إسلام ويب

من أين نبدأ؟للشيخ : سعيد بن مسفر

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ابتدأ الشيخ محاضرته بالحديث عن محاسبة النفس، والحث عليه، مبيناً خلال ذلك أهمية استغلال الأيام والليالي في مرضاة الله عز وجل وطاعته، كما تحدث أيضاً عن المخرج من ورطة الحياة، وذكر أنه لا مخرج من ذلك إلا بطاعة الله والتمسك بدينه، ثم بدأ بتناول الأمور التي يتوجب على المسلم أن يبدأ بها في رسم طريقه نحو نيل مرضاة الله عز وجل.
    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

    وبعــد:

    أيها الإخوة في الله: يدور الزمان دورته، وتمر الليالي والأيام، ويعود إلينا شهر رمضان، فرصة يتيحها الله للمؤمنين، وتمديد في الأعمار، وتأجيل للآجال، وقد يأتي رمضان ونحن في عالم آخر؛ في عالم الأموات، كما صنع بغيرنا من الناس، فكم من أسرة كانت -في رمضان الماضي- ترى يد رب الأسرة وهي تمتد إلى الطعام في وجبة الإفطار والعشاء والسحور، افتقدت هذه اليد في هذا الشهر، وكم من أسرة افتقدت يد الأم وافتقدت يد الولد وافتقدت يد البنت، وما حصل للناس يمكن أن يحصل لنا، وما لم يحصل لنا في هذا العام فقد يحصل لنا في العام القادم، والخاسر هو الذي يفوت مثل هذه الفرص، كما سمعتم قول الله عز وجل : قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلا سَاءَ مَا يَزِرُونَ [الأنعام:31].

    أما آن للإنسان أن يتوب -أيها الإخوة!- إلى متى وهو يتعاقب عليه الليل والنهار وهو يسير إلى النار؟! لماذا يقطع رحلة المصير والنار إلى جهنم؟! يقول عز وجل : أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16].

    أنت تسير يا أخي! ولا تدري أنك راكب على مطية الليل والنهار وهي تنزل بك في منازل الآخرة وأنت لا تشعر، فهل الأولى والخيار المناسب لك أن تنتقل عبر مطايا الليل والنهار إلى السعادة والفوز والفلاح والنجاح، أم إلى الشقاء والدمار والهلاك؟ لا خيار لك، فالخيار الأفضل والبديل الأمثل أن تستجيب لداعي الله، يقول الله عز وجل : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [الأحزاب:36].

    ما لك خيار في الجنة والنار، لا بد لك -وقد قضى الله عز وجل- أن تعبده، يقول عز وجل: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً [الإسراء:23] فما دام قضى الله أن تعبده -وليس لك خيار فيما قضى الله- فلا بد أن تستجيب، والذي لا يستجيب ويأبى إلا أن يركب رأسه ويسير إلى النار، فهذا يقول الله فيه: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ [لقمان:23] ويقول عز وجل: كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ [المرسلات:46] ويقول: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الحجر:3] ويقول عز وجل: إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:25-26].

    هذه الأيام مطايا

    أين العدة قبل المنايا؟

    أين الأنفة من دار الأذايا؟

    أين العزائم أرضيتم بالدنايا؟

    إن بلية الهوى لا تشبه البلايا

    إن خطيئة الأحرار لا كالخطايا

    يا مستورين!! ستظهر الخفايا

    سرية الموت لا تشبه السرايا

    قضية الزمان لا تشبه القضايا

    ملك الموت لا يعرف الوساطة ولا يقبل الهدايا

    أيها الشاب! ستسأل عن شبابك

    أيها الكهل! تأهب لعتابك

    أيها الشيخ! تدبر أمرك قبل سد بابك

    يا مريض القلب! قف بباب الطبيب

    يا منحوس الحظ! اشك فوات النصيب

    لذ بالجناب ذليلاً

    وقف على الباب طويلاً

    واستدرك العمر قبل رحيله وأنت بداء التفريط عليلاً

    إخواني! أين من أدرك مقامات المقبولين؟

    أين من خفت مطاياه خلف المشمرين؟

    أين من تأهب لأفزاع يوم الدين؟

    أين من اتصف بصفات أهل اليقين؟

    لله در نفوس تطهرت من أدناس هواها

    وتدرعت بلباس الصبر عن عاجل دنياها

    فرضي الله عنها وأرضاها

    سهرت تطلب رضى المولى

    فرضي عنها وأرضى

    يا من عليه نذر الموت تدور

    يا من هو مستأنس في المنازل والدور

    لا بد من الرحيل إلى دار القبور

    والتخلي عما أنت به مغرور

    غرك والله الغرور

    بجنون الخداع والغرور

    يا مظلم القلب وما في القلب نور

    الباطن خراب والظاهر معمور

    إنما ينظر إلى البواطن لا إلى الظهور

    لو تفكرت في القبر المحفور

    وما فيه من الدواهي والأمور

    كانت عين العين منك تدور

    يا من يجول في المعاصي قلبه وهمه

    يا معتقد صحته فيما هو سقمه

    يا من كلما زاد عمره زاد إثمه

    يا طويل الأمل! وقد دق عظمه

    يا قليل العبر وقد تيقن أن اللحد عما قليل يضمه

    أما وعظك الزمان وزجرك ملمه

    الحث على محاسبة النفس

    قال الفضيل بن عياض رحمه الله: إذا لم تقدر على قيام الليل وصيام النهار فاعلم أنك محروم، كبلتك خطيئتك.

    وقيل لـابن مسعود رضي الله عنه: [لا نستطيع قيام الليل، قال: قيدتكم خطاياكم].

    قال الأصمعي: خرجت حاجاً إلى بيت الله الحرام وزيارة مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، فبينما أنا أطوف حول الكعبة الشريفة في الليل وكانت ليلة قمراء، إذ أنا بصوت حزين، فاتبعت الصوت فإذا أنا بشاب حسن الوجه ظريف الشمائل عليه أثر الخير، وهو متعلق بأستار الكعبة، وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي، غارت النجوم ونامت العيون وأنت ملك حي قيوم، إلهي أغلقت الملوك أبوابها، وقامت عليها حجابها، وبابك مفتوح للسائلين، وها أنا سائل واقف مذنب ببابك مسكين ثم قال في أبيات له:

    يا من يجيب دعا المضطر في الظلم     يا كاشف الضر والبلوى مع السقم

    قد نام وفدك حول البيت وانتبهوا     وأنت يا حي يا قيوم لم تنم

    أدعوك ربي حزيناً راجياً فرجاً     فارحم بكائي إله البيت والحرم

    أنت الغفور فجد لي منك مغفرة     واعطف عليَّ بفضل الجود والكرم

    إن كان عفوك لا يرجوه غير تقي     فمن يجود على العاصين بالنعم

    قال: ثم رفع رأسه إلى السماء وهو يقول: إلهي وسيدي ومولاي أطعتك بمنتك فلك الحمد عليَّ، وعصيتك بجهلي فلك الحجة عليّ.

    قال الأصمعي: فكان يردد هذا الكلام حتى وقع على الأرض مغشياً عليه، قال: فدنوت منه ورفعته فإذا هو زين العابدينعلي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، قال: فرفعت رأسه فإذا هو يبكي، فبكيت لبكائه فوقعت قطرتان من دموعي على خده فأفاق.

    وقال: من هذا الذي شغلني عن ذكر مولاي؟.

    فقلت: أنا الأصمعي، فما هذا البكاء وما هذا الجزع، وأنت من أهل بيت النبوة أليس الله يقول: إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب:33].

    قال: هيهات هيهات يا أصمعي، إن الله خلق الجنة لمن أطاعه وإن كان عبداً حبشياً، وخلق النار لمن عصاه وإن كان حراً قرشياً، أما سمعت قول الله عز وجل: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [المؤمنون:101-102] يعني: بالعمل الصالح فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:101-104].

    إخواني: هذه الحياة منهل يرده الناس كلهم ويختلفون فيما يردون ويريدون: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60].

    فالمحب لربه يتلذذ بمناجاة محبوبه.

    والخائف على ذنبه يتضرع بين يدي مولاه ويبكي على ذنوبه.

    والراجي يلح في سؤال مطلوبه.

    والغافل المسكين أحسن الله عزاءه في حرمانه وفوات نصيبه.

    الحث على استغلال الأوقات

    أيها الإخوة في الله: هذه الأيام المباركة، وهذه الليالي الزاهرة، وهذه الأوقات الفاضلة، لا ينبغي أن تمر دون تدارك ولا استغلال، ينبغي للعبد العاقل أن يتدارك هذه الأوقات بالأعمال الصالحة، وأن يبادر إلى الإيمان وإلى التوبة والإقلاع عن الذنوب والمعاصي قبل انقطاع الآجال، وقبل الرحيل إلى القبور والانتقال، قبل قفل الباب، وطي الكتاب، وانقطاع الأسباب، وهجوم الموت، وحضور الفوت؛ لأن من تذكر القبر وأن مآله إليه ومورده عليه، وأنه لا بد من مجاورة الأموات، والانتقال من القصور والديار والفلل العامرات، إلى حفر ضيقة مظلمات، يكون فيها مقيماً إلى يوم قيام الناس لعالم الخفيات، والوقوف بين يدي الحكم الذي لا يخفى عليه مثاقيل الذرات.

    إذا تذكر الإنسان هذا؛ فإنه لا بد له من أن ينظر في خلاصه، وأن يراجع نفسه، وأن يقف وقفات جازمة مع هذه النفس، ليعرف أين هي؟

    وما مركزه الإيماني؟

    وما مكانته عند الله؟

    أين هو من أوامر الله؟

    أين هو من نواهي الله؟

    ما علاقته بكتاب الله؟

    ما صلته ببيوت الله؟

    كيف هو في عينه إذا نظرت؟

    كيف هو في أذنه وما سمعت؟

    كيف هو في لسانه وما نطقت؟

    كيف يده وما بطشت؟

    كيف رجله وأين سارت؟

    كيف بطنه وما أكلت؟

    كيف فرجه وأين وفع؟

    محاسبة حازمة جادة مع هذه النفس؛ لأنه إن لم يفعل هذا فقد خسر، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

    روى أبو نعيم والحاكم أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه شيع جنازة من أهله، ثم أقبل على الناس فوعظهم وذكرهم بالموت، وذكر الدنيا وتنعمهم بها، وما سيصيرون إليه بعد الموت، من ظلمات القبور، وكان من كلامه رحمه الله أنه قال: إذا مررت بالمقابر فنادهم إن كنت منادياً، وادعهم إن كنت داعياً، ومر بعسكرهم وانظر إلى تقارب منازلهم، سل غنيهم ما بقي من غناه، وسل فقيرهم ما بقي من فقره، وسل عن اللسان الذي كانوا به يتكلمون، وعن الأعين التي كانوا بها إلى الحرام ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة والوجوه الحسنة والأجساد الناعمة ما صنعت بها الديدان، محت الألوان، وأكلت اللحمان، وعفت الوجوه، ومحت المحاسن، وأبانت الأعضاء، وأخرجت الأشلاء.

    أين حجابهم وكيانهم؟

    أين خدمهم وعبيدهم؟

    أين جمعهم وكنوزهم؟

    والله ما وضعوا لهم في القبر فراشاً، ولا وضعوا معهم هناك مسكاً، ولا غرسوا لهم هناك شجراً، ولا أنزلوهم من اللحد قراراً، أليسوا في الخلوات، أليسوا في الظلمات، أليس الليل عندهم والنهار سواء؟ أليسوا في مدلهمات ظلماء، قد حيل بينهم وبين العمل، وفارقوا الأحبة والأهل، وأصبحوا ووجوههم بالية، وأجسادهم عن أعناقهم بائنة، وأوصالهم متفرقة، وقد سالت الحدق على الوجنات، وامتلأت الأفواه صديداً، ودبت دواب الأرض في أجسادهم، وتفرقت أعضاؤهم، ثم لم يلبثوا حتى أصبحت العظام رميماً، قد فارقوا الحدائق والبساتين، وساروا بعد السعة في الضيق، تزوجت نساؤهم، وترددت في الطرقات أولادهم، وتوزعت القرابات ميراثهم، فمنهم والله الموسع له في قبره، ومنهم من هو في حفرة من حفر النار والعياذ بالله؟

    مر علي بن أبي طالب على مقبرة فسلم على القبور وقال: [يا أهل المقابر! أما الديار فقد سكنت، وأما الأموال فقد قسمت، وأما الزوجات فقد تزوجت، هذه أخبارنا فما أخباركم؟ ثم بكى وقال: والله لو تُركوا لقالوا: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]].

    يا ساكن القبر غداً ما الذي ضرك من الدنيا؟

    هل تعلم أنها تبقى لك أو تبقى لها؟

    أين دارك الفيحاء؟

    أين قصرك الواسع؟

    أين سيارتك الفارهة؟

    أين ثمارك اليانعة؟

    أين رقاق الثياب؟

    أبن الطيب والبخور؟

    أين كسوتك في الصيف والشتاء؟

    أما والله وقد نزل الأمر فما يدفعه عنك أحد، وخلا الوجه يرشح عرقاً، ويتلمظ عطشاً، ويتقلب في سكرات الموت، جاء الأمر من السماء، وجاء طالب القدر والقضاء، فهيهات هيهات!!

    يا مغمض الوالد والولد وغاسله!

    يا مكفن الميت وحامله!

    يا تاركاً له في القبر وراجعاً عنه!

    ليت شعري كيف كنت على خشونة الثرى، ومتى ستكون أنت المحمول؟

    كم حملت من الأموات؟

    ومتى تكون أنت المحمول؟

    كم سمعت من الأخبار عن الأموات؟

    ومتى ستكون أنت الخبر بالموت؟

    كم تركت في القبور من الأموات؟

    ومتى ستكون أنت المتروك في القبر ويذهب الناس إلى بيتك؟

    لا إله إلا الله أيها الإخوة في الله!! ما أغفلنا عن ذلك المصير، لا حول ولا قوة إلا بالله.

    أما والله لو علم الأنام     لما خلقوا لما هجعوا وناموا

    لقد خلقوا لأمر لو رأته     عيون قلوبهم تاهوا وهاموا

    ممات ثم قبر ثم حشر          وتوبيخ وأهوال عظام

    ليوم الحشر قد عملت رجال     فصلوا من مخافته وصاموا

    ونحن إذا أمرنا أو نهينا     كأهل الكهف أيقاظ نيام

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088804883

    عدد مرات الحفظ

    779155914