الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
قال المصنف رحمه الله: [ وأن الله تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله تعالى حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً، وهو كلام الله حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف ].
قال رحمه الله: (وأن الله تعالى تكلم به حقيقة) ، والمراد بقوله: (حقيقة) يعني: أن إضافة الكلام إليه حقيقة وليس مجازاً كما تقول الكلابية والأشاعرة، فإن الكلابية والأشاعرة يقولون: إضافة الكلام إلى الله مجاز وليس حقيقة، وإلا فإنه ليس لله كلام يسمع، وإنما هو معنىً يقوم بالذات، هكذا قال عبد الله بن كلاب ، وهو أول من أحدث هذا القول في أمة الإسلام، وأول من عرف عنه إنكار أن القرآن كلام الله هو الجعد بن درهم ، وأخذ هذه المقالة عنه الجهم بن صفوان، وهذا عبد الله بن سعيد بن كلاب أتى بقول محدث، لم يرض قول المعتزلة، ولم يسلك طريق أهل السنة، فقال: إن الكلام معنىً يقوم بذات الرب سبحانه وتعالى، وهو معنى أزلي، وهذا المعنى ترجمه وبينه إما جبريل وإما محمد صلى الله عليه وسلم على خلاف عندهم، وهذا يرده الكتاب والسنة وإجماع السلف واللغة والعقل، كل هذا يرد على هذا القول، وتفصيل هذا مبسوط في كتابات أئمة السلف المتقدمين والمتأخرين.
فالذي يجب اعتقاده في كلام الله أنه كلام الله سبحانه وتعالى لفظه ومعناه، هذا الذي عليه أهل السنة والجماعة.
أما أولئك فإنهم قالوا: المعنى من الله، وأما الكلام فليس منه، أما الحروف والألفاظ فليست منه هي من غيره؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وأن الله تعالى تكلم به حقيقة).
وقد أكد الله جل وعلا كلامه فقال سبحانه وتعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، فأتى بالمصدر المؤكد لفعله وهو الكلام، فقال: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وهذا يبطل الأوهام الضالة التي تقول: إن الكلام مجاز وليس بحقيقة.
ثم قال رحمه الله: (وأن هذا القرآن) المشار إليه القرآن كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم، (الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره) ، وهذا تأكيد للمعنى السابق، كلامه حقيقة، فالإضافة إليه إضافة حقيقية، (لا كلام غيره) كما قالوا: إن الكلام عبر عنه جبريل أو عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: ما معنى الكلام على قول هؤلاء؟
معنى الكلام عندهم: هو أن الله جل وعلا يخلق إدراكاً في نفس السامع فيفهم به مراد الله ويعبر عنه، هذا معنى الكلام عند الأشاعرة والكلابية، إذاً: عاد قولهم إلى نفي ما وصف الله به نفسه من الكلام، وإلى موافقة الجهمية في بعض قولهم، لكنهم ليسوا كالجهمية في الصراحة، فالجهمية صرحاء يقولون: كلام الله مخلوق، وهؤلاء يراوغون، فأخذوا بعض قول الجهمية، وبعض قول أهل السنة، أخذوا من أهل السنة أن المعنى من الله، وأخذوا من الجهمية أن الحروف والألفاظ ليست من الله بل هي مخلوقة؛ ولذلك بعض أئمة السلف يسمي الأشاعرة مخانيث المعتزلة؛ لأنهم لم يتمحضوا في الاعتزال، ولم يسلكوا سبيل أهل السنة والجماعة، بل لفقوا بين حق وباطل، وكانت النتيجة أن قالوا ضلالاً؛ لأن الحق واضح لا يقبل مثل هذه المداهنات والمجاملات.
فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه، وإثبات ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: [ أو عبارة عنه ] هذا فيه الإشارة إلى عقيدة الأشاعرة، فإن الأشعري لم يرتض قول عبد الله بن كلاب في أن القرآن حكاية، وقال: إنما تكون الحكاية مثل المحكي، واللفظ الذي يتركب من حروف ليس مثل المعنى، فقال: لا أقول حكاية، قالوا له: ماذا تقول؟
قال: أقول: القرآن عبارة.
والحقيقة أن كلا القولين باطل وضلال، ما قاله الأشعري ، وما قاله ابن كلاب ، فكلا القولين ضلالة وخروج عن الصراط المستقيم، والواجب ما تقدم من كلام الشيخ، وهو الذي أجمع عليه السلف أن يقال: القرآن كلام الله، وماذا يضرنا إذا قلنا هذا؟ بل الضرر كل الضرر في مخالفة هذا؛ لأن مخالفة هذا هو مخالفة لما أفاده كتاب الله عز وجل وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه سلف الأمة، بل وأجمعت عليه الأنبياء.
وبعد أن أشار المؤلف رحمه الله إلى طرق الضلالة في هذا الباب قال: [ بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله حقيقة ].
هل ما في المصاحف كلام الله؟
الجواب: نعم، كلام الله حقيقة وليس مجازاً، هل ما يقرأه القارئ كلام الله؟
الجواب: نعم، هو كلام الله حقيقة لا مجازاً، ولا أحد يقول: إن قراءة القارئ كلام الله؛ ويريد صوت القارئ، أو يريد حركة القارئ وما يكون منه من فعل في أثناء القراءة، بل كلام السلف على أن قراءة القارئ للقرآن: الكلام كلام الله، والصوت صوت القارئ، فالكلام كلام البارئ، والصوت صوت القارئ، وهذا لا يمكن أن يرد على العقل السليم خلافهما أو شبهة فيها، وإنما جاءت الشبهة من تشبيه هؤلاء؛ لما أجلبوا بخيلهم ورجلهم على ما دلت عليه النصوص.
ثم يبين المؤلف رحمه الله وجه كون إطلاق لفظ كلام الله على ما في المصاحف وعلى ما يقرأ، فيقول: [ فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً ]
إذا قال القائل: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً)، إذا قال القائل هذا القول هل هو كلام رسول الله أو لا؟
لا أحد ينكر أن هذا هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهل يريد أحد إذا قال: إن هذا هو كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أن اللفظ والصوت الحادث هو كلام النبي صلى الله عليه وسلم؟
لا، فالمراد بوصف الكلام بأنه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم الكلام المبلَّغ، لا صوت المبلِّغ، ولا حركة المبلِّغ، فإن هذا لا يرد على ذهن أحد، وهذا أمر مستقر بالفطر، يدركه كل أحد، المسلم والكافر، ولكن هؤلاء خالفوا الحقائق الواضحة والبينات الساطعة ليقرروا ما عندهم من انحرافات وبدع.
إلى القرآن، فهو كلام الله حروفه ومعانيه، وهذا الذي يعتقده أهل السنة والجماعة، أن اللفظ والمعنى من الله؛ ولذلك سمى الله سبحانه وتعالى مجموع اللفظ والمعنى قرآناً، قال سبحانه وتعالى: الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1]، فجعل الكتاب الذي هو المكتوب وما تضمنه من لدن حكيم خبير جل وعلا، وقال سبحانه وتعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ [الحجر:1]، الإشارة إلى أي شيء؟
إلى ما يقرأه المسلمون من قول تلقوه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو القرآن، فالحروف والمعاني كلها من الله جل وعلا.
يقول رحمه الله: [ ليس كلام الله الحروف دون المعاني ]، هذا قول جماعة من أهل اللغة قالوا: إن الكلام هو الحروف لا المعاني، أشار إلى هذا القول شيخ الإسلام رحمه الله، وأشار إلى القول الثاني بقوله: [ ولا المعاني دون الحروف ] إلى قول الأشاعرة والكلابية، وأما الجهمية فالحروف والمعاني عندهم مخلوقة؛ ولذلك هم يقولون ويطلقون: القرآن مخلوق، ويريدون بالخلق خلق الحروف وخلق المعاني ما عندهم إشكال، وقولهم أطرد من قول الأشاعرة والكلابية، لكنه أوغل في الضلالة.
هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لتقرير رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى، وأنه سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة.
فقال رحمه الله: [ وقد دخل أيضاً فيما ذكرناه من الإيمان به -يعني: بالله جل وعلا- وبكتبه وبملائكته وبرسله الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة ].
أما دخول ذلك في الإيمان بالله فلأن الرؤية تتعلق به جل وعلا، فالإيمان بأن الله يرى من الإيمان بالله سبحانه وتعالى، أما كون ذلك من الإيمان بالكتب فلأن كتب الله سبحانه وتعالى أخبرت بأنه سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة، ومن ذلك ما أخبر الله سبحانه وتعالى به في كتابه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزيادة بالنظر إلى الله جل وعلا، وكما قال سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وقوله جل وعلا: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، فسر المزيد برؤيته سبحانه وتعالى، والنظر إليه.
فالكتب -والقرآن أشرفها وأعظمها وأجلها- أخبرت بأن الله سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة، أما كون ذلك داخلاً في الإيمان بالملائكة فلأن الملائكة هي التي بلغت الكتب، فمن قال: إن الله سبحانه وتعالى لا يرى يوم القيامة فإنه لم يؤمن بالملائكة حق الإيمان، وكذلك الرسل؛ لأنهم أخبروا بأن الله سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة، وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث متواترة أن الله سبحانه وتعالى يراه أهل الإيمان يوم القيامة، فالأحاديث في ذلك مستفيضة متواترة.
الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة هذا عقد أهل السنة والجماعة، ودل على ذلك الكتاب -وقد تقدم الإشارة إلى الآيات- والسنة، وذلك في أحاديث كثيرة تبلغ حد التواتر يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة، وهذا الدليل الثاني.
والدليل الثالث: إجماع سلف الأمة على أن الله سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة، فقد اتفق الأئمة من السلف أن الله سبحانه وتعالى يرى يوم القيامة كيف شاء، وأنه سبحانه وتعالى يرى رؤية حقيقة لا كما يقول المؤولون: إنها كشف تجلي معنوي، بل هي رؤية حقيقة؛ ولذلك قال المؤلف رحمه الله في تقرير هذا المعنى: [ عياناً بأبصارهم ]، أي: يرونه بأعينهم معاينة، وذلك لما جاء من الأدلة في الكتاب والسنة، وكلام السلف على هذا.
ومن أوضح ما يكون في كتاب الله عز وجل قوله سبحانه وتعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، وهم أولوها وقالوا: إلى فضله وإحسانه وجوده وثوابه وما إلى ذلك!
قال رحمه الله في تقرير هذه الرؤية: [ كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب ]، وهذا يكون بمعاينة ومواجهة أو لا؟
نعم، تكون الرؤية بمعاينة ومواجهة في هذا المقام، فالرؤية بمعاينة ومواجهة؛ ولذلك شبه النبي صلى الله عليه وسلم الرؤية بالرؤية، ومن لازم التشبيه أن تكون الرؤية نظير ما ندركه من رؤية الشمس والقمر، ونحن لا ندرك من رؤية الشمس والقمر إلا ما كان فيه معاينة ومواجهة.
قال: [ كما يرون الشمس صحواً ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته ] أي: لا يلحقهم ضيم ولا ضير في رؤيته جل وعلا.
ثم بين المؤلف رحمه الله وقت رؤية الله فقال: [ يرونه سبحانه وهم في عرصات القيامة ]، عرصات القيامة يعني: في أرض المحشر، والعرصات جمع عرصة، وهي الفناء الواسع الذي لا بناء فيه، يرونه سبحانه كما دل على ذلك حديث أبي سعيد وأبي هريرة وهما من أصح الأحاديث، فإن فيهما: (ينادى في أرض المحشر: ليتبع كل من كان يعبد شيئاً معبوده، فيتبع الذين يعبدون الصليب الصليب، ويتبع الذين يعبدون الأصنام الأصنام، ولا يبقى إلا هذه الأمة وفيها منافقوها، فيتجلى لهم الرب سبحانه وتعالى بغير الصورة التي يعرفونها، ثم يتجلى لهم سبحانه وتعالى بالصورة التي يعرفونها -مما وصفته لهم الأنبياء- فيسجد أهل الإيمان، ويمنع أهل النفاق من السجود).
وهذه الرؤيا التي تكون في أرض المحشر رؤية التعريف، وأما الرؤية التي يحصل بها النعيم التام الكامل فهي ما يكون في الجنة، وهي التي أشار إليها رحمه الله في قوله: [ ثم يرونه بعد دخول الجنة كما يشاء الله سبحانه وتعالى ] فإن الرؤية التي تكون في الجنة هي أعلى نعيم أهل الجنة، وهي متفاوتة تفاوتاً كبيراً، ويختلف فيها الناس بحسب ما معهم من الإيمان والتقوى والإحسان، وكلما ازداد العبد إيماناً وتقوى كلما كان نصيبه من هذه الرؤية أوفر.
فنقول: إن الله لم يقل: إن الله يرى أو لا يرى، قال: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ [الأنعام:103]، فنفى إدراك الأبصار، والإدراك هو الإحاطة وتمام العلم بالمرئي.
وأما بالنسبة لرؤية غير النبي صلى الله عليه وسلم لربه في المنام فإن هذا يمنعه كثير من أهل العلم، وقال بعض أهل العلم: تكون الرؤية على قدر ما مع الإنسان من العلم بالله سبحانه وتعالى.
وعلى كل حال يقال: ما الذي أدراك أن هذا هو الرب؟ فقد يتصور الإنسان أمراً ويأتيه الشيطان بصورة يظنها ربه، والأمر على خلاف ذلك.
فنحن نقول: إن الرؤية التي يحصل بها الفضل والتنعيم وكمال الجود هي ما يكون في دار النعيم الكامل في الجنة، نسأل الله أن نكون من أهلها!
والمسألة فيها ثلاثة أقوال لأهل العلم:
منهم من قال: إنه لا يراه إلا أهل الإيمان فقط، وأما الكفار والمنافقون فإنهم لا يرونه.
والقول الثاني يقول: إنه يراه أهل الإيمان والمنافقون دون أهل الكفر.
والقول الثالث: أنه يراه الكفار ثم يحتجب عنهم، وهذه الرؤية ليست رؤية تنعيم ولا إكرام، بل هي رؤية معاقبة وحرمان، نعوذ بالله من الخسران! فإنهم يرونه ثم يحتجب عنهم، فيكون عندهم من اللوعة والحسرة بسبب فقدانهم رؤيته سبحانه وتعالى ما يعذبون به، ويكون زيادة في تعذيبهم والتنكيل بهم.
وعلى كل حال هذه المسألة مما وقع فيها الخلاف بين أهل السنة والجماعة، فلا يضلل ولا يفسق ولا يكفر المخالف، وإنما يناقش للوصول إلى الحق، كما أنه يجب في هذه المسألة ألا يطلق القول بأن الكفار يرون ربهم، فإن هذا لا يجوز؛ لأن الرؤية إذا أطلقت فإنما يراد إثبات رؤية التنعيم والإكرام؛ فلذلك لا يقال: إن الكفار يرون ربهم على وجه الإطلاق، بل لابد من تقييد ذلك بأنها رؤية يعقبها حرمان، وأنها رؤية عقاب لا رؤية إكرام، هذه بعض المسائل المتعلقة بالرؤية.
هذا الفصل عقده المؤلف رحمه الله لتقرير هذا الأصل العظيم من أصول الإيمان، وهو الإيمان باليوم الآخر، واليوم الآخر اسم يصدق على كل ما أخبرت به الرسل مما يكون بعد الموت، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: [ ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله وسلم مما يكون بعد الموت ]، وهذا الأصل العظيم -وهو الإيمان باليوم الآخر- أجمعت عليه الرسل، وهو من الأصول التي لا يتم إيمان العبد إلا بها، وقد دل عليه الكتاب والسنة والإجماع والعقل، ولم يخالف فيه أحد من أهل القبلة، خالف فيه الفلاسفة والباطنية وأنكروا كثيراً مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون يوم القيامة.
وبدأ المؤلف رحمه في ذكر هذا الفصل بذكر الإيمان المجمل الذي يجب على كل أحد فيما يتعلق باليوم الآخر، فقال: [ ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت ] فهذا هو الإيمان المجمل الذي يشمل جميع ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يقع في اليوم الآخر.
وعذاب القبر ونعيمه أمر دل عليه الكتاب والسنة، وأجمع عليه سلف الأمة، فإن السلف أجمعوا على أن الميت في قبره إما أن يكون في نعيم وإما أن يكون في عذاب، والعذاب يكون على الروح أصلاً وقد يتبعه البدن، يعني: وقد يظهر أثر التنعيم أو التعذيب في البرزخ في القبر على البدن، لكن أصل التنعيم والتعذيب هو للروح، وقد جاء في كتاب الله عز وجل ما يدل على عذاب القبر:
ومن ذلك ما ذكره الله جل وعلا عن قوم فرعون حيث قال: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ [غافر:45]، هذا في الدنيا،النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، هذا في الحياة البرزخية، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، وهذه آية ظاهرة واضحة في ثبوت العذاب في البرزخ، وذلك أنهم يعرضون على النار في الغدو والعشي، أي: في الصباح في أول النهار وفي آخره.
ومما يدل أيضاً على عذاب القبر ما ذكره الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح حيث قال: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25]، أغرقوا هذا في الدنيا، فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25]، هذا في الحياة البرزخية، والأدلة متعددة عند التأمل يجدها الإنسان في كتاب الله عز وجل، وهي تدل على العذاب في القبر.
وأما السنة ففيها أحاديث كثيرة مستفيضة متواترة تدل على ثبوت العذاب لأهل القبور كما تدل على تنعيم أهل القبور.
ومما يذكر هنا أن العذاب الذي يكون في القبر على نوعين:
عذاب دائم، وعذاب منقطع.
أما العذاب الدائم فنظير ما أخبر الله سبحانه وتعالى به عن آل فرعون حيث قال جل وعلا: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا [غافر:46]، إلى متى؟
إلى قيام الساعة؛ ولذلك قال: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [غافر:46]، فلم يذكر أمداً ينتهي إليه هذا العرض وهذا التعذيب، فدل ذلك على دوامه، نعوذ بالله منه!
النوع الثاني من عذاب القبر: عذاب منقطع، وهو بقدر ما يكون مع الإنسان من المعصية، كما يعذب أهل النار من أهل التوحيد في النار بقدر سيئاتهم وذنوبهم حتى يمحصوا ثم يخرجون منها.
واعلم أن العذاب في القبر مما يخفف به على الإنسان إن كان من أصحاب المعاصي، فإنه قد يعذب في القبر ولا يعذب يوم القيامة، وقد يعذب في القبر ويعذب يوم القيامة.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر