الإسلام.
حصل لـأبي جعفر المنصور أمير المؤمنين رضي الله عنه عندما أتاه تاجر من تجار العراق وكان غنياً من الأغنياء، وكانت خذ
زوجته مبطلة، فكان لها خدن تدفع إليه مال هذا الرجل، كلما وضع مالاً في بيتها سرقته فأعطته لهذا الخدن، فشكا الرجل إلى أمير المؤمنين ذلك وقال: كلما وضعت مالاً في بيتي سرق، وإذا هو حزين! فأخذ الخليفة طيباً عنده من طيب لا يوجد في العراق، فقال: إني لأراك حزيناً وهذا الطيب يذهب الحزن، فتعطر به ولا تعطه أحداً، وإذا كان بعد غد فأتني، ثم إنه دعا حراس المدينة فأعطاهم شيئاً من ذلك الطيب، فقال: كل من شممتم فيه رائحة هذا الطيب فأتوني به، فلما جاء الرجل يحمل الطيب إلى بيته سرقته المرأة فأعطته لذلك الرجل الذي تدفع إليه ماله، فتعطر به وخرج فأمسكه الحراس فجاءوا به إلى أمير المؤمنين، فأقر بكل المال ووجد عنده، وبين القصة بكاملها.
إن الاختيار الذي كان سائداً في القرون الأولى في القضاء -كما ذكرت- يختار أعلم الناس وأورعهم لتولي القضاء، ويجبر على ذلك، حتى إن هارون الرشيد رحمه الله أراد أن يجبر الإمام الأعظم أبا حنيفة على القضاء، فامتنع فجلده فامتنع، فقال: لا أستطيع القضاء! فقال: والله لتلين القضاء، فقال أبو حنيفة : والله لا أتولاه، فقيل: أيحلف عليك أمير المؤمنين فتحلف على خلاف يمينه! فقال: أمير المؤمنين أقدر على الكفارة مني، فامتنع من القضاء، وتولاه أبو يوسف القاضي ، وهو خير تلامذته وأعلمهم، وقد كان أهل العراق في ذلك الوقت مشاكسين في كثير من الأحيان، وقد ولى عليهم الخليفة قاضياً ولاه على الكوفة، فتولى القضاء فيهم برهة فلم يعجبوا بسيرته فشكوه إلى أمير المؤمنين، وشكوه إليه مراراً فقال: والله ما أعلم في قضاتي أحسن سيرة ولا أعدل من هذا القاضي الذي وليته عليكم، فقام شاب صغير فيهم فقال: يا أمير المؤمنين! إن من عدلك أن تشرك الآخرين في عدله، فإذا كان أعدل قضاتك فاصرفه إلى قوم آخرين، فقد أخذنا نحن حظنا من عدله! فضحك أمير المؤمنين وصرفه عنهم إلى جهة أخرى.
وهذا الاختيار يكون عن تأن وأناة، وكان الخليفة يشاور العلماء فيمن يتولى القضاء، وكان حزناً عظيماً إذا تولاه رجل لما يعلم من عاقبته وخطره، قال مالك رحمه الله: ما ولي أحد القضاء ببلدنا إلا رئيت على وجهه الكآبة إلا رجلين فقط، فلم يكن مالك يروي عن ذينك الرجلين، وليس لديه أية جرحة فيهما إلا أنهما لم تظهر عليهما الكآبة حين وليا القضاء.
فالقضاء شأنه عظيم؛ حتى قال شريح رحمه الله: القضاء جمر فنحه عنك بعودين، يقصد: بالشاهدين.
وكان بنو أمية يولون القضاة فيقيمون مزكي السر فيراقب عمل القضاة وما يقع في أقضيتهم من المشكلات؛ فيرفع ذلك إلى الخليفة فيحفظه، فإذا جاءه القاضي قال: قضيت بين فلان وفلان بكذا، وقضيت بين فلان وفلان بكذا، وكل ذلك احتياطاً لهذه القضية العظيمة؛ فإن الناس إذا شاع فيهم الظلم -وهو شائع لا محالة- فلم يجدوا من يرفعون إليه قضاياهم ومن يرفع عنهم الظلم؛ فلا بد أن تقع بينهم المشكلات، فالحروب الأهلية والمشكلات سببها الأول هو الظلم، وإذا فشا الظلم ولم يجد المظلوم رادعاً يتولى إعادة حقه لديه؛ فلا بد أن يحاول الوصول إليه بأية وسيلة.
وما حصل في أوروبا في القرون الوسطى من انتشار الظلم كان سبب الثورة العظيمة التي أدت إلى إزهاق كثير من الأنفس، وإهلاك كثير من الممتلكات وإحراق كثير من دور الدين والكنائس؛ حين كان الإقطاع يتقاسمه رجال الدين والحكام والأغنياء من التجار، وكانوا يظلمون الناس ويعسفون عسفاً عظيماً؛ فأدى ذلك إلى حصول الشحناء والبغضاء، فشحنت نفوس الناس، فثاروا ثورتهم التي أتت على الأخضر واليابس ووصلت إلى غير الظالمين، فالظلم دائماً خطر يهدد الشعوب إذا لم يكن فيها من يرفع الظلم وينصف المظلوم؛ فلابد أن تقع فيها المشكلات؛ لأن الظلم لا يقره أبداً إلا لئيم.
ولا يقيم على ضيم يراد بهإلا الأذلان عير الحي والوتد
هذا على الخسف مربوط برمتهوذا يشج ولا يرثي له أحد
فإذا صبر الإنسان ظلماً ثم ظلماً ثم ظلماً فلا بد أن ينفجر يوماً من الأيام أو يتحرك بما يستطيعه، ولذلك قال أحد الحكماء في رفض الظلم بين يدي معاوية رضي الله عنه: لن نقبل الظلم، قال: هل تستطيع رده؟ قال: يا أمير المؤمنين! إن الشاة إذا ذبحت تحركت! فحركة الشاة بعد ذبحها عبارة عن رفضها للظلم، فأنشد معاوية رضي الله عنه:
متى تجمع الرأي الحصيف وصارماً وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
ويقال: إن هذا البيت لـمعاوية أيضاً رضي الله عنه، وأنه هو قائله.
وقيام العلماء بهذه المهمة في قديم الزمان جنب الناس كثيراً من المشكلات، وكانوا لا يخافون في الله لومة لائم؛ فيقسطون ويعدلون في قضاياهم، ويساوون بين الناس في مجالسهم وفي أقضيتهم؛ فيعملون بما قال أبو بكر رضي الله عنه: (واعلموا أن أقواكم عندي المظلوم حتى آخذ له حقه، وأضعفكم عندي الظالم حتى آخذ منه الحق الذي عليه)، فكانوا يأخذون بهذه القاعدة ويعملونها حتى لو كانت فيها مخالفة لمذاهبهم وما هم عليه بإعمال السياسة الشرعية؛ فـيحيى بن يحيى الليثي صاحب مالكاً رضي الله عنه الذي روى عنه الموطأ في الأندلس، وروايته عنه هي أشهر روايات الموطأ، لما سأله أمير الأندلس الأموي عن كفارة إفطاره في نهار رمضان؛ فقد أفطر هذا الأمير في نهار رمضان وهو شاب حدث من بني أمية، وكان رائع الجمال وكان في نعمة عجيبة، فاعتدى على حرمات الله فأفطر في نهار رمضان، فاجتمع القضاة والعلماء للحكم على هذا الأمير، فقالوا: كفارة الصيام إحدى ثلاث خصال بالتخيير: إطعام ستين مسكيناً أو صيام شهرين متتابعين أو عتق رقبة، فجاء يحيى فحكم عليه بأنه لا يجزئه من هذه الخصال الثلاث إلا صيام شهرين متتابعين، فخالفه الفقهاء في ذلك وقالوا: كفارة الصيام متفق عليها بين الجميع، ومتفق على التخيير فيها بين هذه الخصال، فقال: هذا الأمير لا يشق عليه أن يفطر كل يوم ويطعم ستين مسكيناً، أو يعتق رقبة من بيت مال المسلمين الذي تحت يده، فلا يردعه ذلك عن الإفطار في رمضان، والكفارة المقصد الشرعي منها الردع، والوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصد لم تشرع، فالكفارة ليست مقصداً وإنما هي وسيلة، ومهمتها الردع، ولا يردع الأمير عن الإفطار في نهار رمضان إلا صيام شهرين متتابعين فأوجب عليه ذلك وحكم عليه به، فلم يستطع الأمير إلا الرضوخ لهذا الحكم، وصيام شهرين متتابعين كفارة عن يومه الذي أفطر.
وكانت أقضيهم إذ ذاك ذات خطر، لا ترد، فتشيع في أنحاء الأرض ويتناقلها الناس؛ ولذلك فإن وزيراً من وزراء مصر في أيام العز بن عبد السلام أراد الاعتداء على بعض حرمات الله من الأوقاف والمساجد والأزهر؛ فنهاه العلماء عن ذلك فاحتقرهم، فلما احتقر العلماء وازدراهم وذكر أن عمائهم تحت رجله أو كلمة ذلك معناها؛ أفتى العز بن عبد السلام بردته وخروجه من الإسلام بذلك الذي فعل، فلما أفتى بذلك لم يكن أحد يستطيع إيواءه في مصر، فكتب له أمير مصر كتاباً إلى ملك المشرق - ملك خراسان - فذهب إليه بذلك الكتاب، فلما أتاه قال: أنا وزير في مصر أحمل إليك كتاباً من ملكها، فقال: لا تكن فلان بن فلان الذي حكم العز بن عبد السلام بكفره، فإذا هو هو؛ فطرده من مملكته.
وكانت هذه الأحكام إذ ذاك ذات اعتبار شديد، إذا وقعت لا يمكن أن يتصدى لها أحد، حتى إن الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان وهو من أشد الناس بأساً وقوة، وكان خليفة بالشام فأراد أن يتسرى بجارية كان ملكها أبوه، وكشف عن ساقها ولم يمسها، لكنه كشف عن ساقها؛ فحكم عليه ابن أشرس بحرمة ذلك والحيلولة بينه وبين هذه الجارية بإخراجها من ملكه بأن يهبها أو أن يبيعها، وحرم عليه مسها؛ فلم يكن من الوليد إلا الخنوع لذلك الحكم والعمل به، وقد سارت الأمة على هذا النهج في القرون المختلفة.
وأجدني مضطراً لتجاوز السبح الطويل في تاريخ هذه الأمة حتى أصل إلى بعض الأمثلة من أقضية أهل هذا البلد؛ فقد كان كثير من القضاة في هذا البلد لا يستمدون سلطتهم من دولة قائمة، بل إنما يستمدونها من تراض الناس عليهم، وقد نص أهل الفقه على أن العالم إذا تراضى الناس على حكمه كان بمثابة القاضي لأنه كالمحكم، وقال أبو عمران الفاسي : (إن جماعة أهل الحل والعقد الذين تنسب إليهم الأمور عند فقد السلطان أو إذا كان السلطان غير عدل أو يضيع الحدود؛ فإن أحكامهم وأقضيتهم جارية ويجب العمل بها والأخذ بها).
وقال القاضي عياض رحمه الله في مذاهب الحكام: (إن الجماعة التي تنسب إليها الأمور وتتولاها ينفذ من أقضيتها كل ما وافق الشرع).
كان في هذه البلاد عدد من العلماء الذين يشتهرون بالقضاء، حتى إن بعضهم كان يقيم الحدود ولا يتعرض له أحد، كالعلامة محمد ولد بابا بن عبيد ديماني رحمه الله فقد أقام الحدود والقصاص، وكان يباشر القتل بنفسه، وذات مرة قتل قاتلاً مقراً بالقتل، فلما أضجعه ليذبحه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله! فارتاع الحاضرون من قتل من يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله؛ فقال له محمد ولد بابا: ما قتلتك على الكفر وإنما قتلتك قصاصاً، فذبحه.
وكذلك فإن كثيراً منهم كانوا يحكمون على الظلمة ولا يخافون بأسهم؛ لأنهم يعرفون أن من قام بالقسط لله سبحانه وتعالى فأصابته مصيبة على ذلك فهي خير له لا محالة، ولذلك فإن القاضي السالك البشير وعهده قريب، ما زال أولاده أحياءً الآن، حكم على أحد رؤساء القبائل وأمرائها، وكان في مجلسه في وقت الحكم، فلما أراد أن ينطق بالحكم عليه قال: إذا حكمت علي فسأقتلك، فقال: أمسكوه حتى أكتب حكمي ثم ليفعل ما شاء بعد ذلك، فلما كتب السالك حكمه قال ذلك الأمير: سمعنا وأطعنا! ورضي بالحكم صاغراً.
وكذلك الشيخ المحفوظ بن بيه رحمه الله؛ فإنه أتاه أحد أمراء القبائل في المساء فجلس ضيفاً عنده فظن أنه ضيف وليست لديه مشكلة، فأجلسه معه على فراشه وأطعمه ضيافته، فلما كان من الغد جاء رجل يقود جملاً يخاصم فيه هذا الأمير؛ فغضب الشيخ المحفوظ غضباً شديداً على هذا الأمير وقال: أتجلس معي على فراشي وتأكل طعامي وأنت مخاصم؟! فقال: أيها القاضي! الجمل للرجل، فأي أمر يخرجني عن مجلسك ويقيمني عن فراشك لا أفعله، فرضي بأن يتنازل عن القضية وأن يعطي الجمل الذي يخاصم فيه بدل أن يبقى على تكرمة الشيخ، وأن يجلس معه على فراشه وأن يأكل ضيافته.
وقد كان كثير من الناس في هذه البلاد يحترمون الذين يقومون بالقضاء فيها احتراماً عظيماً، حتى إن كثيراً منهم لم يكن يستطيع النظر إلى وجوه عدد من القضاة المشاهير في هذه البلاد، ويذكر أهل شنقيط أن قضاتهم من أهل العدل والقسط كان من أدلة ظلم الظالم عندهم إذا لم يستطع النظر إلى وجه القاضي، فقد كان قضاة شنقيط بمنزلة من المهابة عظيمة، فالظالم لا يستطيع أن ينظر إلى وجه القاضي، فإذا انصرف نظر أحد الخصمين عن وجه القاضي عرفه أنه الظالم؛ حين لم يستطع النظر إلى وجه القاضي، وهذا من هيبة القضاء التي لا بد منها.
وهذه الهيبة التي كانت في تاريخ هذه الأمة الطويل كله، وفي هذه البلاد بالخصوص -كما ذكرت- لم تكن ناشئة عن لباس خاص ولا عن هيئة خاصة مستوردة من بلاد الغرب، ولم يكن للقضاة أعوان وجلاوزة يقفون بين أيديهم، ولم يكن لهم شرط يخوفون بهم الناس، وإنما كانت ناشئة عن تمسكهم بشرع الله وإقامتهم للعدل والقسط بين الناس؛ ولهذا قال الهرمزان لـعمر رضي الله عنه حين رآه نائماً وهو يلبس مرقعته تحت نخلة في وقت الضحى، قال: (عدلت فأمنت فنمت) عندما عدل بين الناس أمن من بأسهم؛ فلم يخف أن يعتدي عليه أحد منهم؛ فنام مستريح البال، لا يجد عليه أحد ضغينة؛ لأنه قد عدل بينهم وساوى بينهم جميعاً، ولذلك فإن الجن في أيام عمر رضي الله عنه حين استشهد بكوه، وأبياتهم في ذلك مشهورة روتها عائشة رضي الله عنها، وفيها:
عليك سلام من إمام وباركتيد الله في ذاك الأديم الممزق
وهذه أبيات للجن يرثون بها عمر بن الخطاب وهم من رعيته إذ ذاك من هذه الأمة.
وكذلك عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما مات عرف أهل البادية موته باعتداء الذئب على الغنم؛ فلم يكن يعدو عليها في حياته، وهكذا الحال في زمان محمد المهدي العباسي لم يكن الذئب يعدو على الغنم في أيامه، فلما مات اعتدى عليها؛ ولذلك يقول فيه أحد الشعراء:
تلقى الأمان على حياض محمد ثولاء مخرفة وذئب أطلس
لا ذي تخاف ولا لهذا صولةتهدى الرعية ما استقام الريس
فإذا استقام الريس -أي: الرئيس- فإن الرعية تهدى جميعاً وتكون على قلبه؛ فالناس على دين الملك، كما قال ابن تيمية و أبو عمر بن عبد البر ، كلاهما قعد هذه القاعدة: الناس على دين ملوكهم.
وما كان موجوداً من السلطة لدى القاضي كان الناس يتراضون به ويحل مشكلاتهم ويزيلها بالكلية، وقد حدثني الشيح محمد سالم حفظه الله أنه لما أتى إلى مشكلة كانت في ولاية أدرار وهي معقدة وكانت بين قبيلتين عظيمتين، ومكث النزاع فيها فترة طويلة، وقد جاء الوالي والحاكم والدرك والحرس ورجال الدولة جميعاً، فلما جاء هو لفصل النزاع أمر الوالي أن يسحب عنه جميع رجال الدولة والحرس والدرك وكل الموجودين؛ فانسحبوا جميعاً فلم يبق مع الخصوم إلا هو وحده، فجلس بينهم فانتزع منهم السلاح -من الطرفين- وجمع جميع ما لديهم من الحجج، وحلف مجموعة من كل قبيلة من القبيلتين على المصحف، وحكم بينهم؛ فرضوا بالحكم وزال الخلاف بينهم.
فإذا حصل العدل فإن للقاضي قوة عجيبة يرضى بها الناس ويقتنعون بحكمه إذا حصلت، وإذا حصل الحيف والجور فإن هيبة القضاء ستزول بالكلية، ولن ينظر الناس إلى القاضي على أنه من الموقعين عن رب العالمين ولا أنه من نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه، ولن ينال هذه المكانة أبداً، بل سينظرون إليه بنظرة مغايرة لهذه، مخالفة لها تماماً، فالقاضي الذي يتلقى الأوامر وينتظرها ولا يحكم حتى يأتيه الأمر: أن احكم لصالح فلان أو احكم على فلان أو تعديل الحكم بكذا أو تشديده بكذا أو تخفيفه بكذا، أو تطويل أمد القضية لمدة طويلة ليزداد الحيف والجور والظلم، أو تعجيلها أيضاً من غير دواع ومبررات؛ فهذا القاضي لا يمكن أن يكون محل ثقة ولا أن يقتنع الناس بحكمه بوجه من الوجوه، ولا يمكن أن يكون محلاً للتراضي بينهم؛ لأن التجربة كفيلة بفضحه وبطلان ما هو عليه؛ لأنه يقوم بوظيفة عظيمة ومبناها على الأمور الغيبية، والحكم فيها ذو شدة خافه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: ( إنما أنا بشر مثلكم وأنتم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض؛ فأقضي له على نحو ما أسمع.. )، وهنا قال أهل العلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( فأقضي له على نحو ما أسمع.. )، ولم يقل: فأقضي له على نحو ما أعلم، فالقاضي لا يقضي بعلمه السابق لمجلسه على الراجح، والنبي صلى الله عليه وسلم قد يعلم القضية بالغيب لكنه لا يقضي بها إذا جاءه بها ذلك؛ لأن مبناها على الظاهر، فيقضي على نحو ما يسمع من الشهود والبينات، وقد يعلم في باطن الأمر أن فلاناً مثلاً هو المحق، وأن فلاناً هو المبطل، لكن الشهادة هي التي تحل هذا النزاع، وهذه سنة القضاء الباقية.
ثم إن مزية القاضي ومنزلته كذلك هي التي تقتضي منه أن يقتنع بأنه على الحق؛ فإذا مات فسيكون من الذين يذهبون إلى الجنة ولم يكن من القاضيين اللذين يذهبان إلى النار، والقاضي الذي ينتظر الأوامر ولا يعدل في قضيته لا شك أنه في ضميره وفي واقعه يعلم أنه ليس القاضي الذي يختار وحده للذهاب إلى الجنة؛ فيكون مفرداً من القضاة الثلاثة، وهذه المشكلة يكتوي بنارها كثير من القضاة ولا يطمئنون لأحكامهم؛ لأنهم في قرارة أنفسهم يعلمون أن القضاة ثلاثة فقط؛ فقاضيان في النار وقاض في الجنة، فمرد الثلاثة هو الذي عرف الحق فقضى به على نحو ما عرف.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , القضاء في الإسلام للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
https://audio.islamweb.net