إسلام ويب

الصبر الجميل هو ترفع على الألم، الذي يضرب أعماق المؤمن، واستعلاء على الفتن، التي تعصف بالقلوب، وتزلزل الأفئدة، وثبات على محن الدعوة، وثقة كاملة في وعد الله جل وعلا، بالنصر الذي يأتي كسنة ثابتة من سنن الله، تلك عقبى الذين اتقوا، وعقبى الكافرين النار.

الصبر زاد الدعاة

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي لم يتخذ ولداً، ولم يكن له شريك في الملك، وما كان معه من إله، الذي لا إله إلا هو، فلا خالق غيره ولا رب سواه، المستحق لجميع أنواع العبادة؛ ولذا قضى ألا نعبد إلا إياه ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [الحج:62].وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الواحد الذي لا ضد له، وهو الصمد الذي لا منازع له، وهو الغني الذي لا حاجة له، وهو القوي الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو جبار السماوات والأرض فلا راد لحكمه ولا معقب لقضائه وأمره. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في سبيل الله حتى أجاب مناديه، وعاش طوال أيامه ولياليه يمشي على شوك الأسى، ويخطو على جمر الكيد، يوضح الطريق لهداية الضالين وإرشاد الحائرين، حتى علَّم الجاهل، وقوم المعوج، وأمَّن الخائف، وطمأن القلق، ونشر أضواء الحق والخير والتوحيد والإيمان، كما تنشر الشمس ضياءها في رابعة النهار، فاللهم اجزه عنا خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته ورسالته، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد:

أنواع الفتن

فمع اللقاء الحادي عشر من خواطر الدعوة إلى الله عز وجل، ولا زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الزاد الذي لابد لكل داعية يسلك طريق الدعوة الطويل من تحصيله والتزود به، ولا زال حديثنا بفضل الله جل وعلا عن الصبر، وزاد اليوم: صبر جميل صبر جميل. أحبتي في الله! ليس الإيمان كلمة تقال باللسان فحسب، ولكن الإيمان حقيقة ذات تكاليف، وأمانة ذات أعباء، وجهاد مرير يحتاج إلى صبر جميل، ولا يكفي أن يقول الناس: آمنا حتى يتعرضوا للفتن، ويثبتوا عليها، ويخرجوا منها خالصة عناصرهم صافية قلوبهم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، فالفتنة أصل ثابت وسنة جارية في ميزان الله جل وعلا وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، فكما تفتن النار الذهب لتخلص بينه وبين العناصر الشائبة والرخيصة العالقة به، كذلك تفعل الفتن في النفوس البشرية، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، لماذا؟ لأن هناك نموذجاً من الناس يعلن كلمة الإيمان في وقت الرخاء، يحسبها هينة الحمل، خفيفة المئونة، فإذا ما تعرض لفتنة من الفتن حتى ولو كانت هذه الفتنة هينة لينة استقبلها بهلع وجزع وفزع، واختلت في نفسه القيم، وطاشت بين يديه الموازين، وتزلزلت في قلبه العقيدة، كما قال ربنا جل وعلا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ [العنكبوت:10]، إنه نموذج متكرر من البشر في كل حين وفي كل جيل، إنه نموذج يزن العقيدة والدعوة بميزان الربح والخسارة، يظن العقيدة والدعوة صفقة يتاجر بها في أسواق التجارة وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]، هذا الصنف أيها الأخيار الكرام لا يصلح أن يكون صاحب دعوة، ولا حامل رسالة، ولا أميناً على منهج؛ لذا لو كان طريق الدعوة إلى الله جل وعلا هيناً ليناً مفروشاً بالزهور والورود والرياحين لسهل على كل إنسان أن يكون صاحب دعوة، وأن يكون حامل رسالة، وأن يكون مؤتمناً على منهج، وما اختلطت حينئذ دعوات الحق بدعوات الباطل الزائفة الكاذبة؛ لذا فلابد على طول طريق الدعوة إلى الله عز وجل من الفتن التي تعصف بالقلوب، وتزلزل الأفئدة، لماذا؟ليغربل الله ويمحص القائمين عليها ويفرز الزائفين عنها، ولتبرز دعوات الحق من بين دعاوى الباطل الكاذبة الزائفة: فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، فمن ثبت بعد هذه الفتن المزلزلة على طريق الدعوة الطويل فهو بحق وجدارة صاحب الأهلية لحمل راية الدعوة إلى الله عز وجل؛ ليسير بها بين الأشواك والصخور. إنها فتن قاسية، إنها فتن مزلزلة، فهناك فتنة الظلم والبطش والطغيان من أهل الباطل والجبروت التي تصب صباً على رأس الداعية إلى الله جل وعلا، إن سلك طريق نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد تُصب على رأسه الفتن صباً، ويُصب عليه البلاء والاضطهاد صباً، وتزداد الفتنة حين لا يرى من يسانده ومن يقف إلى جواره من البشر، وتزداد الفتنة إذا لم يجد من القوة والمنعة والحماية ما يدفع به عن نفسه الأذى والبطش والظلم والجبروت والطغيان. وهناك فتنة الأهل والأولاد الصغار الذين يخشى عليهم الداعية أن يصيبهم الأذى والفتنة بسببه، وقد يهتفون به، وينادون عليه، ويصرخون في وجهه باسم الحب .. باسم القرابة .. باسم الرحم أن يسالم أو يستسلم للبطش والظلم والطغيان، وقد تزداد الفتنة أذىً وبلاءً على رأس الداعية المؤمن إذا وقع الأذى على أهله وأولاده أمام عينيه وبين يديه، وهو لا يملك لهم شيئاً، ولا يستطيع أن يرد عنهم من الأذى شيئاً.وهناك فتنة إقبال الدنيا على الظالمين، على المبطلين، على المهرجين، على الساقطين والراقصين، فتنة إقبال الدنيا عليهم، ورؤية الناس لهم مرموقين ناجحين: تهتف لهم الدنيا، وتصفق لهم الجماهير المخدوعة، وتصاغ لهم الأمجاد، وتحطم في طرقهم العوائق، وتذلل لهم الصعاب، وتيسر لهم الأسباب، وتفتح لهم الأبواب؛ والداعية المؤمن والمؤمن التقي النقي مهمل منكر، لا يحس به أحد، ولا يكرم من أحد، ولا يحتفي به أحد، بل ولا يحس بقيمة الحق الذي معه إلا القليلون من أمثاله الذين لا يملكون من أمر الحياة شيئاً.وهناك فتنة الشهوات والشبهات التي تعصف بقلوب كثير من الناس، وتحيد بهم عن طريق الحق وعن الصراط المستقيم، وقد يحس الداعية أحياناً بشيء من اليأس والملل والفتور والقنوط، ويظن أن هذه القلوب لا يمكن أبداً أن تأتي وأن تسجد لعلام الغيوب جل وعلا.وهناك فتنة أخرى خطيرة، نراها بارزة في هذه الأيام، تعصف بقلوب كثير من المسلمين، بل وتعصف بقلوب بعض الدعاة أحياناً ألا وهي أننا نرى أمماً ودولاً غارقة في الكفر والشرك، ومع ذلك نراها تقدر الإنسان كإنسان، نراها تقدر عقله وتحترم فكره وتنمي مواهبه وتزكي قدراته، بل وتفتح ذراعيها لكل المبدعين والموهوبين في شتى المجالات، حتى ولو كانوا من غير بني جنسها؛ في الوقت الذي يرى المؤمن نفسه في كثير من بلدان المسلمين مهضوماً، يحتقر فكره، ويزدرى عقله، ويمتهن رأيه، ويشار إليه بأصابع الإرهاب وأصابع التطرف والأصولية، ويسجن عقله، بل ويسجن بدنه.إنها فتن قاسية .. فتن خطيرة، ويزداد الهم والغم والبلاء على كل سالك لهذا الطريق إذا طال أمد الفتنة، وأبطأ نصر الله جل وعلا، حينئذ تكون الفتنة أشد، ويكون الابتلاء أقسى وأعنف، ولا يثبت على طريق الدعوة إلى الله إلا من ثبته الله جل وعلا، وأمده الله بخير زاد، وأمده الله بأقوى ضياء وأعظم زاد للبلاء، ألا وهو الصبر الجميل، لابد تجاه كل هذه الفتن من الصبر الجميل، فما هو الصبر الجميل؟ هل الصبر الجميل هو الذي تصاحبه الشكوى؟! هل الصبر الجميل هو الذي يصاحبه الأنين والألم؟! هل الصبر الجميل هو الذي تصاحبه الشهوة الخفية -وإن لم تترجم على اللسان- ويقول حينها الداعية: هأنذا يا ربي قد دعوت فلم يستجب لي؟!كلا، إنما الصبر الجميل هو ترفع على الألم، واستعلاء على الفتن، وثبات على محن الدعوة، وثقة كاملة في وعد الله جل وعلا، واطمئنان مطلق في حكمة الله ورحمة الله وقدرة الله ووعد الله عز وجل.

تعريف الصبر وأقسامه

حد الصبر الإمام ابن القيم حداً جامعاً في كتابه القيم (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين) فقال: الصبر: هو حبس النفس عن الجزع، وحبس اللسان عن التشكي، وحسب الجوارح عن المعاصي. وقسمه إلى ثلاثة أقسام، وهي:صبر على الطاعة أو صبر على المأمور، وصبر عن المعصية أو صبر عن المحظور، وصبر على البلاء والمصائب أو صبر على المقدور، صبر على الطاعة وصبر عن المعصية وصبر على المصائب والفتن والبلايا، ولابد لكل داعية إلى الله جل وعلا يسلك طريق الدعوة الشاق الطويل من التزود بأنواع الصبر الثلاثة، لابد أن يتزود بالصبر على طاعة الله، ولابد أن يتزود بالصبر عن معصية الله، ولابد أن يتزود بالصبر على جميع الفتن والبلايا والمصائب التي ستكال على رأسه كيلاً؛ لمجرد أنه سلك طريق لا إله إلا الله: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ [المطففين:29-30]، إرهابيون أصوليون متطرفون متعنتون متشددون سطحيون ساذجون: وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ [المطففين:30-32]، لا إله إلا الله! هذا وعد الله جل وعلا وشهادة الله سبحانه.

كثرة الأمر بالصبر في القرآن

أيها الأحباب! لابد من التزود بزاد الصبر الجميل على طول الطريق؛ لوعورته ومشقته، ومن ثم يأتي الأمر من الله جل وعلا لمن نذر نفسه، وتجردت روحه لهذه الدعوة، وانطلق يوم أن قال الله له: قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2]، فقام وأنذر ولم يجلس طرفة عين حتى أتاه اليقين، دعا إلى الله جل وعلا بثبات وقوة وثقة واطمئنان وصدق وإخلاص، يأتيه الأمر من الله جل وعلا بعد كل هذا أن يتزود بالزاد الذي تزود به من قبل إخوانه من الأنبياء والمرسلين، فيقول ربنا جل وعلا: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، ويقول له جل وعلا: وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا [المزمل:10]، ويقول له جل وعلا: وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا [الطور:48]، فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ [القلم:48]، ويقول له جل وعلا: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ [النحل:127]، ويأتي الأمر للأمة من بعده صلى الله عليه وسلم للتزود بهذا الزاد العظيم الجليل الكريم فيقول سبحانه: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران:200]، ويقول جل وعلا: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45]، بل ويبشر الله الصابرين بثلاث بشارات هي والله خير من الدنيا وما فيها، فيقول سبحانه: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [البقرة:155]، هذا هو الطريق يوضح لنا من البداية: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ [البقرة:155]، من هم الصابرون؟ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156]، (إنا لله): كلنا لله، بعقولنا وأموالنا وأولادنا وجوارحنا، قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ [البقرة:156-157]، الله أكبر! ويبالغ الله في إكرام وتكريم الصابرين حتى في الجنة؛ بإدخال الملائكة عليهم لمصافحتهم والسلام عليهم وتهنئتهم بكرامة الله لهم، فيقول سبحانه: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد:23-24] بماذا؟ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [الرعد:24]، ولم لا والذي يعلم جزاء الصابرين إنما هو رب العالمين! إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ [الزمر:10]، وتتجلى صورة التكريم للصابرين بمعية الله جل وعلا لهم فيقول سبحانه: إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة:153]، وبالجملة ذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى أن الله جل وعلا ذكر الصبر في تسعين موضعاً في القرآن الكريم، وهذا إن دل فإنما يدل على عظيم شرفه وكبير مكانته عند الله جل وعلا.

أحاديث في الصبر

روى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر)، الصبر أعظم عطاء؛ لذا قال: (والصبر ضياء) في الحديث الذي رواه مسلم من حديث الحارث الأشعري الطويل، (والصبر ضياء) أعظم ضياء وأعظم زاد للبلاء هو الصبر، وفي الحديث الذي رواه الترمذي بسند حسن أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عظم البلاء مع عظم الجزاء، وإن الله تعالى إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط).وهذا هو الصحابي الجليل الذي تعرض للفتن والأذى، حتى كاد -يوم أن عصفت الفتنة بقلبه- أن يفقد الصبر، إنه خباب بن الأرت رضي الله عنه، يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اشتد الأذى وزادت الفتن على رءوسهم في مكة في أول أمر الدعوة، فيأتي خباب بن الأرت إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليشتكي إليه الحال، وليرفع إليه الشكوى، فيقول خباب -والحديث رواه البخاري - : (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تدعو الله لنا؟ ألا تستنصر الله لنا؟ فقعد النبي عليه الصلاة والسلام وقد احمر وجهه، وقال: والله لقد كان يؤتى بالرجل من قبلكم فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع في مفرق رأسه فيشق نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه ولحمه، فما يصده ذلك عن دينه، والذي نفس محمد بيده! ليتمن الله هذا الأمر-أي: هذا الدين- حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).لقد أوذي أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أشد الأذى فهذا بلال يؤخذ تحت حرارة الشمس المحرقة في أرض الجزيرة في مكة، على تلك الرمال المتأججة الملتهبة، فيرمى على ظهره، وتوضع الحجارة القوية الكبيرة على صدره، لماذا؟ لأنه قال: لا إله إلا الله، إنها الجريمة القديمة الحديثة .. إنها شنشنة أهل الباطل القديمة الحديثة؛ لأنه قال: ربي الله، ولكن بلالاً الذي تمكن الإيمان من قلبه جعله يستعذب العذاب في سبيل الله جل وعلا، وما برح بلال وما زال بلال على هذه الأنشودة العذبة الحلوة التي ما زالت ترن في أذن الزمان بعد هذه القرون الطويلة، وهو يرددها في وجه الباطل بقوة وثقة واطمئنان: أحد أحد، يعلن وحدانيته لله، ويعلن إيمانه بالله جل وعلا، ولو مزقوا جسده تمزيقاً وقطعوه إرباً إرباً، فليأخذوا الجسد وليمزقوه فالروح متعلقة بالله جل وعلا، واللسان لا يفتأ يذكر الله جل جلاله تحت سياط هذا العذاب، هذه والفتن. وتعلمون ماذا فعل بآل ياسر بـسمية، وبـصهيب وبغيرهم حتى قالوا: (ألا تستنصر الله لنا؟) ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يطمئنهم بأن الحق وإن طال البلاء ظاهر ظاهر.وهذا ابن مسعود رضي الله عنه -والحديث في البخاري ومسلم - يقول: (والله لكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم طرده قومه فأدموه، ونزف الدم على وجهه، وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون)، لقد فتن النبي صلى الله عليه وسلم وأوذي، لقد ابتلي النبي عليه الصلاة والسلام ووضع التراب على رأسه، ونزف الدم الشريف من جسده الطاهر ولكنه صبر؛ لأن الله أمره بالصبر: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [الأحقاف:35]، فاستجاب لأمر الله، وصبر لوعد الله جل وعلا، إنه البلاء، إنها الفتن -أيها الأحباب- ولابد من الصبر، لابد من الصبر على كل هذه الفتن، وعلى كل هذه الابتلاءات، ورحم الله من قال: يا صاحب الهم إن الهم منفرج أبشر بخير فإن الفارج الله وإذا بليت فثق بالله وارض به إن الذي يكشف البلوى هو الله الله يحدث بعد العسر ميسرة لا تجزعن فإن الصانع الله والله مالك غير الله من أحد فحسبك الله في كل لك الله أسال الله جل وعلا أن يرزقنا وإياكم صبراً جميلاً، وأن يجمل طريق دعوتنا وإياكم بالصبر، إنه ولي ذلك ومولاه، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.

النصر مع الصبر

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأحبابه وأتباعه، وعلى كل من اهتدى بهديه، واستن بسنته، واقتفى أثره إلى يوم الدين، أما بعد: أيها الأحبة! وإن كان الله جل وعلا قد جعل الابتلاء والفتن لأهل الإيمان سنة ثابتة سارية فاطمئنوا، واعلموا يقيناً أن النصر في نهاية الطريق سنة ثابتة سارية، وأن أخذ الله جل وعلا للظالمين والمجرمين سنة ثابتة سارية، قال الله: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا [الأنعام:34]، لابد من النصر في نهاية الطريق، في الوقت الذي يشاء ربنا، إن الله لا يعجل لعجلة أحد، إن الله لا يعجل لعجلة أهل الابتلاء من الدعاة والصادقين، كلا، بل يأتي النصر في الوقت الذي يشاء ربنا، وبالقدر الذي يشاء ربنا جل وعلا، فعلينا أن نتأدب مع الله، وأن نصبر على بلاء الله، وعلى الفتن وعلى العقوبات والأذى، ونمضي ونحن نضع رءوسنا في الأرض انكساراً وذلاً لله جل وعلا، ولندع نتيجة الأمر ونهايته لمن بيده الأمر كله: قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ [آل عمران:154]، أما أن نتململ ونقول: لقد دعونا فلم يستجب لنا! أو أن نقول: نحن ندعو إلى الله فلماذا نؤذى؟! فهذا من سوء الأدب مع الله جل وعلا، وإنما ينبغي أن ننطلق وأن ندع النتائج إلى الله جل جلاله: وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ [التوبة:105]. كن -أخي الحبيب- على يقين مطلق بكلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم لك أن الله جل وعلا في النهاية لابد وحتماً أن يأخذ المجرمين والظالمين، أين فرعون؟! أين فرعون الذي قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]؟! أين فرعون الذي قال: أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي [الزخرف:51] فأجراها الله من فوقه! أين هو؟ أين قارون الذي قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78]، فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81]!! أين النمرود بن كنعان الذي قال للخليل: أنا أحيي وأميت؟! أين هو؟! قتله الله وأهلكه بذبابة! أين عاد؟! أين ثمود أين الظالمون وأين التابعون لهم في الغيبل أين فرعون وهامانأين من دوخوا الدنيا بسطوتهم وذكرهم في الورى ظلماً وطغيانهل أبقى الموت ذا عز لعزته أو هل نجا منه ذو السلطان إنسانلا والذي خلق الأكوان من عدم الكل يفنى فلا إنس ولا جانأَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:6-14] .. قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ [البروج:4-11] استمع أيها الحبيب! إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ [البروج:12-19] لا يصدقون ولا يؤمنون بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ * وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ * بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:19-22].أين الظالمون في كل زمان؟! أين الظالمون في كل مكان؟! وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].أما أنت أيها الداعية المظلوم! أما أنت أيها المؤمن المظلوم! يا من ابتليت في مالك!.. يا من ابتليت في عرضك!.. يا من ابتليت في شرفك! .. يا من ابتليت في زوجتك وأولادك! .. لا تجزع ولا تفزع ولا تحزن واصبر، فوالله إن وعد الله حق.أيها المظلوم صبراً لا تهن إن عين الله يقظى لا تنامنم قرير العين واهنأ خاطراًفعدل الله دائم بين الأناموإن أمهل الله يوماً ظالماً فإن أخذه شديد ذو انتقامأسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقني وإياكم صبراً جميلاً، وأن يثبتني وإياكم على البلاء والفتن التي تصب على رءوسنا في هذه الأيام صباً، إنه ولي ذلك ومولاه، وهو على كل شيء قدير.أحبتي في الله! بهذا نكون قد أنهينا بفضل الله جل وعلا الزاد الذي لابد من تحصيله للدعاة على طريق الدعوة الشاق الطويل، ورأيت بفضل الله سبحانه وتوفيقه أن أوضح لكم وأن ألخص ما ذكرناه في اللقاءات العشرة الماضية، بصورة عملية متجسدة متحركة حية للدعوة إلى الله عز وجل، وأظنكم جميعاً ستتفقون معي على أن هذه الصورة الكاملة المشرقة التي لابد أن نتأسى بها وأن نقتدي بها هي دعوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لذا فلقاؤنا -إن قدر الله لنا البقاء واللقاء في المجلس المقبل سيكون بعنوان مع أعظم داعية عرفته الدنيا؛ لتبقى لنا جمعة واحدة في سلسلة خواطر الدعوة، وبعد ذلك سوف تكون الخطبة بعنوان: بشرى وأمل. اسأل الله جل وعلا أن يبشر قلوبنا وقلوبكم بنصرة دينه، اللهم أقر أعيننا بنصرة الإسلام، اللهم أقر أعيننا بعز المسلمين، اللهم أقر أعيننا بعز المسلمين، اللهم أعل بفضلك كلمة الحق والدين، اللهم أذل الشرك والمشركين والكفرة والملحدين برحمتك يا رب العالمين! اللهم ارزقنا الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد برحمتك يا رب العالمين! اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.اللهم لا تدع لأحد منا ذنباً إلا غفرته، ولا مريضاً إلا شفيته، ولا ديناً إلا أديته، ولا هماً إلا فرجته، ولا ميتاً إلا رحمته، ولا عاصياً إلا هديته، ولا طائعاً إلا ثبته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاح إلا قضيتها ويسرتها يا رب العالمين!أحبتي في الله! أكثروا من الصلاة والسلام على نبينا وحبيبنا محمد، كما أمركم الله جل وعلا بذلك في قوله: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وزد وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، هذا وما كان من توفيق فمن الله، وما كان من خطأ أو سهو أو زلل أو نسيان فمني ومن الشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أذكركم به وأنساه.


 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , فصبر جميل للشيخ : محمد حسان

https://audio.islamweb.net