إسلام ويب

كتاب الحج - باب صفة الحج ودخول مكة [7]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • دين الإسلام دين الرحمة واليسر، فليس في الإسلام حرج أو مشقة، وإن عرضت فقد رفعها الإسلام، ولهذا فإن من القواعد الكلية في الشريعة أن المشقة تجلب التيسير، ومن ذلك التيسير ما جاء في مناسك الحج، فقد وسع الشرع على المحرم في أداء المناسك، ورفع عنه المشقة كما جاء في القصر والجمع بين الصلوات، والتوسعة في الوقوف في أي مكان من أرض عرفات، وكذلك في المزدلفة، والإذن بالنحر في المكان الذي يكون فيه المحرم، والإذن لأهل الأعمال بالمبيت خارج منى ليالي أيام التشريق، إلى غير ذلك.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، أما بعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [ وعن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة سأل الله رضوانه والجنة، واستعاذ برحمته من النار) رواه الشافعي بإسناد ضعيف ].

    يذكر لنا المؤلف رحمه الله تعالى هذا الحديث الذي رواه الشافعي رحمه الله وإن كان بسند ضعيف، إلا أنه من الأعمال التي هي من نوافل العبادات، والتي ليست من الأحكام كالحلال والحرام، وكما يقولون: أحاديث الترغيب والترهيب لا يشدد فيها كما يشدد فيما يتعلق بالتكليف من حلال أو حرام ومن فعل أو ترك.

    يقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من تلبيته في حج أو عمرة)، وقوله: (من تلبيته) أي: التلبية المنسوبة إليه، والتي كان يأتي بها، وقد تقدم لنا أن التلبية عند الفقهاء واجب من واجبات الحج، يعني: أن كل من أتى بنسك حج أو عمرة فإنه يجب عليه أن يلبي ولو مرة واحدة، أي: أن الواجب يؤدى بمرة واحدة، وما عدا ذلك فهو من باب الزيادة والفضل.

    وكان صلى الله عليه وسلم يجدد التلبية كلما تجدد له حدث، بمعنى: أنه إذا كان يمشي في أرض مستوية فهبط وادياً في طريقه جدد التلبية، وإذا انتهى من هذا الوادي وقابل مرتفعاً جدد التلبية، وإذا لقي ركباً في الطريق جدد التلبية، وإذا نزل منزلاً للراحة أو للطعام أو للشراب جدد التلبية، وإذا بدأ الرحيل كذلك جدد التلبية، وهكذا كما تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: (تُجدد التلبية عند كل حدث يواجه المحرم).

    وقد تقدمت صيغة التلبية عنه صلى الله عليه وسلم وهي: (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) إلى هنا كانت تلبية النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ابن عمر رضي الله تعالى عنهما يزيد: (لبيك وسعديك والخير بيديك، والرغباء إليك والعمل) ويقول العلماء: إن هذه الزيادة من باب الذكر، ولا بأس بها؛ لأن ألفاظها تتناسب مع التلبية، ومعناها الإقامة على الطاعة والامتثال.

    فكان إذا فرغ من تلبيته صلى الله عليه وسلم يعقب ذلك أنه يسأل الله المغفرة والرحمة، ويستعيذ بالله من العذاب.

    استحباب الدعاء بعد كل عبادة

    وهذا التذييل بالدعاء والإتباع يعتبر قاعدة عامة في التشريع، فإن كل ذكر واجب تجد أن الدعاء مطلوب بعده، ففي الأذان قال صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثلما يقول، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تكون إلا لواحد أرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة كنت له شفيعاً يوم القيامة) وكذلك يكون الدعاء عقب الصلوات، وكذلك عند الإفطار من الصيام في آخر النهار، وكذلك عند ختم القرآن، فمن ختم القرآن فإن له دعوة مستجابة، وهكذا نجد أنه يستحب الدعاء عقب كل عبادة مشروعة؛ لأن الدعاء طلب ومسألة، وأرجى ما تكون الإجابة للعبد في سؤاله أن يقرب بين يدي مسألته قربة لله بحيث يكون حينما يدعو قريباً من الله، وفرق بين أن تكون قريباً من الله وأن يكون الله قريباً منك؛ لأن الله أقرب للعبد من حبل الوريد، فالله قريب من عبده، ولكن العبد هو الذي يتباعد أو يتقرب إلى الله كما في الحديث القدسي: (من تقرب إلى شبراً تقربت إليه ذراعاً ) إذاً: العبادة قربة يتقرب بها العبد إلى الله، فإذا اقترب إلى الله -وهذا الاقتراب في حق الله سبحانه وتعالى هو كما يليق بجلاله وكماله، ليس قرب مسافة ولا زمان ولا مقياس بمتر ولا كيلو- استجاب له دعاءه.

    وفي الآية الكريمة قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمْ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً [المجادلة:12] كان هذا تكريماً للنبي صلى الله عليه وسلم وإقلالاً عليه من كثرة الأسئلة التي لا طائل منها؛ لأنهم كانوا يشغلونه بأسئلة شخصية، وهو ما جاء للشخصيات، وإنما جاء للعمومات، فلما فرضت عليهم الصدقة قبل مناجاته خففوا من الأسئلة؛ لأنه ليس كل إنسان يستطيع أن يتصدق عند كل سؤال، وكما يقول علماء التفسير: ما عمل بها إلا علي رضي الله عنه، ثم نسخت بقوله تعالى: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ [المجادلة:13].

    إذاً: كون الإنسان يدعو عقب التلبية، فيه كما يقال: جلب النفع ودفع الضر، وفيه الجمع بين خيري الدنيا والآخرة فقوله: (إذا فرغ من تلبيته سأل الله رضوانه والجنة) هذا فيه طلب منفعة، وقوله: (واستعاذ برحمته من النار) هذا فيه دفع مضرة، فهو طلب واستعاذ، طلب الجنة واستعاذ من النار، فلم يبق بعد هذا شيء؛ لأن طلب الجنة هو طلب كل خير وسعادة في الآخرة، وهي السعادة الحقيقية، والاستعاذة من النار هي السلامة من كل سوء، وكما جاء الأثر: أن رجلاً أعرابياً سمع الرسول والصحابة يدعون ويجتهدون بالدعاء، فقال: (يا رسول الله! قال: نعم، قال: علمني دعاء ولا تكثر، فإني لا أحسن دندنتكم هذه) هذه الدندنة التي أنتم تدندنونها وترددونها وتأتون بها أنا لا أعرفها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنت ماذا تقول إذا دعوت؟ قال: أنا أقول: اللهم إني أسألك الجنة، وأعوذ بك من النار، فقال صلى الله عليه وسلم: ونحن حول هذا ندندن).

    ولهذا جاء في حديث عائشة حينما ذكر صلى الله عليه وسلم ليلة القدر وفضلها، قالت: (يا رسول الله! ماذا أقول إن أنا صادفتها؟) انظر الموقف! السؤال عن أفضل ما يكون عن ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، والسائلة هي أحب من يكون إلى رسول الله، والمجيب هو أحب من يكون إليها، فالموقف كله محبة ووئام، إذاً: التعليم الذي يصدر في هذا الجو وفي هذه البيئة، وفي هذه الأحاسيس هو من حبيب إلى حبيب في محبوب فقال لها: (قولي: اللهم! إنك عفو تحب العفو فاعف عني) يقول بعض العلماء: (والله! لقد نظرت في هذا الأثر فإذا به جمع خيري الدنيا والآخرة)؛ لأن من عوفي في بدنه، ومن عوفي في دينه، ومن عوفي في كل أحواله في الدنيا وعوفي يوم القيامة من الحساب لم يبق بعد ذلك شيء يطلبه.

    وهكذا يتحرى الإنسان الدعاء بعد العبادات أياً كان نوعها، حتى في العبادات المالية، قال الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [التوبة:103] أي: بعد الصدقة ادع لهم؛ لأنه بعد قربة وبعد عمل صالح.

    آداب السؤال تتجلى في سورة الفاتحة

    وكان والدنا الشيخ الأمين رحمة الله تعالى علينا وعليه يقول: لقد علَّم الله سبحانه وتعالى عباده في سورة الفاتحة آداب السؤال، وطلب الحاجة ممن لك حاجة عنده؛ لأن أعظم مسألة للعبد المؤمن هي الهداية إلى الصراط المستقيم؛ لأن الهداية منحة من الله كما قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [القصص:56].

    قال: فقد جعل الله في الفاتحة سؤال الهداية، ولكن لم يأت السؤال لها مباشرة، بل على العبد أن يقدم قبلها أنواعاً من القرب والتعظيم والإجلال للمولى كما في قوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ [الفاتحة:2] وبعد أن حمد الله على كمال ذاته وصفاته، يعترف لله بالربوبية للعالمين جميعاً رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

    ثم يصفه بصفات الجلال والكمال: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] ويقولون في معنى هذين اللفظين الرحمان الرحيم: رحمان في ذاته، رحيم في صفاته لعباده، فهو رحمان الدنيا رحيم الآخرة كما جاء في الحديث: (إن لله مائة رحمة، أنزل منها واحدة إلى أهل الأرض بها يتراحمون، حتى إن الدابة لترفع حافرها عن ولدها رحمة به) أي: من هذه الواحدة، واحد في المائة للعالم كله يتراحم بها قال: (وادخر تسعاً وتسعين لعباده المؤمنين إلى يوم القيامة).

    ثم يأتي بقوله تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] ففي الدنيا هو رب العالمين، وهو رحمان رحيم، وفي الآخرة الملك كله يعود إليه كما قال تعالى: لِمَنْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:16].

    وقوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] أي: أنت رب العالمين، والدنيا الآخرة في ملكك تتصرف فيهما كيف شئت، فنحن نعبدك وحدك؛ لأنك الرب المستحق للعبادة.

    وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] لأننا ضعاف، ولولا قوة منك وتوفيق منك وهداية منك لنا ما عبدناك.

    وبعد هذه المقدمات في التمجيد والتكريم والتعظيم والاعتراف تأتي المسألة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6] فأتت المسألة بعد كل هذه الاعترافات والإجلال للمولى سبحانه، وكذلك هنا في قوله: (لبيك اللهم لبيك) أي: أقمت على طاعتك، واستجبت لندائك الذي قلت فيه لإبراهيم: وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ [الحج:27].

    وقوله: (إن الحمد والنعمة لك والملك) هذا فيه اعتراف كما في قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

    (لا شريك لك) إلى آخر هذه التلبية وهذه الألفاظ الكريمة، وبعد هذه القربى إلى الله: (يسأل الله رضوانه والجنة، ويستعيذ بالله من النار) وهكذا يعلمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ولهذا يتحرى الإنسان في مسألته أن يكون أقرب ما يكون إلى الله، ومن ذلك بعد العبادات وفيها، ومن ذلك ما جاء في السجود، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد إلى ربه وهو ساجد، فاجتهدوا في الدعاء).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089197973

    عدد مرات الحفظ

    782701847