اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , متن ابن عاشر [11] للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فقد قال المصنف رحمه الله:
[وسمع الله لمن حمدهفي الرفع من ركوعه أورده
الفذ والإمام هذا أكداوالباقي كالمندوب في الحكم بدا]
وقد وصلنا إلى سنن الصلاة، وتكلمنا عن بعضها، وانتهى بنا المطاف عند سنية قول: (سمع الله لمن حمده).
وهنا سؤال: هل الحمد دعاء حتى يستجاب؛ فالاستجابة إنما تكون للدعاء؟
الجواب هو ما قاله سفيان بن عيينة رحمه الله عندما سئل عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وأفضل ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله )، فقيل: لا إله إلا الله ذكر لا دعاء؟ فقال:
إذا أثنى عليك المرء يوماًكفاه من تعرضه الثناء
فالثناء دعاء، وكذلك (سمع الله لمن حمده) فالحمد دعاء فيستجيب الله دعاء من حمده.
وأما قول: (ربنا لك الحمد) أو (ربنا ولك الحمد)؛ فـ(ربنا لك الحمد) لا إشكال فيها؛ لأن (ربنا) منادىً، و(لك الحمد) الحمد مبتدأ، ولك خبره، ولا إشكال، ففيه إثبات الحمد لله، لكن إذا قلت: (ربنا ولك الحمد) فالعطف على ماذا؟ العطف لا بد فيه من معطوف عليه؟ فيقال: أصل الجملة (ربنا لك الثناء ولك الحمد) فحذف (الثناء) وعطف عليه (الحمد)، وأبقي العطف بعد حذف المعطوف عليه، وهذا ما بينه محمد مولود رحمه الله في الكفاف فقال:
وقول مقتد وفذ ربناولك عاطفاً على لك الثناء
(عاطفاً على لك الثناء) معناه: لك الثناء ولك الحمد.
والمأموم اختلف فيه هل يقول: (سمع الله لمن حمده) سراً ويقول بعدها: (ربنا لك الحمد)، أو لا يقول: (سمع الله لمن حمده)؟
الذي يترجح من ناحية الدليل أنه يقولها؛ لحديث عائشة، وهو يقتضي أن يقول ذلك، وأيضاً فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، وهذا خطاب للإمام والفذ والمأموم، ونحن رأيناه يقول في رفعه من الركوع: (سمع الله لمن حمده) فهذا يقتضي أن يقولها الإمام والمأموم والفذ، فيقولوا جميعاً: (سمع الله لمن حمده)، ثم بعد ذلك يذكرون بهذا الذكر وهو (ربنا لك الحمد)، وإذا زاد الإنسان على ذلك فهذا السنة، أي: المندوب أن يقول: (ربنا الحمد، ملء السماوات وملء الأرض، وملء ما بينهما وملء ما شئت من شيء بعد، أهلَ الثناء والمجد، أو (أهلُ الثناء والمجد) أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد)، وإذا قال في الرفع من الركوع: (ربنا لك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه)، وزاد النسائي: (كما يحب ربنا ويرضى) فذاك أيضاً؛ لما ثبت في الصحيح: ( أن رجلاً من الأنصار قال ذلك، فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال: من القائل؟ قال: أنا يا رسول الله، قال: لقد رأيت بضعة وثلاثين ملكاً يبتدرونها )، وزيادة النسائي زيادة ثقة؛ لأن الإسناد صحيح؛ فهذه الزيادة ليست في الصحيحين وهي (كما يحب ربنا ويرضى)، لكنها في سنن النسائي فاقتضى ذلك صحتها.
(هذا أكدا) معناه: هذا القدر من السنن مؤكد، وهو السنن المؤكدات، التي لا يحل تركها عمداً وهو مبطل، وتركها سهواً ملزم للسجود، وهي ثمان يجمعها قولهم:
سينان شينان كذا جيمانتاءان عد السنن الثمان
(سينان) أي: السر والسورة، (شينان) أي: التشهد الأولان والتشهد الآخر، (كذا جيمان) وهما الجهر والجلوس الأوسط، (تاءان) وهما التكبير والتسميع، ما عدا تكبيرة الإحرام، (عد السنن الثمان) وتسميتها سنناً إنما هو اصطلاح؛ ولذلك يسميها الشافعية والحنابلة واجبات غير أركان، فالشافعية والحنابلة عندهم تقسيم آخر غير هذا فيقولون: أركان الصلاة، أي: الفرائض، وواجبات الصلاة أي: السنن المؤكدات فيها هي ما ذكر، وهذا الخلاف خلاف لفظي فقط؛ لأنه اختلاف في الاصطلاح، وإلا فما يترتب عليه واحد.
قال المصنف رحمه الله:
[الفذ والإمام هذا أكداوالباقي كالمندوب في الحكم بدا
إقامة سجوده على اليدينوطرف الرجلين مثل الركبتين
إنصات مقتد بجهر ثم ردعلى الإمام واليسار وأحد
به وزائد سكون للحضورسترة غير مقتد خاف المرور
جهر السلام كلم التشهدوأن تصلي على محمد]
(والباقي) أي: باقي السنن، وهو السنن غير المؤكدة في الصلاة، (كالمندوب في الحكم بدا) أي: حكمه حكم المندوب، فلا يلزم بعمد تركه بطلان، ولا يلزم بسهوه سجود، ما هي السنن غير المؤكدة؟
(إقامة) معناه: من السنن غير المؤكدة التي لا بطلان بعمد تركها ولا سجود بسهوه.
وقوله: (إقامة) هي لفظ الإقامة قبل الصلاة؛ فهو سنة لكل إنسان، كل مصل ذكراً كان أو أنثى، إماماً كان أو مأموماً أو فذاً، فإذا تركها عمداً لم تبطل صلاته، وإذا تركها سهواً لم يلزمه السجود.
(سجوده على اليدين وطرف الرجلين مثل الركبتين) السجود على الأعضاء السبعة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أسجد على سبعة أعظم )، فالسجود عليها ما عدا الجبهة من السنن غير المؤكدات، فإذا تعمد الإنسان تركها لم تبطل صلاته عند المالكية، وكذلك إذا سها فيها لم يلزمه السجود.
(إنصات مقتد بجهر) أي: سكوت المقتدي، وقد قال الله تعالى: وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ[الأعراف:204]، وقد ذكر القرطبي في تفسيره أن أهل العلم أجمعوا على أن المقصود بذلك في الصلاة، ((وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ)) معناه في الصلاة، أي: قرأه الإمام، (( فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ))، فليس الوجوب عند كل قراءة القرآن، ولو كان قارئ يقرأ في الإذاعة أو قارئ يقرأ لنفسه لا يجب علينا نحن الإنصات له، إنما يجب ذلك في الصلاة، وقد ذكر القرطبي الإجماع على ذلك.
والمقصود هنا عند المالكية أن المأموم لا يقرأ إذا كانت الصلاة جهرية؛ لأن قراءة الإمام قراءة لمن خلفه، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما لي أنازع القرآن؟ )، فنهى عن منازعة الإمام القرآن، ولذلك يندب للمأموم ألا يقرأ، فإذا قرأ الفاتحة فلا بأس، ويكره له أن يقرأ السورة، لكن إذا فعل فلا بطلان بعمده، ولا سجود في سهوه؛ لأن ذلك سنة فقط. ولذلك قال: (إنصات مقتد بجهر) أي: إذا قرأ الإمام بالقراءة.
(ثم رد على الإمام) أي: تسليم المأموم التسليمة الثانية، وكذلك تسليم الإمام التسليمة الثانية، وتسليم الفذ التسليمة الثانية، كل ذلك من السنن غير المؤكدة، فإذا اقتصر على تسليمة واحدة عمداً فلا بطلان، وإذا اقتصر عليها سهواً فلا سجود.
(واليسار وأحد به) كذلك هناك تسليمة أخرى لدى بعض المالكية، وهي التسليمة الثالثة للرد على من باليسار إذا كان الإنسان مصلياً بالصف، فإن من على يساره سيسلم عليه تسليمة التحليل، ينصرف إليه، فيرد عليه هو بتسليمة ثالثة، وهذه التسليمة ليس عليها دليل من المرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم، إنما ثبت عنه تسليمتان فقط، ولم تثبت عنه التسليمة الثالثة، والمالكية يرون أن ذلك داخل في وجوب الرد؛ لأن الله تعالى يقول: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء:86]، ومن عن يسارك إذا سلم عليك فقد حياك، والله أمرك أن ترد فقال: وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا[النساء:86]، فيقولون: ترد عليه، ولكن إذا كان مسبوقاً ولم يسلم فالسلام الذي هو رد تفتتحه به، أي: تواجهه أنت بالسلام قبل أن يسلم هو عليك؛ ولذلك لا يلزمك الرد عندما يسلم هو في الأخير، وقد نظم ذلك جدي رحمة الله عليه فقال:
تحقق السلام منزلة السلامونزلوا تحقق الأركان منزلة الأركان
أول الأبيات يبين أنه ينزل تقدير السلام منزلة السلام؛ فلذلك يرد عليه قبل صدوره، فإذا كان عن يسارك أحد فإنك تسلم عليه عند سلامك أنت، ولو لم يسلم هو بعد، كما إذا كان متشاغلاً بإكمال التشهد أو إكمال الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم بعد التشهد أو كان مسبوقاً؛ فإنك ترد عليه بالسلام.
(وزائد سكون للحضور) كذلك ما زاد على الطمأنينة الواجبة في الأركان بحيث يحضر الإنسان ما يفعل فهو سنة، ولكن لا بطلان بعمد تركه ولا سجود بسهوه.
(سترة غير مقتد خاف المرور) كذلك من سنن الصلاة غير المؤكدة اتخاذ الإنسان للسترة إذا كان إماماً أو فذاً وكان يخاف المرور بين يديه، فإن كان مأموماً لم تلزمه السترة؛ لأن سترة الإمام سترة له، وهذه السترة محلها إذا خاف المرور، فإن كان في بيته وليس بين يديه أحد، أو كان في غرفة مغلقة، أو كان في فضاء من الأرض وليس عنده أحد فلا تندب له السترة، لكن إذا خاف المرور بين يديه فتسن له السترة، وقد جاء التحضيض عليها عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( إذا أراد أحدكم أن يصلي فليجعل بين يديه مثل موخرة الرحل، وليدن منها، فإن أراد أحد أن يمر بين يديه فليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله فإنما هو شيطان )، وهذا الحديث يقتضي القرب من السترة؛ لأنه قال: ( وليدن منها )، وقد اختلف في القدر الذي يكون بين المصلي وبين سترته، ومذهب الجمهور أنه قدر السجود، أي: ثلاثة أذرع بالإبهام، وأصل ذلك أنه قال: (فليقاتله)، والمقاتلة تحصل بالرمي بالسهام، وهذه طويلة جداً، وتحصل بالطعن بالرماح، والرمح طوله اثنا عشر شبراً من الوسط، وتحصل بالمضاربة بالسيوف، والسيف طوله ثلاثة أذرع، وهي ثلاثة أذرع وإصبع، فجعلوا المقاتلة في الأصل للسيف، فجعلوا حريم المصلي، أي: الذي يملكه، هو قدر ثلاثة أذرع، فإذا كان المصلي يصلي فاترك له ثلاثة أذرع، ولك الحق أن تمر فيما وراء ذلك ولو لم يكن له سترة.
وابن العربي رحمه الله قال: (تالله لقد زلت أقدام العلماء في هذه المسألة، ولا يملك المصلي من الحريم إلا موضع سجوده وركوعه)، فالمصلي لا يحجب الناس عن مرورهم وحوائجهم، بل له من الحريم قدر سجوده وركوعه فقط، وما زاد على ذلك يجوز لك المرور فيه، ولكن الاحتياط ألا يفعل الإنسان ما يشوش على المصلي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا ينتظره لكان يقف أربعين خيراً له ).
وعموماً في المسألة أربع صور: صورة يأثم فيها المصلي والمار، وصورة لا يأثم فيها واحد منهما، وصورة يأثم فيها المار فقط، وصورة يأثم فيها المصلي فقط.
الصورة التي يأثمان فيها هي ما إذا كان المصلي متعرضاً، تجده يصلي خلف طريق الناس ولم يتخذ سترة، وكان للمار طريق غير التي بين يدي المصلي يمكن أن يمر منه، فاختار التي بين يدي المصلي؛ فالمار آثم، والمصلي آثم.
والصورة الثانية التي لا يأثم فيها واحد منهما: إذا كان المصلي غير متعرض يصلي عند جدار أو عند سارية، وكان المار لا يجد مندوحة، ما له مكان يمر منه إلا هذا، مثل الزحام في الحرم، فالمار لا يجد مكاناً إلا هذا الذي بين يدي المصلي، والمصلي غير متعرض؛ لأن بين يديه سارية أو جدار، أو صف فلا يأثم واحد منهما.
الصورة الثالثة التي يأثم فيها المار فقط: إذا كان المصلي غير متعرض، أي: مستتر، والمار يجد مندوحة، فمر المار بين يدي المصلي؛ فالمصلي غير آثم؛ لأنه فعل ما عليه والمار آثم؛ لأنه له مندوحة يخرج منها، فاختار التي بين يدي المصلي.
والصورة الرابعة التي يأثم فيها واحد منهما: إذا كان المصلي غير متعرض والمار لا يجد مندوحة.
إذاً الصور أربع: يأثمان معاً إذا كان المصلي متعرضاً والمار يجد مندوحة، ولا يأثمان معاً إذا كان المصلي غير متعرض والمار لا يجد مندوحة، ويأثم المصلي فقط إذا كان متعرضاً والمار لا يجد مندوحة، ويأثم المار فقط إذا كان المصلي غير متعرض والمار يجد مندوحة.
(جهر السلام) أي: من السنن غير المؤكدة أن يجهر بالسلام، أي: تسليمة التحليل، لئلا يوسوس فيظن أنه لم يسلم، وهذا الجهر ليس عليه دليل ولا يقصد به رفع الصوت الكثير، بل المقصود أن يسمع نفسه ذلك حتى يتصل بخروجه من الصلاة فقط.
(كلم التشهد) كذلك ألفاظ التشهد هي سنة؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلمها أصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن كما في حديث ابن مسعود: ( علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التشهد، وكفي بين كفيه، كما يعلمني السورة من القرآن )، فلذلك يسن التشهد بلفظه، وإذا تشهد بغيره فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقط مثلاً، أو أثنى على الله بثناء أياً كان فإن ذلك مجزئ؛ فلا تبطل صلاته بترك لفظ التشهد، ولا يلزمه أيضاً السجود بترك اللفظ إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
والتشهد ورد فيه ألفاظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها سبعة أحاديث صحيحة، و مالك رحمه الله اختار تشهد عمر ؛ لأنه بمثابة المتواتر، فقد كان يعلمه على المنبر بحضرة الصحابة، ولم ينكر عليه أحد منهم، ولكن تشهد عمر لم يصرح فيه عمر بالرفع، ولكنه في قوة المرفوع؛ لأنه من المعلوم أنه لا يقال بالرأي، فهو في قوة المرفوع، وتشهد ابن مسعود وتشهد ابن عباس وتشهد ابن عمر وغيرها من التشهدات الصحيحة التي فيها الرفع وهي أولى لدى غير مالك، و مالك اختار هذا التشهد لأنه بمثابة المتواتر؛ فـعمر كان يعلمه الصحابة على المنبر بحضرة أهل بدر والسابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، فلا ينكر عليه أحد، فكأنهم واطأوه عليه ووافقوه عليه جميعاً، فأصبح بمثابة المتواتر، وفيه زيادة خفيفة؛ فهو: (التحيات لله)، وهنا لاحظ أن كثيراً من الناس فيمدها فيقول: (التاحيات) وهذا خطأ؛ فهي: التحيات، جمع تحية، والتحية في الأصل الحياة، ومن ذلك قول الشاعر:
أبني إن أهلك فإننيقد بنيت لكم بنية
وتركتكم أبناء سادات زنادكم وريه
من كل ما نال الفتىقد نلته إلا التحيه
أي: إلا البقاء والحياة الدائمة.
والتحية هي خطاب الإنسان عند القدوم بما يستحسن، ولكل ملك تحية؛ فقد كان من المعلوم من تحيته (أبيت اللعن) ومنهم من تحيته (عم صباحاً) وهكذا.
والتحيات لله معناه: أنك في رحلة إلى الله سبحانه وتعالى وهي الصلاة؛ فمن المناسب إذا أتيت أن توجه إليه كلامه، وهذا الكلام الذي توجهه إليه لا يمكن أن يكون دعاءً ولا تحيةح لأنه هو مالك ذلك جميعاً؛ فلذلك تقر له بذلك فتقول: التحيات لله، وتشهد عمر فيه: (الزاكيات لله)، والزاكيات هي الأعمال الصالحة النامية التي يضاعفها الله، أي: الأعمال المضاعفة لله، (الطيبات الصلوات لله) أي: الصلوات الطيبات، أو: الطيبات من الأعمال وهي الصلوات لله، هي مملوكة له وهو مستحق لها، (السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته) السلام بمعنى الأمان، (عليك أيها النبي) هذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وليس المقصود توجيه الكلام إليه، بل المقصود إيصال السلام إليه؛ لأن الله أمرنا بالتسليم عليه والصلاة عليه؛ ولذلك يجوز في الصلاة أن تقول للشخص ولو كان غير حاضر: يا فلان، فعل الله بك كذا، إذا كان صديقاً تقول: يا فلان، لطف الله بك، أو: يا فلان رحمك الله، وإذا كان عدواً تقول: يا عدو الله أهلكك الله، مثلاً؛ فيجوز هذا الخطاب؛ لأنه من باب الدعاء ولا يقصد خطاب المخلوق، بل المقصود إيصال الدعاء إلى المخلوق فقط، فالنداء هنا ليس بمعنى طلب الإقبال.
وفي حديث ابن عمر أنهم (كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم يقولون: السلام عليك أيها النبي فلما مات كان ابن عمر يقول: السلام على النبي ورحمة الله وبركاته)، ولكن هذا توقيفي، وهو الذي علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيبقى كما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم تقول: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، (السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين)، تسلم على نفسك وعلى عباد الله الصالحين، (وإذا قالها العبد أصابت كل عبد الله صالح، في السماء أو في الأرض، أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله)، فهذا هو قدر التشهد.
والزيادة التي يذكرها بعض المتأخرين من المالكية كـابن أبي زيد في الرسالة، وهي: (أشهد أن ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور) هذه الزيادة لم ترد في شيء من التشهدات الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك يقتصر على القدر الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد.
وأهل العلم اختلفوا في أصل مورده، فذكر بعض المحدثين أن أصل مورد التشهد هو الخطاب ليلة المعراج؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم خاطب الله جل جلاله بقوله: (التحيات لله) أي: ألهمه الله أن يخاطبه بهذا فقال: ( التحيات لله، والطيبات والصلوات لله؛ فرد الله عليه فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته )، فأراد هو إشراك جبريل معه وقد كان رفيقه في الرحلة، فقال: ( السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين )، ثم حصل بعد ذلك أن جبريل تشهد فقال: أشهد أن لا إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فأصبح ذلك سنة الصلاة، ولم يصح هذا بإسناد يعول عليه، ولكنه بيان للوجه فقط، ولو كان معتمداً على روايات ضعيفة.
وهذا التشهد هو في آخر الرحلة؛ لأن الصلاة كأنها رحلة، وعند نهايتها يأتي القدوم فيأتي التشهد، وكذلك الرجوع منها هو بالسلام على الناس؛ كأنك كنت غائباً عنهم فأتيت، ولذلك عند تكبيرة الإحرام تنبذ الدنيا وراء ظهرك بيديك، وقد قال أحد أجدادي رحمه الله ملغزاً في هذه المسائل:
أساة عضال الجهل سرج ظلامهوعمار رسم الدين من بعدما أقوى
فما السر في كون الإمام مسلماًأخيراً على مأمومه عصبة التقوى
وما السر في كون التحيات آخراًأما العرف تقديم التحية في النجوى
فهلا أتت دون السلام أو أردفتبه فيكون الأمر في الغاية القصوى
إلى أن يقول:
.. وقد خفيت عني فلا بد من شكوى
يشير إلى البيت:
فلا بد من شكوى إلى ذي مروءةيواسيك أو يسليك أو يتوجع
وقد أجابه أحد علماء عصره بقوله:
فإن عماد لله رحلةوعند انتهاء السير تستأنف النجوى
(وأن تصلي على محمد) معناه: ومن السنن غير المؤكدة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد، أي: بعده، فإذا ترك ذلك عمداً فلا بطلان، وإذا تركه سهواً فلا سجود، وعند الحنابلة تجب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد.
قال المصنف رحمه الله:
[سن الأذان لجماعة أتتفرضاً بوقته وغير طلبت]
ومن السنن المنفصلة الأذان، وليس سنة لكل أحد، بل هو واجب على أهل البلد، فإن تركوه قوتلوا عليه، وهو سنة بكل مسجد، وهو مندوب في الأصل لكل إنسان على وجه الكفاية، ومثله إقامة الجماعة عند ابن رشد ؛ ولذلك قال أحدهم:
إيقاع خمس بالندفرد بكل بلد
سن بكل مسجدندب لكل أحد
فيما روى ابن رشد.
فإن الأذان لأهل البلد فرض عليهم، وإذا تركوه قوتلوا عليه؛ لأنه من شعائر الإسلام، وهو سنة بكل مسجد، ولو تقاربت المساجد، فإذا كان مسجدان أحدهما ملاصق للآخر أو فوقه، فإنه لا يغني أذان أحدهما عن أذان الآخر، وقد ذكر ذلك ابن عبد الباقي الزرقاني في شرح الموطـأ، وقد نظمه جدي رحمة الله عليه:
أذان مسجد وإن تلاصقاأو أن تقاربا أو إن كان ارتقا
هذا على هذا فعن أذان الآخرلا يغني حكى الزرقاني
وقوله: (سن الأذان لجماعة) أي: يسن الأذان لجماعة، أما الفذ فلا يسن له بل يندب، ولو كان بخلاء من الأرض؛ فيكون مندوباً له؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنك رجل تحب الغنم والبادية، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذن؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له )، وفي الحديث الآخر: ( إن المصلي إذا أحسن الوضوء ثم أذن وأقام فصلى صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال ).
والأذان في اللغة: الإعلام، والمقصود به في الشرع: الإعلام بدخول الوقت، فالإعلام يسمى أذاناً مطلقاً، ومنه قول الله تعالى: وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ مِنَ المُشْرِكِينَ[التوبة:3].
(لجماعة أتت فرضاً) فالنافلة لا يؤذن لها، (بوقته) فالفرض المقضي لا يؤذن له، ومن يقضي فائتة لا يؤذن لها.
(وغير طلبت) فإذا كانت الجماعة محبوسة لا تطلب الغير، أو كانت بخلاء من الأرض لا تطلب الغير فلا يؤكد عليها سنة الأذان بل يكون مندوباً لها، كما ذكرنا كالفذ.
ثم بعد هذا ذكر أحكام السفر في الصلاة فقال:
[وقصر من سافر أربعة بردظهراً عشاً عصراً إلى حين يعد
مما ورا السكنى إليه إن قدممقيم أربعة أيام يتم]
يقول: من السنة قصر الرباعية في السفر إذا كان الإنسان يقطع مسافة سفر، فيقصر الرباعيات وهي الظهر والعشاء والعصر (إلى حين يعد) هذا من الجزم بلا جازم، معناه: إلى حين يعود.
وهذا القصر هو رخصة عارضة على الراجح وهو مذهب الجمهور.
وقد اختلف أهل العلم فيه، فذهب أبو حنيفة إلى أن القصر في السفر واجب، وأن المسافر إذا أتم بطلت صلاته، واستدل على ذلك بأن الأصل في الصلاة الثنائية؛ لحديث عائشة: ( فرضت الصلاة مثنى مثنى، فأقرت صلاة السفر، وزيد في الحضر )، ولحديث عمر كذلك: ( فرضت الصلاة مثنى مثنى ثم زيدت في الحضر )، فالحديثان يقتضيان أن الأصل هو ركعتان، وأن الركعتين الأخريين زيدتا في الحضر.
ومذهب الجمهور أن القصر سنة وغير واجب؛ وذلك أنهم رأوا أنه هو العارض، وأن الأصل التمام؛ لأن الله رخص فيه فقال: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا[النساء:101]، فقوله: (لا جناح عليكم) تقتضي رفع الحرج؛ فدل ذلك على أن الأصل الإتمام، وأنه يجوز للإنسان القصر، وهو سنة في حق المسافر، و أبو حنيفة يجيب عن الآية فيقول: القصر في الآية كيفي لا كمي، (كيفي) أي: في كيفية الأداء وتقصير القراءة، لا كمي، أما الكمي وهو الراجع إلى عدد الركعات فهو الأصل، هذا رأي أبي حنيفة، والجمهور لا يرون ذلك ويرون أن حديث عمر و عائشة يحملان على ما كان مشروعاً قبل ليلة المعراج؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث قبل نزول الوحي عليه كما في حديث عائشة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد ليالي ذوات العدد )، وهذا الحديث أحدثكموه بالإسناد؛ فأهل الحديث يقولون: (كفى بالرجل شرفاً أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم) فقد حدثني جدي محمد علي بن عبد الودود عن يحظيه بن عبد الودود عن محمد بن محمد سالم عن حامد بن عمر عن الفقيه الخطاط عن القاضي ابن علي السباعي عن شيخ الشيوخ الحسني عن علي الأجهوري عن البرهان العلقمي عن جلال الدين السيوطي عن زكريا الأنصاري عن الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني عن إبراهيم التنوخي، عن أحمد بن أبي طالب الحجار عن أبي الوقت عبد الأول بن عيسى السجزي، عن الحسين بن المبارك عن عبد الرحمن بن محمد الداودي، عن عبد الله بن أحمد السرخسي، عن محمد بن يوسف بن مطر الفربري عن محمد بن إسماعيل بن إبراهيم البخاري قال في الصحيح: حدثنا يحيى بن بكير قال: أخبرنا الليث عن عقيل عن ابن شهاب عن عروة بن الزبير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: ( أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم؛ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء فكان يخلو في غار حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد، فيتزود لذلك ثم يرجع إلى أهله فيتزود لمثلها، حتى جاءه الملك وهو في غار حراء.. )، إلى آخر الحديث بطوله.
فهذا الحديث فيه أنه كان يتحنث - أي: يتعبد - قبل نزول الوحي، وجاء في حديث آخر: ( أنه كان يصلي ركعتين في الغداة وركعتين بالعشي )، وتحنثه قبل الوحي اختلف فيه، فقيل: كان بملة إبراهيم، وقيل: كان بملة عيسى لأنه أقرب الأنبياء إليه، وقيل: كان بملة موسى؛ لأنها التي كانت مشهورة إذ ذاك عندهم، فاليهود هم كانوا أعلم أهل الكتاب بجزيرة العرب، وقيل: بكل ما بلغه عن الأنبياء السابقين، وقيل: بل برسالة نوح؛ لأنها أقدم الرسالات إلى أهل الأرض، وهذه الأقوال نظمها جدي رحمة الله عليه فقال:
تعبد النبي قبل الوحي هلبملة الخليل أو نوح أجل
أو ابن مريم أو الكليمأو كل ما صح عن الرحيم
(وأربعة برد) البرد جمع بريد، والبريد هو ثلاثة فراسخ، والفرسخ هو ثلاثة أميال، فجميع ذلك ثمانية وأربعون، والفقهاء يقيسون المسافات قديماً بهذا القياس، فيجعلون البريد أقواها، وهو ما تستعمل فيه الخيل التي تحمل الرسائل، فلها غلوة تقطع فيها ثلاثة فراسخ، وكل فرسخ اثنا عشر ميلاً، والميل ألفا ذراع وشهر، وقيل: ثلاثة آلاف وخمسمائة، وقيل: خمسة آلاف ذراع، والقول المشهور أنه ألفا ذراع، أي: يكون مساوياً للكيلو، والقول الذي يليه وهو المصحح أنه ألفان وخمسمائة، فيكون مساوياً للميل الإنجليزي، والقول الآخر أنه خمسة آلاف ذراع، وهذا هو الميل البحري؛ فهذا الميل، والميل كما ذكرنا في المشهور ألفا ذراع، والذراع شبران من الوسط، والشبر اثنا عشر إصبعاً من الوسط، والإصبع ست شعيرات، أي: حبات من الشعير، من وسط الشعير، والشعيرة الواحدة اثنتا عشرة شعرة من شعر البرذون، وهذا قياس للمسافات حتى بالشعرة.
وهذا التحديد لم يرد فيه نص صريح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما قال الله تعالى: وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ[النساء:101]، والضرب في الأرض هو السفر، فالأصل أن كل مسافر له الحق أن يقصر في صلاته.
والسفر ما تعريفه؟
السفر هو ما يحوج إلى الزاد والراحلة، فما يستطيع الإنسان قطعه على رجليه دون زاد ولا راحلة لا يسمى سفراً، وما يحوج الإنسان المتوسط إلى الزاد والراحلة، ولا عبرة بالشيخ الفاني الضعيف ولا بالطفل الصغير، العبرة بمتوسط العمر، المتوسط في القوة، ونحن نعلم أن بعض الناس أقوياء جداً، فالسواح يقطعون القارات على أرجلهم، ولا عبرة بذلك، وبعض الناس ضعاف جداً، لا يستطيع أن يقطع ثلاثة كيلو أو أربعة إلا أعيا وتعب، فلا عبرة بذلك؛ فالعبرة بأواسط الناس؛ فالمسافة التي يحتاج الإنسان في قطعها إلى زاد وراحلة هي التي تسمى سفراً.
وعند المالكية أقل ذلك ثمانية وأربعون ميلاً، وإذا قصر في أقل منها إلى أربعين فلا حرج، أما ما دون الأربعين إلى خمسة وثلاثين ففيه خلاف في القصر، وإذا قصر فيه هل تبطل صلاته أم لا؟ وما دون خمسة وثلاثين لا يحل القصر فيه، فما دون خمسة وثلاثين ميلاً شيء يسير لا يحوج إلى الزاد والراحلة؛ فمن قصر فيه بطلت صلاته، وما فوق الأربعين لا حرج بقصره؛ لأنه مسافة معتبرة، وما بين الأربعين وخمسة وثلاثين فيه خلاف، وقد نظم ذلك علي الأجهوري فقال:
من قصر الصلاة في أميالبعد له تبطل بلا إشكال
(له) اللام ثلاثون والهاء خمسة، أي: خمسة وثلاثون.
وقصرها من بعد ميل لا ضرروالخلف فيما بين هذين اشتهر
(ميل) أربعون.
(الخلف فيما بين هذين) أي: خمسة وثلاثين وأربعين اشتهر.
قول المصنف: (إلى حين يعد) أي: إلى حين رجوعه، والمقصود بذلك أن القصر يستمر في سفره إلى أن يدخل قريته؛ ( فقد قصر علي بن أبي طالب وقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم فعله )، أي: قصر وهو يرى البيوت في رجوعه.
وابتداء القصر هو إذا خرج من البنيان، فجعل البنيان جميعاً وراء ظهره، فما دام شيء من البنيان عن يمينه وعن شماله فإنه لا يقصر، إلا البساتين التي لا يسكنها لا أحد، وإنما يأتيها المزارعون في النهار، فالبساتين المحيطة بالمدن أو القرى فلا تعتبر.
وهنا إشكال جديد وهو تمدد المدن؛ فالمدن قد تتمدد، مثلاً البنيان الآن متصل في مدينة الخرطوم بمثلثها، الخرطوم والخرطوم البحري وأم درمان فهل كلها مدينة واحدة؟ فإذا كان الإنسان من أهل بحري مثلاً وسافر، فمر بالخرطوم أو بأم درمان هل يحل له القصر هنالك أو لا بد أن يتجاوز البنيان جميعاً؟ ومن المدن ما يتمدد تمدداً فاحشاً كطوكيو؛ ففيها شارع واحد طوله أكثر من مائة وعشرين كيلو في داخل المدينة، فيعتبر السفر بين طرف من أطراف المدينة إلى طرف آخر مسافة أكثر من مسافة القصر؛ فهذا التمدد فيه خلاف في الاعتبار، وفي الاجتهاد، وهو قابل لذلك، فالذي يبدو أن المدن إذا كان لها اسم وإدارة مستقلة فإنها تعتبر منفصلة ولو تماست البيوت، وإذا كان في فصل إداري وكان هناك فصل في الاسم؛ ولذلك فالصحابة مجمعون على أن جدة من مكة مسافة قصر، كانوا يقصرون بين جدة ومكة وبين عسفان ومكة، واليوم تمدد البنيان فمكة تمددت وجدة تمددت، ولم يبق القدر الفاصل بين مكة وجدة واصلاً إلى قدر مسافة قصر، ومع ذلك لم يزل القصر قائماً لأنه إجماع بين الصحابة.
ولذلك قال: (مما وراء السكنى) أي: إنما يبتدئ القصر مما وراء السكنى، أي: البيوت المسكونة.
(إليه إن قدم) معناه: إذا قدم فإن قصره ينتهي إليه، أي: إلى السكنى، أي: إلى البيوت المسكونة، ولا يقصد سكناه هو، بل المقصود سكنى أهل محلته.
(مقيم أربعة أيام يتم) من نوى إقامة أربعة أيام صحاح فإنه قد انقطع سفره؛ لما أخرج مالك في الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال: (إذا نويت إقامة أربعة أيام صحاح فقد انحل سفرك)، ودليل ذلك من السنة ما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يقيمن مهاجر بعد قضاء نسكه بمكة أكثر من ثلاث )، وفي رواية: ( يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثاً )، والمهاجرون قد باعوا مكة لله تعالى فلا يحل لهم أن يقيموا فيها، والنبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بإقامة ثلاثة أيام فيها؛ فدل هذا على أن ثلاثة أيام لا تقطع حكم السفر، ونهاهم عن أن يقيموا أكثر منها، فدل ذلك على أن ما كان أكثر من ثلاثة أيام يقطع حكم السفر؛ لأنه قال: ( لا يقيمن مهاجر بعد قضاء نسكه بمكة أكثر من ثلاث )، وقال: ( يقيم المهاجر بعد قضاء نسكه بمكة ثلاثاً )، أي: أذن له بالإقامة ثلاثاً، وهذا هو الراجح من أقوال أهل العلم، وهو مذهب الجمهور أنه إذا نوى إقامة أربعة أيام صحاح فقد انحل سفره، ومعنى (الصحاح) أنه لا يحسب يوم الدخول ويوم الخروج؛ فاليوم الذي جئت فيه لا تعده؛ لأنه قد فات بعضه، واليوم الذي ستخرج فيه لا تعده لأنه أيضاً غير كامل.
نقف عند هذا الحد، وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , متن ابن عاشر [11] للشيخ : محمد الحسن الددو الشنقيطي
https://audio.islamweb.net