إسلام ويب

شرح الأربعين النووية - الحديث التاسع والعشرون [5]للشيخ : عطية محمد سالم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.

    أما بعد:

    فلا زلنا عند قوله عليه الصلاة والسلام لـمعاذ : .. رأس الإسلام... وذروة سنامه الجهاد...

    وإذا تأملنا في هذا الحديث النبوي الشريف وجدنا أنواع التشبيهات والاستعارات، أولها: الإسلام كالرأس للإنسان، والثاني: الصلاة كالعمود للبيت الذي يقوم عليه، والثالث: الجهاد كسنام البعير وذروة سنامه الجهاد، وبتأمل هذه التشبيهات الثلاثة نجد كل مثال في موضعه يعطي حكم موضوعه.

    روعة البلاغة في كلام النبي عليه الصلاة والسلام

    رأس الأمر الإسلام لأن الجسم بلا رأس لا قيمة له، فهو جثة هامدة، وكذلك كل الأعمال بدون الإسلام وإعلان الشهادتين لا قيمة لها.

    والبيت بعموده، فكذلك الصلاة هي عماد الدين، وقد جاء في الحديث أنه بني الإسلام على خمس، وذكر صلى الله عليه وسلم الصلاة، وبيّن في أحاديث أخرى بأن ذاك البناء لا يقوم إلا بالصلاة: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر)، واعتنى بها صلى الله عليه وسلم في تنشئة الصبيان والأطفال والناشئة فقال: (مروا أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع)، إلى آخر ما يتعلق بهذين المثالين.

    وإذا جئنا إلى سنام البعير نجد أحوال المسلمين وموضوع الجهاد أشبه ما يكون بسنام البعير، لأن السنام هو ذروة البعير وأعلاه، وسِمَن السنام عنوان على صحة البعير وقوته وخصب مرعاه، وضعف السنام واضمحلاله يدل على ضعف البعير وقلة مرعاه.. وهكذا الأمة الإسلامية كلما قويت شوكتها سمنت ذروة سنامها، وكانت في أقوى ما تكون وأكمله. وإذا ما تضعضعت، ذاب السنام ولصق الجلد بالعظام، وهكذا ذروة السنام.

    ومن ناحية أخرى نجد أن الأعمال بدون الإسلام لا قوام لها، وكذلك البيت بلا عمد لا ظل ولا إيواء، بل هو طنب مطوية أو لائطة بالأرض، أما السنام فقد يسمن ويكبر، وقد يهزل ويصغر والبعير قائم على حاله، كذلك الجهاد بالنسبة إلى الإسلام تارة فتارة، تارة يكون واجباً فرض عين، وتارة يكون مندوباً إليه، وتارة يكون فرض كفاية، فتتغير أحوال الجهاد في الأمة كما يتغير حال السنام في البعير.

    والجهاد كما يقول العلماء: بذل الجهد، وهو أقصى ما يستطيعه الإنسان، تقول: فلان يجتهد في حمل الصخرة، ولا تقول يجتهد في حمل النواة، لأن النواة لا تحتاج إلى بذل جهد، تقول: أخذ الكتاب بيده، وتقول: حمل الكيس الكبير أو حمل الصخرة الثقيلة بعد جهد جهيد.

    ومن هنا أخذ الاجتهاد في مسائل العلم، وهو: بذل الطاقة والجهد في البحث والتنقيب، فكذلك جهاد العدو، لأن المجاهد يبذل غاية جهده وطاقته ليتغلب على عدوه، وليس بعد الدفاع عن نفسه والظفر بعدوه من جهد، ومن هنا كان الجهاد شاقاً وثقيلاً على النفس؛ لأنه يكلفها أقصى جهدها وطاقتها.

    ميادين الجهاد في سبيل الله

    أما ميادين الجهاد فأعلاها وأقواها ميادين الكر والفر وقتال العدو الكافر، وبعضهم يقول: طلب العلم ومعرفة الحلال والحرام، ولذا يقولون: يوم القيامة يكون مداد العلماء ودماء الشهداء سواءً بسواء.

    والواقع أن القضية نسبية، والقرآن سوى بين الأمرين، قال تعالى: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً [التوبة:122]، أي: لا يمكن أن ينفروا جميعاً لأنهم يتركون الذراري، ويتركون العجائز ويتركون الأعمال والزراعة والإنتاج، فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة:122]، فندب القرآن لطائفة أن تنفر في سبيل الله، وطائفة أن تنفر في طلب العلم.

    واستدل القائلون بأن طلب العلم أهم من الجهاد بأنه -أصلاً- لن يجاهد إنسان إلا بعد العلم والمعرفة، ولن يرسم طريق الجهاد الصحيح إلا العلماء، وعليه طلب العلم أولاً ثم الجهاد، وليس كل واحد منهما يعطل الآخر.

    ثم أيضاً الجهاد يكون بالسنان وباللسان وبالمال وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ [الصف:10-11]، فقدم الأموال، والعادة أن التقديم له تأثير، فكيف يقدم المال على النفس، والجندي المجاهد هو الشهيد؟

    والجواب: لأن الجهاد بالمال أعم وأشمل، وهو جهاد الصغير والكبير والمرأة والرجل، وكل من يملك المال يمكن أن يتبرع، وماذا يفعل الرجل بنفسه إذا لم يجد ذخيرة أو زاداً يتزود به؟ وخاصة في مثل أيامنا، حيث صارت الحرب حرب اقتصاد والغلبة غلبة إنتاج، وليست كثرة رجال وصليل سيوف، أصبحت الآن المعدات الحربية والتكتيك العسكري له تأثير عظيم، وقد كان الاعتماد سابقاً على قوة الرجال، أما اليوم فبقوة الآليات، والآليات تحتاج إلى مال لكي تشتريها.

    وهكذا تقديم المال يعطي الصورة الحية لسعة مجال الجهاد الحقيقي، ثم يأتي الرجال بعد ذلك.

    وميادين الجهاد عديدة، منها: قتال العدو، طلب العلم، حرب المنكرات، جهاد النفس، جهاد الهوى، كل ذلك من ميادين الجهاد، كما أن الجهاد يبحث أيضاً في آلته: الجهاد بالكلمة، الجهاد بالإنتاج، قائد القوات البريطانية في الحرب العالمية الأخيرة كان يأتي بشخصيات غير بريطانيين للجيش فعِيب عليه، فقال: الجندي الذي يعمل في الميدان يحتاج إلى سبعة جنود وراءه لتمويله، من يخبز له، ومن يطبخ له، ومن يخيط لباسه؟ ومن يقدم له عتاده؟ ومن يشغل المصانع التي تمونه بالذخيرة؟ ومن يمهد له الطريق؟ ومن يوصل له حاجاته؟ وكل أولئك جنود يعملون.

    وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك بقوله: (إن الله عز وجل يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة)، السهم الواحد يُرمى في سبيل الله يدخل فيه ثلاثة الجنة (صانعه، والممد به، والرامي به في سبيل الله عز وجل).

    فهذا الجندي في الميدان وراءه عدة جنود، إلا أن موضوع التموين كان في صدر الإسلام كل جندي يمون نفسه، وكل جندي مدرب قبل أن يأتي الإسلام، فقد كانوا كل يوم في غارة وكل يوم في قتال، فهم مدربون بفطرهم، لحماية أنفسهم أو للبغي والغارة على غيرهم، كما قال الشاعر:

    وأحياناً على بكر أخينا إذا ما لم نجد إلا أخانا

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089181078

    عدد مرات الحفظ

    782503243