إسلام ويب

كتاب الصيام - باب الاعتكاف وقيام رمضان [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • فضل الله عز وجل بعض مخلوقاته على بعض، ففضل بعض الأنبياء على بعض، وفضل بعض الأماكن على بعض، وفضل بعض الأزمان على بعض، ومن تفضيل الأزمان تفضيل بعض الشهور على غيرها، وتفضيل بعض الأيام على غيرها وكذلك بعض الليالي، ومن الأزمان التي فضلها الله عز وجل شهر رمضان، فجعل صيامه واجباً على المسلمين، وأنزل فيه القرآن، وفيه العشر الأواخر وهي من الأيام والليالي المفضلة، وفيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، فمن وفقه الله لقيامها إيماناً واحتساباً نال بذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه.

    أما بعد:

    قال المصنف رحمه الله: [عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه].

    قال صلى الله عليه وسلم: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً) هذا جزء من حديث طويل وفيه: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، فأما ما يتعلق بالصيام فقد تقدم، وبقي ما يتعلق بالقيام، وفي بعض روايات حديث أبي هريرة : (ولم يعزم علينا).

    قوله: (من قام)، (من) هنا شرطية تفيد العموم، والمراد بهذا القيام: القيام في الصلاة، والصلاة في رمضان مختصة بالليل كما أن الصوم في رمضان مختص بالنهار، وقيام رمضان ليس بفريضة ولا بواجب ولكنه سنة مؤكدة وهو آكد من سنة الاعتكاف؛ لأن قيام رمضان أو ما يسمى التراويح في الآونة الأخيرة أصبح شعار الأمة في صيامها، ولهذا لا ينبغي تعطيل المساجد من قيام الليل في رمضان، سواء سمينا ذلك قياماً كما هو الاسم الشرعي الأساسي أو سميناه تراويحاً؛ واسم التراويح طارئ عليه، وسببه: أنهم كانوا يصلون ويطيلون القيام إلى الحد الذي يتعبون منه، فيجلسون بين كل تسليمتين من أجل أن يستريحوا، فسمي هذا الجلوس ترويحاً بدل استراحات؛ أي: أنه تراويح بين كل صلاة وصلاة، أو بين كل ركعتين وركعتين.

    حكم قيام رمضان

    وقيام رمضان من حيث هو جاء في عموم قيام الليل طيلة السنة كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف الليل الأول، ومن صلى الفجر في جماعة فكأنما قام النصف الثاني)، فأقل درجات قيام الليل القيام المطلق أن يصلي الإنسان العشاء في جماعة، والفجر في جماعة، ثم ما زاد بعد ذلك فهو نافلة وزيادة، ثم أصبح القيام معروفاً باختصاصه برمضان، وأول من بدأ قيام رمضان هو النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء: (أنه صلى ليلة ثلاثٍ وعشرين، فشعر بعض الناس الذين في المسجد بصلاته فصلوا معه، وفي الليلة التي بعدها علم بعض الناس فاجتمعوا، فصلى رسول الله فصلوا بصلاته أيضاً، وفي الليلة الثالثة عم الخبر المدينة، ولما صلوا العشاء جلسوا ينتظرون ولم يرجع أحد إلى بيته، فنظر صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج ليصلي كالعادة فإذا بالمسجد مليء بالناس، فقال: يا عائشة ! ما بال الناس جلوس؟ ألم يصلوا العشاء؟! قالت: بلى، ولكنهم تسامعوا بمن صلى خلفك فهم ينتظرون أن تخرج لتصلي فيصلون بصلاتك، فقال: اطوي عنا حصيرك، ولم يخرج تلك الليلة، فانتظروا وحصبوا الباب بحصباء المسجد فلم يخرج إليهم حتى الصباح، ولما خرج لصلاة الصبح، قال: والله! ما خفي علي صنيعكم البارحة، وما بت بحمد الله غافلاً؛ ولكني كرهت أن أخرج إليكم فتفرض عليكم فتعجزون)، وهذا من رحمته صلى الله عليه وسلم بالأمة، كما جاء عنه في عدة مواضع: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بكذا).

    عمر رضي الله عنه أول من جمع الناس في صلاة التراويح على إمام واحد

    بعد أن انتهى عهد المصطفى صلى الله عليه وسلم كان الناس كل واحد يصلي لنفسه على ما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعاً : (من قام رمضان...) فكان كل واحد يقوم بقدر استطاعته، وليس هناك تحديد عدد ولا نوعية ولا توحيد إمام، ومضى على ذلك عهد أبي بكر رضي تعالى الله عنه، وكان مشغولاً بقتال أهل الردة، وبتثبيت الدعوة، إلى غير ذلك، وكانت خلافته سنتين فقط، ولم يحدث جديداً، لكن ثبت في عهده أنهم كانوا يصلون الليل في رمضان ويطيلون القيام لأنفسهم حتى يتكئون على العصي، ويرجعون من المسجد إلى البيوت يحثون الخدم على التعجيل بالسحور خشية الفلاح، يعني: الفجر.

    ثم جاء عهد عمر رضي الله تعالى عنه فرأى الناس يصلون أوزاعاً -جماعات- يصلي كل مجموعة خلف من عنده قرآن، وكانوا يتتبعون حسن الصوت ويصلون خلفه، فلما رآهم أوزاعاً متفرقين -وهذه ليست صفة المسلمين، فالإسلام جاء ليجمّع الناس ويوحدهم، وهؤلاء تفرقوا فرقاً وأوزاعاً- قال: أرى أني لو جمعتهم على إمام واحد لكان خيراً، فجمعهم على أبي بن كعب ، وصاروا جماعةً واحدة، وجعل معه شخصاً آخر حتى يتناوبا، وجعل إماماً خاصاً للنساء أعجل منهما؛ كي ترجع النسوة إلى بيوتهن بسرعة.

    عدد الركعات في صلاة التراويح

    جمع عمر القراء واستمع إليهم، فمن كان سريع القراءة أمره أن يقرأ في الركعة بثلاثين آيةً، ومن كان بطيئاً أمره أن يقرأ بعشرين آيةً، ومن كان متوسطاً أمره أن يقرأ بخمس وعشرين آيةً، وأمره أن يصلي عشرين ركعةً ويوتر لهم بركعة فيكون الجميع إحدى وعشرين ركعةً، واستمر الأمر على ذلك باتفاق الصحابة الموجودين بما فيهم عثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم، فهذه الصورة التي أوجدها عمر حصلت باتفاق الخلفاء الراشدين الثلاثة، عمر ، عثمان ، علي رضي الله تعالى عنهم، وبمشهد وإقرار وموافقة من بقية الصحابة الموجودين بالمدينة.

    واستمر الأمر على ذلك إلى أن جاء زمن عمر بن عبد العزيز ، فزيد فيها ستة عشر ركعة؛ لأن أهل مكة كانوا يصلون عشرين ركعة، ولكنهم كانوا يطيلون الجلسة بين الركعتين فكان النشيط منهم يقوم ويطوف بالكعبة سبعة أشواط، ويصلي سنة الطواف ركعتين، فرأى أهل المدينة أنه ليس عندهم كعبة يطوفون بها، وأرادوا المنافسة فاستبدلوا بدل الطواف ركعتين، وصلوا مكان كل ترويحة أربع ركعات، وإذا كانت الصلاة عشرين ركعة وفي كل أربع ركعات ترويحة فسيكون مجموع الترويحات خمس ترويحات، وستكون الفجوات والاستراحات بين الخمس ترويحات أربع استراحات، فقالوا: إذاً: أهل مكة فازوا بالطواف وركعتي الطواف، فنعادل الطواف بركعتين، وسنة الطواف بركعتين، فصارت أربعاً في أربع ترويحات والمجموع ستة عشر ركعة، فأضافوها إلى العشرين وصارت ستاً وثلاثين ركعة، واستمرت على ذلك إلى القرن الخامس الهجري.

    ولما كان في القرن السابع جاء الإمام أبو زهرة وهو من أئمة الحديث فتولى الإمامة في المسجد النبوي الشريف، وأراد أن يلغي ما وضعه بعض الناس من أجل السياسة فألغى الست عشرة ركعة، وقال: تبقى المدينة مثل مكة، فأراد أن يجعلها عشرين ولكن لوجود المخالفة ومن أجل أن يبقى الاتفاق أيضاً جعل العشرين في أول الليل مثل أهل مكة، وجعل الست عشرة في آخر الليل باسم القيام، وأصبحت التراويح في أول الليل عشرين ركعة، والقيام في آخر الليل ست عشرة ركعةً، إلى أن جاءت الحكومة السعودية، فألغت من الست عشرة ستاً، وجعلتها عشراً تخفيفاً على الناس، وعممتها في عموم المملكة توحيداً للعمل، واستمرت بحمد الله إلى الآن، عشرون ركعة في أول الليل وعشر ركعات في آخره.

    وعمر رضي الله تعالى عنه لما جمعهم على إمام واحد جاء إلى المسجد بعد ليلة أو ليلتين ونظر فإذا الناس في جماعة واحدة، فقال: نعمت البدعة هذه والتي تنامون عنها خير منها، أي: أن صلاة المرء في بيته في جوف الليل خير من حضور تلك الجماعة؛ لأنه إذا صلى في بيته يؤنس أهله، ويجلب البركة لبيته، وتكون هناك رحمات تتنـزل في البيت، وتكون صلاته بعيدة عن الرياء وعن السمعة.

    ثم أجمع العلماء على أن من قام رمضان بركعتين أو بأربع أو بست أو بعشر أو بعشرين أو بأربعين فإنه يجوز له ذلك، فليس في ذلك حد محدود، ولكن يكون عمله في شخصه فلا يعترض على غيره ولا يدعوا غيره إلى ما يراه لنفسه؛ لأننا أخيراً وجدنا بعض الناس يلومون على هذا العمل ويعيبونه ويقولون: هي ثمان ركعات لا يزاد عليها لحديث عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا في غيره على ثمان ركعات)، ولكنها رضي الله تعالى عنها تقول: (يصلي أربعاً فلا تسل عن حسنهن وطولهن) فقد كان يقرأ في الركعة البقرة وآل عمران والنساء، ثم يركع نحواً من ذلك، أما الذين يقولون: لا نزيد على الثمان ركعات، فلا يقرءون في الركعة حتى سورة تبارك التي هي ثلاثون آيةً، كما أمر عمر القارئ السريع أن يقرأ بها، فكيف نوفق بين ذلك؟ إن قلتم: لا يزيد على الثمان، فاجعلوها كصلاة رسول الله في الطول، وإذا صليتم على تلك الكيفية فيكفي أربع، وكذلك أيضاً لابد أن تداوموا على ذلك في رمضان وفي غير رمضان، لا أن تتركوا كل ذلك طيلة العام ثم تأتون إلى رمضان وتقولون: لا تصلي إلا ثمان ركعات، ثم تجعلونها ثمان ركعات شكلية لا كالثمان التي تقدمت صفتها عن النبي صلى الله عليه وسلم.

    إذاً: عمر رضي الله تعالى عنه كان يعلم الثمان، ويعلم بأن الرسول صلى في بعض الليالي ثمانياً، وفي بعضها زاد على ذلك؛ لأنه صلى في بعض الليالي إلى ثلث الليل، وفي بعضها صلى إلى نصف الليل وفي بعضها صلى إلى ثلثي الليل، حتى قيل له: (يا رسول الله! لو نفلتنا بقية ليلتنا -أي: ما دام أننا صلينا إلى الثلثين- فقال: من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له بقية ليلته).

    الرد على من يقول: إن التراويح بدعة عمرية

    فهذه الصورة الموجودة الآن على ما هي عليه لا ينكر عليها، فإذا قصرت بإنسان همته أو نشاطه أو طرأ عليه عذر ما فهذا أمر شخصي ولا ينبغي أن يجعل مقياساً للآخرين ولا أن يعترض على الآخرين، ويقول: هذه بدعة عمر -أعوذ بالله- هي بدعة لغوية وليست بدعةً شرعيةً؛ لأن البدعة في اللغة: هي الابتداع والابتكار على غير مثال سابق على حد قوله سبحانه: بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [البقرة:117]، يعني: ابتدع خلقتها وهيئتها، فهذا الجرم العظيم الذي لا يحده النظر والذي يحيط بالعالم كالقبة لم يكن له مثال قبل هذا.

    إذاً: لما قال: نعمت، عرفنا بأنها ممدوحة، ولما قال: البدعة، عرفنا أنها اللغوية، وكيف يقره علي وعثمان وجميع الصحابة على شيء مبتدع؟! أنا أقول: إن الذي يقول: هذا بدعة عمر يؤدب؛ لأنه ينسب إلى عمر رضي الله تعالى عنه ما هو منه براء، فـعمر الذي كان الشيطان يفر من طريقه، ووافق القرآن في عدة مواطن هو أبعد الناس عن الابتداع في دين الله.

    إذاً: هذا العمل الذي أقره عليه سلف الأمة من شاء أخذ به بحذافيره ومن شاء أخذ به بقدر طاقته، ولكن كما أشرنا لا يدعو إلى قوله ولا يعيب على غيره، ولكن بقدر طاقته وما تيسر له.

    أيهما أفضل صلاة التراويح في البيت أم جماعة في المسجد؟

    إذاً: من قام رمضان، بما تيسر له، سواءً مع الإمام في المسجد، أو مع نفسه في بيته، أو مع أهله كل ذلك سواء، وبعض المالكية يقول: الذي يكون حافظاً ماهراً في القرآن وأراد أن يقوم رمضان في بيته فهو أفضل ما لم تعطل المساجد من صلاة الجماعة في رمضان؛ لأن النافلة الوحيدة في الصلوات التي تصلى جماعة هي التراويح.

    شرط الإيمان والاحتساب في قيام رمضان

    قوله: (من قام رمضان)، بهذا القيد: (إيماناً واحتساباً)، إيماناً بالله، وإيماناً بثوابها، وإيماناً بسنيتها. قوله: (واحتساباً)، الاحتساب والحساب هو: العد، أي: تحتسبها عند الله، وتعدها من أعمال الخير التي استودعتها أمانة عند الله، لا أن تكون لنشاط ورياضة ولا أن يكون الشخص شبعان ويريد أن يهضم، ولا عنده مصلحة وجاء إلى المسجد من أجلها، ولا أن يكون قد اتفق مع جماعة للحضور ولا يريد أن يتخلف عنهم، فمن عمل لذلك فليس محتسباً، ولكن عليه أن يقوم رمضان إيماناً بوعد الله، وإيماناً بسنة رسول الله، واحتساب عملها وأجرها عند الله.

    الذنوب التي تغفر بقيام رمضان

    وقوله: (غفر له ما تقدم من ذنبه) نجد العلماء رحمهم الله يقفون عند قوله: (غفر له ما)، و(ما) هنا هي للعموم سواءً كانت صيغة إجمال أو كانت موصولة، غفر له الذي تقدم من ذنبه، وهذا الذي تقدم قد تكون فيه كبيرة وقد تكون فيه صغيرة، وبعض العلماء يقول: غفر له ما تقدم من ذنبه من الصغائر، وأكثرهم يقولون: غفر له ما تقدم من صغائر وكبائر؛ لأن الصغائر قد قال الله عنها: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ [النساء:31]، فالصغائر تكفر باجتناب الكبائر وبدون أعمال أخرى، إذاً: الحديث مطلق، وكما قال بعض العلماء: أحاديث الوعد والوعيد ينبغي ألا تفسر بل تؤخذ على منطوقها، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089114740

    عدد مرات الحفظ

    781891807