إسلام ويب

شرح العقيدة الطحاوية [14]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يؤمن أهل السنة والجماعة بأن الله سبحانه وتعالى كتب مقادير كل شيء في اللوح المحفوظ، وأن ما كتبه كائن لا محالة، وأنه لو اجتمعت الأمة على تغيير شيء مما قدره الله ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، فعلى المسلم أن يلزم الطاعة ويؤمن بما قدره الله عليه؛ فإن ذلك خير له في عاجله وآجله.
    قال المصنف رحمه الله: [وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان، وسلم الحرمان، ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: (لا يسأل عما يفعل وهم يسألون) فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين] .

    لفظة: (وأصل القدر سر الله في خلقه)، فيها أثر عن علي ، ويؤثر عن علي رضي الله تعالى عنه أحرف كثيرة في القدر، وجمهور هذه الأحرف لا تصح عنه، وقد تنسب إليه المعتزلة والشيعة وحتى كثير من الصوفية أحرفاً في أحوالهم ومسائلهم التي يقررونها.

    وهذه الكلمة ليس عليها أثر من أثر الرسل والأنبياء، وعليه: فهذه الجملة إذا أطلقت وفسرت بمراد صحيح كان الأمر فيها واسعاً، وأما أن تعد من عبارات أهل السنة ومقالاتهم أو من آثار الصحابة فلا.

    وجمهور من يستعمل هذه الجملة هم الصوفية في كتبهم، والشارح مع جودته وإتقانه إلا أنه غلط فنقل عن بعض الصوفية في ذلك نقولاً ليست حسنة، ومما نقل عن بعضهم: أن من وقف عن الكشف في ذات الله وأسمائه لزم الأدب، وأن الله يقول: من كشفت له عن حقيقة ذاتي ألزمته العطب. فنقل هذا مستحسناً له قابلاً له، ولا شك أن هذا كله من كلام الصوفية وأغلاطهم؛ بل وترهاتهم.

    وقوله: (لم يطلع على ذلك) أي: على تمام هذا الأصل؛ لأنه من علم الله سبحانه وتعالى، وعلمه لا يحاط به.

    التحذير من التعمق في القدر

    وقوله: (والتعمق) يدل على قدر من الزيادة، وهو نوع من الغلو، وقد قال عليه الصلاة والسلام كما في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في الصحيح: (هلك المتنطعون) ، وقال: (إياكم والغلو في الدين) ، إلى غير ذلك.

    التفصيل في حكم النظر

    وقوله: (والنظر)، أقول: النظر ليس مذموماً في الشرع، وهو حرف لا يدل على تعدٍ على أمر الله أو دليل الشارع، وإن كان النظر ليس هو أول الواجبات، بل ولا يجب على كل أحد، وإنما ذكر الله سبحانه وتعالى النظر في حق من شاب توحيده أو معرفته شيء من الإشكال، فإنه يؤمر بالاعتبار والنظر حتى يصحح ما عرض له من الإشكال، كقوله سبحانه: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا [الأعراف:184] أَوَلَمْ يَنظُرُوا [الأعراف:185] إلى غير ذلك.

    فالنظر ليس مذموماً على الإطلاق، وليس واجباً على كل أحد فضلاً عن أن يقال: إنه أول الواجبات، ولهذا قرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن الأصل عدم الوجوب، ولكن من عرضت له حال لا تزول إلا بالنظر، فإنه يكون واجباً عليه من هذا الوجه، ويكون المشروع هنا هو النظر الشرعي.

    وفرق بين النظر الشرعي والنظر الذي يذكره علماء الكلام؛ فإنهم يذكرون النظر على مقدماتهم الكلامية، وأما النظر الشرعي فهو المذكور في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الأعراف:185] ، ومن ذلك ما كان لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في محاجته لقومه، فإنه أبطل ما هم فيه من الكفر والشرك بحجج من النظر، وهي المذكورة في قوله تعالى: وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ [الأنعام:75] .

    وقوله: (فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً)؛ هذه الكلمة لو لم يعبر بها لكان أجود، فإن النظر في هذا الباب ليس مذموماً على الإطلاق، وإنما بالغ في ذم النظر بعض الصوفية الذين زعموا أن هذا باب لا يكشف إلا لبعض العارفين، والحق أن الله سبحانه وتعالى بيَّن أصول القدر وأصول العلم بهذا الباب في كتابه، وبيَّن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بياناً شرعياً موافقاً للعقل، وهذه أجوبته صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولما خاصمت قريش رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر نزل قوله تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49] كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه.

    وقد ثبت في السنن أن النبي عليه الصلاة والسلام خرج ذات يوم وطائفة من أصحابه يختصمون في القدر فنهاهم عن ذلك، فقول من قال: إن الصحابة خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر، غلط بالإجماع، بل إن الذين خاصموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القدر هم المشركون، وإذا كان طائفة من الصحابة اختصموا فيما بينهم في بعض مسائل القدر، فلا يعني ذلك أنهم مخاصمون فيها لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

    ثم إن مثل هذه الأحوال التي تعرض -كخصومة بعض الصحابة لبعض في القدر- لا تعرض لأئمة الصحابة كـأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، وإنما هي حال تعرض لبعض من هو دونهم في الفقه والإمامة في العلم.

    خفاء باب القدر مع العلم بأصوله

    وقوله: (فإن الله طوى علم القدر عن أنامه، ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ).

    كلامه من هذا الوجه صحيح، لكن معلوم أن القدر ليس مقصوراً على مسألة السؤال، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] ، لكن ثمة أصول من القدر معلومة، ومعلوم أن أبا جعفر رحمه الله لا يريد أن يثبت أن هذا الباب مجهول على الإطلاق، ولكنه استعمل هذه التعبيرات التي يعبر بها على هذا الوجه من الإطلاق طوائف من الصوفية، وهذا ليس بحسن، لكنه يختلف عنهم في المقصود.

    وجوب الوقوف عند ما أوقفنا الله عليه

    قال المصنف رحمه الله: [فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم، لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود] .

    هذه الجملة فيها أثر من أثر الصوفية، فإن لفظ (الولاية) وإن كان لفظاً شرعياً بالإجماع، لكن يستعمله الصوفية كثيراً، فإنهم إذا ذكروا ذلك خصوا هذا المقام بالأولياء، ولا يذكرون أهل العلم كما يذكرون الأولياء، ويجعلون الولاية مقاماً من مقامات الأحوال وليست مقاماً من مقامات المعرفة.

    وقوله: (فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر).

    العلم الموجود هو ما علَّم الله سبحانه وتعالى رسوله إياه كما قال تعالى: وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [النساء:113] ، فهذا العلم الذي بُعث به صلى الله عليه وسلم وعلمه أمته هو العلم الذي إنكاره كفر، وأما ما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه من أسمائه، وأفعاله، وقضائه، وقدره، وأحكامه، وحِكمه، فإن هذا علم من زعمه فقد كفر، فإنه لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله، فهذا هو المقصود عند أبي جعفر ، وهو حسن صحيح.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089441772

    عدد مرات الحفظ

    785083483