إسلام ويب

شرح الحموية [12]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • هناك نقولات كثيرة عن السلف والأئمة رحمهم الله تدل على أن مذهبهم هو إثبات الصفات لله تعالى على الوجه اللائق به سبحانه، من غير تحريف ولا تأويل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. وما نقل عنهم من قولهم: أمروها كما جاءت بلا كيف، مع قولهم: الاستواء معلوم.. يدل على أنهم إنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة.
    قال المصنف رحمه الله: [ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من نقل مذهبهم].

    المصنف يذكر من كلام السلف ومن أعيان السلف ما يبين أنهم برآء من الطرق الثلاث، أما براءتهم من طريقة التخييل الفلسفية فظاهر، ليس فيه إشكال، فإنه لم يتكلم أحد أن السلف كانوا من أهل التخييل، إلا ما وقع من أبي الوليد بن رشد الفيلسوف المتفقه على مذهب مالك ؛ فإنه زعم أن بعض الصحابة كانوا يمتحلون هذه الطريقة، وتشبث ببعض الأحرف الثابتة عن بعض الصحابة كقول علي رضي الله عنه: حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله؟ وما جاء عن ابن مسعود أيضاً: إن أنت محدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان ببعض الفتنة. وقد ذكر بعض الأفاضل أنها لا تصح، فزعم بهذا أن طريقته كانت معلومة عند بعض أئمة الصحابة.

    وهذا سفه من أبي الوليد بن رشد لم يتقلده أحد من أصحابه كابن سينا وأمثاله الذين قرروا أن طريقتهم ليست مذكورةً في كتب الأنبياء وما نزل عليهم من الوحي.

    والطريقة الثانية -وهي طريقة التأويل- في الجملة يعلم براءة السلف منها، إلا ما وقع عند بعض متكلمة الصفاتية كالشهرستاني ، حيث زعم أن بعض السلف كانوا يشتغلون بالتأويل، وما زعمه أبو محمد بن حزم من أن داود بن علي -الذي هو إمام الظاهرية- والشافعي كانوا يشتغلون بشيء من التأويل، وهذا غلط من ابن حزم ؛ فإن الشافعي رحمه الله أظهر من أن يتكلم في براءته من هذا العلم -أعني: علم الكلام- أو في براءته من التأويل بعامة ولو بغير الطريقة الكلامية.

    وأما داود بن علي رحمه الله فهو أيضاً بريء من طريقة ابن حزم الذي ذكرها في الفصل وغيره، فقد كان محل الخلاف بين داود بن علي وبين جمهور علماء عصره في الطريقة الظاهرية التي التزمها في الفقه، أما في أصول الدين فإنه على طريقة سائر أئمة السلف، وإن كان أخذ عليه بعض الأحرف اليسيرة التي هي من مقامات النزاع الكبار، كاشتغاله ببعض الجدل مع المخالفين في زمن كان الأئمة يفضلون فيه ترك الاستطراد، كما ذكر ذلك أبو حاتم .

    وقد منعه الإمام أحمد رحمه الله من الدخول عليه بعد ذهابه إلى بلاد ما وراء النهر والرجوع منها؛ لأنه ذكر في تلك البلاد أن القرآن محدث، وقد كانت هذه اللفظة يستعملها إذ ذاك طائفة من الجهمية يقصدون بها أن القرآن مخلوق، وكان الإمام أحمد ينهى عنها، وكان داود يصححها لما جاء في قوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ [الأنبياء:2]فأجاز هذا الإطلاق، وكان الإمام أحمد يمنعه إلا بسياق القرآن على التصريح، أي: تساق الآية على وجهها، ولا تذكر مستقلة.

    فقد كان الإمام أحمد يدرأ شبه وتلبيس الجهمية، ولهذا عندما كُتب إليه رحمه الله وهو في بغداد أن داود بن علي أظهر هذه المقالة في تلك البلاد، ثم رجع داود وكان معه صحبة لـصالح ابن الإمام أحمد ، فقال له: تلطف على أبي عبد الله وقل: هذا داود يستأذنك ولا تسمني. فدخل على أبيه وقال له، فقال: داود ابن من؟ فقال: هو ابن علي . قال: من أصبهان؟ قال: نعم؟ قال: لا يدخل، فإنه حدثني فلان عن فلان أنه قال ذلك. وأنكر ذلك داود وتلطف، فقال الإمام أحمد : إن من حدثني أوثق عندي منه.

    فكان هذا من تعزير الإمام أحمد رحمه الله بمقامه في السنة وتأديبه لمن حوله حتى لا يقع الاختلاط في المعتقد، بمعنى الابتعاد عن الألفاظ التي صارت مجملةً بالاستعمال، وتركها إلى اللفظ الصريح.

    قول الأوزاعي رحمه الله

    [إلى غير ذلك من الوجوه بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم.

    روى أبو بكر البيهقي في الأسماء والصفات بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال: كنا -والتابعون متوافرون- نقول: إن الله -تعالى ذكره- فوق عرشه، ونؤمن بما وردت فيه السنة من صفاته، فقد حكى الأوزاعي -وهو أحد الأئمة الأربعة في عصر تابعي التابعين: الذين هم مالك إمام أهل الحجاز، والأوزاعي إمام أهل الشام، والليث إمام أهل مصر، والثوري إمام أهل العراق- حكى شهرة القول في زمان التابعين بالإيمان بأن الله تعالى فوق العرش، وبصفاته السمعية.

    وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور مذهب جهم المنكر لكون لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته؛ ليعرف الناس أن مذهب السلف كان بخلاف هذا.

    وروى أبو بكر الخلال في كتاب السنة عن الأوزاعي قال: سئل مكحول والزهري عن تفسير الأحاديث فقال: أمروها كما جاءت.

    وروى أيضاً عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس ، وسفيان الثوري ، والليث بن سعد ، والأوزاعي : عن الأخبار التي جاءت في الصفات. فقالوا: أمروها كما جاءت. وفي رواية: فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.

    فقولهم - رضي الله عنهم -: أمروها كما جاءت. رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف. رد على الممثلة. والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين، ومن طبقتهم حماد بن زيد ، وحماد بن سلمة وأمثالهما].

    إذاً: الطريقة التي اشتبه على الكثير أنها طريقة السلف هي: طريقة التفويض، أما طريقة التأويل فمتحقق أن السلف برآء منها، ومن باب أولى طريقة التخييل.

    وهذه الأحرف التي يذكرها المصنف تبين أن السلف مخالفون لطريقة التفويض.

    فإن هذه الأحرف صريحة في الطعن على طريقة التأويل وطريقة التفويض.

    أما استدلال من يصحح طريقة التفويض؛ بأن من أعيان السلف من قال: أمروها كما جاءت وهذا هو التفويض!!

    فيقال: الأمر ليس كذلك؛ لأن المفوض يقول: أن المعنى الظاهر ليس مراداً. فإذا كان الظاهر ليس مراداً فهل المفوض أمرها كما جاءت؟ الجواب: لا.

    وأما أن السلف رحمهم الله كانوا يقصدون بقولهم في العبارة الثانية: أمروها كما جاءت بلا كيف البراءة من هذا فهو ظاهر، أما براءتهم من التشبيه والتمثيل فهذا ليس محلاً للاشتغال به، لكن قول السلف: أمروها كما جاءت بلا كيف . إنما نفى العلم بالكيفية، وهذا دليل على العلم بأصل المعنى، وإلا لو كان أصل المعنى ليس معلوماً لما احتاجوا إلى نفي العلم بالكيفية؛ فإن العلم بالكيف قدر زائد عن العلم بأصل المعنى، ونفي القدر الزائد بالتصريح يستلزم العلم بما دونه.

    قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن ومالك بن أنس رحمهما الله

    [وروى أبو القاسم الأزجي بإسناده عن مطرف بن عبد الله قال: سمعت مالك بن أنس إذا ذكر عنده من يدفع أحاديث الصفات يقول: قال عمر بن عبد العزيز : سن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستكمال لطاعة الله، وقوة على دين الله ليس لأحد من خلق الله تعالى تغييرها، ولا النظر في شيء خالفها، من اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى وأصلاه جهنم وساءت مصيراً.

    وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينة قال: سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق.

    وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبد الرحمن من غير وجه.

    منها: ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى بن يحيى قال: كنا عند مالك بن أنس فجاء رجل فقال: يا أبا عبد الله ! الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرحضاء! ثم قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة؛ وما أراك إلا مبتدعاً. فأمر به أن يُخرَج].

    هذا القاعدة التي ذكرها مالك رحمه الله وغيره مطردة، ويظهر فيها أن السلف رحمهم الله لا يتكلمون في التأويل ولا يتكلمون في التشبيه ولا يتكلمون في التفويض الذي هو التجهيل، وهذا صريح بقول مالك : الاستواء غير مجهول . فلو كان مفوضاً فإن التفويض إما أن يكون في الكيفية أو يكون في المعنى، ولو كان الجميع مفوضاً -كما يقول المفوضة- لما خص مالك الجهل بمسألة الكيفية، فإنه قال: الكيف غير معقول . فلو أن مالكاً فقط قال: الكيف غير معقول . لأخذنا من هذا الحرف أن المعنى من حيث هو معلوم؛ لأنه خص القدر الزائد بالنفي فدل على إثبات ما دونه، إذاً: كيف ومالك فصّل فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول ؟ فهذا التفصيل تفصيل قاطع، ولهذا من يذكر جملة مالك رحمه الله هذه، ويستدل بها على طريقة التفويض فهذا تأخر في العقل، فأين حرف التوقف فيها؟؟

    إذاً: قول مالك رحمه الله: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول يدل على أن المعنى من حيث هو معلوم، وهو معنى لائق بجلال الله سبحانه وتعالى.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089171838

    عدد مرات الحفظ

    782409237