اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , المحبة في الله للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان مؤلفاً من ثلاثة عناصر هي: العقل الذي شرفه به على الحيوان والدواب، والبدن الذي هو من تراب، والروح التي هي نفخة غيبية من أمر الله تعالى.
وقد قسم الله الدين على عناصر ثلاثة تبعاً لهذه العناصر هي: الإيمان الذي هو لمصلحة العقل؛ فلا يمكن أن يسدد العقل ولا أن يوفق ولا أن يعمل فيما خلق من أجله إلا بالإيمان، والإسلام الذي هو لمصلحة البدن؛ فلا يمكن أن يستقيم حال البدن إلا باستغلاله في هذا الإسلام الذي من أجله خلقت الأبدان لتحقيق العبودية لله؛ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[الذاريات:56]، والإحسان الذي هو لمصلحة الروح، وهو المقتضي تمام المعرفة بالله تعالى وقصده في الأمر كله وتعلق القلب به.
وكل هذه العناصر الثلاثة -وهي عناصر الدين- تقتضي تحقيق العبودية لله والأنس به والاتصال به على كل الأحيان، وهذا هو شرف الإنسان؛ فالإنسان إذا لم يتصل بالله؛ فلا شرف له، بل هو شر من الدواب والبهائم، مع أن الله جعله بين نوعين من أنواع الخلائق:
نوع أسمى منه وهو الملائكة، محضهم الله لطاعته وعبادته، عِبَادٌ مُكْرَمُونَ[الأنبياء:26]، لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ[التحريم:6]، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ[الأنبياء:20]، خلقهم الله للطاعة وكلفهم بالتكاليف ولم يمتحنهم بأن يسلط عليهم الشهوات.
ونوع أدنى منه هو الحيوان البهيمي، فقد سلط الله عليه شهوات لكنه لم يكلفه بالتكاليف، والإنسان جمع الله له بين الخاصيتين؛ فهو مكلف بتكاليف ممتحن بالشهوات؛ فإن هو أدى التكاليف ولم تضيعه الشهوات التحق بالصنف الأسمى وهو الملائكة، وإن هو ضيع التكاليف واتبع الشهوات التحق بالصنف الأدنى وهو الحيوان البهيمي، بل يكون أدنى منه لأن الحجة قائمة على الإنسان بالعقل والوحي أكبر من الحجة القائمة على الحيوان؛ كما قال الله تعالى: إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا[الفرقان:44]، وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ[البينة:6]، أي: هم شر ما برأه الله وخلقه من أنواع الخلائق.
إذا عرف ذلك عرف أن الله سبحانه وتعالى يستحق على الإنسان أن يعبده بكل ما آتاه من النعم، وأن يتصل به في كل أحواله، فتتعلق معرفة الله تعالى بجميع عناصر الإنسان وبجميع ما أنعم الله به عليه من الطاقات، فإذا كان الإنسان يؤمن بالله بعقله ويعبده ببدنه، ولكنه لا يعرفه بروحه لم يكن من المحسنين، ولا من الصادقين، بل يكون مثل الجهاز الذي يعمل وهو لا يدري لماذا يعمل؟ فالجهاز يتحكم فيه من سواه؛ لأن الإنسان بدون الروح جثة هامدة كسائر الجمادات؛ فلذلك يحتاج الإنسان إلى أن يعبد الله بروحه وأن يعرفه بروحه، وهذه المعرفة الروحية تتعلق بالعاطفة التي هي المحبة أو الكراهة، ولا يمكن أن يعمل الإنسان أي عمل إلا وقد اتصل ذلك العمل بعاطفته محبة أو كراهة.
ومن هنا فإن عناصر الإنسان الثلاثة مرتبة؛ فأعلاها العقل وتحته العاطفة وتحت ذلك البدن؛ فالبدن وتصرفاته ما يتعلق بالعاطفة أقرب إليها مما يتعلق بالعقل، وستفهمون ذلك جيداً إذا أدركتم أن كل واحد منكم يقتنع بكثير من القناعات العقلية ولكنه لا يطبقها؛ فالناس جميعاً يقتنعون بأن الكذب حرام وقبيح، ويقتنعون أن الصدق واجب وحسن، لكن لماذا لا يصدقون؟ لماذا يكذبون؟ لأن هذه القناعة مختزنة في العقل ولم تصل بعد إلى العاطفة، لكن من أحب الصدق منهم وكره الكذب فسيسعى لأن يكون من الصادقين، ولأن يجتنب الكذب بالكلية.
ولهذا فإن الإنسان إذا أحب شيئاً سعى إليه حتى لو لم يكن من مصلحته، وإذا كره شيئاً فر منه ولو كان من مصلحته، وهذا يدل على أن العاطفة أشد تحكماً في البدن والتصرف من العقل، وإذا كان الحال كذلك فلابد أن تشغل هذه العاطفة بمحبة الله وأهله، وإذا لم تشغل بغير ذلك لاتصلت به؛ فالإنسان تابع لما ينساق إليه بعاطفته وما يتعلق به قلبه، وإذا أراد التجرد من ذلك فيمكن أن يكون لفترة مؤقتة، وهو يحتاج إلى مجاهدة ورياضة كالإنسان المريض يستعمل الدواء الذي لا يحبه ويكره طعمه ورائحته كراهة شديدة، ولكنه يشربه لمدة محددة برياضة ومجاهدة حتى يشفى من المرض وإذا كان سليماً منه لا يمكن أن يشرب ذلك الدواء الذي يكره طعمه ورائحته ولونه.
فإذا عرف هذا عرف أننا في تربيتنا نحتاج إلى شغل عواطفنا بالله، وأن نعلم أن الإنسان إذا خلت عاطفته من التعلق بالله والأنس به ومحبته سيكون قريباً من الجماد، لا يمكن أن يتأثر بالقرآن إذا سمعه ولا أن يتأثر بنعمة الله إذا أسبغها عليه، وهو يعلم أن الله بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله ومع ذلك يتعلق بغيره فيطلب الخير من غير الله، ويخاف الضير من غير الله، ولو كان متصلاً بالله سبحانه وتعالى لزال عنه ذلك الخوف والطمع من غير الله بالكلية.
ومن هنا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو توكلتم على الله حق التوكل لرزقكم كما ترزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً )، فالتوكل على الله تمام التوكل يقتضي من الإنسان ألا يبقى حبيس الزمان والمكان، وألا يبقى مرتبطاً بأمور الدنيا الفانية؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة ).
فبصيرة الإنسان تضيء وتصقل بتعلقه بالله تعالى ومحبته له ومحبته فيه، ويذوق بذلك طعم الإيمان؛ فلا يذاق طعم الإيمان إلا بالعاطفة الصادقة؛ كما أخرج البخاري و مسلم في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن أحب العبد لا يحبه إلا لله، ومن كره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار )، فهذه الأمور الثلاثة التي تنال بها حلاوة الإيمان كلها تتعلق بالمحبة والكره.
إن الاتصال بالله تعالى أقوى عراه هذه المحبة في الله سبحانه وتعالى؛ لما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وقد أخرجه البخاري معلقاً في الصحيح ووصله غيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أقوى عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله )، (أقوى عرى الإيمان)، أي: هي أقوى صلة بين العبد وربه أن يتصل به عاطفياً؛ فهو يحب الله حباً شديداً، ويحب كل ما يحبه الله، ويحب كل من يحبه الله وكل من يحب الله، ويكره كل ما يكرهه الله؛ فهذا الذي يقتضي منه تمام الاستقامة والالتزام، إذا كان هوى الإنسان تبعاً لما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فأحب الله ورسوله حباً شديداً، وأحب كل ما يقرب من الله وأحب كل من يحب الله وأحب كل من يعبد الله، وكره كل ما يكرهه الله وكره كل ما نهى الله عنه وكره كل من كره الله أو كره شيئاً مما جاء من عند الله؛ فهذا الذي يرتبط بالله تعالى بأقوى عرى الإيمان؛ فهو متصل به على كل الأحيان، لا يمكن أن يشكو جفوة ولا وحشة ولا انقطاعاً لأنه متصل بالله بكل أحيانه، إذا جاءته ضراء صبر فكان خيراً له؛ لاتصاله بالله ولمعرفته أن ذلك من عند الله، وإذا جاءته السراء شكر فكان خيراً له؛ لأنه بذلك يشاهد نعمة الله ويقر لله بها، ( أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ).
وإذا وصل الإنسان إلى هذا المستوى من الإيمان فإنه بالإضافة إلى اتصاله بالله يرزق قوة عجيبة هي قاضية على كل ما سواها من القوى؛ فالإنسان المحب لله المحب في الله المبغض لله عز وجل، مبغض لكل ما يبغضه الله ولكل من يبغضه الله ولكل من يبغض ما يحبه الله، هذا الإنسان له قوة عجيبة؛ لأنه لا يمكن أن ينصاع لأي ضغط من الضغوط ولا أن يخضع لأي طغيان من الطاغوت؛ لأنه متصل بالله مستغن به عن كل من سواه، ومن عرف الله سبحانه وتعالى عرف أنه وحده الذي يستحق أن يطمع فيما عنده، ووحده الذي يستحق أن يخاف مما لديه؛ لأنه الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله.
وإذا عرف الإنسان ذلك هان عليه كل من دون الله؛ لأنه يعلم أن كل الخلائق لا يملكون له حياة ولا موتاً ولا نشوراً؛ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ[الحج:73]؛ ولهذا يقال في قصة سعيد بن جبير رحمه الله تعالى أنه لما أسره الحجاج في ثورة الفقهاء المشهورة فجيء به إليه في الحديد فقال له: إنني سأقتلك، قال: لو علمت أن موتي إليك لما عبدت إلا أنت، فالإنسان الذي يعلم أن موته إلى الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي يأخذ روحه متى شاء ويردها عليه متى شاء وهي بيده، والأرواح كلها إليه فهو الذي يستحق أن يفهم هذه المحبة في الله سبحانه وتعالى؛ ولذلك فالله سبحانه وتعالى يقول: اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا المَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى[الزمر:42]، وهذا لا يمكن أن يتدخل فيه مخلوق، وإذا عرف الإنسان ذلك هان عليه كل ضغوط المخلوقين لأنه يعلم أنهم لا يملكون له ولا لغيره حياة ولا موتاً ولا نشوراً.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه رسولا كسرى وقد أرسلهما أن يقتلاه ويسلخاه ويأتيا بجلده وقد ملآه من التبن سألهما فقال: ( أرسلكما؟ فقالا: نعم، فقال: قتله ابنه البارحة )، هذا الذي تخافانه وجئتما من أجله في هذه المسافة الشاسعة الواسعة قد قتله ابنه البارحة، ومن يقتله ابنه أو يقتله غيره أو هو عرضة للموت وعرضة للحاجة وعرضة للمرض لا يستحق أن يخاف منه ولا أن يطمع فيه، ولا أن يطاع في معصية من لا يمكن أن يصل إليه عباده بنفع ولا ضرر؛ ولذلك قال الحكيم:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هينوكل الذي فوق التراب تراب
وقد قال العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله:
أستودع الحافظ المستودع الواليديني ونفسي وإخواني وأموالي
وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي
أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمهربي القوي فكان الضعف أقوى لي
ما ذل ما ذل من بالله عز وكمذل العزيز بأعمام وأخوال
وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالأموال
متى تفز بموالاة الإله يديفعاد يا أيها المخلوق أو وال
لذلك فإن المخلوقين إذا وصلوا إلى مقام من العزة في هذه الدنيا فإنما هو بأسباب فانية لها أجل مسمى عند الله؛ فكل شاغل وظيفة من الوظائف، سواءً كانت وظيفة رسمية أو اجتماعية أو غيرها؛ فلتلك الوظيفة أجل مسمى تنتهي إليه، ولذلك ترون كثيراً ممن كان له سلطان في يوم من الأيام وكان مهيباً مخوفاً، ترونه أسيراً ذليلاً كحال رئيس العراق وكحال غيره، وقد سمعتم بسقوط حكومة إسبانيا الطاغية؛ فكل ذلك من أمر الله سبحانه وتعالى؛ فكم من إنسان بلغ مقاماً من الطغيان وفي لحظة طغيانه يصل إلى الحضيض الأسفل، فالذي كان قبل دخول البحر يقول: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى[النازعات:24]، وبعد التطام البحر عليه قال: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ[يونس:90].
فلهذا لا بد أن يعرف المخلوق أن الخالق وحده هو الحي الذي لا يموت، وهو وحده الذي يستحق أن يخاف منه؛ لأنه الذي بيده الأمر كله وإليه يرجع الأمر كله، وقد قال: وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ[الزمر:67]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن الله تعالى يقبض السموات السبع والأرضين السبع بيمينه يوم القيامة فيهزهن ويقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ).
لذلك يستحق منا ربنا الكريم أن نحبه تمام المحبة؛ وذلك لثلاثة أوجه عظيمة:
الوجه الأول: تمامه؛ فالله سبحانه وتعالى هو المتصف بالكمال المطلق، فهو ذو الكمال والجلال والجمال، اتصف بجميع الكمال وتنزه عن جميع النقص، وهذه الصفة وحدها يستحق بها تمام المحبة؛ فالحب الطبيعي بين الناس يحصل بمستوى الكمال ولو كان ناقصاً؛ فالشيء الحسن الجميل تتعلق به القلوب، ولو كان ذلك الجمال مؤقتاً ناقصاً؛ كأمور الدنيا الفانية؛ فكيف بالجمال المطلق والكمال الذي ليس فيه أي نقص، وهو مستمر ليس فيه أي انقطاع، وهو سابق على الكون وباق بعده؟ هذا كمال الله تعالى الذي لا يمكن أن يعرضه أي نقص؛ فهو بكماله وجلاله وجماله يستحق المحبة الكاملة.
الوجه الثاني: إنعامه؛ فالإنسان العاقل يحب من أنعم عليه، أو من يرجو منه الخير وناله منه بالفعل، ويعلم أن لديه الخير الكثير الذي لا يغيب ويستحق عليه أن يحبه، والله تعالى هو الذي أنعم علينا بنعمة الخلق، هو الذي خلق آدم من تراب ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وجعله خليفته في الأرض، وكرمنا بعده بأنواع التكريم فقال: وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا[الإسراء:70]، وهذا الإنعام أعظمه نعمة الإيمان، وكفى بها نعمة! إذا أحس الإنسان بأن الله شرفه بالإيمان في الوقت الذي يحس فيه أن كثيراً من العباد الذين هم أقوى منه عقلاً وثقافة واطلاعاً وأطول منه عمراً وأقوى منه بدناً وأكثر منه مالاً وجاهاً حجبوا عن الإيمان ومنعوا منه، تراهم يتخبطون في الظلام الدامس في هذه الحياة الدنيا، لم يعرفوا الله طرفة عين ولم يقروا بالبعث بعد الموت ولم يؤمنوا بالآخرة، ولم يؤمنوا بقضاء الله وقدره، ولا عرفوا أنبياء الله ولا ملائكته ولا كتبه؛ فهم محجوبون عن الله في الحياة الدنيا وهم محجوبون عنه يوم القيامة؛ كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ[المطففين:15]؛ فإذا كنت يا أخي! قد نجوت من ذلك وخصك الله بنعمة الإيمان به فاعلم أنها نعمة تستحق الشكر وهي أعظم النعم، حين لم يرتض الله لك أن تكون من الكفرة الفجرة، بل ارتضى لك أن تكون من أهل الإيمان؛ فعرفت الله واتصلت به وسجدت له، وقمت بين يديه إجلالاً وتعظيماً لوجهه الكريم، وعرفت ما كلفك به فأديت منه ما استطعت، فكل ذلك من نعم الله العجيبة.
فمن هذه نعمته وأنت ترجو منه الأكثر والأكثر؛ ترجو رؤية وجهه الكريم يوم القيامة، وترجو منه الخلود في جنات النعيم، وترجو منه أن يبيض وجهك حتى تسير في النور خمسمائة عام، وترجو منه أن يعطيك كتابك بيمينك تلقاء وجهك، وترجو منه أن يختم لك بالخاتمة الحسنى، وترجو منه أن يثبتك عند سؤال الملكين، وترجو منه أن يجعل قبرك روضة من رياض الجنة وأن يملأه عليك خضراً ونوراً، وترجو منه الصحة والعافية في الحياة الدنيا، كل ذلك يقتضي منك تمام محبته؛ فالإنسان الفقير المسكين الذي يحسن إليك ببعض الإحسان ألست تحبه بسبب إحسانه إليك؟
فكيف بالذي أحسن إليك بما لا تستطيع إحصاءه؛ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا[إبراهيم:34]، وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللهِ[النحل:53]؛ فهذا هو الوجه الثاني الذي يقتضي منك تمام المحبة لله.
الوجه الثالث: خوفه سبحانه وتعالى؛ وهو أمر عظيم فالله تعالى هو الذي يستحق أن يخاف منه؛ لأنه الذي بيده مقاليد الأمور، ونواصي الخلائق جميعاً بيده، يضل منهم من يشاء ويهدي من يشاء؛ فمن هداه فبفضله ومن أضله فبعدله، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]؛ ولذلك فهو الذي يستطيع أن يملأ قلب الإنسان من الإيمان والخير وأن يوفقه للطاعة، ويستطيع في المقابل أن يخذله؛ فيتردى في الكفر، يستطيع أن يفتنه عن الإسلام؛ ولهذا قال موسى عليه السلام لما شاهد فتنة بني إسرائيل وارتجاف الأرض بهم: إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ[الأعراف:155-156].
فلذلك لابد أن ندرك أن الله تعالى هو وحده الذي يستحق أن يخاف منه؛ لأن أرواح العباد جميعاً بيده متى شاء أخذها، لا يمكن أن ترتفع نفس الإنسان إلا بأمره ولا أن تنخفض إلا بأمره، لا يمكن أن يتحرك الدم في عروقه أية حركة إلا بأمر الله، وكذلك قلوبهم جميعاً بين إصبعين من أصابعه؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء )، وكذلك فهو الذي يملك للإنسان العافية والشفاء من الأسقام، ويرزقه من صالح الأهل والمال، وهو الذي يملك له في مقابل ذلك أخذ كل ذلك إذا شاء؛ فهو الذي يملك أن يأخذ أسماع الناس وأبصارهم وأرواحهم، وأن يشل أعضاءهم وأن يسلط عليهم من الأسقام والأوجاع ما لا يخطر على بال أحد منهم، وهو الذي يدفع ذلك عنهم إذا شاء، وهو الذي يريهم البرق خوفاً وطمعاً، ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء، وهو الذي ينزل الغيث فيخرج به النبات الذي ينفع العباد، وهو الذي يأتي بالقحط فيقضي على ذلك كله إذا شاء؛ فهو إذاً وحده الذي يستحق أن يخاف منه؛ ولذلك فالمخلوق إذا كان يملك شيئاً من آلة التخويف في الحياة الدنيا فإنه عرضة لكثير من المشكلات التي تمنعه من التخويف، فإذا أراد أن يتسلط أليس يمكن أن يموت في تلك اللحظة؟ أليس يمكن أن ينسد له التنفس؟ أليس يمكن أن يصاب بفشل كلوي أو قصور في القلب أو نوبة قلبية في تلك اللحظة؟ أليس يمكن أيضاً أن تخور قواه ويضعف؟ أليس يمكن أن يرتاع ويسمع صوتاً أو يرى شيئاً يخافه؟ إذا كان الحال كذلك فهو عرضة لأن يحتاج إلى الخلاء، عرضة لأن يحتاج إلى الذهاب في أية حال، عرضة للعطش والجوع، عرضة للمرض؛ فإذا كان هذا حاله فلا يستحق أن يخاف منه بوجه من الوجوه.
فإذاً ربنا سبحانه وتعالى هو الذي يستحق تمام المحبة لهذه الأوجه الثلاثة: لكماله وجماله وجلاله، ولإنعامه ولتخويفه كذلك؛ فكل هذه الأمور إليه سبحانه وتعالى وحده.
وإذا كان الحال كذلك فإنه يستحق حب الإلهية ولا يستحقه من سواه، وحب الإلهية حب مشترك بين العقل والعاطفة والجوارح، فهو الحب المغطي لكل ذلك، حب في العقل يقتضي من الإنسان أن ينطلق في مبادئه وتصوراته مما أذن الله به لأنه يعلم أن العقل جارحة من جوارحه، أنعم الله بها عليه ولو شاء لأخذها منه، وقد فاضل بين العباد تفاضلاً عجيباً فيما آتاهم من العقول، ومن هنا لابد أن يدرك العقل تمام الإدراك ما وصف الله به نفسه وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم وأن يؤمن بذلك وأن يصدق بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله تعالى، وأن ينقاد لحكم الله وأمره؛ فهذه محبة العقل.
كذلك محبة الروح، وهي تقتضي تمام التوكل والاتصال بالله والأنس به، والتسلي به عما سواه؛ لأن في الله خلف عن كل هالك، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُهْتَدُونَ[البقرة:156-157]، فهو يتصل بالله تعالى في أوقات الخلوة، وهي راحته، ويتصل به في صلاته فيحبه حباً شديداً، ويسجد بين يديه إجلالاً لوجهه الكريم، ويتذكر أنه أذن له في مناجاته في الوقت الذي حجب كثيراً من الآخرين عن ذلك؛ كما قال عبد الحق الإشبيلي رحمه الله: (الحمد لله الذي أذن لعباده بطاعته فخروا بين يديه متذللين ولوجهه معظمين، لم يغلق بينه وبينهم باباً، ولا أسدل دونهم حجاباً، ولا خفض أودية ولا رفع شعاباً)، أذن الله لهم بالاتصال به فسجدوا بين يديه ورفعوا إليه حوائجهم ووفقهم لمسألته ولأن يثنوا عليه بما هو أهله.
ثم إنه سبحانه وتعالى كذلك يحب بالبدن، وحبه بالبدن إنما يكون بأن يتعلق الإنسان بصرف كل ما أنعم الله عليه به من النعم في مرضاته؛ فهذا السمع نعمة من نعم الله، فينبغي ألا تسمع به إلا ما أذن الله لك في سماعه، وهذا البصر نعمة من نعم الله فينبغي ألا تبصر به إلا ما أذن الله لك فيه، وكذلك جميع ما أنعم الله به عليك من النعم ينبغي أن تصرفها في مرضاته، وألا تصرف شيئاً منها فيما سوى ذلك، وإذا وصلت إلى هذه المرتبة أحبك الله؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( يقول الله عز وجل: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه )، (كنت سمعه الذي يسمع به)؛ فلا يسمع إلا ما يحب الله سماعه، (وبصره الذي يبصر به)؛ فلا يبصر إلا ما يحب الله أن يبصره، (ويده التي يبطش بها)؛ فلا يتصرف بيده إلا فيما أذن الله فيه وأحبه، (ورجله التي يمشي بها)؛ فلا يستغل طاقة المشي إلا فيما يرضي الله؛ ولهذا يكون محبوباً لله، تصرفاته محبوبة مرضية، وأفعاله محبوبة مرضية، وأقواله محبوبة مرضية، فهو موفق للطاعة مأخوذ بناصيته إلى الخير.
إن هذه المحبة هي حق من حقوق الإلهية، وهي مقتضى من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله.
فهذه الشهادة العظيمة التي تشهدون بها -شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله- لها أربع مستويات:
المستوى الأول: معرفة أن لا إله إلا الله ومعرفة أن محمداً رسول من عند الله، فمعرفة الإنسان لذلك بقلبه هذا هو أول مستوى من مستويات الشهادتين.
المستوى الثاني: النطق بها، أي أن يتلفظ الإنسان بالشهادتين مقراً بها.
المستوى الثالث: أن يلتزم الإنسان مقتضيات الشهادتين؛ فيقوم بكل ما تقتضيه هذه الشهادة من الحقوق؛ لأنه علمها بقلبه وتلفظ بها بلسانه مقراً بها، فهذا يقتضي منه الالتزام بمقتضياتها.
المستوى الرابع: السعي لالتزام الغير بها؛ لأنك إذا اقتنعت بقناعة وعرفت أنها طريق الحق فلابد أن تسعى لتمسك الآخرين بها وإلا كنت غاشاً لهم؛ لأن من عرف أن الطريق إلى هذا الاتجاه هو الحق ثم رأى الناس يسيرون في الاتجاه المعاكس فسكت وتركهم يضلون عن الطريق فهو غاش للناس، فلذلك لابد أن تسعى لالتزام الآخرين بها.
ثم إن مقتضيات الشهادتين سبع ينبغي أن يحفظها كل إنسان وأن يعرفها، أربع منها مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله، وثلاث مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله:
المقتضى الأول: ألا يعبد إلا الله، وألا يصرف أي شيء من العبادة إلا لله، لا صلاة ولا نذراً ولا ذبحاً ولا حلفاً ولا غير ذلك، فهذه كلها تدخل في حيز العبادة، فلابد أن يصرفها الإنسان جميعاً لله، لا يحلف إلا بالله ولا يذبح إلا لله، ولا ينذر إلا لله، ولا يركع ولا يسجد إلا لله، ولا يصوم إلا له، ولا يشرك أحداً في شيء من طاعاته.
إذاً: هذا هو أول مقتضى من مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله؛ لأنك إذا عرفت أنه وحده هو الإله وأن من دونه لا يستحق الإلهية فصرفت شيئاً من الإلهية لغيره فأنت مناقض لشهادتك؛ فلذلك لابد من صرف العبادة جميعاً لله وألا يصرف شيء منها لغيره بوجه من الوجوه، ومن صرف شيئاً من العبادة لغير الله فإنما يناقض شهادة أن لا إله إلا الله، ولأنه إذا شهد أن لا إله إلا الله فمعناه أنه يشهد أنه لا يستحق العبادة إلا الله، ومع ذلك يناقض شهادته فيصرفها لغيره، هل هذا معقول؟!
المقتضى الثاني: ألا يتوكل إلا على الله، وألا تلتمس الحوائج إلا منه، وألا يستغاث إلا به؛ لأنه الذي بيده الأمر كله وأنت تشهد أنه الإله، ومعنى شهادتك أنه وحده الإله أنه لا مدبر لهذا الكون ولا خالق له ولا متصرف فيه إلا هو؛ فلذلك دعاؤك لغيره والتماسك ما لا يقدر عليه إلا الله من غيره مناقضة لشهادة أن لا إله إلا الله، ولذلك قال الله تعالى: ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14]، هل سمعتم أصرح من هذه الآية التي أتت على كل الأوجه، وما تركت وجهاً يمكن أن يحتج به الإنسان، ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ المُلْكُ[فاطر:13] هذا المبدأ والمنطلق، وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ[فاطر:13]، والقطمير أقل شيء وهو وعاء النواة الأبيض الذي يكون على النواة في داخل التمرة لا لون له ولا طعم ولا رائحة، وهو رقيق لا يستر شيئاً، مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا[فاطر:14]، أي: لو قدر أنهم سمعوا، مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ[فاطر:13-14].
المقتضى الثالث: ألا يشرع تحليلاً وتحريماً وإباحة إلا الله وحده، فالحكم لله وحده؛ وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ[الشورى:10]، إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا للهِ[الأنعام:57]، ومن هنا فلا يمكن أن يشرع بإباحة ولا تحريم ولا تحليل ولا أمر ولا نهي إلا الله سبحانه وتعالى، فهو المشرع وحده؛ ولهذا قال: أَمْ لَهمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللهُ[الشورى:21]، وقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالًا قُلْ آللهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللهِ تَفْتَرُونَ[يونس:59]؛ فلا يمكن أن يشرع ولا أن يقنن أي قانون إلا الله الذي يعلم مآلات الأمور، فالذين يحاولون تقنين القوانين من دون شرع الله هي القوانين الوضعية الأرضية ينقصهم العلم الذي على أساسه يمكن أن يشرع القانون؛ ولذلك تسمعون كثيراً القانون رقم كذا الصادر بتاريخ كذا المعدل بالقانون رقم كذا أو المعدل المرسوم رقم كذا، لماذا يعدل؟ لنقص العلم؛ لأن هذا القانون فيه ثغرات سببها جهل المشرع له؛ لأنه لا يعرف مآلات الأمور وحقائقها؛ ولذلك يطلع في كل وقت على ثغرة من الثغرات ونقص وتناقض، وقد قال الله تعالى في القرآن: وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا[النساء:82]، فالإنسان يعرف مصلحته اليوم في بعض الأحيان ولكنه يجهل مصلحته غداً، وقد قال زهير بن أبي سلمى :
وأعلم علم اليوم والأمس قبلهولكنني عن علم ما في غد عمي
والله تعالى يعلم علم الأمس واليوم والغد، وعلمه بالكون كله قبل خلقه مثل علمه به بعد خلقه، لا يختلف شيء من علمه؛ ولهذا قال تعالى: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ[الملك:14]، عندما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم أحكامه إباحة وتحريماً وحدوداً وتعزيرات وغير ذلك علم الله صلاحيتها للتطبيق المستمر في كل زمان ومكان، وأن مصلحة أهل الأرض أن تقام هذه الشريعة كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا علم الله الذي لا يخلف ولا يمكن أن يعروه بداء ولا أن يتغير، هذا العلم الذي كان قبل خلق آدم وقبل خلق السموات والأرض، وهو على ما عليه كان، فلذلك لا يمكن أن يأتي أحد فيقول: لا، هذا كان يصلح لبيئة معينة وقد انتهت ولم يعد صالحاً للتطبيق الآن، أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللهُ[البقرة:140]، الله أعلم، هذا من عند الله لا من عند الناس؛ ولذلك فإن كثيراً من الناس يظنون أن من يدعو إلى إقامة شرع الله فهو يدعو إلى رأيه هو واجتهاده؛ فيرون هذا نظرية من النظريات يقارنونها بنظريات البشر، ويجعلونها مثل الأيدولوجيات التي ينبغي أن تصارع بأيدولوجيات بشر آخرين وعقولهم، وهذا غلط في التصور تماماً، فهذا ليس أيدولوجية ولا رأياً، بل هو الوحي الذي نزل به جبريل على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأنتم تعلمون أنه معصوم؛ فلا يمكن أن تكون العلة من جبريل قطعاً؛ لأنه أمين الله على الوحي، ولا من محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي اختاره الله من الخلائق جميعاً، ملكاً وإنساً وجناً، وائتمنه على هذا الوحي، وهو قطعاً معصوم محفوظ بعد محمد صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى: لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ[فصلت:42]، ونحن نؤمن جميعاً بأن هذا القرآن كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، لا تحريف فيه ولا تبديل ولا تغيير، وأنه لا يقبل ذلك أصلاً؛ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر:9]، فإذا ترسخ هذا الإيمان والإقرار فلا يمكن أن يناقش أحد في صلاحيته للتطبيق ولا في تعديل أي شيء منه ولا تغييره ولا تبديله بوجه من الوجوه، لا يمكن أن يناقش بذلك عاقل أبداً.
المقتضى الرابع: أن يحب الله حباً شديداً وأن يحب كل ما يحبه الله؛ ولذلك قال الله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، وأنتم تعرفون أن (أشد) هي أفعل تفضيل وهي تقتضي التفضيل على كل ما سوى ذلك، ومن هنا لم يذكر بعدها (من) فأفعل للتفضيل إذا كانت نسبية تأتي بعدها (من) فيقال: فلان أطول من فلان، لكن إذا لم تأت بعدها (من) دلت على الإطلاق، مثل ما تقول: الله أكبر، لا تقول: الله أكبر من كذا؛ لأن الله أكبر هذه أفعل التفضيل للإطلاق، وليست مقارنة بأي شيء آخر، ولذلك لم تأت بعدها (من)، فمن هنا قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ[البقرة:165]، فهذا الحب لله سبحانه وتعالى لابد أن نهتم به وأن نجعله من كبريات أمورنا، وأن نناقشه في كل جلساتنا، وأن نحاول الازدياد منه، فمزية الإنسان إنما هي بازدياد حبه لله تعالى، والإنسان قابل لزيادة المحبة لله؛ لأن الإيمان يزيد وينقص وزيادته بالازدياد من الطاعات، فكلما ازداد الإنسان تذوقاً لطاعة الله كلما ازداد محبة لله؛ ولهذا فإن الإنسان المحب لله يحب كل من يحب الله وكل ما يحبه الله؛ لأنه يعلم أن الله يستحق عليه المحبة والعبادة، فإذا كنت أنت عاجزاً عن عبادة الله التي يستحقها الله عليك فإنك ستحب من يؤديها، أنت الآن تحب جبريل وميكائيل وإسرافيل حباً شديداً؛ لأن هؤلاء عبدوا الله العبادة التي يستحقها وأنت عاجز عن ذلك، فأحببتهم لمحبتهم لله وعبادتهم له، وهكذا حبك لكل من يحب الله من الخلائق، فمحبتك لله سبحانه وتعالى تقتضي منك محبتك لكل من يحب الله، ولكل من أحبه الله ولكل أمر يحبه الله؛ فلذلك لابد من تعلق قلبك بذلك تمام التعلق.
إذاً: هذه أربع مقتضيات تقتضيها منك شهادتك أن لا إله إلا الله:
أولاً: ألا تعبد إلا الله، ثانياً: ألا تتوكل إلا على الله، ثالثاً: ألا تأخذ تشريعاً إلا من الله، رابعاً: أن تحب الله حب الإلهية.
أما مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله فثلاث:
المقتضى الأول: أن يصدق في كل ما أخبر به؛ لأنك شهدت أنه رسول من عند الله، ورسول الله لا يمكن أن يكون كذاباً أبداً؛ لأن الله صدقه بالمعجزات الظاهرة الباهرة التي تقتضي تصديقه في كل ما أخبره به، ولا يمكن أن يخبر بشيء على خلاف تلك المعجزة، وقد قال الله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ[الحاقة:44-47]، ومن هنا فإن شهادتك أنه رسول الله تقتضي منك تصديقه في كل شيء، سواءً أدركه عقلك أو لم يدركه، لابد أن تقول: (صدقت الله وكذبت عيني)، كما قالت الفتاة الأنصارية التي تزوج بها عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فدخلت عليه بيته وهو يضاجع أمة له، فغضبت هذه الفتاة غضباً شديداً، فأنكر لهذا ذلك فقالت: لقد رأيتك، فقال: لا، وأنكر أن يكون حصل منه ذلك، فقالت: قد علمت أن الجنب لا يقرأ القرآن، فإن كنت صادقاً فاقرأ علي القرآن، فقال:
شهدت شهادة لا ريب فيهابأن الله ليس له شريك
وأن محمداً عبد رسول إلى الثقلين أرسله المليك
وهذا شعر له هو، فقالت: (صدقت الله وكذبت الوحي) ظنت أن هذا من الوحي، وهذا المنطلق هو منطلق أهل الإيمان، ينبغي أن يقال دائماً في كل الأمور: صدق الله، وقد أمرنا الله بذلك فقال: قُلْ صَدَقَ اللهُ[آل عمران:95]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا[النساء:122]، وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ حَدِيثًا[النساء:87].
ومن هنا لابد من تصديق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما أخبر به من أمور الدين ومن أمور الدنيا ومن أمور الآخرة، كل ما أخبر به لابد من الإيمان به، حين أخبر أن في أحد جناحي الذبابة داء وفي الآخر شفاء فلا بد أن تصدق ذلك؛ لأنه أعلم وهو رسول من عند الله، وأنت تشهد أنه رسول الله.
وإذا أخبر أن بيت المقدس سيفتح وأن روما ستفتح؛ فلابد أن تؤمن بذلك وتصدق به؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر به.
وإذا أخبر أن خلافة راشدة على منهاج النبوة ستقوم بين يدي الساعة في اثني عشر خليفة كلهم من قريش لابد أن تؤمن بذلك؛ لأنك تشهد أنه رسول الله؛ فلذلك لابد من الانقياد والاستسلام لكل ما أخبر به؛ فشهادتك أنه رسول الله تقتضي منك تصديقه في كل شيء أخبر به، سواء أدركته وعرفته أو لم تدركه ولم تعرفه؛ لأنك تعلم أن عقلك قاصر ناقص، وأن الوحي تام كامل، فلذلك لا يمكن أن تعارض الوحي برأي ولا بعقل.
المقتضى الثاني: أن يطاع في كل ما أمر به؛ فقد قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللهِ[النساء:64]، وقال تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ[النور:63]، (فتنة) أي: ردة عن الإسلام، فلذلك لابد من طاعته في كل ما أمر به، بالانقياد والاستسلام المطلق؛ كما قال الله تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا[النساء:65].
المقتضى الثالث: ألا يعبد الله إلا بما شرع وبين؛ فهو الرسول من عند الله، فما دام أنك تقر بأنه ليس لك رسول من عند الله إلا هو؛ فلا يمكن أن تقول: نعم، بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا لكن دعوني حتى أستشير فلاناً هل أعمل بما أمرني به النبي صلى الله عليه وسلم أو لا؟
إذاً: لا بد أن تعلم أنه هو الرسول وحده لهذه الأمة، وليس لهذه الأمة رسول من عند الله إلا محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا أتاك منه أي أمر أو أي نهي فلابد أن تبادر لطاعته، ولا يمكن أن تعبد الله إلا بشيء جاء عن طريقه، لا تبالي بقول فلان أو علان.. فليسوا رسلاً من عند الله، فأنت شهدت أنه وحده هو الرسول صلى الله عليه وسلم؛ ولذلك لا يمكن أن تعارض قوله بقول أي أحد حتى لو كان أبا بكر و عمر رضي الله عنهما وأرضاهما؛ ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما لقوم جادلوه: (يوشك أن ترجمكم الملائكة بالحجارة من السماء، أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقولون: قال أبو بكر و عمر) وهم لم يبعدوا، لكن القضية هي أن شهادتك أن محمداً رسول الله تقتضي ألا يعارض قوله بقول أي أحد آخر، وألا يعبد الله إلا بما شرع؛ فكل أمر يعبد الله به لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله فهو ابتداع مردود على صاحبه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد )، وقال: ( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد ).
إذاً: هذه هي مقتضيات شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وهي:
أولاً: ألا يعبد إلا الله، ثانياً: ألا يتوكل إلا على الله، ثالثاً: ألا يشرع إلا الله، رابعاً: أن يحب الله حباً الإلهية.
ثم مقتضيات شهادة أن محمداً رسول الله:
أولاً: أن يصدق في كل ما أخبر به، ثانياً: أن يطاع في كل ما أمر به، ثالثاً: ألا يعبد الله إلا بما جاء به من عنده.
وهذه المقتضيات تحقيقها والتزامها يقتضي منك محبة كل من أحب الله وكل ما يحبه الله، وهذه هي المحبة في الله.
والحب ينقسم إلى قسمين: حب طبعي، وحب عقلي.
فالحب الطبعي هو محبة الإنسان لما يلائمه؛ فالإنسان يلائمه نوع من الأشكال ونوع من الألوان ونوع من الطباع ونوع من الطعوم ونحو ذلك، فهناك من يحب طعم الحلاوة -طعم السكر- وهناك من يكرهه، وهناك من يحب اللون الأخضر وهناك من يكرهه، وهناك من يحب نوعاً من البشر من ناحية الشكل والهيئة وهناك من لا يحب ذلك، فهناك تفاوت في التحسين والتقبيح، بحسب الطبع؛ لأن التحسين والتقبيح العقلي هو ملاءمة الطبع ومنافرته واعتبار وصف الكمال والنقص، وهذا يتفاوت الناس فيه؛ فحبك لإنسان لأن شكله مرضي عندك، أو حبك لطعام لأن طعمه مرضي عندك ليس هذا مثل المحبة في الله؛ لأن المحبة في الله تقتضي أن يكون ذلك الحب مؤدياً لعمل، وهذا الحب الطبعي لا يترتب عليه عمل، ولذلك فإن الحب الطبعي يكون من بعض الوجوه دون بعض؛ فمثلاً: المسك رائحته محبوبة لكن طعمه كريه، فهو محبوب من وجه مبغوض من وجه آخر، وهكذا كل الأمور تكون محبوبة من وجه مبغوضة من وجه آخر، الأمور المحبوبة حباً طبعياً، بخلاف الحب في الله سبحانه وتعالى؛ فإن الإنسان إذا أحب أمراً لأن الله شرعه فهو محب له من كل وجه، ومن هنا فإذا ترتب عليه ضرر ظاهر حمد الله على ذلك الضرر لأنه يعلم أنه خير له، إذا فرض الله عليه الجهاد في سبيل الله فترتب عليه الاستشهاد حمد الله على ذلك.
ولذلك فإن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين استشهدوا يوم أحد وبقرت بطونهم وقطعت أنوفهم وآذانهم قد حمدوا الله تعالى على ذلك وسروا به غاية السرور؛ فقد بشرنا الله عنهم فقال: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ[آل عمران:169-170]؛ فقد جعل الله هذا فضلاً آتاه إياهم وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ المُؤْمِنِينَ[آل عمران:170-171].
إن المحبة في الله تعالى لها مقتضيات عدة.
إن محبتك لله سبحانه وتعالى تقتضي منك حبك للمحبين لله، وحبك للمحبين لله إنما يكون برضاك لما عملوا؛ لأنك تحب الصادقين، ولأنك تحب الصدق، فحبك للصدق يقتضي منك محبة كل صادق، وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالكينونة مع من وصفهم بالصدق؛ فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ[التوبة:119]، فهذه الكينونة تقتضي منك أن تربط نفسك برباط الأخوة الإيمانية وأن تتصل بأهل الصدق فتكون معهم في صدقهم؛ ولهذا قال الله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[الكهف:28].
وهذه المحبة تقتضي منك الرضا بحالهم حين رضوا عن الله تعالى وأرضاهم حين قاموا بالواجب عليهم؛ فأنت تحبهم لغير سبب دنيوي، لا لأنهم يحسنون إليك ولا لأن بينك وبينهم معرفة، ولا لأن بينك وبينهم قرابة، لكن لأنهم يحبون الله فأحببتهم من أجل محبتهم لله، فهذه هي المحبة في الله، فالمحبة في الله تقتضي أن تحب كل من عرفت أنه يحب الله ولو لم تعرفه شخصياً، ولم لم تكن بينك وبينه صلة ولا نسب ولا معرفة، ولو لم ترج منه أي خير في الدنيا، وإذا وصلت إلى هذا المقام فإن الوعد المترتب على ذلك عظيم، وهو إظلالك في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؛ فقد أخرج البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه )، (فرجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه) معناه: سواء كانا متعارفين مجتمعين أو كانا متفرقين ليست بينهما صلة دنيوية، حبهما ليس لأمر الدنيا، بل حبهما لله سبحانه وتعالى، هذا المقام هو الذي يظل الله أصحابه في ظله يوم لا ظل إلا ظله، وقد صح في صحيح مسلم من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟! اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي )، وأخرج مسلم في صحيحه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يقول الله تعالى: وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في، والمتباذلين في )، فالمتحابون في الله وجبت لهم محبة الله سبحانه وتعالى.
وهنا لابد من التنبيه إلى أن المحبة في الله ليست مثل ما يزعمه بعض الناس؛ فبعض الناس يقول لإنسان لا يعرفه ولا يعرف هل هو ملتزم أو مستقيم: أحبك في الله، فهذا كاذب فيما قاله! لأن المحبة في الله معناها أنك عرفت فلاناً بصدقه وعبادته، فأحببته من أجل تلك العبادة التي بلغتك عنه، وذلك بحسب الظاهر، والله أعلم بمن هو صادق، فإنما تتعلق أحكامنا بالظواهر والله يتولى السرائر؛ كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن ناساً كانوا يؤخذون بالوحي على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع بالنبوة وإنما نحن قوم نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر؛ فمن أبدى لنا صفحة عنقه أخذناه) فلذلك نحن نحب الإنسان إذا رأيناه يواظب على الصلاة في المسجد في الصف الأول، ونحبه إذا رأيناه يكثر من ذكر الله، ولسانه رطب بذكر الله، ونحبه إذا رأيناه يكثر قراءة القرآن وينتفع به، ونحبه إذا رأيناه مواظباً على الدعوة إلى الله تعالى، ونحبه إذا رأيناه مواظباً على الصدقة والإحسان؛ لأن هذه الأمور هي مما ارتضاه الله لعباده، ومن فعلها ابتغاء مرضاة الله لم يفعلها إلا محبة لله؛ فنحبه على ذلك الأساس، ولم نعرفه معرفة خصوصية، ولم يكن بيننا وبينه نسب ولا صلة.
ثم إن المحبة في الله سبحانه وتعالى تقتضي من الإنسان الدعاء لمحبوبه فيه؛ لأنها تقتضي عملاً؛ فمحبتك لفلان في الله تعالى تقتضي منك أن ترتب على تلك المحبة دعاء ونصرة وتعلق قلب، وإلا كانت المحبة غير صادقة، وهذا يقتضي من الإنسان أولاً: الإخبار، كما أخرج أبو داود في السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه )، وهذا الأمر في الأصل يمكن أن يحمل على الوجوب وعلى الندب، لكن لا ينزل عن كونه أمراً يقتضي الندب على أقل تقدير.
وهذا الأمر هو بداية الفعل الذي يترتب على المحبة، ثم بعده ما يكون من الدعاء والانتفاع؛ لأن الإنسان إذا أحب إنساناً في الله تعالى اقتضى ذلك منه صلة، فقد ارتبط به برابطة هي أقوى من رابطة النسب؛ فهي تقتضي تزاوراً؛ ولهذا حدثنا النبي صلى الله عليه وسلم: ( أن رجلاً كان فيمن قبلنا كان بينه وبين آخر محبة في الله فسأفر إليه من مسافة، فأرصد الله له ملكاً على مدرجة تلك القرية، فلما مر به قال: ماذا تريد يا فلان؟ قال: جئت أزور أخاً لي في الله، قال: هل لك من نعمة تردها عليه؟ قال: لا، إلا أني أحبه في الله، فأخبره أن الله تعالى أحبه بسبب تلك المحبة )، ( وقد سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بين الركن والمقام يقول: اللهم اغفر لفلان، فدعاه فسأله عنه فذكر أنه رجل يحبه في الله، قال: أبشر فقد غفر لصاحبك ).
وكذلك فإن الزيارة التي هي زيارة في الله سبحانه وتعالى ذات منزلة عظيمة جداً؛ فالإنسان الذي لا يخرجه في طريقه إلا قصد وجه الله الكريم قطعاً يسلك طريقاً من طرق الجنة، وأعرف شيخاً كبير السن ضعيف الجسم سافر أكثر من سبعين (كم) على رجليه ليس معه ماء ولا غذاء؛ ليزور أخاً له في الله ما بينه وبينه إلا المحبة في الله، فسلم عليه ووقفا ساعة في المسجد ودعا كل واحد منهما للآخر، ثم انصرفا، ولم يعلم صاحبه أنه ما جاء من تلك المسافة البعيدة إلا للسلام عليه، لم يعلم بذلك صاحبه ولم يخبره، بل رجع من حيث أتى.
ومن هنا فإن المحبة في الله تقتضي التزاور فيه، وهذا التزاور هو صلة يكرهها الشيطان غاية الكراهة؛ فالشيطان يسعى لتقطيع الصلات بين الناس؛ ولذلك يكره الزيارة في الله تعالى ويكره صلة الرحم.
ثم إن المحبة في الله تقتضي من الإنسان أيضاً المودة والنصرة؛ فأخوة الإنسان في الله سبحانه وتعالى هي أبلغ الأخوات وهي التي لا تنقطع؛ فالمؤمنون إخوة في الدنيا؛ كما قال الله تعالى: إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ[الحجرات:10]، وهم أخوة يوم القيامة عند انقطاع أخوة النسب؛ فالنسب ينقطع بمجرد النفخ في الصور؛ كما قال الله تعالى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ[المؤمنون:101]، والأخوة في الدين باقية يوم القيامة؛ كما قال الله تعالى: وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ[الحجر:47].
والمحبة في الله تقتضي الحرص على التهادي؛ لأنه يزيد المحبة؛ كما أخرج مالك في الموطأ و الحاكم في المستدرك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تهادوا تحابوا وتذهب الشحناء )، وهذه الهدية ليست كما يتوقعه الناس، فكثير من الناس يظنون أن الهدية لابد أن تكون شيئاً ذا مال وذا ثمن، وهذا يبعدها عن مقامها ومستواها؛ فالهدية ينبغي أن تكون شيئاً رمزياً؛ كما كان الصحابة يهدون السواك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيعجب به، وأهدت إليه أعرابية أرنباً مذبوحة، وأهدى إليه أبو طلحة الأنصاري ورك أرنب؛ فالهدية ينبغي أن تكون على هذا المقام، أي: أن تكون شيئاً رمزياً فقط، حتى لو لم يكن مما ينتفع به المهدى إليه؛ ( فالنبي صلى الله عليه وسلم أهدت إليه امرأة من بني هلال ضباً مشوياً )، وهو لا يأكل الضب ولم تكن قريش يأكلونه، ( فلما وضع على مائدته لم يأكل منه؛ فكف عنه الناس يظنونه حراماً، فقيل: أحرام هو؟ قال: لا، لكن لم يكن في بلاد قومي فأجدني أعافه، فأخذه خالد بن الوليد فاجتره إليه فأكله ).
فالهدية لا يقصد بها أن تحقق أرباً من آراب المهدى إليه، وإن كان ذلك قد يراعى في بعض الأحيان؛ فالحكماء يقولون: (من سعادة المرء أن يوافق معروفه الحاجة) ولذلك فإن الليث بن سعد كان محباً لـمالك في الله تعالى، فسأل عن أحب الطعام إلى مالك فقيل: الموز، فأرسل إليه حمل خمسين بعيراً من الموز من مصر إلى المدينة، وكان مالك رحمه الله يحب الموز لأنه يكره دخول الخلاء؛ فكان لا يدخل الخلاء إلا مرة كل ثلاثة أيام، وذلك لاستغلال الوقت، فكان يستعين على ذلك بأكل الموز.
وهذا التهادي في الله هو من لوازم المحبة في الله.
كذلك من لوازم المحبة في الله المجالسة في الله سبحانه وتعالى؛ فمجالس الناس التي يذكر فيها أمور الدنيا وينشغل فيها الناس بما لا نفع فيه لابد في مقابلها من مجالس لله تعالى خاصة، وهذه المجالس هي التي تزيد الإيمان والنور، وتزيد البصائر وتعظ الإنسان وتكفه عن المعصية؛ فالإنسان إذا أحس بقسوة في قلبه أو أحس بميل إلى المعصية ينبغي أن يبادر إلى إخوانه في الله الذين يحبهم فيه ويجالسهم فيه؛ فأولئك الجلساء هم الذين لا يشقى بهم جليسهم؛ فالملائكة يبحثون عنه في الأماكن؛ كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن لله ملائكة سيارين في الأرض، بغيتهم حلق الذكر؛ فإذا وجدوهم حفوهم بأجنحتهم إلى سماء الدنيا، وتنادوا: أن هذه طلبتكم، فإذا انفضوا ارتفعوا إلى ربهم فيسألهم وهو أعلم: ماذا يقول عبادي؟ فيقولون: يحمدونك ويكبرونك ويهللونك؛ فيقول: وهل رأوني؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوني؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوك لكانوا لك أشد ذكراً، فيقول: وماذا يسألونني؟ فيقول: يسألونك الجنة، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا لها أشد طلباً وعليها أشد حرصاً؛ فيقول: مم يستعيذونني؟ فيقولون: يستعيذونك من النار، فيقول: وهل رأوها؟ فيقولون: لا، فيقول: فكيف لو رأوها؟ فيقولون: وعزتك وجلالك لو رأوها لكانوا منها أشد خوفاً؛ فيقول: أشهدكم أني قد غفرت لهم، فيقول ملك: يا رب! فيهم عبدك فلان وليس منهم إنما جاء لحاجته، فيقول: هم الرهط، أو: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم )، فالله تعالى يهب بعض المسيئين لبعض المحسنين، ومن الرجال المؤمنين من يشفع يوم القيامة في مثل ربيعة ومضر؛ فلذلك زيارتهم ومجالستهم مما يحيي موات القلوب.
وقد قال معاوية بن قرة المزني رحمه الله تعالى: (كنا إذا صدئت قلوبنا ذهبنا إلى الحسن بن أبي الحسن فنجلس في مجلسه فنتعظ ونزداد إيماناً). وقال أبو الطفيل عامر بن واثلة ، وهو آخر صحابي مات يقول: (كنا نجيء ابن عباس فيكسبنا نوراً ويكسبنا علماً ويهدينا، ولا يزال عبيد الله مترعة جفانه مطعماً ضيفاً ومسكيناً)، أي: عبيد الله بن عباس ، فيذكر ابني العباس : عبد الله و عبيد الله ، فذكر مجالس ابن عباس وما فيها؛ ولذلك قال أبو عمر بن عبد البر رحمه الله:
وذكرني طيب الزمان وحسنه مجالس قوم يملئون المجالس
حديثاً وآداباً وعلماً وحكمة ونوراً وإحساناً وخلاً مؤانسا
فهذه مجالس شيوخ ابن عبد البر .
فكل هذه الأمور يحتاج إليها الإنسان، فالإنسان في هذه الحياة كثيراً ما يصدأ قلبه بسبب انشغاله بأمر دنيوي أو باللقمة الواحدة؛ فاللقمة الواحدة من الحرام كثيراً ما تحدث ظلمة في القلب، أو بسماع الكلمة من سخط الله يسمعها الإنسان فتؤثر فيه، أو بتصرف يتصرفه الإنسان كمجرد النظرة فيتأثر بها قلبه؛ فإذا حصل له شيء من ذلك ينبغي أن يبادر إلى مجالس الذكر، وقد كان معاذ بن جبل رضي الله عنه يعقدها فيقول: (تعالوا بنا نؤمن ساعة)، فهذه المجالس تقوي الإيمان، ولذلك فمجالس رسول الله صلى الله عليه وسلم هي على ما وصفها أصحابه رضي الله عنهم فقد قالوا: ( يا رسول الله، نكون عندك فنكون على ما ترى، فإذا انطلقنا من عندك عافسنا النساء على الفرش، فقال: لو تدومون على ما تكونون عليه عندي لصافحتكم الملائكة في الطرقات، ولكن ساعة وساعة ).
ولذلك فمجالسة أهل الخير تقتضي أن يكون الإنسان منهم، وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر أمراً عجيباً في هذا الباب، قال: لقد ذكر الله في كتابه كلب أصحاب الكهف حين جالسهم، فهو كلب لكن نوه الله به حين كان مع أصحاب الكهف فعد منهم ولو كان من غير جنسهم، لكن المجالسة لها حكم عجيب؛ ولهذا يقول أحد الحكماء:
عليك بأرباب الصدور فمن غدامضافاً لأرباب الصدور تصدرا
ولا ترضين يوماً بصحبة فاسقفينحط قدر من علاك وتحقرا
فرفع أبو من ثم خفض مزمليبين قولي مغرياً ومحذرا
وهذه قاعدة نحوية وهي: ما علمت أبو من زيد، "أبو" في الأصل اسم منصوب بــ(علمت) ولكنه لما أضيف إلى ما يستحق صدر كلامه وهو "من" لم يعمل فيه عامل متقدم عليه؛ فرفع فيقال: ما علمت أبو من زيد، فقال: فرفع أبو من ثم خفض مزمل، يشير إلى قول امرئ القيس :
كأن أبانا في أفانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل
فـــ(مزمل) هنا مجرورة بالمجاورة؛ لأنها جاورت (في بجاد) وهو مجرور فجرت، فقال:
فرفع أبو من ثم خفض مزمل يبين قولي مغرياً ومحذرا
ولهذا فمخالطة أهل الصلاح ترفع درجات الإنسان، وتزيده حماساً وإيماناً كما قال عبد القادر الجيلاني رحمه الله:
زيارة أرباب التقى مرهم يبري ومفتاح أسباب الهداية والخير
وتحدث في القلب الخلي إرادةوتشرح صدراً ضاق من شدة الوزر
وتنصر مظلوماً وترفع خاملاًوتكسب معدوماً وتجبر ذا كسر
فكل هذا من زيارته للناس؛ لأنه إذا رأى ما هم فيه وما هم مشتغلون به سيحبهم، ومحبته لهم تقتضي بعثه معهم يوم القيامة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأعرابي الذي أتاه فرأى ما هو فيه وأصحابه فقال: ( يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: أنت مع من أحببت )؛ فالإنسان إنما يحشر مع من أحب، ولذلك فهذه الزيارة في الله تعالى تقتضي حدوث همة للإنسان، إذا لم يكن الإنسان من أهل قيام الليل ولا صيام النذر ولا الإكثار من الذكر ولا من الشكر فكثرت زيارته وتردده لمن هو من أهل ذلك، فستدب إليه عدوى ذلك الخير فينتفع بها.
ومن هنا يحتاج الإنسان إلى أن يكون له أصفياء يحبهم في الله ويكل إليهم تسديده ونصيحته، فإذا رأوا منه أي غلط أو أي خطأ نبهوه عليه وأنبوه عليه، وبذلك يهدون إليه أحب شيء ينبغي أن يهدى إلى المسلم؛ فقد قال عمر رضي الله عنه: (رحم الله امرأً أهدى إلي عيوبي).
والإنسان إذا لم يكن له أصدقاء من هذا النوع فهو على خطر؛ لأنه سيجد كثيراً من المتلقين المتسلقين الذين يثنون عليه بما ليس فيه؛ فيغرونه، وأيضاً يزينون له ما هو فيه من الفساد؛ ولذلك فإن كثيراً من الطغاة يظنون أنهم على صواب؛ لأنهم يجتمع حولهم هالة من المنافقين فيمدحونهم ويشكرونهم ويظنون أن كل شيء بخير وأن ما هم عليه هو الصواب؛ ولذلك يحتاج الإنسان إلى أن يكون له أصفياء في الخفاء؛ كما قال الحكيم:
الخل كالماء يبدي لي ضمائره مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
وهو مرآة للإنسان، ( المؤمن مرآة أخيه )، فيحتاج إلى أن يكون له أصفياء من هذا القبيل ينبهونه على أخطائه، ويعينونه إذا عزم، ويذكرونه إذا نسي، وينبهونه إذا غفل، وهو محتاج إليهم في كل الأحيان وهم بمثابة الغذاء في حقه؛ لأنهم تغذية القلب.
والمحبة في الله تقتضي من الإنسان أن يحاول الاقتداء بمن أحب؛ لأنك إذا عرفت أن إنساناً هو أفضل منك في جانب من الجوانب ولو كنت أنت تفوقه في جوانب أخرى فينبغي أن تجتهد في اللحاق به في ذلك الجانب، الذي هو مبرز عليك فيه، فإذا برز عليك في العبادة فحاول اللحاق به في تلك العبادة، إذا برز عليك في العلم فحاول اللحاق به في ذلك الجانب الذي برز عليك فيه، واجعله قدوة حتى تصل به إلى المستوى الذي تريده؛ ولذلك فإن ابن حجر رحمه الله قال: (من الله علينا بــالذهبي فقد كنا نجعله قدوة في صبانا، وقد شربت زمزم فسألت الله أن أصل في حفظ الحديث إلى ما وصل إليه الذهبي ، فلما وصلت إلى ذلك تمنيت لو كنت زدت) هذا كلام الحافظ ابن حجر رحمه الله، الذي يذكر فيه أنه من الله عليه بـالذهبي ، فرآه قدوة، ولولاه لما وجد من يقتدي به في ذلك المستوى، ولقد شرب زمزم من أجل أن يسأل الله ذلك، ( زمزم لما شرب له )، فسأل الله أن يصل في حفظ الحديث إلى مرتبة الذهبي ، فلما وصل إليها تمنى لو كان سأل الله أكثر من ذلك.
ومن هنا فإن الاقتداء به معين للإنسان أيضاً على تعدي كثير من العراقيل والعقبات، وإذا لم يجد الإنسان الأسوة والقدوة فكثيراً ما يتردد، بل كثيراً ما ينهزم أمام الواقع المحيط به، لكن إذا وجد قوماً هم قدوة وأسوة فإنه بذلك يحقق إمكان؛ لأن الإمكان دليله الوجود، وإذا لم يجدهم في الأحياء فليقتدي بالسابقين؛ ولذلك قال عبد الله بن المبارك رحمه الله: (قصص الصالحين جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب عباده) ومصداق ذلك من القرآن قول الله تعالى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ[هود:120]، فكم من إنسان اهتدى بسبب نصيحة إنسان أو بسبب قراءته لسيرته وتتبعه لأخباره، فــعمر بن عبد العزيز -ونحن نعرف مقامه ومستواه- سبب هدايته أن رجلاً مر به وهو بخناصرة -وهي بلد بالشام- فقال له: (يا بني! إن أمامك عقبة لا يقطعها إلا كل ضامر مهزول) فأثرت هذه الكلمة في عمر بن عبد العزيز تأثيراً بالغاً، وقد كان إذا مر من طريق عرف أنه مر منه لحسن رائحة طيبه، وقد كان يقول:
إن الأحامرة الثلاثة أفسدت مالي وكنت بهن صباً مولعا
الراح واللحم السمين وأطليبالزعفران فلن أزال مردعا
ولكنه تاب عندما سمع هذا القول، فتأثر به تأثراً بالغاً؛ فلقيه الرجل بعد ذلك فقال: (عهدي بك بخناصرة ووجهك مضيء وفراشك وطيء، فقال: منذ سمعت منك تلك الكلمة وأنا أسعى لقطع تلك العقبة) فتغير حاله بسبب كلمة واحدة.
ولذلك يحتاج الإنسان إلى قراءة سير الأعلام، وقد ألف كثير من المؤلفين كتباً في هذا الباب؛ فــالذهبي ألف تذكرة الحفاظ لضرب الأمثلة من تاريخ هذه الأمة للناس ليقتدوا بهم، وألف كتاب "سير أعلام النبلاء" ليقتدي الناس بهم أيضاً، وغيره من الأئمة الأعلام؛ فذكرهم لمحاسن العلماء والقادة والأئمة والمجددين إنما يقصدون به أن يبرزوهم أسوة وقدوة، والكتب في الواقع هي أشخاص؛ لأنها تعبر عن مؤلفيها، وقد قال ابن هلال رحمه الله:
لنا جلساء ما يمل حديثهمألداء مأمونون غيباً ومشهدا
يفيدوننا من عملهم علم من مضىوعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
فلا فتنة تخشى ولا سوء عشرة ولا نتقي منهم لساناً ولا يدا
فإن قلت أحياء فلست بكاذبوإن قلت أموات فلست مفندا
فلذلك يحتاج الإنسان إلى الاطلاع على سير السابقين واتخاذ القدوة والأسوة منهم، وبذلك يعيش الإنسان في عصر ليس عصره وفي واقع ليس واقعه، وهو محتاج أيضاً إلى الترقي في مدارج الكمال، ولا يمكن أن يترقى في ذلك ما لم يجد من يذاكره وينبهه لأخطائه، وقديماً قال الحكيم:
عداي لهم فضل علي ومنةفلا أبعد الرحمن عني الأعاديا
هم بحثوا عن سوأتي فاتقيتهاوهم نافسوني فاكتسبت المعاليا
يقصد بذلك أنه استفاد منهم، فعداوتهم له اقتضت منه أن يهتم بما ينبهون عليه من أخطائه فيجتنبها، وهذا هو عدم التعصب وهو المهم للإنسان، فينبغي للإنسان إذا نكر له خطأ وقع فيه أن يكون أواباً رجاعاً إلى الحق حتى لو صدر ذلك من أعدائه.
والمحبة في الله تقتضي من الإنسان وهو سائر في طريق الحق أن يحب أطراف هذه الأمة وأن يهتم بها، وبذلك يؤدي الحق الذي عليه؛ فالمحبة في الله أهلها يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً، فلا يمكن أن تتساوى محبتك لـجبريل و إسرافيل و ميكائيل بمحبتك لإنسان بشر مثلك الآن هنا، وكذلك الذين تحبهم من البشر درجاتهم متفاوتة في هذه المحبة بحسب مستواهم في حب الله وعبادته، لكن هذه الأمة الإسلامية كلها تحب في الله ولو أدنى درجات المحبة، فالفساق فيها يحبون على قدر ما معهم من الإيمان، ومن هنا يجب أن يتعلق القلب بهذه الأمة وأن تحب مصالحها جميعاً وأن تهتم بها، بقاصيها ودانيها، وأن تتألم لآلامها وأن تفرح لمسراتها وأن تهتم بآمالها؛ فهي ذات حقوق عليك، لابد أن تهتم بها.
وإذا حصل منك ذلك وفعلته ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى فستثاب على أمور كبيرة لا تستطيعها؛ فالإنسان الذي يحب أن يخفف المعاناة عن الشعب الفلسطيني الآن أو عن الشعب العراقي أو عن الشعب الكشميري أو عن الشعب الأفغاني أو غيرها من الشعوب، هذا الإنسان بمجرد محبته تلك يثاب ثواباً عظيماً؛ فـ(نية المؤمن أبلغ من عمله).
ومن هنا اقتضت المحبة في الله سبحانه وتعالى أن يحب الإنسان المؤمنين وفي مقابلها أيضاً أن يبغض الكافرين وأعداء الدين بغضاً شديداً يقتضي منه ألا يحاكيهم في شيء؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( خالفوا المشركين )، وقال: ( خالفوا اليهود والنصارى ).
وتقتضي منه ألا يحب طباعهم ولا مخالطتهم ولا يأنس بهم، وألا يحب الجلوس بين أظهرهم؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بي ظهراني المشركين، قيل: ولم؟ قال: حتى لا تتراءى ناراهما )، فهذا يقتضي الانفصال عن المشركين بالكلية، ولذلك ( بايع جرير بن عبد الله البجلي رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم، وأن يخالط المؤمنين وأن يجانب الكافرين )، وهذه هي الهجرة.
فلذلك لابد أن يحس الإنسان بالتميز عن المشركين؛ كما قال الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ[يوسف:108]، وهذا من مقتضيات المحبة في الله سبحانه وتعالى والبغض فيه.
ونحن لا نستطيع أن نأتي على كل فصول المحبة في الله والبغض فيه، لكن بما ذكر يتبين أهميتها في حياتنا وأثرها علينا، وأثرها حتى على سلوك الإنسان في خاصة نفسه، فإنه إذا أحب الصالحين فسيسعى للحاق بهم ولو لم يكن منهم، وقد قال أحد الشعراء:
أحب الصالحين ولست منهملعلي أن أنال بهم شفاعة
فمحبته لما هم فيه وتعلق قلبه به على الأقل يوماً من الأيام سيحاول أن يفعل مثل ما فعلوا، وبذلك يصل إلى مستواهم، والإنسان السائر في طريقه إلى الله تعالى عرضة للازدياد - كما ذكرنا - من كل خير، وهو يسعى لزيادة مستواه وقربه من الله سبحانه وتعالى في كل وقت، وقد قال ابن الجوزي رحمه الله: (إن من الصفوة أقواماً منذ استيقظوا ما ناموا، ومنذ قاموا ما وقفوا، فهم في صعود وترق، كلما قطعوا شوطاً نظروا؛ فرأوا قصور ما كانوا فيه فاستغفروا).
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد بكل شيء تحب أن تحمد به على كل شيء تحب أن تحمد عليه، لك الحمد في الأولى والآخرة، لك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عبدك ونبيك ورسولك النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , المحبة في الله للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
https://audio.islamweb.net