إسلام ويب

كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كما وجد الأذان في الشرع لتهيئة العبد إلى ما هو مقبل عليه من أداء للفرائض؛ كذلك شرع دعاء الاستفتاح لتهيئة أخرى؛ فهو يجمع في طياته جملاً عظيمة من التوحيد تهيئ العبد للإقبال على الله تعالى بكل معاني الإخلاص والتجرد له سبحانه، وتجعله يستقبل صلب الصلاة بنفس مطمئنة راضية، قد خلف وراءه كل المعاصي وابتعد عنها واغتسل منها.. كل ذلك ليكون أهلاً لمغفرة الله ورضوانه لما سيكون منه فيما بعد من دخول في الصلاة بخشوع.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه وبعد:

    [وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر للصلاة سكت هنيهة قبل أن يقرأ، فسألته فقال: (أقول: اللهم باعد بين وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب، اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، متفق عليه].

    يذكر المؤلف رحمه الله تعالى ما جاء في دعاء الافتتاح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه أبو هريرة رضي الله تعالى عنه، فقد لاحظ أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كبر تكبيرة الإحرام يسكت هنيهة، فسأل: ما تقول في هذه السكتة يا رسول الله؟! فبين له ما يقول في هذه السكتة.

    وفي هذا الحديث يبحث العلماء في سكتات الإمام في الصلاة، فبعضهم يقول: الأولى: السكتة للاستفتاح، وهي محل اتفاق، والثانية: بعد قراءته سورة الفاتحة وقبل قراءة السورة التي بعدها، والثالثة: بعد قراءته السورة، فهذه ثلاث سكتات: بعد تكبيرة الإحرام، وبعد قراءة الفاتحة، وبعد الفراغ من القراءة كلية وقبل أن يركع، وبعضٌ ينازع في الثانية ويقول: إذا أنهى قراءة الفاتحة شرع في قراءة السورة أو الآية التي بعدها، وبعض يثبتها حتى يعطي المأموم الفرصة ليقرأ الفاتحة، وبعض يذكر الخلاف في السكتة الأخيرة قبل الركوع، والسكتة التي قبل الركوع أثبت من السكتة بين الفاتحة والسورة التالية.

    طلب المباعدة بينه وبين الخطايا

    قوله : (أقول: اللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب). هذا الدعاء يسأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل وهو لا خطيئة له: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ [الفتح:2]، وجاء التنبيه على لفظ (اللهم): بزيادة الميم في الأخير بدل ياء النداء، أي: (يا الله باعد) فيحذف ياء النداء ويأتي بالميم في الأخير: (اللهم باعد بيني وبين خطاياي)، وهذه المباعدة لتلك الخطايا في الماضي أم للمستقبل؟

    إن كانت عن الماضي فهي بمعنى: اغفر لي وارحمني واصفح عني، ولا تجعل بيني وبينها اختلاط ولا اجتماع بأن تغفرها لي: فإذا كان قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ فماذا يباعد؟ قالوا: هذا تعليم لنا، وهي زيادة رفع له في درجاته صلى الله عليه وسلم، كما لو فرضنا أن إنساناً يستغفر الله بكثرة وليس عنده ذنوب؛ فيكون استغفاره رفعه له في درجاته، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (توبوا إلى الله؛ فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، سبحان الله! الرسول يتوب إلى الله في اليوم مائة مرة! والتوبة لا تكون إلا من ذنب، قالوا: ربما أن بعض التقصير يعتبره صلى الله عليه وسلم ذنباً، ولذا فإنه يتوب منه، كما ثبت في دعاء الخروج من بيت الخلاء: (غفرانك)، غفرانك من ماذا؟ لأنه لما دخل بيت الخلاء امتنع من ذكر الله، فلما خرج اعتبر فترة وجوده في بيت الخلاء المانع من ذكر الله خطيئة، فقال: غفرانك ربي عن هذا الوقت الذي ذهب من غير ذكرك! ولكن هذا شيء. والتحقيق: أنه تعليم للأمة، كما تقدم في الخطاب الذي يوجه إليه صلى الله عليه وسلم، وليس هو المقصود به أبداً، كما في قوله سبحانه وتعالى في حق الوالدين: إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [الإسراء:23]، لمن يقول؟ أبوه قد توفي وهو في بطن أمه، وأمه توفيت وعمره سبع سنوات، من سيبلغ عنده الكبر من والديه؟ ليس هناك أحد منهما، فيكون هذا قطعاً المراد به الأمة، فقد خوطبوا في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: هنا كذلك: (باعد بيني وبين خطاياي)، والحال ليس هناك خطايا، يقول: (أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة)، والحال ليس هناك ذنوب يتوب منها؛ إنما يكون تعليماً لنا، ورفعاً لدرجاته صلى الله عليه وسلم.

    وهنا المباعدة إن كان المراد بها خطايا متقدمة يكون المراد غفرانها وسترها ومحوها، لأن المشرق والمغرب لا يلتقيان أبداً، فكذلك هو والخطايا لا يلتقيان، وإن كان للمستقبل فالمراد بها: باعد بيني وبين أسباب ارتكاب الخطايا؛ حتى لا أخطئ كما باعدت بين المشرق والمغرب، فلا أجتمع أنا وخطيئة أبداً كما لا يجتمع المشرق والمغرب أبداً.

    التنقية والاغتسال من الذنوب

    قال: (اللهم نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس)، كما قيل: إن البياض لا يحتمل الدنس، فالغترة البيضاء إذا جاءت ذبابة ووضعت عليها نقطة ظهرت فيها، أما الملونة لو جاء الفأر ما كان ليظهر فيها شيء، فهنا التشبيه: (نقني من خطاياي كما ينقى الثوب الأبيض) الذي لا يحتمل دنساً أبداً، وكما ينقى الثوب الأبيض من الدنس نقني أنا أيضاً من خطاياي، واجعل صحيفتي بيضاء نقية.

    ثم قال: (اللهم اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد) باعد، نقي، اغسل، كل أنواع الابتعاد من الخطايا يكررها ويجمعها صلى الله عليه وسلم، وإذا كان هذا في حقه، وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما بالنا نحن؟!

    ولهذا في الحج حينما يطوف الحاج طواف الوداع يأتيه ملك يربد بين كتفيه ويقول: استقبل عملاً جديداً فصحيفتك بيضاء نقية، وهنا يقول: (اغسلني من خطاياي بالماء والثلج والبرد)، وكان يكفي الماء فهو يغسل كل شيء، لكن معه الثلج، ومعهما البرد، وما الذي أوجب مجيء الثلج والبرد؟

    بعض العلماء يقول: إن الخطيئة عند المؤمن تسبب له الندم، والندم يجعل عند الإنسان حرارة، فإذا غسلت بالماء زال أثرها كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، لكن تبقى حرارتها فتغسل بالثلج فتذهب حرارة الخطيئة في نفسه، ويأتي البرد زيادة على ذلك، ويمكن أن يقال: حبيبات البرد أقوى في إزالة الدنس، فعندما يكون لديك زجاجة فيها زيت وغسلتها بالماء فإنه لا يذهب، فإذا أخذت قليلاً من الرمل ووضعتها في الزجاجة ورجيتها، فالرمل بحركته في جدران الزجاجة يأخذ الزيت، فكأن أجرام الرمل داخل الزجاجة تساعد على نظافتها، فكأن إمرار البرد على الصحيفة يساعد على إنقائها أكثر من مجرد إمرار الماء.

    فيقول العلماء: الحكمة من جمع الثلج والبرد: أن الماء منقٍ، والثلج والبرد لأمر معنوي في أثر الخطيئة عند المؤمن؛ لأنه يشعر بأنه ارتكبها، والارتكاب يجعل عنده الندم، والندم يبعث على الحرارة والأسى على ذلك؛ فيكون الثلج والبرد يطفئ حرارة الأسى والندم من الخطيئة؛ فينمحي أثرها بالكلية.

    نسأل الله أن يغسلنا من الذنوب، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089131276

    عدد مرات الحفظ

    782048325