الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
أما بعد:
فكان آخر ما تكلمنا عليه في هذه العقيدة هو قول المؤلف رحمه الله: (ومن ذلك قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] ، وقوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك، وذكرنا أن هذا المقطع الذي ابتدأه المؤلف رحمه الله بذكر هاتين الآيتين، ثم ذكر بعدها بعض الأحاديث إنما أتى به المؤلف رحمه الله لتقرير عقيدة السلف فيما يتعلق بعلو الله عز وجل، فإن هذه الآيات دالة على علوه واستوائه على عرشه.
أما الاستواء فقول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، قد ذكره الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه، وهو دال على استوائه على عرشه، وقلنا: إن الاستواء يفيد إثبات العلو، ولذلك يذكر دائماً مع آيات العلو في كتب الاعتقاد، ووجه ذلك: أن الاستواء علو خاص، وهذا هو الفرق بين آيات العلو وبين آيات الاستواء، فالاستواء علو خاص، وهو علو اختص الله سبحانه وتعالى به العرش دون غيره من المخلوقات، والعرش مخلوق عظيم خلقه الله جل وعلا، واختصه بهذه الخاصية، وهي أنه استوى عليه جل وعلا بعد أن خلقه.
والعرش في لغة العرب: سرير الملك، وهو خلق من خلق الله عظيم.
المعنى الأول: السقف المحفوظ، والمعنى الثاني: أنه العلو؛ لأن السماء في لغة العرب: اسم جنس للعالي، فعلى المعنى الأول، وهو أن المقصود بالسماء: السقف المحفوظ، يكون قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] أي: من على السماء، فـ( في ) بمعنى: (على).
وعلى المعنى الثاني، وهو أن السماء اسم لجنس ما علا، تكون ( في ) على بابها، وليست بمعنى (على)، على أننا نعتقد أن الله جل وعلا محيط بكل شيء، ليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه جل وعلا، بل هو العالي الذي لا شيء فوقه، فهو سبحانه عال على كل شيء، مستوٍ على عرشه بائن عن خلقه، فليس فيه شيء من خلقه، ولا هو في شيء من خلقه، تعالى الله عما يظن الجاهلون ويقولون علواً كبيراً، وهذا الذي ذكرناه في قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16] يجري في كل ما شابه هذه الصيغة.
فقوله رحمه الله: (وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الله الذي في السماء تقدس اسمك (.
( في السماء ) فيها وجهان:
الوجه الأول: أن المراد بالسماء السقف المحفوظ، والوجه الثاني: أن السماء المراد بها جنس ما علا، تقول: نزل علينا المطر من السماء، يعني: من جهة العلو؛ لأن المطر لا ينزل من السقف المحفوظ، وإنما ينزل من السحاب، كقوله تعالى: فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ [الحج:15] يعني: يمدد بحبل إلى جهة العلو، فالسماء تطلق على جنس ما علا في لغة العرب، وتطلق أيضاً على السقف المحفوظ الذي جعله الله سبحانه وتعالى طباقاً.
ففي كل الموارد التي يرد فيها الخبر بأن الله جل وعلا في السماء، إما أن تقول: السقف المحفوظ، فتكون ( في ) بمعنى (على) وإما أن تقول: جهة العلو، فتكون ( في ) ظرفية على بابها.
قال رحمه الله: (وقال للجارية: (أين الله؟ قالـت: في السماء قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة)، هذا الحديث في صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم في قصة ضرب جاريته، حيث سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، ثم سألها: أين الله؟ قالـت: في السماء، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) يقول: (رواه مالك بن أنس ومسلم وغيرهما من الأئمة).
(وأنا أعلمك دعوتين -وفي رواية-: كلمتين، فأسلم)، ظاهر هذا السياق أنه أسلم في الحال، والذي يظهر من الروايات الأخرى أنه أسلم بعد حين، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوفني ما وعدتني، علمني الكلمتن)، فعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمتين جامعتين تجمع للإنسان خير الدنيا والآخرة: (اللهم ألهمني رشدي، وقني شر نفسي) وفي رواية: (وأعذني من شر نفسي) ومن وفق إلى الرشد وإلى الوقاية من شر النفس فقد جمع الله له الخير؛ لأن الوقاية والرشد تحصل بها الهداية، فإن من ألهم رشده، أي: أعطي الهداية ووفق إليها، ووقي شر نفسه، فقد كمل له العلم النافع والعمل الصالح، فهو سأل الله عز وجل ما يعين على الهداية واجتناب ما يمنع منها.
لأن الذي يحصل به الضلال وعدم الاستقامة أمران: الجهل، وهذا يتوقاه بقوله: اللهم ألهمني رشدي، واتباع الهوى، وهذا يتوقاه بقوله: وقني شر نفسي، فإن الإنسان قد يكون عالماً بالحق لكن يحول بينه وبين اتباعه والأخذ به نفسه واتباع شهواته، فإذا وقي هذا ووفق إلى ذلك فقد كمل له الخير، وهذا الحديث رواه الترمذي وقال: غريب، وقد حسنه جماعة من العلماء، وهو من رواية الحسن بن أبي الحسن البصري عن عمران رضي الله عنه.
وهذا وصف صادق على الأمة، فإن أهل الإسلام يسجدون في الأرض، ثم إذا سجدوا يقولون: سبحان ربي الأعلى، وبهذا فهم يزعمون أن إلههم في السماء، أي: في العلو؛ وأول ما ينقدح في القلب عند وصف الله أنه الأعلى، علوه جل وعلا بذاته في السماء.
وهذا أمر وقع فيه الخلاف بين أهل السنة وغيرهم، فإن أهل البدعة ينكرون هذا النوع من العلو ويقولون: الأعلى قدراً، والأعلى قهراً، ولا يقولون: الأعلى ذاتاً، والعلو الذي يثبته أهل السنة والجماعة لله عز وجل هو العلو بأنواعه كلها، فله جل وعلا علو الذات، فهو فوق كل شيء سبحانه وبحمده.
وله علو القدر والشرف، فهو الذي له المثل الأعلى، وله الصفات العلا والأسماء الحسنى، وهو العالي على عباده قهراً كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18].
والمتكلمون الذين ينكرون علو ذاته جل وعلا يقولون: إن قول الله جل وعلا: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] وقول الساجد: سبحان ربي الأعلى، إنما هو علو القدر والقهر، وهم في هذا باخسو الله جل وعلا علوه الذي اختص به وهو الأصل، فإن الأصل في العلو الثابت له هو علو الذات، وأما علو القدر وعلو القهر فهو من لوازم علوه جل وعلا.
فما ذكر في الكتب المتقدمة من أن هذه الأمة موصوفة بأنهم يسجدون في الأرض ويزعمون أن إلههم في السماء وصف مطابق لحال أمة الإسلام.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود وغيره من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وهو مشهور عند أهل العلم بحديث الأوعال؛ لأن فيه ذكر الأوعال التي تحمل العرش، وهو حديث صحيح رواه أهل السنن أبو داود والترمذي وابن ماجة ، ورواه ابن خزيمة ، وقد طعن فيه بعضهم، لكن طعنهم واهٍ، فالحديث ثابت، ولا تنتفي صفة العلو بتشغيب من شغب بتضعيفه لأن الحديث والآيات مستفيضة في الدلالة على أن الله تعالى فوق كل شيء.
يقول رحمه الله: [ فهذا وما أشبهه مما أجمع السلف رحمهم الله على نقله وقبوله ] (هذا) أي: ما تضمنته الآيات والأحاديث المتقدمة من إثبات استوائه جل وعلا وعلوه على عرشه، وما أشبهه مما أجمع السلف على نقله وقبوله، [ولم يتعرضوا لرده، ولا تأويله، ولا تشبيهه، ولا تمثيله] بل جروا في هذه الصفة على ما جروا عليه في سائر الصفات، فهم لا يردون، ولا يكذبون، ولا يحرفون، ولا يمثلون.
واعلم أنه لا سلامة لأحد في خبر الله أو خبر رسوله صلى الله عليه وسلم عما يتصف به الرب جل وعلا إلا بسلوك هذا السبيل، فهو أن يثبت ما أثبته الله لنفسه، أو يثبت ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فإن هذه الاحترازات الأربع، وهي نفي التحريف ونفي التعطيل، ونفي التمثيل ونفي التكييف، يسلم بها المرء من الضلالات في باب الأسماء والصفات، ولذلك كرر المؤلف رحمه الله قوله: (ولم يتعرضوا لرده ولا تأويله، ولا تشبيهه ولا تمثيله)، فإن أهل السنة والجماعة يثبتون ذلك على الوجه اللائق بالله عز وجل، وأذكر دائماً أن حظ النصوص عند أهل السنة التسليم والقبول، مع حسن الفهم كما تقدم ذلك فيما ذكرناه من قول ابن القيم في نونيته:
فالجحد والإعراض والتأويل والتجهيل حظ النص عند الجاني
أما حظه عندنا فهو التسليم مع حسن القبول وفهم ذي إحسان
فإن هذين البيتين يختصران لك الضلالات التي وقع فيها من وقع في باب الأسماء والصفات، ويبينان لك طريق السلامة من هذه الضلالات؛ فيحسن حفظ هذين البيتين.
هذه القصة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله تناقلها العلماء، فإنه سأله رجل عن قول الله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] كيف استوى؟ وكان الإمام مالك رحمه الله يحذر من هذا السؤال، فسكت رحمه الله سكوتاً طويلاً كما ذكر الذهبي وغيره، حتى علته الرحضاء، أي: حتى علاه العرق من شدة ما اعتراه رحمه الله من غرابة هذا السؤال وعظمه، فوفق رحمه الله إلى جواب مسدد فقال: (الاستواء غير مجهول)، وفي بعض الروايات: الاستواء معلوم، والمعنى واحد، فغير المجهول هو المعلوم، أي: أن الاستواء لا يجهل في لسان العرب، فيدركه من له فهم بلغة العرب، هذا معنى قوله رحمه الله: الاستواء معلوم أو الاستواء غير مجهول.
ثم قال: (والكيف غير معلوم)، أي: كيفية هذا الخبر لا سبيل إلى علمها، لأن الله جل وعلا لم يبين لنا كيفية استوائه، فليس عندنا خبر من الله جل وعلا كيف استوى، لكن عندنا منه خبر أنه استوى، فالواجب أن نقف حيث وقف النص، فنثبت استواء الله جل وعلا على عرشه دون أن نتطرق إلى ذلك بطلب الكيفية، فإن الكيفية لا سبيل إلى تحصيلها ولا إلى إدراكها، قال الله جل وعلا، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران:7] وهذا دليل على أن الكيفيات لا سبيل إلى تحصيلها، وأن الكيف مجهول غير معلوم.
فقوله: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ [آل عمران:7] معناه: أن حقيقته وكنه خبره وما يئول إليه الخبر لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وهذا معنى قول مالك رحمه الله تعالى: (والكيف غير معقول) أي: لا سبيل إلى عقله وإدراكه؛ لأن العلم بالكيفيات فرع عن العلم بالذات، وليس لنا علم بكيفية الذات حتى نعرف ونعلم كيف صفاته سبحانه وتعالى.
ثم قال رحمه الله: (والإيمان به واجب) أي: الإقرار المستلزم للإذعان والقبول، والذي يحصل به طمأنينة القلب وسكونه إلى خبر الله وخبر رسوله في هذه الصفة وفي غيرها واجب، فلا يسوغ لأحد أن ينكر الاستواء لكونه لم يعقل كيفيته، بل الواجب على المؤمن أن يقر بالاستواء الذي أخبر الله به عن نفسه، أما الذي يتعلق بالكيفية فأمرها إلى الله؛ لا سبيل إلى إدراكها ولا إلى العلم بها.
والإيمان به، أي: بالاستواء الذي أخبر به في كتابه واجب.
(والسؤال عنه بدعة) السؤال عن كيفية الاستواء وعن كيفية سائر الصفات بدعة، أي: محدث في الدين، وإذا كان بدعة فإن كل بدعة ضلالة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وإياكم ومحدثات الأمور! فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)، فالواجب الكف عن هذا، ولو كان خيراً لسبقنا إليه سلف الأمة.
ثم أمر بالرجل فأخرج من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحدثه، وفيما ذكره الذهبي رحمه الله من هذه القصة، أن الإمام مالك رحمه الله قال لهذا الرجل: (وإني لأظنك ضالاً، أخرجوه) فلما أخرجوه نادى الرجل الإمام مالك رحمه الله قال: يا أبا عبد الله ! لقد سألت عن هذا أهل الكوفة والبصرة والعراق، فلم أجد أحداً وفق إلى ما وفقت إليه.
كأن هذا الرجل وجد جواب الشبهة التي دارت في صدره وحارت، وطلب جوابها عند علماء البصرة وعلماء الكوفة وعلماء العراق، فلما أجابه الإمام مالك رحمه الله بهذا الجواب شفى ما في قلبه من شبهة، وأزال ما في قلبه من عارض، وهذا الجواب لم يكن جواباً مخترعاً من الإمام مالك رحمه الله، بل إنه قد نقل عن غيره من أئمة السلف، فهو منقول عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك رحمه الله، وقد نقل عن بعض الصحابة كـأم سلمة، فالمراد: أنه منقول عن غير واحد من سلف الأمة، وقد تلقاه علماء الأمة بالقبول، فكثير من أهل العلم يتناقل هذا القول ويحتج به، وهو قول مسدد في جواب هذه الشبهة.
قال الله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وقال سبحانه: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144] ، وقال سبحانه: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253] وقال سبحانه: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى:51] وقال سبحانه: فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى [طه:11] * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ [طه:12] وقال سبحانه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14]، وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله.
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم) وروى عبد الله بن أنيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلاً بهماً، فيناديهم بصوت يسمعه من بعُد كما يسمعه من قرب: أنا الملك.. أنا الديان) رواه الأئمة، واستشهد به البخاري.
وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار، فهالته، ففزع منها، فناداه ربه: يا موسى! فأجاب سريعاً استئناساً بالصوت، فقال: لبيك لبيك! أسمع صوتك ولا أرى مكانك فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك، وأمامك، وعن يمينك، وعن شمالك، فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله تعالى، قال: كذلك أنت يا إلهي، أفكلامك أسمع أم كلام رسولك؟ قال: بل كلامي يا موسى ].
هذا الفصل خصه المؤلف رحمه الله بذكر صفة جليلة من صفات الرب جل وعلا وهي صفة الكلام، والله سبحانه موصوف بالكلام أزلاً وأبداً، فالكلام صفة من صفات الذات، وهي صفة من صفات الفعل باعتبار الآحاد والأفراد، أما باعتبار الأصل فالكلام من الصفات الذاتية.
المقصود بالقديم: الأول الذي ليس قبله شيء، فكلامه ليس صفة حادثة بعد أن لم يكن، بل كلامه جل وعلا من صفاته الذاتية التي لم يزل متصفاً بها ولا يزال متصفاً بها، وقد اتفق على إثبات هذه الصفة لله جل وعلا أهل السنة والجماعة، أئمة هذا الدين من الصحابة فمن بعدهم، فلا خلاف بينهم في إثبات هذه الصفة.
بل هذه الصفة دل عليها كتاب الله جل وعلا وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا مجال لإنكارها، بل إن إنكار هذه الصفة يفضي إلى إنكار الصفات من أصلها، ولذلك فالذين ينكرون أن يرسل الله رسولاً إما أن ينكروا أن الله يكلم أحداً، وإما أن ينكروا أن الله ينزل على رسوله كتاباً كما قال الله عز وجل: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ [يونس:2]، فجعل الله عز وجل سبب تعجب الكفار أن يوحي إلى رجل منهم؛ ولذلك قال القائل منهم: إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:25]، فأنكر أن يكون القرآن كلام الله جل وعلا.
فالإنكار لمسألة تكلم الله عز وجل وصفة الكلام له جل وعلا من أخطر ما يكون؛ لكونه يوافق قول المكذبين للرسل، فيلغي الرسالة، ويلغي أن يكون الله جل وعلا قد أرسل رسلاً مبشرين ومنذرين، وأنه أوحى إليهم، وأرسل إليهم.
فهذه المسألة من أخطر ما يكون، ولذلك اتفق الرسل جميعاً على إثبات هذه الصفة، فكل الرسل أخبروا أقوامهم بأن الله أوحى إليهم، وأنه كلمهم، وأنه بعثهم وأرسلهم، فإثبات صفة الكلام مما أجمعت عليه الكتب السماوية كلها، فمن أنكر هذه الصفة فقد أنكر ما اتفق عليه الرسل جميعاً.
لكن هل هذا الكلام حادث الأنواع، أي: متجدد، أم أنه كلام تكلم به ثم فرغ منه؟
الجواب: أنه كلام متجدد، ولذلك فهو بهذا الاعتبار من صفات الأفعال، فلما نادى الله عز وجل آدم وحواء بعدما وقع منهما ما وقع من المخالفة، فهو نداء حادث في وقته وليس نداء متقدماً في الأزل.
ولما أنزل الله القرآن على رسوله، فإنه تكلم به وقت نزوله، فالله جل وعلا يتكلم بكلامه متى شاء وكيف شاء، ولكن هذه الصفة لم يزل متصفاً بها، أي: أن الكلام ليس حادثاً بعد أن لم يكن، هذا معنى قول المؤلف رحمه الله: (أنه متكلم بكلام قديم).
قال رحمه الله: (يسمعه منه)، أي: يسمع كلامه منه جل وعلا لا من غيره، (من شاء من خلقه)، وهذا السماع سماع مباشرة لا بواسطة؛ ولذلك قال: (سمعه موسى عليه السلام منه)، أي: من الله جل وعلا (من غير واسطة)، فلم يكن بين الله وموسى عليه السلام واسطة في سماع الكلام، بل سمعه مباشرة، وهذا لا يختص بموسى عليه السلام من كل وجه، أعني أن أصل سماع الكلام مباشرة ليس خاصاً بموسى، بل كلم الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم مباشرة في ليلة الإسراء، بل كلم بعض أفراد هذه الأمة بعد موته كما في حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (إن الله جل وعلا قد كلم أباك كفاحاً) أي: من غير واسطة، وذلك بعد استشهاده رضي الله عنه في غزوة أحد.
وأما في الآخرة فإنه يكلم كل أحد كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي في الصحيحين: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه الله يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان)، والترجمان: هو المفسر الذي يكشف عن معنى الكلام، بل سيكلمه مباشرة بدون واسطة، لكن ما جرى لموسى عليه السلام من الكلام في رسالته أمر زائد على ما جرى للأنبياء، ولذلك يوصف موسى عليه السلام بأنه كليم الرحمن، ولما يأتي الناس -كما في حديث أبي سعيد وغيره- في المحشر إلى موسى يقولون له: أنت الذي كلمك الله، وخط لك التوراة بيده.
فذكروا ما اختص به دون غيره، وإذا نظرت إلى ذكر الله عز وجل للرسل، تجد أن ما اختص الله به موسى مخالف لهم جميعاً، انظر إلى قول الله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] ثم ذكر الرسل: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً * وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ [النساء:163-164] ثم ذكر موسى مفرداً فقال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164]، فدل هذا على أن نصيب موسى من تكليم الله له مخالف لما تقدم حتى للنبي صلى الله عليه وسلم، فإن ما اختص الله به موسى من صفة التكليم مخالف لغيره، فدل ذلك على أن نصيب موسى من هذه الصفة لست لغيره من الرسل.
ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (سمعه موسى عليه السلام منه من غير واسطة)، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن نصيب موسى في هذه الفضيلة وفي هذه الصفة لم يشاركه فيها أحد، ودليل ذلك من القرآن واضح في آيات النساء: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163] وذكر جملة من الأنبياء، ثم بعد ذلك قال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] ولم يقل فقط: (وكلم الله موسى)، بل أكد ذلك بقوله: (تكليماً) فدل ذلك على أن حظه ونصيبه من التكليم الذي جرى له عليه السلام مخالف للرسل، وهذا هو السبب في كونه عليه السلام يوصف بأنه كليم الرحمن، وأن الناس يقولون له يوم المحشر: أنت الذي كتب الله لك التوراة بيده، وكلمك بنفسه.
(وأنه سبحانه يكلم المؤمنين في الآخرة ويكلمونه)، في الآخرة يحتمل أنه في الجنة، ويحتمل أنه في الموقف، ولكن المراد: أنه يكلمهم في الجنة، وخص المؤمنين بالتكليم مع أن ظاهر الحديث: أنه يكلم أهل الإيمان وغيرهم؛ لأن تكليمه لأهل الإيمان أعلى ما يكون من الكلام، أما تكليمه لأهل الكفر فإنه تكليم تقريع وتوبيخ وتعذيب، وليس تكليم إكرام ومنة.
وتكليمه لأهل الكفر لا إشكال فيه، دل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه)، والخطاب هنا ليس خاصاً بالصحابة، بل يعم كل أحد، ويدل له ما رواه الإمام مسلم من حديث أبي هريرة ، وفيه: (إن الله يخلو بعبده الكافر، فيقول: ألم أسودك؟ ألم أربعك؟ ألم أجعلك ترأس؟ فيقول: بلى يا رب، فيقول: أكنت تظن أنك ملاقي؟ فيقول الرجل: لا، فيقول الله عز وجل: اليوم أنساك كما نسيتني) وهذا لا يمكن أن يكون من مسلم، ولا يكون إلا من كافر.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى في ذكر الآيات الدالة على إثبات هذه الصفة للرب جل وعلا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] وذكرنا أن هذه الآية من أصرح الآيات في إثبات صفة الكلام لله جل وعلا،؛ لأن الله أكد كلامه بالمصدر في قوله: (تكليماً)، والعجيب أن المحرفين قالوا: إن هذه الآية تدل على أن موسى لم يحصل له من الفضل أكثر من غيره، وإنما معنى الكلام هنا: الجرح، كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلم بمن يكلم في سبيله)، أي: يجرح، فقالوا: معنى وكلم الله موسى تكليما ، أي: جرحه بأظافير الحكمة، هكذا حرفوا الكلم عن مواضعه، مع أن المقام مقام بيان وتشريف؛ لأن الله عز وجل ابتدأ الكلام بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، ثم إنه ذكر تكليمه جل وعلا لموسى وأكد ذلك بالمصدر، ومع ذلك حرفوا الكلم عن مواضعه وقالوا: إن المراد هنا بالتكليم التجريح، وهذا لاشك أنه يدخل فيما ذكره الله تعالى من تحريف الكلم عن مواضعه.
وقال سبحانه: قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، وهذا دليل على أن الله عز وجل كلم موسى، وأنه اختصه بشيء من الكلام لا يشاركه فيه أحد من الناس.
ولكن هل هذا يدل على أن موسى عليه السلام أفضل من نبينا عليه الصلاة والسلام؟
الجواب: لا، لأن الاختصاص بفضيلة خاصة لا يلزم منه الفضل من كل وجه، وهذه قاعدة مطردة في كل ما ورد من الفضائل، فسيدنا موسى عليه السلام فضل على نبينا صلى الله عليه وسلم في هذا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه من حيث العموم، بما خصه الله به وحباه به من الفضائل.
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، وقال سبحانه: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ [البقرة:253]، فدل ذلك أن تكليم الله لموسى ليس خاصاً بموسى، بل من الرسل من كلم الله عز وجل.
المرتبة الأولى: الإلهام.
المرتبة الثانية: التكليم المباشر.
المرتبة الثالثة: التكليم بواسطة، فقوله: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً [الشورى:51] هذه هي المرتبة الأولى ، وقوله: أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الشورى:51] هذه المرتبة الثانية، وهي التي حصلت لموسى عليه السلام، وقوله:أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51] وهذه المرتبة الثالثة والتي يشترك فيها جميع الرسل.
فالآية دالة على أن الله جل وعلا يتكلم وأن كلامه جل وعلا أنواع، وهذه الآية احتج بها أهل البدعة على أن كلام الله معنى، ولا يلزم أن يكون كلام الله باللفظ، حيث قالوا: إنكم تقولون: إن من مراتب التكليم: الوحي؛ لأن الله عز وجل يقول: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً [الشورى:51] أي: إلهاماً، والإلهام إعلام سريع على وجه الخفاء؛ لأن الوحي في لغة العرب هو الإعلام السريع الخفي، وهذا لا يختص الرسل، بل يكون لكل من شاء الله أن يلهمه، كما قال الله تعالى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً [النحل:68]، فأخبر بإيحائه إلى النحل، ومنه قول الله تعالى: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى [القصص:7]، مع أنها ليست بنبية ولا رسولة، فهذا الوحي هو الإلهام، لكن هل هذا كلام؟
الجواب: ليس بكلام عند الإطلاق، إنما الكلام في لغة العرب عند الإطلاق لابد فيه من ألفاظ، يقول ابن مالك :
كلامنا لفظ مفيد كاستقم
فالكلام لا يصح أن يوصف بأنه كلام عند الإطلاق إلا إذا توفر فيه وصفان: الوصف الأول: اللفظ، الوصف الثاني: إفادة المعنى، ولذلك يقول: كلامنا-أي: كلام العرب-لفظ مفيد فاستقم
فلابد أن يكون لفظاً، ولابد أن يكون مفيداً لمعنى، وإلا فلا يوصف بأنه كلام، والمراد: أن احتجاجهم بهذه الآية ليس في محله؛ لأن الله جل وعلا لم يذكر أقسام الكلام عند الإطلاق، وإنما ذكر أقسام الوحي.
ومن الوحي ما يكون إلهاماً، وهذا لا إشكال فيه، لكنه لا يسمى كلاماً، وإنما الكلام ما تلفظ به صاحبه.
( فلما أتاها ) أي: أتى الشجرة، ( نودي يا موسى ) أي: ناداه الله جل وعلا، فالمنادي هو الله جل وعلا، ودليل ذلك ما ذكره المؤلف وهو قوله سبحانه: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14]، ولا يسوغ أن يصدر هذا من غير الله جل وعلا، فلا يسوغ أن يصدر من مخلوق كما تقول المعتزلة؛ لأن المخلوق لا يمكن أن يقول لموسى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14]، فهذا الكلام لا يجوز أن يصدر إلا من الرب جل وعلا.
ويقول رحمه الله: (وغير جائز أن يقول هذا أحد غير الله جل وعلا)؛ لأنه لا يجوز أن يوصف بهذا إلا الله المتكلم بذلك، فلا يجوز أن يكون من خلق خلقه، ولا يجوز أن يكون من الشجرة، ولا من ملك، إنما هو من الله جل وعلا.
فموسى عليه السلام اختصه الله جل وعلا بالتكليم، نداءً ونجاءً، والله جل وعلا قد أخبر في عشرة مواضع في كتابه بأنه ينادي، والنداء في لغة العرب: الكلام بصوت عال، فدل ذلك على أن كلام الله بحرف وصوت؛ لأنه لا يمكن أن يكون الكلام نداء إلا إذا كان بصوت، ولذلك ميز الله جل علا في كلامه لموسى بين نوعين من الكلام، بين النداء الذي يدعى به البعيد، ويسمع بصوت عال، وبين النجاء الذي يكون بين المتقاربين الذي لا يحتاج معه إلى رفع الصوت، قال الله عز وجل: وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً [مريم:52] فجمع الله لموسى بين النداء وهو الصوت العالي، وبين النجاء وهو الكلام بصوت خفي، فدل ذلك على أن كلام الله جل وعلا بصوت.
وفي قوله جل وعلا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً [النساء:164] ذكرنا وجهاً من أوجه التحريف المعنوي، قالوا: (كلم) معناها: جرح، هذا نجعله من أمثلة التحريف المعنوي، وهذه الآية يجتمع فيها أيضاً نوع آخر من أنواع التحريف سلكه بعضهم وهو التحريف اللفظي، حيث نصبوا لفظ الجلالة في قوله : وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] فجعلوا موسى هو المتكلِّم، هكذا طلب أحد أئمة البدع من بعض القراء أن يقرأ الآية، قال له: اقرأ : (وكلم اللهَ موسى تكليماً)، فأجابه بقوله: إن أجبتك في هذه فكيف تصنع في قوله تعالى: وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] يعني: لا سبيل إلى إلغاء تلك القراءة؛ لأنه واضح في تلك القراءة أن الكلام مضاف إلى الله جل وعلا، فهذه الآية حاول بعضهم أن يحرفها تحريفاً لفظياً لكنه عجز.
قال رحمه الله بعد ذلك: (قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء)، روي ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم)، وفي الصحيحين: (إذا تكلم الله في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله، كأنه سلسلة على صفوان ينفذهم) والضمير في (كأنه) يعود إلى كلام الله عز وجل، فـ(كأنه سلسلة) أي: أن صوت الله عز وجل كالسلسلة على الصفوان، والسلسلة: الحديدة التي يربط بعضها بعضاً بحلق صغيرة، أي: كضرب سلسلة على صفوان، والصفوان هو الحجر، أي: يصدر صوت عظيم ينفذهم من جراء تكلم الرب جل وعلا.
ثم قال رحمه الله: (وروى عبد الله بن أنيس عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة عراة حفاة غرلاً، فيناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك، أنا الديان)، يحشر، أي: يجمع الخلائق يوم القيامة، والخلائق: بني آدم والجن وسائر ما خلقه الله جل وعلا، فكل ما له روح يبعثه الله عز وجل يوم القيامة، كما قال الله جل وعلا في ذكر الحشر: وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ [التكوير:5] فالوحوش تحشر يوم القيامة ، والوحوش هي كل حيوان متوحش، فإذا كانت الحيوانات المتوحشة التي تفر وتهرب من غيرها تحشر، فما بالك بالحيوانات التي تألف الناس وتكون بينهم! فإن حشرها أيسر، وإنما ذكر الوحوش لأنها في الغالب تهرب ممن يريدها ويطلبها، فهي لا تتمكن يوم القيامة من الهرب من الله جل وعلا، بل يأتي بها الله جل وعلا محشورة، وكما قال تعالى في قوله: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام:38] أي: كل هؤلاء يحشرون إلى الله عز وجل، فكل ما يدب على الأرض ويطير في السماء فإنه يحشر إلى الله جل وعلا، هذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يحشر الله الخلائق يوم القيامة)، لكن هنا ذكر صفة حشر بني آدم لأنهم هم المقصودون الأولون بحشر يوم القيامة؛ لأن الجزاء والحساب يطغو عليهم قبل غيرهم، وما يكون من جزاء وحساب لغيرهم فهو تابع لهم.
قوله: (حفاة عراة غرلا) أي: مجردين من كل لباس، (حفاة): أي: ليس معهم ما يقيهم حر وأهوال ذلك اليوم، (غرلاً): أي: قد كمل خلقهم، فما فرط الله من خلقهم في شيء، بل يأتون غرلاً، أي: غير مختونين كما خلقهم الله جل وعلا: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104].
(فيناديهم الله جل وعلا بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب) أي: يسمعه كل أحد، قوله: (أنا الملك .. أنا الديان): هذا فيه فائدة، وهي أن الناس في حشرهم متفاوتون في المكان على اتساع المكان، فهم منتشرون فيه، فيهم البعيد وفيهم القريب، يسمعهم الله جل وعلا، يقول: أنا الملك .. أنا الديان، وهذا لا يكون إلا من الله جل وعلا.
(أنا الملك): فلا ملك غيره جل وعلا في ذلك اليوم، كما قال تعالى: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]، بل كل ملك يسقط فلا يبقى إلا ملك الله جل وعلا، مع أنه مالك الدنيا والآخرة، ولكن يظهر ملكه في ذلك اليوم؛ لأنه لا منازع له فيه سبحانه وبحمده.
(أنا الديان): أي: أنا الذي أحاسبكم، فالديان فعال من المحاسب، أي: كثير الحساب، فهو يحاسبهم جل وعلا حساباً سريعاً يقضي به الحقوق، ويجزي به على الأعمال.
يقول رحمه الله: (رواه الأئمة واستشهد به البخاري )، والشاهد في هذا الحديث قوله: (يناديهم بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب: أنا الملك .. أنا الديان)، وهذا فيه فائدة، وهي أن كلام الله جل وعلا بصوت، فإن الله جل وعلا أخبر بأن النداء بصوت، وإنما ذكر الصوت هنا تأكيداً، وإلا فالنداء لا يكون إلا بصوت رفيع كما ذكرنا عن لسان العرب.
ثم ذكر بعد ذلك: قال: (وفي بعض الآثار أن موسى عليه السلام ليلة رأى النار..) إلى آخر ما ذكر. والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر