إسلام ويب

كتاب البيوع - باب الهبة العمرى والرقبى [1]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أمر الشارع بالعدل بين الأولاد في العطية، وحرم المفاضلة فيها، واشترط أهل العلم في رجوع الوالد عن عطية ولده شروطاً معلومة، وهذه المسألة مستثناة من عموم النهي عن الرجوع في الهبة والعطية.
    باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [ وعن النعمان بن بشير أن أباه أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أكل ولدك نحلته مثل هذا ؟ فقال : لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فارجعه)، وفي لفظ : (فانطلق أبي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال : أفعلت هذا بولدك كلهم ؟ قال : لا، قال : اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة) متفق عليه، وفي رواية لـمسلم قال : (فأشهد على هذا غيري، ثم قال : أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء ؟ قال : بلى، قال : فلا إذن) ].

    هذا الذي ساقه المؤلف من خبر النعمان بن بشير جزء من حديث طويل، وهو : أن أباه تزوج امرأة وهي أخت عبد الله بن رواحة ، ثم طلبته أن يهب لولدها منه شيئاً يخصه به، قال : فمطلها سنة، وقيل : مطلها سنتين، ثم إنه أعطاه بستاناً نخيلاً، ثم بعد فترة ارتجعه، ثم رجعت وألحت عليه أن يمنح ولدها شيئاً من ماله، فمنحه هذا الغلام، فحينئذ خشيت أن يرجع في الغلام كما رجع في البستان، فقالت : لا أقبل - أي : لا أقبل هذا العطاء في الغلام - حتى تذهب وتشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لتضمن عدم رجوعه فيه كما رجع سابقاً في البستان.

    هكذا يذكر بعض العلماء ؛ لأنه جاءت بعض الروايات أنه قال: (إن أبي قد منحني شيئاً من ماله)، وبعض الروايات : (منحني غلاماً)، فقالوا : يجمع بين هذا: أنها أولاً ألحت على زوجها فأعطاه بعد المماطلة بستاناً، ثم إنه رجع فيه، وهنا يأتي الكلام في الرجوع في الهبة، وسيأتي تفصيل ذلك في أحاديث متقدمة.

    العطية لا يثبت تملكها إلا بالقبض

    وهنا: اتفق العلماء على أن الهبة والصدقة والعطية لا يثبت تملكها لمن وهبت إليه أو منحها إلا بعد القبض .

    وبعض العلماء يقول : الهبة تصح ويقع التمليك لها بمجرد العقد، وعند الحنابلة التفصيل بين المنقول من مكيل وموزون وحيوان، وبين الثابت من عقار وغيره، فقالوا : لا تثبت الهدية في المنقولات إلا بالقبض، وما عداها تثبت بالتخلية، وقالوا : إن الصغير يقبض عنه وليه ؛ لأن الصغير ليس أهلاً للقبض، وكذلك القبول، قالوا: ويشترط في صحة الهبة قبول الموهوب إليه وقبض الهبة التي وهبت له .

    واستدلوا في صحة الهدية بالقبض بحديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، بأن أباها كان قد منحها جذاذ خمسين وسقاً، فلما لم تحزه، ومرض مرض الموت قال : (يا ابنتي ! والله لا أحد أعز علي فقراً من بعدي منكِ، ولا أحد أحب إلي غنىً من بعدي منكِ، وكنت قد نحلتك جذاذ خمسين وسقاً ولو كنت حزتيه لملكتيه)، وفي رواية : (ولو كنت حرثتيه لملكتيه) فعلى رواية: (حزتيه) يكون الفرض جذاذ خمسين وسقاً من تمر جاف بذاته، وعلى رواية : (حرثتيه) يكون قد منحها نخلاً يؤتي ثمرة مقدار خمسين وسقاً، وعلى كلا الحالتين لما لم تقبض ما منحته -سواء كان تمراً موثقاً أو نخلاً يأتي بهذا القدر من الأوسق- فإنها لا تملكه.

    ثم قال : (وهو الآن مال وارث فاقتسموه أنت وأخواك وأختاك)، أي: أسماء وبنت أخرى من امرأة كان تزوجها بالمدينة، وكان يسكن معها في السنح، قالت: (أي أختين يا أبي وليس لي إلا أخت واحدة ؟ قال: ابنت زيد بن فلان، إنها حامل وأراها حامل بأنثى) فجاءت كما قال رضي الله عنه، فقالوا : لو لم يشترط القبض في الهدية والهبة لنفذت هبة أبي بكر لابنته عائشة ، ولما لم تقبضها رجعت الهبة إلى مال الواهب وأصبح مال وارث .

    فهنا بشير لما منح ولده أولاً البستان يقولون : الوالد لا يقبض عن ولده إلا إذا كان في النقدين، فإذا كانت الهبة من النقدين الذهب والفضة، قال مالك : لا يصح للوالد أن يقبض لولده هبة الذهب والفضة، ولو حتى عزلها وختمها وأبعدها عن ماله مميزة عنه، ولكن يشترط أن يخرجها من تحت يده، ويجعلها تحت يد رجل أمين تكون عنده ؛ مخافة فيما بعد: فلو مات الواهب-والحال أنه كان قد وهب ولده جزءاً من المال وبقي المال تحت يده في صندوقه مع عموم ماله- لربما ادعى الورثة أنه مال أبيهم، وأنه في التركة، لكن عندما يخرجه إلى يد غيره لا يمكن أن يدعوا ذلك.

    إذاً: لابد من اشتراط القبض في الهبة، والقبض كما يقال : إن كان مكيلاً أو موزوناً أو منقولاً فبنقله عن مكانه، وإن كان ثابتاً فبالتخلية بينه وبين الموهوب له.

    وهنا عمرة بنت رواحة لما قالت : لا أقبل، سبب ذلك أنه كان قد سبق من زوجها أن منح ولدها النعمان ثم رجع في منحته، ويقولون : إنه وإن كان يقبض عن الصغير إلا أن للوالد أن يرتجع في هبته لولده، وليس هذا لغير الوالد من جد أو أخ أو عم أو غير ذلك.

    واختلف في الأم هل لها أن ترجع في هبتها لولده ؟

    فالحنابلة عندهم رواية عن أحمد رحمه الله: أنها لها ذلك لقوله: (اتقوا الله واعدلوا بين أبنائكم) والأم والدة.

    وعند المالكية أن الأم لا تملك حق الرجوع في الهبة؛ لأن الوالد له ولاية على الولد، وهذه ليست موجودة للأم عليه، وجاء النص : (أنت ومالك لأبيك) وهل تلحق الأم بذلك أم لا ؟ قالوا : وإن لحقت به في الأخذ من مال ولدها لحاجتها، فلا تلحق به في حق استرجاعه مما أعطى ولده.

    حكم العطية بين الزوجين

    ثم يأتون إلى العطية بين الزوجين، فقالوا: إذا أعطى الزوج زوجته عطية فلا يحق له أن يرتجعها، والقبض والإذن في ذلك حاصل لأنهما معاً في البيت .

    والمرأة إذا وهبت لزوجها هبة، قالوا : من حقها أن ترجع ومن حقها أن تمضي ؛ لما جاء عن عمر رضي الله تعالى عنه قال : (النسوة يهبن رغبة ورهبة) رغبة: تستجلب محبة الزوج، ورهبة: من أن يوقع بها ما يسوءها، ومخافة أن يتزوج عليها، أو أن يسيء عشرتها، أو أن يقصر معها فيما يفعل مع زوجاته الأخريات.

    قالوا : لها أن ترجع ؛ لأنه يتوجه إليها الرغبة والرهبة .

    إذاً : الهبة بين الزوجين: فالزوج إذا وهب لا يرجع في هبته، والزوجة إذا وهبت لها أن ترجع في هبتها؛ لأن عندها علة ليست موجودة عند الزوج، وهنا عمرة طلبت من زوجها أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم منحته زوجها لولدها.

    يقول ابن حجر نقلاً عن بعض العلماء : هذا من شؤم التشدد والتنطع، فلو أنها قبلت عطاء زوجها لولدها لمضى الغلام في عطية الوالد، لكنها تعنتت وتشددت وطلبت أن يشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .

    وقوله صلى الله عليه وسلم : (ألك ولد؟) هذا كما يقولون : وجوب الاستفصال من المفتي.

    إذا استفتاك إنسان وكان الموقف فيه احتمالات بين جواز الأمر أو منعه، فعليك أن تستفصل، فهنا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ألك ولد ؟ قال : نعم، قال : أكل ولدك منحته ذلك ؟ قال: لا. قال : ارتجعه). وقال : (لا أشهد على جور). وقال : (أشهد عليه غيري) كل هذه الألفاظ جاءت.

    والذين يقولون: ليس للوالد الرجوع بالكلية في أي حالة من الحالات أجابوا عن هذه الألفاظ وهذه الروايات في هذا الحديث بأجوبة:

    أما عن قوله صلى الله عليه وسلم : (أشهد عليه غيري) يقول الشافعي : إن الرسول لم يعلمه بأن الهدية باطلة، ولكنه قال : أنا بصفتي رسولاً لا أشهد على مثلها، ويقولون : إنه كحاكم وقاض لا يكون شاهداً، وكما جاء عن عمر رضي الله عنه جاء رجل يحتكم إليه ويشتكي خصماً له، قال : ائتني بشهود، قال : أنت أحد الشهود، قال : أنا لا أكون شاهداً وقاضياً، إن أردتني شاهداً فتقاضى إلى غيري أشهد عنده، وإن أردتني قاضياً فأتني بشهود . أي : أن الإنسان لا يكون في وقت واحد شاهداً وقاضياً.

    وبعضهم يقول: في قوله صلى الله عليه وسلم : (أشهد عليه غيري، فإني لا أشهد على جور) يبدو والله أعلم لولا مجيء قوله: (لا أشهد على جور)، وقوله: (أشهد عليه غيري) فيكون هناك توجيه لما هو الأفضل والأكمل ؛ لأنه ثبت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بادئ الأمر إذا قدم إليه ميت ليصلي عليه، سأل : أعليه دين ؟ فإن قالوا : لا. صلى، وإن قالوا : نعم. قال: صلوا أنتم، وهنا امتناعه عن الصلاة على المدين لا يكون ذلك في الحكم على الميت، ولكن في حكم الدين الذي هو عليه، ويكون حثاً على أداء الديون قبل الوفاة، فإن توفي وعليه ديون فعلى ورثته المبادرة بسداد ديونه، وهذا أيضاً فيه مفاضلة كونه يصلي على هذا ولا يصلي على ذاك، فكذلك هنا يشهد على هذا أو لا يشهد على ذاك، ليس ما يشهد عليه في الصراحة والإباحة كالذي لا يشهد عليه.

    إذاً: أقل مراتبه الكراهية.

    أما لما جاء فقال له: (فإني لا أشهد على جور) والجور : الظلم، فهنا اشتد الأمر، والإجابة عليه ليست وافية، فإنهم قالوا : يكون للكراهية، ولكن الأسلوب من حيث هو يدل على النهي والنفي.

    وهنا عطاء أحد الأولاد بعض المال، فهل هذا يصح أم لابد من التسوية بين الأبناء ؟ سيأتي للمؤلف رحمه الله بعض النصوص في ذلك ويهمنا في حديث النعمان بن بشير أنه كان صغيراً؛ جاء في بعض الروايات ذكرها ابن عبد البر ، قال: (فانطلق بي أبي يحملني إلى رسول الله) وفي بعض الروايات: (يمشي بي) وجمعوا بأنه لصغره تارة يمشي وتارة يحمله كما يفعل الأب مع ولده الصغير، يحمله شيئاً ثم ينزله ويمشي معه شيئاً آخر،

    إذاً: أبوه كان قد استلم مكانه، وقبض الهبة من نفسه وهذا كما يقولون بالولاية.

    ولو أن أجنبياً أهدى لطفل وأبوه موجود فأبوه يقبض عنه، أو كان يتيماً وله وصي فوصيه يقبض عنه ؛ لأن الصغير دون البلوغ ليست له صلاحية القبض ولا القبول، فوليه يقبل الهدية ويقول : قبلتها لفلان، ويقبضها عنه ويحوزها لديه .

    وتقدم الإشارة إلى كلام مالك رحمه الله تعالى بأن القبض يكون جائزاً إلا في النقدين، فلابد أن يعزل الهبة النقدية ويجعلها في يد أمين بعيدة عنه، مخافة أن يأتي الورثة فيما بعد ويقولون : هذا مال أبينا وهو تركة عنه.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089156636

    عدد مرات الحفظ

    782254320