إسلام ويب

التتار وغزو العراقللشيخ : راغب السرجاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما ترك قوم كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا سلط الله عليهم الأعداء، ينخرون فيهم عود العزة والمهابة، ويزرعون فيهم الذل والهوان، إلا أنه مهما ضاق العيش على المسلمين ومهما اشتد حصار الكافرين عليهم فإن الله يفتح لهم باب الفرج والنصر والتمكين على أيدي أبطال يصنعون التاريخ، وزمن المعجزات لن ينتهي ما دام القرآن في أيدينا.
    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أما بعد:

    فأهلاً ومرحباً بكم في هذا الجمع المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.

    يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الأعراف:176].

    ويقول: لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ [يوسف:111].

    نتحدث إليكم عن فترة عجيبة من الفترات التي مرت على أمتنا الإسلامية، هذه الفترة من أهم الفترات التي مرت علينا، والتاريخ يعيد نفسه، ونفس الأحداث تتكرر، ولكن قد تكون بأسماء مختلفة أو في أماكن مختلفة، فنفس الحدث يتكرر بعد مرور مئات من الأعوام على الحدث السابق، فأحياناً نتعجب كيف صنع السابقون كذا أو كذا؟! ولكن تعود الأحداث من جديد وتتكرر بنفس الصورة، وكما ذكرنا من قبل في محاضرات سابقة بخصوص الأحداث التي مرت بحياة المسلمين.

    في هذه المحاضرة ألخص ما حدث في هذه الفترة من أحداث، وأسأل الله عز وجل أن يمكننا من استعراض كل الأمور بإيجاز، نتحدث اليوم عن ظهور قوة جديدة على سطح الأرض في القرن السابع الهجري، هذه القوة أدت إلى تغييرات هائلة في العالم بصفة عامة، وفي العالم الإسلامي بصفة خاصة، قوة بشعة أكلت الأخضر واليابس، ولم يكن لها هدف في حياتها إلا التدمير والإبادة، كما قال عنهم ابن الأثير رحمه الله: وكأنهم لا يريدون المال ولا الملك، وإنما فقط يريدون إفناء النوع البشري، تلك هي دولة التتار أو المغول التي ظهرت في زمان الخلافة الإسلامية العباسية سنة (603هـ)، يعني: في أوائل القرن السابع الهجري، وكان أول زعمائها هو جنكيز خان ، واسمه أصلاً تيموجين ، وكلمة جنكيز تعني: قاهر العالم ، فاتخذ لنفسه هذا اللقب، وتزعَّم دولة التتار التي تقع في شرق آسيا في شمال الصين حالياً.

    في غضون سنوات معدودات بدأت دولة المغول في التوسع الرهيب، على حساب المساحات المحيطة بها شرقاً وغرباً، وكانت لهم ديانة عجيبة، عبارة عن خليط من ديانات مختلفة: الإسلام والمسيحية والبوذية.. وأشياء أخرى خاصة بـجنكيز خان أدخلها على هذه الديانة، وقد جمع جنكيز خان كل هذه الديانات في منهج واحد سماه: الياسة أو الياسق في بعض الألفاظ، وجعله ديناً يتبعه التتار بصفة عامة.

    العوامل المؤدية إلى سرعة تكون دولة التتار

    تتميز حروب التتار بأشياء هامة:

    أولاً: كانت الجيوش تتميز بسرعة انتشار رهيبة، إذ كانوا ينشرون أعداداً هائلة من البشر في أزمان قليلة جداً.

    ثانياً: نظام محكم وترتيب عظيم.

    ثالثاً: أعداد لا تحصى من الخلق.

    رابعاً: تحمل ظروف قاسية، فقد كان جنكيز خان يدرب جنوده في الصحراء وفي الجليد، وكان يدرب جنوده بالليل والنهار، تحت كل الظروف يدرب جنوده، حتى استطاعوا أن يغزوا العالم كله في سنوات قليلة.

    خامساً: قيادة عسكرية بارعة، واحتياطات أمنية لم تسبق في زمانها.

    إضافة إلى ذلك فقد تميز التتار بصفتين في غاية الخطورة:

    الأولى: أنهم بلا قلب تماماً، حروب تخريب غير طبيعية، من السهل جداً أن ترى في تاريخهم أنهم دخلوا مدينة كذا أو كذا فدمروا كل المدينة وقتلوا كل السكان، فكلمة كل السكان هذه تكررت في أكثر من موضع في تاريخ التتار، يبيدون أهل المدينة بكاملها ولا يفرقون بين رجل وامرأة، ولا بين رضيع وشاب، ولا صغير وشيخ، ولا ظالم ومظلوم، ولا مدني ومحارب! يبيدون كل الناس إبادة جماعية رهيبة دموية لا تصل إليها الحيوانات الشرسة.

    الصفة الثانية: رفض قبول الآخر، والرغبة في تطبيق مبدأ القطب الواحد! لا يريدون أحداً إلى جوارهم، ليس هناك طرح للتعامل مع دول أخرى محيطة، والغريب أنهم كانوا يتظاهرون دائماً بأنهم ما جاءوا إلى بلاد غير بلادهم إلا ليقيموا الدين وينشروا العدل، ويخلصوا البلاد من الظالمين! هكذا كانوا يقولون في رسائلهم إلى البلاد، مع أن هذا يخالف تماماً طبيعتهم كما سنرى.

    ظهرت هذه القوة البشعة في آخر قرون الخلافة العباسية التي ظلت تحكم بلاد المسلمين خمسة قرون كاملة، فظهر التتار في آخر قرن من قرون الخلافة العباسية في القرن السابع الهجري، وكان هذا القرن متسماً بالضعف الشديد، فكان هناك تفرق ضخم في العالم الإسلامي، واهتم الخلفاء بجمع المال، وتوطيد أركان السلطان دون مراعاة لسمة منصب الحاكم، فلم يعد من وظيفة الحاكم أن يؤمن دولته، ويرفع مستوى المعيشة لأفراده، ويحكم في المظالم، ويرد الحقوق لأهلها، ويقيم حق الله عز وجل على العباد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، بل إن الحكام في هذه الفترة لم يكن من همهم إلا توطيد الحكم لهم ولعائلاتهم، وجمع الأموال الكثيرة والتحف النادرة والغناء والحفلات.. وغير ذلك؛ بسبب ذلك كله ضعفت هيبة الخلافة، وتضاءلت طموحات الخليفة.

    إن الخلافة العباسية في ذلك الوقت لم تكن تسيطر إلا على العراق، وتسكن في العاصمة بغداد وحولها عشرات من الممالك الإسلامية، إما منفصلة عنها بالكلية أو تابعة لها اسماً لا فعلاً، فرقة شديدة، فكان من الطبيعي جداً أن ترى خلافاً على الحدود يفضي إلى حروب ومعارك بين المسلمين، وما أكثر ما تم من حروب بين مصر والشام، وبين حلب ودمشق، وبين الموصل وبغداد، وبين الشرق والغرب، وبين الشمال والجنوب، فرقة بشعة في ذلك الزمن، والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46]، فالتنازع الذي كان بين أمراء المسلمين في ذلك الزمن أدى إلى الفشل الذي رأيناه في تاريخ التتار مع المسلمين.

    في ذلك الوقت ظهرت قوة التتار في شرق آسيا، وسرعان ما ضمت في حوزتها إقليم منغوليا في شمال الصين، ثم الصين، ثم كوريا، ثم سيبيريا، وأصبحت دولة ضخمة.

    أسباب غزو التتار لبلاد المسلمين

    كان الصليبيون يعيشون في بعض الإمارات في الشام، وفي أوروبا وفرنسا وإنجلترا.. وفي غيرها من البلاد، فرأوا هذه القوة الناشئة التي ظهرت في أقصى بلاد الأرض في ذلك الزمن في شرق آسيا، ففكروا في استثارة هذه الدولة على بلاد المسلمين وتحريضها على غزوهم، ولا ننسى أن موقعة حطين كانت قبل ظهور دولة التتار بحوالي عشرين سنة فقط في سنة (583هـ)، ودُحِر فيها الصليبيون، وانتصر عليهم المسلمون انتصاراً عظيماً، وبعدها بعشرين سنة قامت دولة التتار.

    فالصليبيون أرادوا أن يستغلوا دولة التتار في إفناء القوة الإسلامية المتمثلة في الخلافة العباسية، وفي ذلك الوقت كانت جيوش التتار قد وصلت إلى حدود الممالك الإسلامية، فقد كان المسلمون يحكمون أفغانستان وأوزبكستان وطاجاكستان وتركمانستان الغربية، يعني: كل الجمهوريات الموجودة في جنوب روسيا، فقد كانت حدود دولة التتار ملاصقة لحدود دولة المسلمين في أفغانستان وأوزبكستان .. وغيرها من البلاد المحيطة بها، وكان يحكم هذه البلاد في ذلك الزمن من المسلمين الدولة الخوارزمية، وعلى رأسها محمد خوارزم شاه، وكانت هذه الدولة على خلاف كبير مع الخلافة العباسية في العراق، وهذه أول مشكلة أن العالم الإسلامي كما ذكرنا كان مفرقاً مشتتاً، فقد كان هذا المكان الملاصق للتتار على خلاف مع الدولة العباسية.

    اقتنع جنكيز خان بنصيحة الصليبيين له بغزو البلاد الإسلامية، وبالطبع كان يعلم عن مدى غزارة الأموال في هذه البلاد ومدى الخير العميم فيها، فأراد أن يضم هذه البلاد إلى مملكته الواسعة، فكيف يعمل لكي يغزو الخلافة العباسية المستقرة في العراق؟

    رأى جنكيز خان أن أفضل طريقة لإسقاط الخلافة العباسية في العراق هي التمركز أولاً في منطقة أفغانستان وأوزبكستان، بحيث تصبح قاعدة إمداد بعد ذلك لجيوشه إذا اتجه إلى العراق، لكن جنكيز خان في شبه اتفاق مع ملك خوارزم على حسن الجوار، مع أن التتار ليس لهم عهد، فهم لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10]، ولكن جنكيز خان كان قد عقد هذا الاتفاق كخطوة لتأمين ظهره إلى أن يستتب الأمر له في شرق آسيا، فأراد جنكيز خان أن ينزل في أرض أوزبكستان وأفغانستان، فكان لا بد من سبب ينقض من أجله العهد، ويدخل إلى بلاد خوارزم، فجاء السبب مبكراً عن إعداد جنكيز خان ، ولكنه لا مانع من استغلال هذا السبب.

    كانت هناك بعثة تجارية قادمة من بلاد المغول للمتاجرة في مدينة من مدن المسلمين تسمى مدينة أوترار، واعتقد حاكم أوترار أنهم جواسيس، وهم لا يعرفون هل هم جواسيس .. أو غير ذلك؟ فأمسك بهم حاكم المدينة وقتلهم، وكانت هذه علة مناسبة، فقد طلب جنكيز خان من حاكم خوارزم أن يسلم له القتلة ليحاكمهم بنفسه، لكن حاكم خوارزم رفض، قال: إن هذا تعدٍّ على سيادة الدولة المسلمة، إنما يحاكمهم هو، فإن ثبت خطؤهم عاقبهم وإلا فلا.

    غزو التتار لبلاد خوارزم شاه وتدميرهم لمعظم المدن

    استغل جنكيز خان قتل التتريين في مدينة أوترار، فجهز جيوشه، وبدأ بغزو بلاد خوارزم التي تعتبر الحدود الشرقية للدولة الإسلامية المترامية الأطراف، فقاموا بحرب إبادة قذرة تماماً، فقد نزلوا في بخارى بلد الإمام البخاري رحمه الله سنة (617هـ) ودمروها تدميراً كاملاً، وقتلوا معظم سكان بخارى، ونزلوا في سمرقند بعدها بشهور ودمروها بكاملها، ثم نزلوا نيسابور ودمروها تدميراً كاملاً.

    ثم نزلوا في أورجندة وكان فيها محمد بن خوارزم زعيم البلاد، فحاصروا أورجندة حتى اضطروه إلى الهروب منها، ودخلوا إلى البلد واستباحوا أهلها، وقتلوا كل من فيها، وهرب محمد بن خوارزم إلى جزيرة بحر قزوين حيث مات فيها هناك وحيداً.

    ثم تولى الأمر من بعده جلال الدين بن خوارزم شاه ، وأخذ يجمع الجيوش حتى يحارب التتار، لكن دخل التتار أفغانستان، ودخلوا مدينة تسمى بميان، وقتلوا أهلها جميعاً، ولم يبقوا فيها إلا على أربعمائة فقط من الصناع المهرة، فحاول جلال الدين تنظيم الصفوف من جديد، واشتبك في بعض المواقع مع التتار، وانتصر عليهم في موقعة في كابول، ولكن ما لبث أن حلت به الهزيمة، وفر جلال الدين إلى الهند وهزم جيشه، وقبض جنكيز خان على عائلته بأكملها، وذبح كل أطفاله.

    وفي سنة (619هـ) دخلت القوات التترية إلى مدينة هرات الأفغانية، وذبحوا مئات الألوف من أهلها، ثم دخلوا إيران ودمروا مدينة قم، وقتلوا معظم أهلها، ثم احتلوا مدينة الري التي تقع بالقرب من طهران، ووقف التتار عند مدينة الري بالقرب من طهران.

    إذاً: اجتاحوا كل هذه البلاد في فترات وجيزة جداً لا تتعدى الأربع أو الخمس سنوات.

    والغريب في الأمر أن الناصر لدين الله خليفة المسلمين في ذلك الوقت كان يتعاون مع التتار لضرب جلال الدين بن خوارزم؛ وذلك لأنه كان يعارض الخليفة العباسي في بغداد، فقد كانت الحرب طويلة بين العراق وإيران، أو قل: بين الخلافة العباسية والدولة الخوارزمية التي تسيطر على فارس وباكستان وأفغانستان وأوزبكستان وأذربيجان.. وما حولها، ولم يكن يدري حاكم الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت أن الدائرة ستدور عليه في يوم من الأيام، وعلى أيدي نفس الطواغيت الذين تعاون معهم، لكن هذا ما حدث فعلاً في ذلك الوقت.

    وفاة جنكيز خان واجتياح بقية البلدان الإسلامية بعد وفاته بخمس سنوات

    في عام (624هـ) توفي جنكيز خان ، وترك وراءه إمبراطوريةً ضخمة جداً من كوريا إلى منتصف بلاد إيران، ومن سيبيريا إلى المحيط الهندي، وبوفاته هدأت الأمور نسبياً، ولكنها عادت إلى الاشتعال مرة أخرى بعد خمس سنوات، فأين كان المسلمون في هذه السنوات الخمس؟ لا شيء لا حركة، إذ لم يعتقد المسلمون أن ما يدور الآن في بلد مسلم سيدور في البلد الآخر بعد قليل، بل كل يبحث عن أمنه اللحظي المحدود فقط بحدود البلاد الضيقة التي يعيش فيها.

    في سنة (629هـ) -يعني: بعد وفاة جنكيز خان بخمس سنوات- كان اجتياح بقية الأجزاء الغربية من إيران وأذربيجان.

    اجتياح التتار لبلاد روسيا وأوروبا وتضييق الخناق على الخلافة العباسية

    في سنة (630هـ) صعد التتار إلى الشمال، ودمروا روسيا بكاملها وقتلوا أهلها، وبالذات في موسكو، واستمروا إلى سنة (640هـ) يعني: أخذوا عشر سنوات في احتلال البلاد الروسية إلى أن وصلوا إلى موسكو في سنة (640هـ) ودمروها بكاملها.

    ثم بدأ التتار يجتاح أوروبا اجتياحاً رهيباً في سنة (641هـ)، ووصلوا إلى بولندا والمجر وكرواتيا، ودمروا كل هذه البلاد تماماً.

    ثم عادوا بعد ذلك إلى بلاد المسلمين، وبدأ الخناق يضيق على الخلافة الإسلامية في بغداد، ورأى التتار أن يتحالفوا مع النصارى في البلاد الإسلامية وحول البلاد الإسلامية، فبدءوا في مراسلتهم واستخدامهم كجواسيس داخل البلاد الإسلامية، وعقدوا حلفاً مع ملك أرمينيا الذي كان في ذلك الوقت نصرانياً، ووعدوا النصارى إن هم تعاونوا معهم أن يعطوهم بيت المقدس، الذي كان قد حرره صلاح الدين الأيوبي رحمه الله.

    رأى التتار أيضاً أن يسيطروا على منطقة الأناضول -التي هي تركيا الآن- فوجهوا إليها جيوشاً وحاربوها، وقاومهم السلاجقة هناك، ولكن ظهرت حكومات ضعيفة في منطقة الأناضول، ما كان لهم من هم إلا شراء رضا التتار، فوافقت على الخضوع للتتار، وأن تنطلق الجيوش التترية من تركيا؛ للإحاطة بالخلافة الإسلامية العباسية في العراق من شمالها.

    ظهور شخصية هولاكو والأساليب التي استخدمها لإسقاط العراق

    ظهر بعد ذلك على هذه الصفحة من التاريخ رجل بشع يقال له: هولاكو، وكان ذلك في سنة (651هـ)، وكان ظهوره عندما تولى منكو خان زعامة دولة المغول، وكانت دولة المغول في ذلك الوقت من كوريا في شرق آسيا إلى بولندا في وسط أوروبا، وتولى زعامة هذه البلاد رجل اسمه منكو خان ، وكان منكو خان أخاً لـهولاكو ، فأرسل منكو خان أخاه هولاكو لاستكمال إسقاط ما تبقى من بلاد المسلمين، وجاء هولاكو إلى إيران؛ ليكون قريباً من الأحداث.

    إن شخصية هولاكو شخصية من أبشع الشخصيات في التاريخ، فهو رجل ليس له أي نزعة إنسانية، فقد كان يحب القتل ويتعطش للدماء بشكل مريع، وكان يمثل الجناح الأشد تطرفاً في دولة التتار، فإنه كان من دولة التتار أناس يعارضون هولاكو في حروبه الدموية البشعة، ولكنه كان هو الذي يسيطر على هذه الأمور، لقرابته من زعيم التتار في ذلك الوقت.

    ماذا فعل هولاكو لإسقاط العراق؟ قرر أولاً أن يسقط طائفة الإسماعيلية، وهي طائفة من أبشع طوائف الشيعة، حتى إن كثيراً من العلماء أخرجوا طائفة الإسماعيلية بأفكارهم من الدين الإسلامي بالكلية، وكانت هذه الطائفة تتمركز في غرب إيران وعلى حدود العراق، وكانت لهم قوة عسكرية ضخمة، فلم يرد هولاكو أن يدخل على الخلافة العباسية الموجودة في العراق وفي طريقه طائفة الإسماعيلية، فأراد أن يدمر هذه الطائفة، وكان العنف والإرهاب هو الوسيلة المناسبة لهم، وبالفعل تم له ما أراد، وأفنى طائفة الإسماعيلية بكاملها.

    الأمر الآخر الذي قرره هولاكو لاحتلال العراق كان أمراً في منتهى الدهاء، فبدلاً من أن يهلك جيوشه مع جيوش المسلمين الضخمة في منطقة العراق والشام والأناضول وما حولها؛ قرر أن يحدث انقساماً حاداً في هذه المنطقة، فقرر أن يتعامل بالاتفاق مع مجموعتين رئيستين من المسلمين، يعطيهم الوعود والعهود بالتمكين لهم وإغداق الهدايا عليهم، ومساعدتهم في الوصول إلى ما يريدون من حكم وسلطان في نظير إسقاط الخلافة في العراق.

    الطائفة الأولى التي تعامل معها هولاكو هي طائفة الأكراد أحفاد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، فقد قام هولاكو بمراسلة الأشرف الأيوبي ملك حمص، وكذلك راسل الناصر يوسف الأيوبي أمير حلب ودمشق، ووعدهم أن يبقيهم في أماكنهم إذا ساعدوه، أو على الأقل يكونون على الحياد في حربه مع الخلافة العباسية، ووافق الأكراد على ذلك.

    الطائفة الثانية التي تعاون معها هولاكو كانت طائفة الشيعة التي تعيش في العراق، وتعارض النظام الحاكم المتمثل في الخليفة العباسي في ذلك الوقت، وكان الخليفة لسوء فهمه لإدارة الأمور، وعدم تقديره الكافي للمسئولية؛ قد اختار أحدهم، وجعله أقرب المقربين إليه، فقد كان الوزير الأول للخليفة العباسي في الدولة التي تحارب التتار هو مؤيد الدين العلقمي الشيعي، وهكذا استطاع التتار أن يصلوا إلى هذا الرجل، ودارت بينهم وبينه الاتفاقات والمراسلات التي تؤدي إلى إسقاط الخلافة، على أن يتولى الأمور بعد ذلك في بغداد هذا الرجل، تحت حماية تترية وتأييد من هولاكو .

    وكان من نصائح التتار لـمؤيد الدين العلقمي أن يُهبِط تماماً من معنويات الخليفة والمسلمين، أو يشككهم في أمر الانتصار على التتار، فأخبرهم أنه من المستحيل أن يحاربوا هذه الأعداد الهائلة من البشر بهذه الإمكانيات الضعيفة عند بلاد المسلمين، بل إنه طلب من الخليفة العباسي طلباً غريباً جداً، والأعجب من ذلك أن الخليفة العباسي وافق على طلبه، طلب منه أن يقلل عدد الجيوش الإسلامية لإثبات حسن النوايا أمام التتار أنه لا يريد حرباً! فوافق الخليفة على ذلك، وقلل بالفعل من الجيش الإسلامي الموجود في بغداد، والجيش التتري على بعد خطوات في إيران.

    شخصية الخليفة العباسي المستعصم بالله ومهادنته للتار

    تعالوا لنأخذ نظرة على هذا الخليفة، حتى إذا قرأتم وصفه في كتب التاريخ لم تستغربوا، الخليفة هو المستعصم بالله ، فيا لها من أسماء عظيمة جداً في ذلك الزمن. يصفونه بأنه كان رجلاً عالماً محباً للعلم والعلماء، وكان رجلاً كريماً محباً للسنة ولحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    يعني: أن المستعصم بالله كان رجلاً جيداً في ذاته، لكنه افتقر إلى أمور لا يصح أن يفتقر إليها حاكم مسلم، افتقر إلى حسن الإعداد والتنظيم، وإلى الكفاءة في إدارة الأمور، وافتقر إلى علو الهمة، وإلى الأمل في الصدارة أو التمكين، وافتقر إلى الشجاعة التي تمكنه من أخذ قرار الحرب في وقته المناسب، وافتقر إلى القدرة على تجميع الصفوف وتوحيد القلوب ونبذ الفرقة ورفع راية المسلمين، وافتقر كذلك إلى اختيار أعوانه؛ ففشت في بلاده بطانة السوء.

    كان الخليفة جيداً في عبادته وعقيدته، ولكنه لم يتعد ذلك إلى غيره، فهو أمام المجتمع والدولة والشعب لم يكن بالذي يستطيع أن يتحمل المسئولية، فقد كان في استطاعته في ذلك الزمن أن يعد -من داخل العراق فقط مائة وعشرين ألف فارس، فضلاً عن المشاة والمتطوعين، فقد كان جيش التتار الذي كان يحاصر بغداد مائتي ألف، فكان الأمل كبيراً جداً في رد الغزاة، ولكنه كان مهزوماً من الداخل، فاقداً للروح التي تمكنه من المقاومة، لم يرب شعبه على الجهاد، ولم يعلمهم فنون القتال، فكان لا بد أن يدفع الشعب كله والخليفة معهم الثمن، لم يدرك الخليفة أنه كان بإمكانه أن يكون عظيماً من عظماء التاريخ، وخالداً في الذكر بين الخالدين لو أنه اعتمد على ربه ثم على شعبه، لكنه مع الأسف اعتمد على بطانة السوء التي تؤخر كثيراً ولا تقدم شيئاً.

    ظهرت في بغداد دعوة للجهاد مع كل هذه الملابسات، قاد هذه الدعوة رجل اسمه مجاهد الدين أيبك، ورجل آخر اسمه سليمان شاه ، وكان لهما الرأي في المقاومة، لكن الخليفة أخذ برأي الوزير الشيعي مؤيد الدين العلقمي في مهادنة التتار، واقتربت اللحظات الأخيرة، وقرر هولاكو أن يأخذ الخطوات اللازمة لدخول بغداد، ولتحسين الصورة أمام الخلفاء ولتفتيت الشعوب التي قد تثور، أراد هولاكو أن يقوم بحيلة خبيثة وهو أن يطلب من الخليفة طلباً ما، فإذا رفضه كان هذا إيذاناً بإعلان الحرب على بغداد، ولا بد أن يكون الطلب مستحيلاً حتى لا ينفذه الخليفة، طلب منه أن يرسل له بجيش يساعده في حرب طائفة الإسماعيلية في شمال إيران، ولو أن الخليفة العباسي أخرج هذا الجيش فإنه سيترك بغداد والعراق بلا جيش تقريباً، ولو دخل التتار إلى بغداد عنوة ورفعوه عن الكرسي فلن يعيدوه إليه أبداً، لذلك قرر الخليفة ألا يستجيب لطلب التتار بإخراج جيش لحرب طائفة الإسماعيلية وكانت هذه بداية الحرب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088457680

    عدد مرات الحفظ

    776843687