إسلام ويب

كتاب البيوع - باب الوصاياللشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • جعل الله عز وجل للإنسان قبل موته أموراً يستطيع أن يستدرك بها ما فرط فيه وما فاته في حياته، ومن هذه الأمور: الوصية، والوصية تشملها الأحكام الخمسة، ولهذا على المرء أن يوصي بما عليه من حقوق للآخرين، وعليه أيضاً أن يوصي بصدقة في حدود ما أذن له الشرع حتى ينتفع بأجرها بعد موته.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فيقول المصنف رحمه الله: [عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) متفق عليه ].

    (ما حق امرئ مسلم) كذلك ولا امرأة؛ لأن المرأة مثل الرجل في التكاليف، إلا ما اختص به الرجل دونها، (ما حق) أي: لا يجوز، ولا يجب، (ما حق) ما نافيه، وحق اسمها وخبرها يأتي فيما بعد، (امرئ) مذكر امرأة، وامرأة مؤنث امرئٍ.

    (له شيء) أي: حق والحق هنا يكون مالي واعتباري: كحق في الشفعة، أو حق في القصاص، أو حق في الدية، أو حق من حقوق الجوار، فكل تلك الحقوق داخلة في عموم (له شيء).

    الوصية وأحكامها

    قوله: (يبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) أو حق يريد أن يوصي، (حق يريد) رد كتابة الوصية لإرادة الموصي، ومن هنا قال الجمهور: الوصية جائزة وليست واجبة؛ لأنه قال: (يريد أن يوصي) وإذا لم يرد أن يوصي فلا شيء عليه.

    والبعض قال: الوصية واجبة، وهذا المبحث هو مبحث حكم الوصية.

    الوصية تعتريها الأحكام الخمسة.

    وقوله: (ما حق امرئ له شيء يريد أن يوصي فيه ويبيت ليلة أو ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) ما هو الحق الذي يريد أن يوصي به؟

    قالوا: يوصي بما كان عنده من حقوق للناس ولا يعلمها الناس، ولا يعلمها إلا هو صاحب الحق فقط، كإنسان أتى إلى صديقه، أو إلى جاره وقال: يا جاري! أو يا صديقي! هذا الكيس فيه ألف ريال أمانة عندك حتى أطلبه، ولم يشهد على ذلك، فأخذ جاره أو صديقه الكيس ووضعه عنده، ولم يكتب عليه ما يعرّفه وأصبح في صندوقه مع أكياس ماله، فلو مات غداً هذا المال الذي في ذمته ما حكمه؟ ولو جاء صاحبه وطالب الأولاد فقالوا: ما أخبرنا، وما قال لنا، فهل عندك بينه؟ فقال: لا، والله! ما عندي، فأنا ائتمنه لأنه صديقي أو جاري؟

    قالوا: مثل هذا تتعين الوصية في حقه؛ لأنه لا يدري هل يأتيه الموت بعد ليلة أو بعد ليلتين، أو يأتيه الموت قبل الليلة أو الليلتين، فحيث أن ذمته قد تحملت بحقٍ للآخرين وهو لا يضمن الموت فلا يحق له أن يبيت الليلة أو الليلتين إلا ووصيته مكتوبة بهذا الحق.

    ومثل هذا لو كان هناك قضية بين اثنين ولم يشهدها إلا هو، وحينما يتنازع هذان الشخصان لا إثبات لهما إلا عنده، فهو لن يأتي بالشهادة قبل أن يستشهد، ولكن إذا مات وتنازعا فمن الذي يثبت الحق لأحدهما؟ ليس هناك إلا هو، فيجب عليه أن يكتب: (عندي شهادة في موضوع كذا وكذا) ويدعها ورثته.

    وقد تكون الوصية تارةً واجبة، كما إذا كان مديناً بدين، أو اشترى سلعة وبقي في ذمته من قيمتها شيء، ولم يعلم أولاده، وصاحب السلعة لم يوثق البيع بكتابة، فإذا خشي أن يأتيه الموت ولم يخبر الورثة بالدين الذي في ذمته، فيتعين عليه أن يوصي ويكتب ما عليه من دين، حتى إذا جاء أصحاب هذا الدين أو ذاك دفعوا إليهم دينهم.

    إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة قد تكون بحكم الوجوب وقد تكون بحكم الندب، فإذا كان عنده مال وأولاده في غنى عنه، وأراد أن يجري على نفسه صدقة بعد موته عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات الإنسان انقطع..)، فلا يسوّف حتى يفاجئه الموت وهو لم يوص فقد تفوت عليه الصدقة ويحرم من هذا الخير.

    إذاً: تندب الوصية هنا؛ لأن عمل الصدقة له بعد موته ليس للوجوب إنما هو للندب والاستحباب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تصدق عليكم بثلث أموالكم عند وفاتكم زيادةً لكم في أجوركم) .

    وإذا كان عنده مال محدود وعنده عيال كثير وهم في حاجة إلى العشر من تركته، فذهب وأوصى بثلث ماله، فهل الورثة في حاجة إلى هذا الثلث أو هم في غنى عنه؟ الجواب: هم في حاجة إليه.

    فإذا كان ورثتك هم أولى من الآخرين، فلماذا توصي بالثلث للفقراء والمساكين المشتتين في العالم، أو في بلدك، وعيالك وأولادك في حاجة إلى هذه الوصية؟! فإذا أنفقت على زوجك فلك أجر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (حتى اللقمة تضعها في فيِّ امرأتك فلك بها أجر) وكذلك اللقمة التي تضعها في فيِّ ولدك أو بنتك، كما سيأتي في حديث سعد قال صلى الله عليه وسلم: (لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تتركهم عالة يتكففون الناس) فدع الثلث لعيالك، وهنا الوصية تكره، ولهذا كانت المضارة في الوصية من أكبر الكبائر.

    وقد جاء حديث: (إن الرجل أو المرأة يعيش أحدهما ستين سنةً يعمل الخير، فإذا جاء عند الموت ضار بوصيته -عياله في حاجة وأوصى وصية مضارة لهم- فيختم له بعمله هذا فيكون من أهل النار، والرجل والمرأة يعمل أحدهما بالشر ستين سنةً ويعدل عند الموت في وصيته فيختم له بالخير فيدخل الجنة) .

    إذاً: الوصية تعتريها الأحكام الخمسة بحسب حالات الموصي وما يوصي به، ومن يُوصى إليه، والمضارة في الوصية سيأتي الحديث عنها في محلها إن شاء الله.

    إذاً: (ما حق امرئ مسلم عنده شيء يريد) هذه الإرادة تحتمل الأحكام الخمسة: (يريد) لأنها متعينة عليه في دين خفي، (يريد) لأنه يحب فعل الخير من بعده.

    (يريد) لأنه يريد أن يفعل شيئاً مطلقاً. أي: في جانب الخير، فتكون مباحة ومندوبة وواجبة.

    فضل القراءة والكتابة وبيان لماذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أمياً

    قال: (إلا ووصيته مكتوبة عنده) فلو قيل: إن رسول الله صلى الله عليك وسلم قد قال: (نحن أمة أمية لا نقرأ ولا نكتب) فمن أين جاءت الكتابة الآن؟ وهل في قوله: (إلا ووصيته مكتوبة) تقرير للكتابة أو إهمال لها؟ الجواب: فيه تقرير لها.

    إذاً: ما كان لا يقرأ ولا يكتب عجزاً ولا كراهية، ولا نقصاً في العلم والتعليم، فقد افتتحت رسالته العظمى بقوله سبحانه: اقْرَأْ [العلق:1]، سبحان الله!

    وقد جاءت الوصية بالكتابة في آية الدين: فيملي الذي أخذ، وإذا كان عاجزاً يملي عنه وليه مع وجود شاهدين وكاتب.

    فإقرار الكتابة عند رسول الله أقوى من عند أي شخص آخر.

    إذاً: هو يكرم ويقدر القراءة والكتابة، وكذلك الشعر، قال تعالى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] فلماذا منعه من الشعر، وقد كان النابهون عند العرب الشعراء؟ علماء الأدب يذهبون في هذا مذاهب عديدة وقد سبق أن كتبت رسالة في الأدب في الصدر الإسلامي، وكانت مقررة في الجامعة.

    وإنما منع الله رسوله من الشعر تكريماً له، كما قال سبحانه: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ [يس:69] أي: ليس هو من أهلة، ولماذا؟

    قال سبحانه: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69]، فهذا هو شغله، وهذه هي ميزته، فهو لا يتميز على الرجال بالشعر والنبوغ فيه وإنما بالنبوة: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ [يس:69]، ولو جئنا وقلنا: وما الذي يمنع من أن يكون شاعراً، وعنده ذكر وقرآن؟ قلنا: يمنع من هذا أن العرب في الجاهلية عند أن دعاهم إلى الإسلام قالوا عنه: شاعر، وكاهن، ومجنون.

    فإذا كانوا قد اتهموه بالشعر وهو لم يقل شعراً ولم يعرف به فكيف لو اشتهر قبل الرسالة بالشعر؟!

    فلو كان شاعراً وجاء بمثل قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق:1]، فسيقولون عنه: هذا شعر من ضمن الشعر الذي كان يقوله، ولكن ليس بشاعر.

    وكذلك لما قالوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ [النحل:103]، قال الله رداً عليهم: لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل:103] أي: فليس بينهما صلة.

    إذاً: في عدم تعليمه صلى الله عليه وسلم القراءة والكتابة معجزة؛ لأنه أصبح معلماً للناس القراءة والكتابة، وأول قضايا العناية بالتعليم هي تعليم الصبية الصغار بعد غزوة بدر، فقد كان من لم يجد فداءً لنفسه من المشركين وهو يعرف القراءة والكتابة، يفادي نفسه بتعليم عشرة من صبية الأنصار القراءة والكتابة، فكان الذين يفادون بالتعليم مثل الذين يفادون بأربعمائة أوقية، أو بخمسمائة، أو بألف، أو بأكثر، أو بأقل.

    إذاً: (إلا ووصيته مكتوبة):

    الكتابة لها اعتبار في الشرع، في المعاملات وفي تحقيق المناط في الكتابة من حيث معرفة الخط، ولهذا يقول العلماء: هذا مبدأ من مبادئ علم الحديث وهو الرواية بالوجادة؛ لأنهم يقولون: إذا كان هناك طالب علم يقرأ على شيخ، ومات الشيخ ووجد في كتبه ما لم يسمعه منه، فيجوز له أن يقول عن فلان بالوجادة؛ لأنه وجد بخطه أحاديث بأسانيدها مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فكأنه أخذها بالسماع إلا أن السماع أعلى رتبةً؛ لأنه مواجهة ومشافهة، فإذا وجدت الوصية بخط الموصي ولو لم يكن عليها إشهاد فخطه شاهد عليها، ويعمل بها.

    واستدلوا أيضاً: بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث بكتبه إلى الملوك ولم يشهد عليها، وبمجرد ما يصل الرسول برسالة النبي صلى الله عليه وسلم إلى من أرسل بها إليه يصدقها، فإن كان متأدباً وأراد الله له الخير عظم هذه الرسالة واحترمها وتأدب في الجواب عليها، كما فعل المقوقس مع حاطب فإنه لما رأى الرسالة أكبرها وحفظها وتآنس معه، حتى روي أنه قال: ألستم تقولون: إن محمداً حبيب الله، ورسوله، وأنه يدافع عنه ويحبه؟! قال: بلى، قال: فلمَ تركه لأهل مكة يخرجونه ليلاً، ويختفي في الغار -هذه كما يقولون: حجج قوية-؟ فقال له: وأنت أيها الملك! ألا تؤمن بأن عيسى رسول الله؟ قال: بلى. قال: ألا تؤمن في اعتقادك أنه ابن الله؟ قال: بلى، قال: فلمَ تركه أبوه لليهود يصلبونه؟! فقال: حكيم جاء من عند حكيم، ولهذا العامة يقولون: إذا أرسلت فأرسل حكيماً ولا توصه.

    يقولون في حكاية عن بعض أصحاب الملك ابن عبد العزيز : أنه أرسله إلى جهة وقال له: قبل أن تذهب غداً ائتني، فلما جاء قدم له رسالة فقرأها إلى آخرها ثم قال: ما هذا؟ قال: أن تعمل بما فيها، فقطعها ورماها أمامه!! فقال له: ما هذا؟! قال: الحاضر يرى مالا يرى الغائب، فأنت هنا قاعد في محلك لا ترى ما يكون هناك، وأنا هناك أشاهد ما يطرأ من الأمور وأنظر أشياء مستجدة أنت لا تدري عنها، فلن أتقيد بكتابتك، ولكن سأعمل بما أرى، وهكذا. فقالوا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث الرسائل إلى الملوك ولم يوقع عليها أحد من الصحابة.

    حكم كتابة الوصية والإشهاد عليها

    يقولون: لا يشترط في كتابة الوصية التي يبيت وهي مكتوبة تحت رأسه إشهاد الشهود.

    وقوله:( إلا ووصيته مكتوبة تحت رأسه)، تحت رأسه، هل يتركه للأولاد يلعبون بها؟ وهل يتركها تذهب وتجيء مع الفراش وتضيع؟ الجواب: لا. وإنما الغرض شدة الحرص على كتابة الوصية قبل أن يصبح، وقالوا: ليس الغرض بالليلة أو الليلتين التحديد ولا مفهوم لها، فتصح ولو بعد أسبوع ولكن الحديث جاء للحث والتأكيد على الإسراع بالوصية.

    ويلحق العلماء هنا حكم الأمر بكتابة الوصية، فلو أنه أشهد جماعة من الناس في مكان من العادة أنهم يجتمعون فيه، في ناديهم، أو في مسجدهم، أو في مجلسهم الذي هو محل اجتماعهم فقال: أشهدكم أن فلاناً له عندي دين قدره كذا، أو أشهدكم أن فلاناً له عندي أمانة بكذا، أو أشهدكم أني أوصي بالنخل الفلاني صدقة جارية بعد موتي، فيصح، يعني: أنه يجزئ عن الكتابة إعلانه بما يريد أن يكتبه على جماعته أو على أحد من رهطه الذين في محلته، حتى إذا فاجأه الموت وجاء صاحب الأمانة يطلبها وجد من يشهد له بها، أو جاء صاحب الدين يطلبه جاء من سمعه المدين فشهد له بدينه وهكذا، والغرض من ذلك حفظ الحقوق.

    وبهذا يبين لنا المصنف رحمه الله تعالى حكم الوصية في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حق امرأ مسلم...) الحديث، ويؤيد هذا قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180].

    وقد أشرنا إلى الأحكام التي تعتري الوصية من الوجوب إلى الندب إلى الكراهية إلى الإباحة إلى التحريم، فلو أوصى لكنسية أو لكتب بدعة فهي وصية محرمة ولا تنفذ.

    حكم الرجوع عن الوصية أو تبديلها

    ومن أحكام الوصية: أن له أن يرجع فيها قبل الموت، وله أن يغير فيها ويبدل؛ لأن العبرة في نفاذها إنما هو بعد موته ولهذا يقال: ثلث المال الذي تتعلق به الوصية هل يكون عند كتابتها ولو طال به الأجل عشر سنوات، أم يكون عند موته؟ فلو كتبها وعنده مليون وعند الموت كان عنده مائة ألف فقط، فهل العبرة بوقت الكتابة أم بوقت الموت؟ الجمهور على أنها بوقت الموت.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089181748

    عدد مرات الحفظ

    782509742