الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أُودع وديعة فليس عليه ضمان) أخرجه ابن ماجة ، وفي إسناده ضعف].
الوديعة في اللغة: من ودع الشيء. بمعنى: ترك، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى [الضحى:3] أي: ما تركك، يقول: دع عنك كذا، أي: اتركه عنك، وقالوا: إن الودعية متروكة عند المودع، وقيل: من الوداعة، والوداعة: السكون، (فأتوها وعليكم السكينة والوداعة والوقار) فإما أن تكون من الاستقرار والسكون عن التقليد والحركة بإيداعها عند المودع، وإما أن تكون من الترك، بأن تركها صاحبها مستقرة عند المودع، ومهما يكن أصلها في اصطلاح أهل اللغة فإن أصل الوديعة في الشرع: أن يجعل إنسان مالاً له عند غيره يحفظه له، ويقولون: إن عقد الوديعة عقد جائز، ولكل من الطرفين إنهاؤه متى شاء.
أولاً: الكتاب: فقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء:58] والوديعة أمانة.
ثانياً: السنة: (على اليد ما أخذت حتى تؤديه) ويدخل فيه الاستعارة والإجارة والوديعة: ثالثاً: والإجماع: أجمعت الأمة على ذلك.
وهي مشهورة عبر التاريخ في الجاهلية والإسلام، فأما في الإسلام فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع إيداع أهل مكة.
يقولون: ما كان لإنسان شيء يخاف عليه إلا وأودعه عند محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ لأمانته، ولما أراد الهجرة خلف علياً رضي الله تعالى عنه لأمرين: الأمر الأول: التعمية على العدو، بأن المسجى تحت البردة هو محمد صلى الله عليه وسلم عليه وسلم؛ فينتظرونه.
الثاني: الأمانات، فلما أراد الهجرة صلى الله عليه وسلم أودع تلك الودائع عند أم أيمن ، وكلف علياً أن يردها لأصحابها بعد أن يخرج؛ لأنه لو ردها قبل الخروج للفت الأنظار إليه، وكان من أهم عوامل نجاح الهجرة الكتمان.
وأما في الجاهلية: ففي قصة السموءل مع امرئ القيس ، حينما أتى امرؤ القيس إلى السموءل وأودعه سلاحه، وذهب يجمع رجالاً وسلاحاً لقتال أعدائه، فشعر أعداؤه بذلك، فجاءوا إلى السموءل لأخذ سلاح امرئ القيس فامتنع، وقال: إنها وديعة وأمانة ولا أخفر الأمانة والوديعة. وكان محصناً في حصنه، فعجزوا أن يصلوا إليه، فوجدوا ولده خارج الحصن، فهددوه بقتل ولده إن لم يسلم سلاح امرئ القيس فامتنع، وقتل ولده على نظره وعينه ولم يسلم الوديعة والأمانة!
إذاً: الوديعة أمانة، والوديعة: مال الغير يحفظه غيره، ويكون أميناً في ذلك.
والحديث يتكلم عن جانب واحد من جوانب الوديعة: بأن المضمَّن لا يضمن؛ لأن يده عليها يد أمانة، والأمين لا يضمن، ولأنه أمسكها لحظ صاحبها لا لحظ نفسه، فهو غير متهم.
وهناك جوانب أخرى متعددة في الوديعة، وابن قدامة رحمه الله أورد في المغني في مباحثها ما يقارب من خمس وثلاثين صفحة، كلها تدور حول تحقيق المناط في الضمانة، والضمان، وعدم الضمان، والأصل في ذلك: أن المودع لا يضمن ما لم يأتِ موجب الضمان: من تفريط أو تعدٍ، وسبق أن قلنا: إن موجبات الضمان في القوانين الوضعية وفي الأحكام الشرعية أحد الأمرين: التفريط أو التعدي، والفرق بين القتل الخطأ والعمد: أن الخطأ بسبب التفريط، والعمد بسبب التعدي العامد والعدوان، وهكذا كل من فرط في حق الغير ضمن، وكل من تعدى على حق الغير ضمن؛ لأنه فعل ما ليس له أن يفعله، فعلى الإنسان أن يحرص، وأن يأتي بالعمل على وجهه الكامل.
وأهم ما ينبغي التنبيه عليه: أن الصناع سابقاً لم يكونوا يضمنوا؛ لأن الصنعة في أيديهم أمانة، ولكن في زمن علي رضي الله تعالى عنه لما كثر ادعاء الصناعة وتلف السلع ضمنهم، وقال: سداً للباب، وسداً للذريعة، فإذا علم الصانع أن موضوع الصنعة في ذهب أو نحاس أو خشب أو خياطه أو غير ذلك إذا تلف لا يضمن فرط، وإذا علم أنه يضمن بأي حال من الأحوال أتقن.
وإذا ادعى أن الوديعة سرقت وماله لم يسرق ضمن؛ لأنه أحد أمرين: إما لا سرقة أصلاً، أو تفريط في وضعها في غير حرزها، ولماذا لم يسرق ماله معها؟! أما إذا ادعى بأنه وضعها في حرز ماله هو، بأن كان لديه صندوق في البيت يؤمن فيه أمواله فوضعها معها، فادعى أن الصندوق قد سرق، أو كسر وأخذ ما فيه، فحينئذ يقبل قوله، ويكون لا ضمان عليه.
وإذا جاء صاحب الوديعة يطلبها فقال: لا شيء لك عندي، ولم تودعني شيئاً، ولم آخذ منك شيئاً. فلما ضيق عليه قال: هاه! نعم.. صحيح، أنت أودعتني ورددتها عليك. ضُمِّن؛ لأنه بقوله: رددتها عليك كذب نفسه في قوله: لم تودعني شيئاً. فأصبح خائناً كذاباً، والمؤتمن ليس بكذاب.
أما إذا قال: وديعتي عندك. فقال: ليس لك عندي شيء، ثم قال: أنا أودعتك. قال: نعم أودعتني ولكن ليس عندي لك شيء؛ لأني رددتها عليك في الوقت الفلاني. فكلمة (ليس لك عندي شيء) تحتمل عدم الوديعة بالكلية، وتحتمل ردها إليه بعد الإيداع، فإذا قال ابتداءً: ما أودعتني، ثم رجع واعترف يكون ضامناً.
ولو أنه أخذ الوديعة وتصرف فيها، ثم بعد زمن ردها إلى محلها، فهو ضامن إن تلفت، وتبرأ ذمته بردها إن أعادها في موضعها أو إلى صاحبها.
عليه أن يبحث عن صاحبها أو وكيل له يسلمها إليه، سواء كان هذا السفر ضرورياً أو غير ضروري؛ لأنه له حق في ذلك، فإذا لم يجد صاحبها ولا وكيله جاء إلى الحاكم، وقال: عندي وديعة كذا، وأريد السفر، ولا آمن تركها في البيت، فيردها للحاكم، والحاكم مأمون على ذلك ويضعها حيث ما يحفظها.
وإذا لم يجد الحاكم، أو كان الحاكم بعيداً عنه، فماذا يفعل؟!
قالوا: إن نظر إلى أمين آخر يمكن أن يأمنه على ماله هو فأودعه إياها، فتلفت عند المودع الثاني، قالوا: لا ضمان عليه؛ لأنه في حالة ضرورة، وأودعها عند مؤتمن هو يأتمنه على ماله، فليس مفرطاً ولا متعدياً.
أما إذا أودعها عند شخص عادي ليس معروفاً بالأمانة فتلفت، فهو ضامن؛ لأن صاحبها ارتضاه هو ولم يرتضِ هذا المودع الجديد؛ لأنه لا يعرف عنه شيئاً.
إذاً: فالمباحث عديدة وواسعة في ما يتعلق بالوديعة.
أما إذا طلبها منه بعيداً عن موطنها، فمثلاً: أودعه بالمدينة ولقيه بمكة، وقال: ائتني بوديعتي، فليس له حق في تكلفته في هذا الوقت، وللمودَع عنده أن يقول: وديعتك حيث أودعتني بالمدينة.
وإذا قال: إذا رجعت إلى المدينة فابعث بها إلي، فعليه أن يدفع مؤنة ردها وإرسالها؛ لأن مئونة إرسالها تابعة لها، وهي على صاحبها، ولا يكلف المودع بأجرة نقلها، قليلة كانت الأجرة أو كثيرة.
وبهذا القدر نكتفي، ومن أراد الزيادة والتفصيل فليرجع إلى كتب الفقه، وهذا الذي نبهنا عليه وننبه عليه دائماً: أن على طالب العلم أن يجمع بين مراجع الفقه ومراجع الحديث، فالحديث أصل يرجع إليه في تطبيق القواعد، والفقه تفصيل الجزئيات فيما يطرأ على الموضوع أو يظن به.
والله أسأل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لما يحبه ويرضاه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر