إسلام ويب

كتاب الحج - باب الإحرام وما يتعلق به [3]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إذا أحرم المحرم للحج أو للعمرة فلا يجوز له أن يَنكح ولا أن يُنكح، وكذلك يحرم عليه أن يصيد صيداً، أو أن يأكل صيداً صيد لأجله، أما إذا لم يصد لأجله فلا بأس أن يأكل منه، ولذلك حكم عظيمة من تربية النفس وتهذيبها وتعويدها على اجتناب المحرمات، فما دام أن الإنسان قد امتنع عن الحلال حال إحرامه، فمن باب أولى أن يجتنب الحرام حال إحلاله.
    قال المصنف رحمه الله: [وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب) رواه مسلم ].

    من محظورات الإحرام عقد النكاح والوطء، فإذا أحرم الإنسان حرم عليه وطء زوجه، وحرم عليه أيضاً أن يعقد عقد نكاح لابنته أو أخته أو مولاته.

    مسألة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ميمونة في عمرة القضاء

    وهنا وقع خلاف بين الإمام أبي حنيفة رحمه الله وبين الجمهور في قضية أم المؤمنين ميمونة رضي الله عنها، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم في عمرة القضية -وتسمى عمرة القضية، وعمرة القضاء، وهي العمرة الثانية بعد عمرة الحديبية لما خرج صلى الله عليه وسلم معتمراً عام الحديبية، وما كان من قريش حين أن منعوه من دخول مكة، وصالحهم على ما فيه مصلحة المسلمين، وتمت فيها بيعة الرضوان، وتحلل المسلمون وحلقوا رءوسهم في الحديبية على مشارف حدود الحرم، ورجعوا وحسبت لهم عمرة، وكان من شروط الاتفاق: أن يتحللوا مكانهم ويرجعوا إلى بلدهم ثم يأتوا في العام القادم، على أن تخلي قريش مكة للمسلمين حتى يقضوا عمرتهم ويقيموا فيها ثلاثة أيام.

    وسميت القضية ؛ لأنها العمرة التي كانت بمقتضى التقاضي بين الفريقين والاتفاق عليها، وسميت عمرة القضاء كذلك، لكن بعض الناس يقول: إنها قضاء عن العمرة الأولى، ولكن المحققين من العلماء يقولون: العمرة الأولى انتهت، ولهذا لم يلزم النبي صلى الله عليه وسلم جميع الذين حضروا معه عمرة الحديبية أن يرجعوا معه في العام الثاني ليقضوا ما فات، فإن هذه عمرة مستقلة وتلك عمرة مستقلة.

    الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في الطريق إلى مكة لأداء العمرة أرسل إلى ميمونة من يخبرها بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخطبها للزاوج منها، فلما أتوا إلى العمرة وانتهت الثلاثة الأيام، جاءت قريش وقالوا: يا محمد! اخرج بمن معك فقد انتهت الموعدة، قال: أمهلونا، نحن نريد أن نتزوج من عندكم، ونريد أن نحتفي ونريد أن نطعم سوية، قالوا: لا حاجة لنا في زواجك ولا في طعامك، اخرج، فخرج صلى الله عليه وسلم وتزوجها ودخل بها في سرف في عودتهم إلى المدينة، وسرف تبعد عن مكة مرحلتين.

    وهنا اختلفوا: هل تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم حينما أرسل يخبرها، أم تزوجها بعد أن حل من عمرته وانتهى وبنى بها في سرف؟

    والعجيب أنهم يقولون: المكان الذي بنى لها فيه خيمة وبنى بها هو المكان الذي توفيت ودفنت فيه.

    فقال بعضهم: تزوجها وهو محرم، وأخذ بذلك أبو حنيفة رحمه الله.

    وقد اختلفت الروايات فـرافع بن خديج كان السفير بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ميمونة وقد روى أنه تزوجها وهو حلال. وابن عباس هي خالته، وقد روى أنه تزوجها وهو محرم، فلما اختلف الناس في ذلك سألوا ميمونة رضي الله عنها، فقالت: تزوجني وهو حلال.

    فهنا اختلفت الرواية في قضية واحدة، ولا يمكن أن يدعي أحد تكرار القضية وتعددها -كما يقال في غير هذا الموضع- فتحمل بعض الأحاديث على نوع وبعض الأحاديث على نوع آخر، لكن هذه قضية واحدة لم تتكرر.

    فقالوا: في هذه الحالة يؤخذ بالترجيح، فيرجح بالقرائن التي تدل على صدق أحد الفريقين، ومن القرائن: أن الذي يروي أنه تزوجها وهو حلال هو الواسطة بين الطرفين، فـرافع بن خديج هو الواسطة في تزويجهما، فيكون أعلم من غيره: أتزوجها وهو حلال أم وهو محرم؟

    وابن عباس يروي عن خالته، ومن روى عن خالته ليس مثل شخص آخر يسمع بواسطة، فلو قارنا رواية ابن عباس عن خالته برواية غيره، فإن الذي يكون أعلم بهذا الأمر هو ابن عباس بلاشك.

    إذاً: هنا اختلف رافع بن خديج وابن عباس ، فالأول يروي أنه تزوجها وهو حلال، والثاني يروي أنه تزوجها وهو محرم، وهنا رجعوا إلى ميمونة فسألوها عن ذلك فقالت: تزوجني وهو حلال. فاختلفت رواية ابن عباس عن رواية رافع وميمونة ، وابن عباس يروي عن خالته، فهو يعادل حديث رافع ، ورافع هو الرسول بينهما، وابن عباس هو ابن أختها، فاختلفا، وكلاهما له صلة قوية بها، فقالوا: إذاً نرجع إلى صاحبة القصة وهي ميمونة ، فسألوها فقالت: تزوجني وهو حلال. وبهذا أخذ الجمهور أنه لا يَنكح المحرم ولا يُنكِح.

    ثم بعد ذلك ذكروا مسائل أخرى، مثل هل يطلق؟ وهل يخالع ؟ هل يرد الزوجة في طلاقها قبل تمام العدة؟ كل ذلك موضع بحث في هذا الحديث.

    والذي يهمنا أن من محظورات الإحرام: النكاح، أي: أن يكون النكاح ابتداء لا دواماً، فالمحرم يكون متزوجاً ويبقى حكم الزواج بعد الإحرام، ولكن لا يبتدئ ولا يستأنف النكاح، وإذا كان العقد ممنوعاً وهو مجرد قبول وإيجاب ؛ فالوطء من باب أولى.

    حكمة تحريم النكاح على المحرم

    وهنا يقال: إن هذه المحظورات تعتبر من خصائص الإحرام، فإن الزوجة حلال بكتاب الله، وحينما أحرم قيل له: لا تمس الزوجة فإنها محرمة عليك مدة الإحرام، سبحان الله! الإحرام الذي هو قربة إلى الله يحرم عليه الزوجة؟! والشخص الحلال الذي لم يحرم زوجته حلال له؟! قالوا: لأن معطيات الإحرام تهذيب النفس وتربية المسلم تربية مثالية، فإذا كانت الزوجة معه في هودجهما، والاثنان على بعير واحد متقابلان، ويكونان معاً في خيمتهما، ومعاً في طعامهما وشرابهما ومنامهما، ويمسك نفسه منها وهي كذلك مدة الإحرام، وكم من نوازع تأتي بينهما، وكم تكون هناك من تفاعلات نفسية غريزية، لكنه يتذكر أنه محرم فيكف عن ذلك ؛ بل ربما لا يفكر نهائياً في هذا الموضوع ؛ لأنه محرم.

    ولو قدر أنه اختلى بأجنبية لظروف ما فإنه تكون عنده حصانة ومناعة، وقد تعلم كيف يمتنع من زوجته التي هي حلال له في كتاب الله، فتكون الأجنبية من باب أولى، فيأخذ هذا الدرس، ويتعود هذا التعود بالنسبة للمحرمة عليه بناء على الحلال التي أحلها الله له، ولكن بالإحرام كف وامتنع.

    إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة -وهذا قطعاً-في عمرة القضية، وبنى بها في سرف، لكن جاء عن ابن عباس أنه عقد عليها وهو محرم، وجاء عن رافع بن خديج أنه ما عقد عليها إلا بعد أن تحلل، فتعارضت الروايتان عن صحابيين كل له صلة بالقصة ؛ هذا يروي عن خالته، وهذا كان السفير بينهما، فجاء حديث صاحبة الموضوع وفصل في النزاع وعرفنا أنه تزوجها وهو حلال.

    حكم عقد المحرم للنكاح من حيث الصحة والبطلان

    والحكم عند الأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد بن حنبل أن المحرم لا يحق له أن يعقد نكاحاً، وإن عقد فهو باطل ؛ فلا يزوج وليته ولا يتزوج، ولا يتوكل عن إنسان في الزواج، وعند الإمام أبي حنيفة رحمه الله أن له أن يتزوج بناءً على وجود الخلاف في الروايتين.

    وهنا نشير مرة أخرى إلى أن الخلاف إذا وقع بين الأئمة رحمهم الله في قضية واحدة كهذه، لم يكن الخلاف عن دوافع شخصية، ولا عن تعصب في الرأي، إنما يكون الخلاف في معنى الحديث، وفي الرواية التي وصلتنا، فلا يستطيع إنسان أن يقول لـأبي حنيفة : أنت خالفت الحديث، ولكن يقال: إن الحديث الذي تمسكت به حديث صحيح وعن إنسان له علاقة، ولكن الآخر أرجح.

    وأما رواية ابن عباس فقالوا: هذا ثقة خالف الثقات، ويقال في علم الحديث: هذه رواية شاذة، والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089206083

    عدد مرات الحفظ

    782742767