ذكر الله سبحانه وتعالى إثباتاً مفصل لأسمائه وصفاته في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وكل نص في الإثبات يدل على الإثبات ويدل على التنزيه، وقد تنوعت دلائل الصفات في كتاب الله تعالى، ومن فوائد ذلك: الرد على المخالفين بتنوع السياقات، فإذا أوَّلوا دليلاً لم يستطيعوا أن يؤولوا الدليل الآخر.
قال المصنف رحمه الله: [
وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ *
ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ *
فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ 
[البروج:14-16]
هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ 
[الحديد:3] ].
فسر ذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعائه -كما في الصحيح- بقوله: (اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)، والثلاثة الأولى بيِّنة، وأما قوله: (وأنت الباطن فليس دونك شيء) فمعناه: أنه لا يخفى عليه شيء.
وقد قال بعض المتأخرين: إن هذه الأسماء مقترنة، فلا يذكر الأول إلا ويُذكر معه الآخر، ولا يُذكر الظاهر إلا ويذكر معه الباطن.
ونقول: هذا من باب الكمال، أما أنه من باب اللزوم فلا.
فلو قال قائل: إن الله هو الأول الذي ليس قبله شيء. وسكت، لكان كلامه صحيحاً، ولو قال: إن الله هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فإن كلامه يكون صحيحاً، ولو قال: إن الله هو الظاهر الذي ليس فوقه شيء، لكان كلامه صحيحاً.. وهكذا.
وأيضاً: كيف يقال: إنه لا يمكن أن يذكر الظاهر إلا ويُذكر معه الباطن، مع أن هذا الاسم (الظاهر الذي ليس فوقه شيء) قد ذكر العلو والفوقية، وقد جاء ذكر العلو والفوقية مفرداً في آيات كثيرة في القرآن.
إذاً: هذا من باب الاقتداء والحكمة الشرعية، أما أنه شيء لازم، ولو ذُكر الأول وحده لكان غلطاً؛ فإن هذا ليس صحيحاً.
قوله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً) هذه الآية من أخص الآيات وعيداً في كتاب الله، ومعلوم أن قاعدة أهل السنة والجماعة: (أن مرتكب الكبيرة تحت مشيئة الله).
وقد جاء عن ابن عباس فيما ثبت عنه في الصحيح: (أن القاتل عمداً ليس له توبة) ، وقيل: إنه رجع عن ذلك، وهذه مسألة أخرى؛ لكن المقصود أن ما ذكره ابن حزم وبعض المتأخرين من أن ابن عباس يذهب إلى أن القاتل عمداً يكون مخلداً في النار، فهذا غلط على ابن عباس ؛ لأن ابن عباس لم يقل: إنه يعذب في النار، إنما قال: (لا توبة له)، ومعنى ذلك: أنه يوافي ربه بالكبيرة، ويكون مستحقاً للوعيد، أما أنه يلزم من قول ابن عباس: (إنه لا توبة له) أنه يعذب في النار، فلا يلزم ذلك، ولا يلزم أن يكون مخلداً في النار.
وهذا يدخل في قوله تعالى:
وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ
[النساء:48] وإن عذب -أي: إن لحقه العذاب- فإنه لا يكون مخلداً.
فمن حكى عن ابن عباس أن القاتل عمداً يخلد في النار فقد غلط عليه، ومن حكى عنه أيضاً أن القاتل عمداً يعذب في النار فقد غلط عليه؛ إنما الذي قاله ابن عباس أنه (لا توبة له) أي: يوافي ربه بذنبه، ويكون مستحقاً للوعيد، وأهل الكبائر دون الشرك -عند ابن عباس وغيره- إذا وافوا ربهم بالكبائر فإنهم تحت مشيئته.
ومسألة القتل من أشد المسائل في القرآن والسنة، وفي قتل النفس قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي هريرة : (من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن شرب سماً ...) إلى آخر الحديث، وقد رواه غير الشيخين كـالترمذي وغيره.
وقد أشكل على بعض أهل العلم قوله: (خالداً مخلداً فيها أبداً) مع أن القاعدة عند أهل السنة والجماعة: أن الكبائر لا توجب التأبيد في النار إلا كبيرة الشرك والكفر بالله، أما ما عدا ذلك فإنه إذا عُذِّب يعذب قدراً في النار، ثم يخرج منها إلى الجنة.
وعليه: فقوله: (خالداً مخلداً فيها أبداً) فيه طريقان:
الطريق الأول: أن يكون هذا من باب التعبير العربي في أنه يستحق قدراً كبيراً من العذاب.
الطريق الثاني: أن تكون اللفظة الأخيرة وهي قوله: (أبداً) لم تصح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وكأن هذا هو الأقرب، وهو أن قوله: (أبداً) لفظة معلولة، فإسنادها غريب فرد، وقد أشار الإمام الترمذي إلى إعلالها، وإن كانت في الصحيحين، ومعلوم أن الشيخين إذا اتفقا على حديث لزمت صحته، كما ذكره جماعة من أهل العلم؛ لكن فرق بين أن يقال: إن الحديث ليس بصحيح، أو مطعون فيه، أو مُعَلّ، وبين أن يقال: إن لفظاً فيه دخله الإعلال.
إذاً: القاعدة الشرعية المنضبطة في الكتاب والسنة والإجماع لا يمكن أن يُخرج عنها بهذا؛ وهذا من باب رد المختلَف فيه إلى المؤتلف، أي: ما دام أن القاعدة منضبطة أن أصحاب الكبائر لا يخلدون في النار، فلا يجوز لأحد أن يقول: إن من قتل نفسه يخلد في النار أبد الآبدين كالكفار؛ لأنه مخالف للقاعدة الأصل، وهو غير متمسك بالنص؛ لأن هذا النص الذي فيه قدر من الإشكال والاشتباه يرد إلى المؤتلف، وإلى المجمع عليه، وإلى البين المحكم؛ ولابد من مراعاة هذا الأمر في فقه الحروف؛ فإنه لا يفقه الحرف من القرآن وحده؛ بل لا بد أن يقاس وأن يعتبر في السياق وبمقارِنِه وبالأصول في هذا الباب.. ونحو ذلك.
ولذلك فإن من يفقه الحروف وحدها يقع أحياناً في شيء من الإشكال، فمثلاً: وجد بعضهم أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال -كما في الصحيحين- عن الخوارج: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية) ، فقال: الحديث صريح في كفرهم. وهذا غلط؛ لأن الصحابة وهم أفقه الناس لكلام النبي صلى الله عليه وسلم، لما أدركوا هؤلاء الخوارج أجمعوا على قتالهم، كما يقول ابن تيمية : أن هذا هو ظاهر مذهب الصحابة، ومع ذلك يقول: إنه من جنس الإجماع عند الصحابة الذين أدركوهم أنهم ليسوا كفاراً؛ فلا يمكن أن يكون بين الصحابة إطباق على فقه نص ويكون فقهه خطأً عندهم.
قال المصنف رحمه الله: [ إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الرب تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل ].
قوله: (إثبات ذاته وصفاته):
أي: إثبات وجوده وكماله.
وكلمة (ذات) في حق الله سبحانه وتعالى هي من القسم الثاني من الأقسام الأربعة التي ذكرناها للكلمات وهو: ما يسوغ استعماله.
قال رحمه الله: [ وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلى الله عليهم أجمعين ].
وهذه الطريقة طريقة محكمة فطرية عقلية شرعية.
والدليل على كونها فطريةً عقلية أن مشركي العرب وغيرهم لم يعاضلوا ويناظروا النبي صلى الله عليه وسلم فيها، فدل ذلك على أنها لا تخالف حكم العقل، ولا تخالف حكم الفطرة.
وإنما دخل على المسلمين بعض المقالات بعد عصر الصحابة من الفلسفة اليونانية ونحوها.
وقد ذكرنا فيما سبق: أن علم الكلام الذي حصَّل به المخالفون التعطيل لصفات الله مبني على ثلاث مقدمات:
المقدمة الأولى: مقدمة فلسفية مفصلة، وهي جوهره ومبناه الكلي.
المقدمة الثانية: مقدمة كلية من العقل.
المقدمة الثالثة: مقدمة مجملة من الشرع.