إسلام ويب

جلسة رمضانية في البدائعللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عن رمضان والفوائد التربوية العظيمة التي يريدها الله تعالى من هذه الشعيرة، تحدث الشيخ في هذا الموضوع؛ مبيناً سرعة مرور الأيام وتقلبها ذاكراً بعض الواجبات المتحتم القيام بها في هذا الشهر، والأمور التي يقصر فيها كثير من الناس في شئونهم الشخصية والعائلية والتعبدية والاجتماعية في هذا الشهر المبارك.
    نحمد الله تعالى حمداً كثيرا طيباً مباركاً فيه، كما يحب ويرضى،فهو مستحق الحمد وأهله، وهو أهل التقوى وأهل المغفرة: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد:3].

    أحبتي الكرام.. ربما لا يسمح وقت هذا الشهر الكريم بمزيدٍ من العناية بمثل هذه المجالس، ولكن حسبكم وأنتم تعكفون في مثل هذا المكان الطيب أن تسمعوا اسم الله جل جلاله، فتذكروه وتوقروه وتحمدوه وتكبروه، أو تسمعوا اسم نبيه محمد، فتصلوا وتسلموا عليه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، فيكتب لكم بذلك أجر، ويرفع لكم به قدر، ويحط عنكم به وزر.. نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الأبرار الأخيار الأطهار..

    أيها الأحبة: هذه جلسة رمضانية في هذه الليلة، ليلة الثالث من رمضان -ليلة الجمعة- في هذا المسجد في البدائع، وهذه الجلسة الرمضانية -أيها الأحبة- سوف أتحدث فيها على عجل وإيجاز مراعاة لظروفكم وأوقاتكم عن عدد من الدروس التي لا بد أن يخرج بها المسلم في رمضان، ثم أدع الفرصة إذا كان ثمة أسئلة يرى عرضها وطرحها للإجابة عليها.

    فأول ما يقف عنده الإنسان وهو يتسامع بخير شهر رمضان هو أن يتعجب من سرعة مرور الأيام والليالي وكرورها، فما أن يودع الإنسان شهراً حتى يستقبل آخر، ويطوي من ذلك أياماً ثم أسابيع ثم شهوراً، وإذا بالعام الثاني يأتي وكأنه لمحة بصر أو خطفة برق! فسبحان من يرث الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين..!

    البرد يسلمك إلى حر، والحر يسلمك إلى برد، والعمل يسلمك إلى إجازة، والإجازة تسلمك إلى عمل، والشهر يسلمك إلى آخر، وهكذا أيام وليالٍ تمر وتكر، وإنما هي مراحل ينتقل الإنسان عبرها إلى قبره ومستقره إلى أن يأذن الله تعالى ببعث الناس من قبورهم: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6].

    حب الحياة يورد الموارد المهلكة

    أيها الأحبة: لو تأملنا لوجدنا أن حب الحياة أورد كثيرين الموارد المهلكة، فكم من إنسان تلجلجت كلمة الخير في فمه واحتجبت وتوقفت! بل ونطق وجهر بالباطل الذي يعلم هو في قرارة نفسه أنه باطل لا يرضي الله تعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه سيسخط عليه أيضاً عباد الله الصالحين، ولكنه نطق وربما جهر به، لا لشيء إلا تشبثاً بهذه الحياة وحباً لها.

    وكم من إنسان فر من المعركة خوفاً من الموت، فقد تكون هذه المعركة معركة السلاح التي تتلاقى فيها السيوف ولها بريقٌ ولمعان، وتنـزف فيها الدماء، وتتطاير فيها الرءوس، فربما فر منها وهو يرجو الحياة والبقاء، ويخاف أن يأتيه حتفه فيها، أو قد يكون فر من المعركة الكبرى: معركة الإسلام مع خصومه وأعدائه شحاً بالحياة وبخلاً بها.

    وإنما شَحَّ وبَخل؛ لأنه لم يفقه معنى الحياة، ولم يفقه سر تغير الأيام والليالي وتبدلها وتحولها؛ وأن الإنسان كما لو كان في قطار يسير به سيراً وعلى ظهر هذا القطار الإنسان الغافل، والإنسان اليقظ، والنائم، والصاحي، والعاقل والمجنون وغيرهم.

    هوان الحياة الدنيا

    ولو تأمل الإنسان وتبصر لوجد أن حقيقة هذه الدنيا أقل من أن يتعب الإنسان وراءها أو يضحي بشيءٍ في سبيلها، فقد كانت الحياة هينةً، لا أقول فقط عند الذين يؤمنون بالله تعالى والدار الآخرة، ويرجون ما عند الله، فهؤلاء -نعم- هانت عليهم الحياة، فبذلوا في سبيل الله تعالى الحياة رخيصة، وكان الواحد منهم يخوض المعركة وروحه على راحته، يلقي بها في مهاوي الموت ولا يبالي..!

    يجود بالنفس إن ضن البخيل بها     والجود بالنفس أقصى غاية الجود

    بل كانت الحياة رخيصة حتى عند الذين عقلوا أمورهم عقلاً صحيحاً، فقد كان كثير من العقلاء -حتى في جاهليتهم قبل الإسلام وحتى في هذا الزمان- لا يفهمون من معنى الحياة إلا معنى العزة والكرامة والقوة، فإذا آلت الحياة إلى معاني الذل والمهانة؛ كان الموت عندهم خيراً منها، وكانوا يقولون: (موتٌ في عز خير من حياة في ذل) ويقول آخر:

    الموت لا يكون إلا مَرَّةْ     والموتُ خيرٌ من حياةٍ مُرَّة

    مواقف الناس تجاه سرعة الأيام والليالي

    وأنت تجد كثيراً من العوام والخواص إذا قيل: ما شاء الله! أُعلِنَ رمضان، قال: سبحان الله! ما أسرع الأيام والليالي! كأنه أمس!.. وهكذا في كل مناسبة يقولون هذا الكلام، لكن يظل هذا الكلام مجرد كلماتٍ تداعب شفاههم، ولا يتحول إلى عقيدة في قلوبهم، وإلى مُسيِّر لأعمالهم، وإلى ضابط وحاكم لتصرفاتهم؛ بحيث تجد الإنسان قد فقه معنى الحياة، فأصبحت الحياة عنده هي الجهاد في سبيل الله، وقليلٌ من الناس من يكونون كذلك.

    قيمة الأعمار بما أنجز فيها من الأعمال

    يا أخي الكريم:

    كم من إنسان لو حسبت عمره بميزان الأيام والليالي والساعات لوجدته قصيراً!

    فلان عاش ثلاثين أو أربعين سنة، ولكنها مليئة بجلائل الأعمال، وبالبطولات والتضحيات، مليئة بالجهاد، وبالعلم، مليئة بالعمل، وبالدعوة؛ ولهذا كانت هذه السنوات كبيرة في ميزان الله تعالى، عظيمةً عند العقلاء! وربما ظل هذا الإنسان حياً في ذاكرة التاريخ تتسامع به الأجيال، جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، مع أنه لم يعش من زمانه إلا سنين قصيرة.

    وكم من إنسان قد يكون من المعمَّرين وبحسبك أن تقرأ كتاب المعمرون والوصايا لـأبي حاتم السجستاني، فقد ذكر فيه أسماء المعمرين، ولو تصفحت هؤلاء المعمرين لم تجد منهم إنساناً يذكره التاريخ بالفضل إلا أقل القليل! أما الباقون فلا يعرفون إلا بأنهم طالت أعمارهم، كما يكتب في الجرائد أحياناً أن فلاناً مات عن مائة وثلاثين سنة أو مائة وأربعين سنة، وهذا بحد ذاته لا يحمد ولا يذم، إنما الذي يحمد ويذم هو العمل الذي ملأ به الإنسان هذه السنين، إن خيراً فخير وإن شراً فشر.

    فلا أدري -أيها الأحبة- متى يصحو الإنسان من تقلبات الأيام والليالي، وكرور الشهور بعد الشهور، ومرور الأعوام بعد الأعوام؛ حتى ينتبه إلى أن الحياة ليست هي الساعات فحسب، وإنما الحياة هي الأعمال التي تسجل لهذا الإنسان!

    والله يا إخوتي! إنها لحسرة وندامة للإنسان منا أن يموت ثم لا يسمع به أحد، ولا يعرفه أحد، ولا يثني عليه أحد، ويمحى اسمه من سجل الأحياء، ويمحى من سجل التاريخ؛ فلا يذكر بشيء.

    وأسوأ من ذلك أن يذكر بشر، أو يُدعَى عليه، أو يُسَبَّ، أو يذم بالحق، أما الذم بالباطل فلا يضير.

    فالسؤال الذي يطرح نفسه عليك الآن: إذا مت -وأنت ميت لا محالة- فما هو العمل الذي قدمته وسوف تذكر به؟ هل سيثنى عليك بخير؟ هل سيمدحك الأخيار شهود الله في أرضه؟ هل ستكون قد تركت وراءك علماً نافعاً: كتاباً، دروساً، محاضرات، أعمالاً، جهاداً، كلمة حق قلتها في مناسبة، طلاباً خرجتهم تذكر بهم ويدعى لك بسببهم وينفعون الناس، أولاداً صالحين تذكر بهم، أموالاً أنفقتها في سبيل الله؟! أم أنك سوف تموت ويطوى ذكرك وتخمل، ولا أحد يعرف عنك شيئاً؟!

    إذا مِتُّ كان الناس صنفين شامتٌ     وآخرُ مثنٍ بالذي كنتُ أصنعُ

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089277702

    عدد مرات الحفظ

    783333009