إسلام ويب

هتاف المجد: صرخات صادقة انطلقت من قلوب مؤمنة، فاهتزت لها الأفئدة، وخشعت الأصوات، ورقت القلوب، ودمعت العيون.

صرخات في مواقف البطولة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..

أنا في مكة حيث أذن الخليل, وهبط الوحي, وصلَّى الأنبياء, وبُعث محمدٌ عليه الصلاة والسلام.

أنا في مكة حيث الكعبة والمقام وزمزم، حيث الطهر والإيمان، حيث المجد والتاريخ، حيث الذكريات والمثل.

لم تزالي على مرِّ الليالي>>>>>موئل الحق يا عروس الرمال

في خدرك الوضيء التفاتات>>>>>ذهول وهينمات ارتحال

فاستفاقت على أذان جديـد>>>>>ملء آذانها أذان بلال

نعم (هتاف المجد) عنوان المحاضرة، وعناصرها:

أولاً: صرخاته عليه الصلاة والسلام في مواقف البطولة.

ثانياً: مواصلةٌ وإصرار.

ثالثاً: لغة الأرقام.

رابعاً: الوحي يهتف بالمؤمنين.

خامساً: في سكرات الموت.

وأختمها بدعاء علَّ الله أن يرحمنا.

صرخات النبي عليه الصلاة والسلام في حنين

اجتمع صلى الله عليه وسلم بالناس في حنين ، وهو يجاهد في سبيل الله، بل هو أعظم المجاهدين عليه الصلاة والسلام، بل هو أعظم من ابتلي في سبيل الله، واضطهد وشرد، وأوذي وما أوذي العالم إلا ذرة من ذرات أذاه عليه الصلاة والسلام.

فلما انتصر عليه الصلاة والسلام في حنين وقف يوزع الغنائم لمن أراد الدنيا، نظر وإذا الجبال ممتلئة بالجمال وبالغنم وبالبقر، فيأتي صناديد قريش فيعطي الواحد مائة ناقة، والواحده ألف شاة، والواحد مائة بقرة، ويترك الأنصار المجاهدين الصادقين لما جعل الله في قلوبهم من إيمان، ويقول: (إني لأعطي أناساً وأدع أناساً لما جعل الله في قلوبهم من الإيمان) وفي لفظ مسلم : ( إني لأعطي أناساً لما في قلوبهم من الجشع والطمع، وأدع أناساً لما جعل الله في قلوبهم من الحب والإيمان منهم عمرو بن تغلب ، قال عمرو بن تغلب الصحابي: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها ).

أعطى صلى الله عليه وسلم الغنائم ووزَّع, ولكن قام أحد الناس عند أعدل الناس، من أعدل الناس ومن أعدل الخليقة إلا محمداً عليه الصلاة والسلام؟!

وإذا حكمت فلا ارتياب كأنما>>>>>جاء الخصوم من السماء قضاء

إن لم يكن محمد صلى الله عليه وسلم هو العدالة، وهو العدل فيا موت! زر، ويا دهر! انته، ويا قيامة! قومي.

وزع الغنائم ولكن بعض الناس لمرضٍ في قلبه وخسة ونجاسة ونذالة قام ليواجه أشرف الناس وأعدل الناس في وجهه، قال: ( يا محمد! -اسمع الأعرابي الجلف الشقي- اعدل، إن هذه قسمة ما أريد بها وجه الله، فتمعَّر وجهه صلى الله عليه وسلم ) الآن يصرخ، الآن يلقي هتاف المجد، فيقول: (خِبتَ وخسرت، من يعدل إذا لم أعدل؟!) من في العالم يدعي أنه العادل إذا لم يعدل محمد صلى الله عليه وسلم؟! قال: ( خِبتَ وخسرت ) وضبطت عند مسلم أيضاً: (خِبتُ وخسرتُ) يعني: إن لم أعدل وأقم بالميزان الذي أنزله الله عز وجل، إذاً أنا خاسرٌ خائبٌ عملي.

أما الأنصار فتعجبوا وقالوا: غفر الله للرسول عليه الصلاة والسلام، يعطي صناديد قريش مائة ناقة ويدعنا ونحن أهل الدعوة وأهل التاريخ، والذين حملوا رءوسهم على أكفهم والذين سالت دماؤهم، والذين تقطعت لحومهم على شذرات السيوف!!

وهذا عتاب المحب للمحب لا كاعتراض الزنديق المنافق ذاك، الذي لما اعترض قام عمر ليصفي حسابه ويقطع رأسه فقال: ( دعني أضرب عنقه يا رسول الله! فلقد كفر، قال: دعه يا عمر! إن من ضئضئ هذا أناسٌ يخرجون تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم, وصيامكم إلى صيامهم, وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ).

أما الأنصار فقد دار الحديث بينهم، وبلغ الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستدعى سيدهم سعد بن عبادة وقال: (ما مقالة بلغتني عنكم؟ قال: هو كما سمعت يا رسول الله! قال: اجمع لي الأنصار) فاجتمعوا ليهتف بهم هتافاً ثانياً صلى الله عليه وسلم في مكانٍ طويلٍ عريض لا يحضره إلا الأنصار، فدلف عليهم حيث يصنع الكلمة الصادقة والجملة الآسرة، واللفظة المعبرة، أخطب من تكلم، وأفصح من نطق.

وإذا خطبت فللمنابر هزةً>>>>>تعرو الندي وللقلوب بكاء

وإذا أخذت العهد أو أعطيتـه>>>>>فجميع عهدك ذمةٌ ووفاء

قال: (أيها الأنصار! -فسكتوا- أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ فطأطئوا رءوسهم وذرفت عيونهم، وقالوا: صدقت، المنة لله ولرسوله، قال: أما أتيتكم متفرقين فجمعكم الله بي؟ قالوا: صدقت، المنة لله ولرسوله، قال: أما أتيتكم فقراء فأغناكم الله بي؟ قالوا: صدقت، المنة لله ولرسوله، قال: والله يا معشر الأنصار! -انظر استحياء الكلمة وصنع اللفظ والبراعة في العطاء- والله يا معشر الأنصار! لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم، أتيتنا طريداً فآويناك، وشريداً فنصرناك، وضعيفاً فقويناك -فما قالوا نعم- وطأطئوا رءوسهم وسالت دموعهم، وقالوا: المنة لله ولرسوله، قال -هذا الهتاف-: يا معشر الأنصار! أنتم الشعار، والناس الدثار، والله لو سلك الناس وادياً وشعباً لسلكت وادي الأنصار وشعب الأنصار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار) فاختلط الجو بكاءً وأصبح المكان عويلاً، وختم صلى الله عليه وسلم موعظته بهذا الهتاف.

وفيه درس العدل وعدم المواربة في الدين والمحاباة، وأن أعدل ولد آدم محمد صلى الله عليه وسلم.

إن على كل مسئولٍ وأستاذٍ ومربٍ وموظف أن يأخذ من هذا الحدث عبرة في حياته، أن يكون تقياً في رعيته وما تحت يده، كما صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه) رواه مسلم .

وفي حنين تعلق به الأعراب يطلبونه الإبل والغنم والبقر والدراهم، هؤلاء ليسوا من أهل صلاة الفجر والثلث الأخير، ليسوا من أهل تكبيرة الإحرام، يقول محمد بن واسع الأزدي : إذا رأيت الرجل يتهاون عن تكبيرة الإحرام فاغسل يدك منه.

عند أهل السنة ثلاث: طيب المطعم .. سلامة الصدر .. تكبيرة الإحرام.

إذا رأيت الإنسان مخلاً بالثلاث فشك فيه.

فالمقصود تعلقوا به، فتعلق رداؤه الشريف بشجرة، فأصبح صلى الله عليه وسلم لا يدري هل يمتنع من الأعراب ويجيبهم أو يخطف رداءه، فقال عليه الصلاة والسلام: ( أيها الناس! فكوا عليَّ ردائي، فوالذي نفسي بيده لو أن لي مثل شجر تهامة إبلاً وبقراً وغنماً لأنفقتها، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً ).

وفي حنين اجتمعت عليه الكتائب وفر الصحابة، كبار الصحابة فروا، مضيقٌ ضنك، شيءٌ خطير، الجبال ترمي بالحجارة من هوازن وغطفان، رمي كالسحاب، ففرت الإبل والخيول، فوقف صلى الله عليه وسلم في الضنك، ووقف في الكرب؛ لأنه مأمور ألا يفر خطوة: فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ [النساء:84] فلما ضاقت به قال صلى الله عليه وسلم: (أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب ).

إن أردتموها دينية فأنا النبي، وإن أردتموها دنيوية فأنا ابن عبد المطلب ، إن أردتم سماوية فأنا رسولٌ مبلغ بوحي، وإن أردتم أرضية فجدي عبد المطلب شيخ القبائل والأباطح، ومن زعم أنه أكثر منه فليأكل تراباً وليرغم أنفه.

إن أردتم من السماء فمعي جبريل، وإن أردتم من الأرض فجدي عبد المطلب.

فلما اجتمعت عليه الكتائب أخذ حفنةً من تراب وقال: (أنا ابن العواتك من سليل) العواتك أربع، وقد نظمها الأندلسي ، عاتكة من عماته وعاتكة من خالاته وعاتكة من مرضعاته وعاتكة من قريباته، قال: (أنا ابن العواتك من سليل) فأخذ حفنة فنثرها في الوجوه فدخلت في أعين عشرة آلاف مقاتل، فعموا وارتدوا مدبرين منهزمين.

هذا هتافه وفيه:

أولاً: درس شجاعة القلب بالاتكال على الرب.

الثاني: رخص الدنيا في عينه صلى الله عليه وسلم.

الثالث: الصمود والتحدي للأزمات.

الرابع: الثقة بالله، يقول بعض أهل العلم: كان عليه الصلاة والسلام في قمة المعاناة ونهاية الأزمة يأتي بفرج، يأتي ببشرى.

اشتدي أزمة تنفرجي>>>>>قد آذن ليلك بالبلج

إذا رأيت الظلام يمتد فاعلم أن الصبح قريب، إذا رأيت الحبل يشتد فسوف ينقطع، مع ذروة المعاناة فرج.

الصحابة رضوان الله عليهم في كرب في بدر فقيل لهم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).

ضيقوا عليه في الخندق ، وتألبت عليه الأحزاب والكتائب، فقال: (أريت قصور كسرى وقيصر وسوف يفتحها الله عليَّ) طارده سراقة فالتفت: (كيف بك يا سراقة! إذا طوقت بسواري كسرى) في نهاية المصيبة والأزمة يأتي فرج من فمه الطاهر صلى الله عليه وسلم.

صرخته عليه الصلاة والسلام في موقف العدل في الحكم

أما موقف العدل في الحكم، فهي صرخة أخرى من صرخات المجد، وهذا درس أقدمه إلى العلماء والحكام وأئمة المسلمين وعامتهم، مخزومية تسرق الحلي، أمر عليه الصلاة والسلام بعدما تبين ذلك بقطع يدها، وهي مخزومية من الدرجة الأولى، أسرة لها اعتبارها، أسرة خالد بن الوليد وأبي جهل ، فاجتمعوا وقالوا: المسألة ليست عادية، كيف تقطع يد ابنتنا المخزومية؟! ما موقفنا أمام العرب؟!

هم يحسبون أن فيها وساطات وشفاعات، يظنون أنها لو كانت من بني تيم أو من بني عدي لكان الأمر سهلاً، قالوا لـعلي : اشفع، قال: من يشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا لـأبي بكر ، قال: لا. قالوا لـفاطمة ، قالت: ما يشفع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد، فأتوا إلى أسامة رضي الله عنه وكان حباً للرسول صلى الله عليه وسلم صبياً قريباً فأخبروه الخبر فذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: أشفع يا رسول الله في المخزومية لا تقطع يدها.

عند من تشفع؟

عند من لو كان العدل على قلبه لأمشاه، على جسمه؟ عرض جسمه في بدر وقال: (اقتص) يقول لـعكاشة بن محصن : (اقتص مني) تعرض العدل على أستاذ العدل، تحاول في الحكومة على أن تبطل على من أتى بالحكم الشرعي؟! على معلم الخير؟! قال: (أتيت تشفع في حد من حدود الله، قم -يقول: لأسامة- الصلاة جامعة).

هذه صرخة المجد: الصلاة جامعة .. الصلاة جامعة.

فأذن بلال في الناس، فانكثبت المدينة؛ ليلقي صلى الله عليه وسلم بياناً للدهر، وقراراً للتاريخ، وورقة عمل للساسة والحكام إلى يوم القيامة، اسمع يا دهر! وأنصت يا تاريخ! وقف على المنبر قال: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه, وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

اسمع وأنصت، فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم.

قال الزهري وهو يروي الحديث ويبكى: وحاشاها أن تسرق، ونحن نقول: حاشاها أن تسرق، قال: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

مع العلم أنها فلذة كبده، وقد أراد أن يتزوج عليها علي بنت أبي جهل، فقال صلى الله عليه وسلم: ( سمعت أن ابن أبي طالب يريد الزواج من بنت أبي جهل ، وأنا لا أحرم حلالاً ولا أحلل حراماً، ولكن والذي نفسي بيده لا تجتمع بنت حبيب الله وبنت عدو الله تحت سقفٍ واحد، إن فاطمة بضعةٌ مني يريبها ما يريبني، ويرضيها ما يرضيني).

فهي قطعة من قلبه. ومع ذلك يقول على المنبر: (وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) العدل .. القوة والصرامة، كان إذا أتت تزوره فاطمة يقوم ويستقبلها ويقبل جبينها، ويجلسها مكانه، أرحم الناس، وأبر الناس بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم!!

إذا علم هذا ففي هذا درس، وهو إنصافه صلى الله عليه وسلم من نفسه، وأنه لا يحابي عليه الصلاة والسلام في الحكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لا تأخذه في الله لومة لائم.

صرخة الخوف

وأما صرخة الخوف -وهذا درس للخطباء، ودرس للدعاة، يا طلبة العلم! يا دعاة الأمة! يا علماء الإسلام! إذا خطبتم أثروا .. أحيوا القلوب .. حركوا المشاعر .. ألهبوا الحماس .. أسيلوا الدموع: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً [النساء:63].

أما الميت الذي يميت المشاعر فليس هذا من علم خطابة الرسول صلى الله عليه وسلم- فيقول جابر كما عند مسلم : ( كان إذا خطبنا صلى الله عليه وسلم علا صوته، واشتد غضبه، واحمرَّت عيناه كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم ).

كان إذا أراد أن يخطب عليه الصلاة والسلام تكلم كلاماً في أسطر لكنه يدع المكان بكاءً وعويلاً، يقول ابن عمر : ( قام عليه الصلاة والسلام على منبره -المنبر هذا مبارك، ثلاث درجات تلقى منه الحكمة- فصعد الدرجة الأولى فقال: آمين، ثم صعد الثانية، فقال: آمين، ثم صعد الثالثة ثم قال: آمين ثم جلس ) سبحان الذي أعطاه الكلام، وفتح عليه من الفتوحات! قالوا: أمنت يا رسول الله -يريدون أن يسألوه، انظر فن الأداء، واستثارة الهمم وطلب العقول أن تنجذب، يقول: آمين، آمين، آمين، ثم يسكت- قالوا: ما لك يا رسول الله أمنت؟ قال: ( صعدت الدرجة الأولى فقال جبريل: رغم أنفه من ذكرتَ عنده فلم يصلِ عليك -صلى الله عليه وسلم- قل: آمين، فقلت: آمين، قال: وصعدت الثانية فأتاني جبريل فقال: رغم أنف من أدرك رمضان فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين، فصعدت الثالثة فقال: رغم أنف من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له، قل: آمين، قلت: آمين ).

صعد المنبر وهو من خشب، فقال: ( أيها الناس! يطوي الله عز وجل السماوات يوم القيامة بيمينه، والأرضين باليد الأخرى فيهزهن ويقول: أنا الملك، أنا الملك، أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه ملكٌ مقرب ولا نبي مرسل، فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار. قال ابن عمر : والله إني نظرت إلى المنبر يتحرك به صلى الله عليه وسلم كاد يسقط علينا ) وهذا من قوة الأداء والتأثير؛ فهذه صرخة منه صلى الله عليه وسلم وهي صرخة الخوف من الله عز وجل، واستثارة الأمة إلى أن تعي مصيرها، وأنها واقفة مجردة محاسبة عند الله في يومٍ لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم.

صرختان لأبي بكر رضي الله عنه

وهنا لـأبي بكر رضي الله عنه صرختان لما توفي صلى الله عليه وسلم، ووشى من وشى، وتكلم من تكلم، وتحدث من تحدث، فأعلن في بيانه القاطع وصرخ وقال: [أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيٌ لا يموت] فكانت من أبلغ خطب التاريخ رضي الله عنه وأرضاه.

ويقول على المنبر: [والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه].

صرخة العلماء

يقول أهل العلم: إن الزهري كان يعلق على الآثار والأحاديث وأقف معه وقفة، وهو عالمٌ كبير انفرد بتسعين حديثاً كلها قوية كما قال العراقي في الألفية، وهو حافظ الدنيا في عصره، أتى يعلق على الحديث فقال: [وحاشاها أن تسرق].

ودخل على هشام بن عبد الملك وإذا علماء السوء المرتزقة -خليفة يحكم اثنتين وعشرين دولة- قد طمأنوه، فقالوا: لا تخف أيها الخليفة! فإن الله في بعض الآثار قد ذكر أنه إذا بلغ الخليفة سبعين سنة لا يحاسبه، بل يحول السيئات حسنات، فقال: سبحان الله! ما كنت أعلم هذا! فقالوا: لا. اطمئن.

فدخل الزهري فقال هشام بن عبد الملك : أصحيحٌ -يا زهري!- أن الخليفة من أئمة المسلمين إذا بلغ السبعين حوَّل الله سيئاته حسنات، وما يكتب عليه سيئة؟ قال الزهري : كذب من حدَّثك بهذا، من حدَّثك؟ قال: بعضهم، قال: أنت أفضل أم داود عليه السلام؟ قال: داود، قال: يقول الله لداود: يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [ص:26].

انظر الدليل الحاضر القاطع الجازم الساطع.

وعاد إلى هشام في جلسةٍ ثانية، وإذا بـهشام أتى بالعلماء والسيوف تبرق مثل بروق تهامة -وتعرف الدم ليس برخيص، والرءوس إذا تطايرت تطايرت -فهو يريد أن ينيخ الزهري ويبرك الزهري الراوي لفتوى جائرة- فجلس، وكان هشام ناصبياً، يبغض علي بن أبي طالب رضي الله عن علي ، فسأل مسلم بن يسار قال: يا مسلم ! سمعنا أن علي بن أبي طالب هو الذي تولى كبره، قال: لا أدري، سمعنا أنه عبد الله بن أبي ، قال: كذبت. بل الذي تولى كبره علي بن أبي طالب ، قال: أمير المؤمنين أعلم بما يقول -يعني: إذا حمي رأسي سقطت كوفيتي، ماذا يفعل؟! إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ [النحل:106]-.

فجاء عند عالم ثاني وهو مطرف ، فقال: يا مطرف ! سمعنا أن الذي تولى كبره علي ، قال: لا. سمعنا أنه عبد الله بن أبي، قال: كذبت. الذي تولى كبره علي . قال: أمير المؤمنين أعلم.

قال: يا زهري ! سمعنا أن الذي تولى كبره علي بن أبي طالب ، قال: الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول ، قال: كذبت، قال: بل كذبت أنت وأبوك وجدك، والله الذي لا إله إلا هو لو نادى منادٍ أن الكذب حلال ما كذبت، لكن حدَّثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي ، وحدَّثني عبد الله بن هشام بن عروة ، وحدَّثني علقمة بن وقاص ، فأخذ ينتفض الخليفة ويقول: هيجناك يا زهري هيجناك -أي: أغضبناك.

فهذه صرخات الفتوى الصادقة من علماء الملة الذين يقولون كلمة الحق في وقت الحق، في يومٍ لا ينفع إلا الحق.

فهذه وقفة مع الزهري رحمه الله رحمةً واسعة.

المواصلة والإصرار في طلب العلم والعبادة والدعوة

من هتاف المجد أنه لا يقبل فيه إلا الجهد وبذل المشقة إلى أن تكل وتمل، قال الحسن البصري : ليس بين المؤمن وبين الموت فترة ولا عطالة ولا بطالة، قال الله: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] يقول: اطلب العلم حتى تموت، فاليقين هو الموت، اعبد حتى تموت، ازهد حتى تموت، ادع حتى تموت، جاهد حتى تموت، اصدق مع الله حتى تموت حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99].

ولذلك واصل أئمة الإسلام على هذا رضوان الله عليهم، وفعلوا من الأفاعيل العظيمة، حتى إنني قرأت عند الذهبي وغيره أن أحد علماء الشافعية الكبار قال كلمة الحق عند عضد الدولة فأغضبه، قال: اطرحوه للأسد، فأخذوه إلى حديقة الحيوان في بغداد فطرحوه، فقال: حسبنا والله ونعم الوكيل! فأتى الأسد -وأنتم تعرفون الأسد, يقول النضر بن شميل : يكفي الأسد فخراً أن العرب سمته مائة اسم، الأسد لو تجيء حيوانات الدنيا ما ينهزم، ويقول: لو كان قبله جيش ما يلوي رأسه، والأسد تهدد الله به الكفار فقال: (كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ * فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ [المدثر:50-51]- فأتى الأسد يشمشم العالم الشافعي ثم رفع رأسه فما عضه وما أصابه بشيء، فلما انتهى قال الملك: ارفعوا الشيخ، ما دام الأسد ما اقترب منه ما لنا سلطان عليه. فأتوا به وقالوا: ماذا كنت تفكر والأسد يشمشمك؟ قال: كنت أفكر هل لعابه طاهر أم نجس حتى أتوضأ بعدما يلعقني. هذه مسألة الفقهاء، يقول: أتفكر في باب المياه هل سؤر الأسد يلحق بسؤر الكلاب أو بسؤر الدواب الطاهر، يقول: والله هذا الذي فكرت فيه، فنجاه الله بالصدق معه سبحانه وتعالى.

وقال صاحب صفحات من صبر العلماء : في سكرات الموت دخلوا على أبي يوسف القاضي الحنفي -سكرات الموت: قال علي الطنطاوي : الله يا سكرة الموت! الله يا ساعة الموت! يذل فيها الجبار ويذعن فيها المتكبر، ويضعف فيها القوي، الله يا ساعة الموت! ساعة الصفر، التي سوف يمر بها كل واحد منا - دخلوا على أبي يوسف القاضي الحنفي والموت يضمه ويخنقه، قال لطلابه: ماذا ترون الذي يرمي الجمرات في أيام منى ألراكب أفضل أم الماشي؟ قالوا: تسألنا وأنت في سكرات الموت؟ قال: لئن ألقى الله بعلم مسألة أحسن من أن ألقاه وأنا جاهلٌ بها.

وهذا مثل أبي الريحاني البيروني الخوارزمي، دخلوا عليه وهو في سكرات الموت فقال لأحد العلماء: هل الجدات الفاسدات يرثن من جانب الأم؟ قال: تسألني والموت يخنقك؟ قال: أتريد أن أقدم على الله وأنا جاهل بهذه المسألة، لئن كنت عالماً بها رفعني الله درجة.

فهذا هو الحرص والمواصلة إلى أن يأتيك اليقين، ولقد سار على ذلك السلف، ولذلك لا تظن أن هناك فسحة أو عطالة، أو بطالة أو فراغاً، بل هو الجهد والإصرار والمواصلة.

رأيت في ترجمة عبد الله بن إدريس العالم الزاهد المحدث أنه قال لابنه: يا بني! لا تعص الله في هذا البيت، فوالله لقد ختمت فيه القرآن أربعة آلاف ختمة. وهذا من أرقام المجد التي لا تقبل التنازل.

قال ابن رجب في كتابه جامع العلوم والحكم : وخالد بن معدان العابد كان يسبح في اليوم مائة ألف تسبيحة، فلما حملوه إلى القبر أخذته الملائكة ووضعته في القبر لكثرة ذكره لله سبحانه وتعالى ومواصلته.

قال أهل العلم: فعليك أن تستعد حتى في سكرات الموت للقاء الله، وقد ذكر بعض الحفاظ: أن جنيد بن محمد كان يقرأ القرآن وهو في سكرات الموت، قالوا: تقرأ القرآن وأنت في سكرات الموت؟ قال: من أحوج مني إلى العمل الصالح؟ من أحوج مني في مثل هذه الساعة والسكرة؟

فيا أيها الإخوة الأبرار: ليس معنا منذ أن تضعنا أمهاتنا إلى أن نلقى ربنا سبحانه وتعالى إلا الجد والمواصلة في المجد الأخروي.

ما هو المجد؟

المجد في لغة أهل الدنيا القصر والدار والدرهم والدينار والمنصب والوظيفة والشهرة، والمنصب عند أولياء الله: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً [الفتح:29]، المنصب: جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [القمر:54-55].

علو الهمة

الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلمنا سمو الهمة، فهو يقول لعموم الناس وليس للخاصة: (إذا سألتم الله الجنة، فاسألوه الفردوس) أي: لا تكتفوا بمجرد الجنة، وهذا في الصحيح : ( اسألوه الفردوس -هذه الهمة العالية- فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة وسقفه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنان ) فدل هذا أن علينا الهمة العالية، حتى في سؤال الله الجنة، فكان عليه الصلاة والسلام يعلمنا علو الهمة، وهذا واجبٌ شرعيٌ علينا.

وفي علو الهمة والمجد في طلب العلم مسألة وهي: أن طالب العلم لا يتردد ولا ينكص، ولا يعود على عقبيه، بل يواصل الطلب ليلاً ونهاراً قراءةً وتأليفاً وسماعاً ومذاكرةً وحفظاً ومدارسة حتى يكون عالم الدنيا، فإذا توجهت لأمر فعليك أن تخلص فيه حتى تلقى الله.

يقول أبو نصر هارون بن موسى : أتيت في مجلس أبي علي القالي في الأندلس في قرطبة وأمامه ثلاثمائة فقيه عليهم عمائم بيض ومحابر سود، وفي أثناء الطريق صبت سحابةٌ عليَّ الغيث فتبللت ثيابي، فدخلت الجامع في يوم برد وأنا أنتفض من البرد، فأجلسني أمامه، وقال: ما الذي أصابك؟ قلت: هلت عليَّ السماء وأصابني البرد فأنا كما ترى، قال: ما عليك يجف ثوبك ويبقى معك العلم، لكن أنت ذكرتني -هذا كلام أبي علي القالي العالم- بما جرى لي في صغري، والله إنه بقي فيَّ جراح وندوب إلى الآن، قلنا: ماذا جرى لك؟ قال: طلع الفجر وأنا في بغداد، فألبستني أمي -انظر الأم الصالحة تلبسه مع صلاة الفجر، أمٌ صالحة تهدي ابنها إلى المسجد وطلب العلم، أمٌ تعلمت في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم- قال: ألبستني وأنا طفل، وقالت: اذهب إلى العلامة الفلاني في جامع بغداد، قال: فذهبت فإذا الجامع مغلق وإذا بسردابٍ تحت الأرض -نفق- فدخلت فيه فأسرعت، فضاق عليَّ النفق قليلاً، قال: فمن عجلتي عرضت جسمي ودخلت مراغماً، قال: فجرحني الجدار حتى أثر الجراح في جسمي، قال: حتى -والله- إن بعض المواطن ظهر منها العظم، فدخلت في الجامع وقد التصقت ثيابي بجسمي من الدم فجلست أمام هذا العالم، فقال: ماذا أصابك؟ قال: دخلت السرداب وضايقت نفسي وجسمي حتى ألصق الدم ثيابي بجسمي، قال: اكتب، قال: ماذا نكتب؟ قال:

دببت للمجد................

يعني: إن دخولك من السرداب؛ لأنك تريد العلو، ولم يكن دبيبك لخمارةٍ أو بارٍ أو مرقصٍ أو لهوٍ أو منتزه.

دببت للمجد والساعون قد بلغوا>>>>>جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا

وكابدوا المجد حتى مل أكثرهم>>>>>وعانق المجد من وافى ومن صبرا

لا تحسبن المجد تمراً أنت آكلـه>>>>>لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا

قال: فكتبها الحضور، قال: فبكى علماء قرطبة .

ويذكرني ذلك ببرنامج وكيع بن الجراح العابد الكبير الزاهد المحدث رحمه الله رحمةً واسعة، وفي حياته عبرة لمن كان له قلب، وأنهم رضوان الله عليهم قد توجهوا إلى المجد من أبوابه، وأتوا إلى الجنة، فمنهم من دخل من باب العلم، ومنهم من دخل من باب الجهاد، ومنهم من دخل من باب العبادة، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وأجزل مثوبتهم.

قال الحفاظ: كان وكيع يصلي الفجر ثم يبقى في مقعده يذكر الله حتى يتعالى النهار، ثم يصلي ثمان ركعات، ثم يحدث الناس الحديث النبوي حتى صلاة الظهر، ثم يدخل بيته فيأكل شيئاً من الطعام وينام قليلاً، ثم يأتي يتنفل إلى العصر، ثم يقرأ القرآن إلى صلاة المغرب، ثم يذهب إلى مكانٍ فيه أرامل وعجائز وأطفال يعلمهم أمور الدين إلى صلاة العشاء، ثم يعود بعد العشاء فينام قليلاً ثم يهب بعدما ينام ثلث الليل، فيصلي الثلث ثم يراجع حديثه إلى الثلث، قالوا: حياته هكذا، ما تغير لا في صيفٍ ولا في شتاء، ولا في سفر.

دخل عند الإمام أحمد طالب علم فقدم له مطهرة، والإمام أحمد على منهجه، صاحب المطهرة والعبادة والمصحف، وتجد بعض الناس مهتماً بالزير والوله والعود والصنج، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60]

فأتى الإمام أحمد في صلاة الفجر، وإذا المطهرة بحالها وطالب العلم نائم، قال: طالب علم ليس له ورد في الليل؟! يقول: ما صليت حتى ركعتين؟! ما فائدة العلم؟! قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أثرها؟! قال: يا أبا أبا عبد الله أنا مسافر -يعني: اعذرني-! قال: حج مسروق فما نام إلا ساجداً. العالم الكبير حج فما نام إلا ساجداً، ولو كنت مسافراً صلِّ ركعتين، هذا معنى الحديث.

ونحن عندنا وهنٌ في مسألتين:

- مسألة طلب العلم.

- ومسألة الدعوة.

فقد جد جيل غفر الله لهم وردهم إلى الجادة يأخذون العلم بكسل وبانصراف ولمقصد دنيوي رخيص، وأناس جعلوا أمور الدعوة أموراً عارضة إضافية من نافلة القول فما اهتموا وما قصدوا لها.

فأقول: علماء الإسلام منهم من دعا عمره، ومنهم من ألَّف عمره، ومنهم من جاهد عمره، ومنهم من زهد عمره، رضوان الله عليهم.

اجتمع ابن المبارك وعلي بن حسن بن شقيق يتذاكرون أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر والمطهرة بيد هذا وهذا حتى صرفهم أذان صلاة الفجر.

وأقف معكم وقفة: ما هو جزاء من أقبل على الله عز وجل؟ ماذا يريد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وهم يبايعونه, ويسكبون دماءهم, ويبيعون أنفسهم من ربهم ويقدمون أموالهم؟

هل يريدون الدنيا؟ هم دفعوا الدنيا.

هل يريدون البقاء والخلود؟ هم ضحوا بأنفسهم.

يقول بعض العلماء: ليس من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام من سأل الدنيا مجردة إلا في بعض المواقف لعذرٍ من ضعف عند بعضهم، أما كبار الصحابة فما كانوا يسألون إلا رضا الله والجنة، قال صلى الله عليه وسلم لـربيعة بن كعب الأسلمي : (ألك حاجة؟ قال: نعم يا رسول الله! قال: سل؟ قال: مرافقتك في الجنة، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) فطلبهم القرب من الواحد الأحد، وجوار الله سبحانه وتعالى في جنات النعيم.

وأذكر في هذا ما رواه مسلم في الصحيح، يقول أبو قتادة -أحسن حياة الصحابة يوم يرافقون محمداً صلى الله عليه وسلم، ذكرياتهم: جلسنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. أكلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .. صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم .. خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال أبو قتادة : ( سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فصلينا الصبح بعد سهر، ثم واصلنا المسير، ورسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته، وأبو قتادة بجواره على راحلته، قال: فنعس صلى الله عليه وسلم -بشر ينام كما ينام الناس، ويمرض كما يمرض الناس، ويجوع كما يجوع الناس- قال: فنعس صلى الله عليه وسلم فتدلى رأسه حتى كاد يسقط من على الراحلة، فأتيته فدعمته فأعدته على الراحلة، قال: ثم نعس فدعمته، ثم نعس الثالثة أكثر من الأولى والثانية حتى كاد يسقط، فأتيته فدعمته فاستيقظ صلى الله عليه وسلم، فقال: أبو قتادة ؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: من متى وأنت معي؟ قلت: من صلاة الفجر -سيد الخلق صلى الله عليه وسلم تنام عيناه ولا ينام قلبه- قال: حفظك الله بما حفظت نبيه) فعاش محفوظاً في ذريته إلى أن لقوا الله عز وجل، وحفظوا كتاب الله وصاروا من علماء الأمة ببركة تلك الليلة، وهذا وسام، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن عنده أوسمة أخرى، وما كان يمني الناس بالدراهم والدنانير.

بايعه الأنصار في بيعة العقبة، قالوا: (فما لك عندنا؟ -أي: اشترط- قال: أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأنفسكم وأطفالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل) ليس عنده صلى الله عليه وسلم لهم إلا الجنة، وأعظم بها من مكسب وثروة وثمن!!

عبد الله بن أنيس يقول له صلى الله عليه وسلم: تقتل خالد بن سفيان ولك الجنة، قال: تضمن لي الجنة؟ قال: نعم. أضمن لك الجنة، فذهب وقتله، وأتى برأسه، قال: خذ هذه العصا علامة بيني وبينك يوم القيامة.

من مشاهد المجد في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم

ثلاث أدوات: عصا وسيفٌ وثوبٌ من مشاهد المجد في حياته صلى الله عليه وسلم: أما العصا فأخذها عبد الله بن أنيس يدخل بها الجنة.

وأما السيف فيقول: عكاشة بن محصن: يوم بدر قاتلت بسيفٍ معي، كان يضرب بالحديد على رءوس الأبطال فيتطاير الشظى، خنينه وطنينه من على رءوس الأبطال، فيأتي إلى الجماجم فيجزها، فتنكسر ثلمة من السيف، فحمي السيف في النهار، الشمس تصهره، والجماجم تقع فيه.

لمن هول الدنيا على النفس ساعةً>>>>>وللبيض في هام الكماة صليمُ

فتكسر السيف وما بقي إلا المقبض، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! تكسر سيفي، ولم يكن هناك احتياط، أو ذخيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كل واحد بسيفه، قال صلى الله عليه وسلم: ناولني عوداً من خشب، فناوله عوداً عنده فهزه صلى الله عليه وسلم فحوله الله سيفاً صارماً، قال: فقاتلت به حتى نصرنا الله، فهذا السيف.

أما الثوب فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عمر قميصاً أبيض، فقال: (ثوبك هذا غسيل أم جديد؟ قال: لا. بل غسيل. قال: البس جديداً وعش حميداً ومت شهيداً) يا ألله لهذه الفصاحة والبلاغة والنبوغ! (البس جديداً وعش حميداً) فعاش رضي الله عنه حميداً في سيرته، حتى يقول ابن مسعود وهو يبكي عند عمر وهو في سكرات الموت، قال: [رحمك الله، كان إسلامك فتحاً، وهجرتك نصراً، وولايتك رحمة] .. ( ومت شهيداً) فرزقه الله الشهادة.

الوحي يهتف بالمؤمنين

هذه وقفات في أوسمة المجد، ولكن لي وقفةٌ أخرى أريد أن أقولها في نهاية هذه المحاضرة، وهي أن الوحي يهتف بالمؤمنين: وسارعوا، وسابقوا، وبادروا، فهذه ألفاظ الوحي كتاباً وسنة، يقول الله سبحانه وتعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ [آل عمران:133] قال بعض أهل العلم: والله ما هي إلا المسارعة والمسابقة، لا الجلوس ولا القعود.

وقال الله في أعدائه: رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ [التوبة:87].

وقال سبحانه وتعالى: وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ [التوبة:46] فالخامل الفاشل لا يرضى الله نهوضه، ولا يرضى تقدمه، ولا جهاده، بل يقعده سبحانه وتعالى، يريد أن يقوم لصلاة الفجر فيقول شيطانه: نم فإن عليك ليلاً طويلاً، أما أولياء الله فيسارعون.

وفي صحيح مسلم : (كان صلى الله عليه وسلم إذا سمع الصارخ وثب، يقول مسروق: ولا أدري ما معنى وثب) ما قالت عائشة : قام أو تحرك، بل قالت: وثب عليه الصلاة والسلام، فما هي إلا المجاهدة.

قال ابن القيم : ما في الكتاب ولا في السنة وقوف، إما تقدم أو تأخر، قال الله عز وجل: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر:37].

فأنت في كل يوم إما أن تتقدم إلى الله بعملٍ صالح، وتوبة واستغفار، وذكرٍ وجهاد، وإما أن تتأخر، وليس هناك وقوف، يقول أحد طلاب الإمام أحمد: والله لقد رافقت أحمد بن حنبل ثلاثين سنة، ما من يومٍ إلا ويزداد فيه خيراً عن اليوم الأول.

فطوبى لمن كان يومه خيراً من أمسه, وغده خيراً من يومه, وسحقاً لمن غلب أمسه يومه، ويومه غده.

قال المتنبي:

هو الفضل حتى تفضل العين أختها>>>>>وحتى يكون اليوم لليوم سيداً

وفي لفظ ديوان: هو الجد، والفضل هو الحظ.

وهذه هي مكرمات المتقدمين إلى الله عز وجل، فنريد منكم أن تواصلوا على درجة: (اغتنم خمساً قبل خمس) .. (كن في الدنيا كأنك غريب ..) .. ( أعني على نفسك بكثرة السجود ) .. (لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله ...) .. ( >عليك بلا حول ولا قوة إلا بالله).

هذه بعض الاستجابات من أتباع محمد عليه الصلاة والسلام.

وقد قال بعضهم: الاستجابة أنواع: استجابةٌ بالدموع، واستجابة بالدم، واستجابة بالنفس، واستجابة بالمال.

الاستجابة بالدموع

أما الاستجابة بالدموع فأعظم من استجاب هو رسولنا عليه الصلاة والسلام، فقد كان صلى الله عليه وسلم تذرف دموعه عند تلاوة القرآن، وفي الجنائز، وإذا خطب الناس، وإذا ذكر العرصات، قال لـابن مسعود: (اقرأ عليَّ القرآن، قال: كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: أحب أن أسمعه من غيري، فقرأ، فذرفت عيناه صلى الله عليه وسلم، قال: حسبك الآن، قال: فنظرت فإذا عيناه تذرفان ).

فأعظم تعبيرٍ عن الاستجابة استجابة الدموع. ولذلك قل: دمعةٌ وقشعريرة وبسمة سماتٌ للمتقين.

فأما القشعريرة فأطالبكم أن تنتفضوا نفضة واحدة، قال أبو عبيدة عامر بن الجراح رضي الله عنه وأرضاه أحد العشرة: [والله الذي لا إله إلا الله ما اقشعر جسم عبدٍ من خشية الله إلا تساقطت خطاياه كما تساقط الشجرة ورقها].

فقشعريرة وهزة من خشية الله تهز خطاياك، وتسحقها، متى؟ عند التلاوة، والموعظة، والتوبة، وذكر الذنب، تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الزمر:23].

قال أبو معاذ : اقشعروا انتفضوا، اهتزوا، وقال في بغداد: يا ربنا! اجتمعنا اليوم كسحرة فرعون، من أول وهلة يا ربنا! تبنا الآن، لا إله إلا الله محمد رسول الله. كأنه يقول: لم نفعل شيئاً من قبل لا صالح ولا طالح، ولا حسنة، ولا سيئة، والآن نعلنها توبة، وهذا من كلماته ومواقفه العظيمة غفر الله له، فقد أثنى عليه ابن تيمية وابن القيم في مواقفه المشهودة في وعظه.

دخل بغداد في الاستسقاء، قالوا: استسق بنا، فقال: قوموا هذه الليلة وصوموا غداً واخرجوا بقطع ممزقة على أجسامكم وأصلي بكم، فقام الليل وصام النهار وخرج بقطع عليه من الملابس، وصعد المنبر، فأراد أن يسلم على الناس، فبكى وقال:

وغير تقيٍ يأمر الناس بالتقـى>>>>>طبيبٌ يداوي الناس وهو عليلٌ

ثم قال: سلامٌ عليكم، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54] سلامٌ عليكم كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54] سلامٌ عليكم، كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54] لا يزيد على ذلك، فارتفعت الأصوات بالبكاء وهطلت الدموع فما هي إلا لحظات وإذا بسحابة تغطي بغداد وينـزل الغيث، ثم سقط على المنبر مغشياً عليه.

هذا الولي أبو معاذ الرازي قالوا له: عظ عضد الدولة -وعضد الدولة هذا جبار، يفترس الملوك مثل افتراس الأسد للأرانب، قتل في عيد الأضحى ثلاثة من ملوك الكفار، ضحى بهم، الناس يضحون بالجمال والبقر وهو يضحي بالملوك، لطم ثلاثة فصرعهم، حتى يقول له أبو إسحاق الصولي :

صلِّ يا ذا العلى لربك وانحر>>>>>.......................

يقول: هنيئاً لك هذه التضحية، ويتقبل الله منا ومنك، ومشكور ومأجور، والله إنك ضحيت ونحن ما ضحينا مثل ما ضحى الناس.

صلِّ يا ذا العلى لربـك وانحر>>>>>كل ضدٍ وشانئٍ وأبتر

أنت أعلى من أن تكون>>>>>أضاحيك قروناً من الجمال تعفر

بل قروناً من الملوك ذوي>>>>>السؤدد تيجانهم أمامك تنثر

كلما خر ساجدٌ لك>>>>>رأسٌ منهمُ قال سيفك الله أكبر

فلما صرعهم قالوا لـأبي معاذ الرازي : نريدك أن تعظ عضد الدولة. وهو جبار وظالم، وهو ممدوح الشعراء، دوخ الدنيا، قالوا له: تعظه، قال: الله المستعان، ثم قال: اتركوني أقوم هذه الليلة، فقام الليلة يبكي ويلح على الله أن يسخر له قلبه؛ لأنه يفترس الناس، حتى العلماء قتلهم، فدخل عليه في الصباح فاستعرض أمامه الديوان، ثم قال: قتلت أبناء عمومتك؛ لأنه قتل فخر الدولة وسيف الدولة وغيرهم، ثم قال له: وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [إبراهيم:45-46] والله! لتوقفن أمام ربك مجرداً حافياً عارياً، والله! لتسألن، والله! لتحشرن بلا جلود، ولا برود، ولا حشم ولا خدم، ولا أعلام، ولا أرقام .. وأخذ يعظه بمثل هذا الكلام، فدمعت عين ذاك السلطان فقال: اصرفوه عني، فصرفوه، فأراد أن يختبره، وينظر هل يتأثر بالمال، قال: أعيدوه لي، قال: هذا الكيس من الذهب هدية لك؛ لأنك أبكيتني، والله ما بكيت في حياتي، والله ما دمعت عيني. وهو يريد أن يأخذه من أجل أن يصفي حسابه مع الملوك الثلاثة أولئك، قال: تريد تعطيني ذهباً على موعظتي؟ قال: نعم. قال: والله الذي لا إله إلا هو إن ثوبي هذا له معي ثلاثون سنة، ووالله ما آكل إلا أوراق الكرنم مع الملح من دجلة ، والله ما أريد منك درهماً. قال: إذاً أبكيتني بهذا السبب، أو كما قال.

وانظر إلى سيرته، فـأبو معاذ هذا شيء عجيب، وابن تيمية حين يأخذ كلمة وسطراً من كلامه يعلق عليه بعشر صفحات، فهذا من هتاف المجد، وهذه من الكلمات الخالدة لأولياء الله عز وجل.

أيها الإخوة الكرام: أنا أعلم أني أطلت عليكم، ولكن أسأل الله عز وجل لي ولكم التوفيق والهداية والرشد والسداد.



 اضغط هنا لعرض النسخة الكاملة , هتاف المجد للشيخ : عائض القرني

https://audio.islamweb.net