إسلام ويب

شرح كتاب الإيمان [8]للشيخ : يوسف الغفيص

  •  التفريغ النصي الكامل
  • معتقد غلاة المرجئة والجهمية في الإيمان أنه العلم والمعرفة، ولازم قولهم هذا أن أغلظ الكفار كفراً- كفرعون وإبليس- مؤمنون؛ لأنهم عرفوا الله وعرفوا دينه، وهذا قول باطل ترده العقول السليمة والفطر المستقيمة، فالعلم الإداركي المعرفي لا يحصل به الإيمان، وإنما يحصل الإيمان بعلم القبول.
    [قال أبو عبيد : قد ذكرنا ما كان من مفارقة القوم إيانا في أن العمل من الإيمان، على أنهم وإن كانوا لنا مفارقين، فإنهم ذهبوا إلى مذهب قد يقع الغلط في مثله.

    ثم حدثت فرقة ثالثة شذت عن الطائفتين جميعاً ليست من أهل العلم ولا الدين، فقالوا: الإيمان معرفة بالقلوب بالله وحده، وإن لم يكن هناك قول ولا عمل! وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية؛ لمعارضته لكلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بالرد والتكذيب، ألا تسمع قوله: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ [البقرة:136]. الآية، فجعل القول فرضاً حتماً، كما جعل معرفته فرضاً ولم يرض بأن يقول: اعرفوني بقلوبكم. ثم أوجب مع الإقرار الإيمان بالكتب والرسل كإيجاب الإيمان... ولم يجعل لأحد إيمانا إلا بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما جاء به فقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِه [النساء:136]وقال: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [النساء:65]وقال: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يجعل الله معرفتهم به إذ تركوا الشهادة له بألسنتهم إيماناً؛ ثم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله)في أشياء كثيرة من هذا لا تحصى.

    وزعمت هذه الفرقة أن الله رضي عنهم بالمعرفة! ولو كان أمر الله ودينه على ما يقول هؤلاء ما عرف الإسلام من الجاهلية، ولا فرقت الملل بعضها من بعض، إذ كان يرضى منهم بالدعوى على قلوبهم، غير إظهار الإقرار بما جاءت به النبوة والبراءة مما سواها، وخلع الأنداد والآلهة بالألسنة بعد القلوب، ولو كان هذا يكون مؤمناً ثم شهد رجل بلسانه أن الله ثاني اثنين كما يقول المجوس والزنادقة، أو ثالث كقول النصارى، وصلى للصليب، وعبد النيران بعد أن يكون قلبه على المعرفة بالله لكان يلزم قائل هذه المقالة أن يجعله مؤمناً مستكملاً الإيمان كإيمان الملائكة والنبيين! فهل يلفظ بهذا أحد يعرف الله أو مؤمن له بكتاب أو رسول؟ وهذا عندنا كفر لم يبلغه إبليس فمن دونه من الكفار قط!].

    قول غلاة المرجئة والجهمية أن الإيمان هو العلم والمعرفة

    هذا القول -وهو أن الإيمان هو العلم، أو الإيمان هو المعرفة- هو قول غالية المرجئة، وهو مضاف إلى الجهم بن صفوان

    الرجل المعروف باختراع البدع، وهو من كبار أئمة الضلال الذين أجمع السلف على ذمهم وتبديعهم، بل وذهب طائفة إلى تكفيره، وقد قتل، وإن كان اختلف السبب في قتله، ويضاف ما يقارب هذا القول إلى أبي الحسين الصالحي وهو من كبار المرجئة.

    أنواع العلم

    هنا سؤالان:-

    السؤال الأول: أليس العلم يعد إيماناً في كتاب الله سبحانه وتعالى ؟

    أليس قد عظم الله شأن العلم به، وقال صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله، دخل الجنة)وفي قول الله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ [محمد:19]

    والجواب: أن العلم ينقسم إلى نوعين:

    النوع الأول: علم إدراك.

    النوع الثاني: وعلم قبول. والذي عظمه الشارع ووصف المؤمنين به هو علم القبول، وهذا هو الذي وصِف أهل الإيمان به في قول الله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ [آل عمران:18] فالمقصود بالعلم هنا علم القبول لا علم الإدراك، وهو العلم الإيماني.

    وأما علم الإدراك فإنه يقع لغير المسلمين، وهو التصور المحض للشيء، والذي لا يتبعه إذعان وقبول، وهو المذكور عن الكفار في مثل قول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146] فهذه معرفة إدراك لا معرفة قبول، وهذا هو المذكور في قول الله تعالى عن أغلظ الكفار كفراً وهو فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]

    وبهذا يتبين ضرورة اعتبار الأسماء في كتاب الله بسياقاتها.

    وقد يقول قائل -مثلاً-: إن الجهل ليس عذراً في مسألة التكفير؛ لأن الله كفّر الكفار وقد وصفهم بالجهل في آيات كثيرة في كتابه، فقد وصفهم بأنهم أهل جاهلية... إلى غير ذلك، مما يدل على أن علمهم ليس بلازم، وأن الجهل ليس عذراً في التكفير، وليس مانعاً من التكفير.

    وهناك أيضاً من ينظر على العكس في هذه المسألة، فيقول: إن الله لم يكفر الكفار إلا بعدما قام عليهم العلم، ولهذا وصفهم بقوله: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]

    فنقول: ألا يصح أن يقال عن القوم الذين قال الله عنهم: يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]أو قال عنهم: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ [النمل:14]فأثبت لهم شديداً من قدر العلم الإدراكي أن هؤلاء في كتاب الله هم أهل الجهل والجاهلية؟

    أليس الله يقول: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنْ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا [الأعراف:179] واليهود يدخلون في هذا السياق؟

    إذاً: لهم قلوب لا يفقهون بها، ومع ذلك هم في السياق الآخر يعرفونه كما يعرفون أبناءهم.

    إذاً: الله سبحانه وتعالى وصف المشركين بالجهل في مقام، ووصفهم بالإدراك في مقام آخر، فهو سبحانه وتعالى قد نفى عنهم تحقيق علم القبول، أما علم الإدراك فهو موجود، وإلا لو كان علم الإدراك غير موجود فإن الحجة لن تقوم عليهم، وإذا كان الرسل يبعثون، ولا يقوم على المكلفين العلم الإدراكي، فما معنى أن الرسل بعثت؟! وما معنى أن الحجة قامت؟!

    ولهذا لما بعث الله الرسل قامت بهم الحجة؛ لأن المخاطبين حصلوا علم الإدراك، وهذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من الأنبياء من نبي إلا قد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر) أي: ما مثله يجب أن يؤمن البشر به.

    وهذه المسألة -وهي اختلاف مورد الأسماء في كتاب الله- يأتي إن شاء الله ذكرها في كتاب شرح حديث الافتراق؛ لأنه يقع عنها كثير من الاختلاف.

    إذاً: العلم الإدراكي يقع للكفار، وأما علم القبول فهو العلم الإيماني.

    ما هو العلم الذي أراده الجهم في قوله أن الإيمان هو العلم والمعرفة

    السؤال الثاني: هل أراد الجهم بن صفوان لما قال: إن الإيمان هو المعرفة العلم الإدراكي، أم أراد العلم القبولي ولكنه أخرج العمل منه؟

    هذا أمر متردد فيه، والرجل ليس نزيهاً عن الأخذ عن الفلسفة، ومن المعلوم أن أساطين المتكلمين لخصوا كثيراً من كلامهم في مسائل أصول الدين عند المسلمين من فلسفة الفلاسفة إما فلسفة اليونان أو غيرهم، وقد كان يقال عند الفلاسفة: إن العلم هو أشرف المقاصد. ويريدون بالعلم العلم الإدراكي، وليس العلم الذي عنه قبول؛ لأنهم لا يؤمنون بمقام العبودية لله سبحانه وتعالى.

    فإذا قيل: ماذا أراد جهم بقوله هذا؟

    قيل: هذا متردد، فشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يميل في تقاريره -وإن كان لا يصرح به- أن الجهم بن صفوان يذهب إلى أن العلم هنا هو العلم الإدراكي، ولهذا يعريه عن أعمال القلوب والقبول، ويرى أن الإيمان محض معرفة.. فهذا فهم لكلام جهم .

    والفهم الثاني: فهم أبي الحسن الأشعري ، فقد قال الأشعري في مقالاته: "إن جهماً يقول: الإيمان هو المعرفة والعلم" . لكن لما فسر أبو الحسن الأشعري مقالة جهم ضمنها -كما في كتاب مقالات الإسلاميين- معانٍ قلبية كالمحبة والخضوع، فقال: "فإذا عرف محبةً وخضوعاً كان عنده مؤمناً" . فواضح من تفسير الأشعري لمقالة جهم أن الأشعري يفسر العلم عند الجهم بعلم القبول، ولكنه يغلو في تضييقه حتى يخرج جملة أعمال القلوب منه، ويخرج الأعمال الظاهرة منه.

    فهذا هو التردد في تفسير كلام الجهم .

    وقد تقدم أن شيخ الإسلام إذا أراد تفسير قول الجهم وحده فكأنه يميل في تقريره إلى أن جهماً يذهب إلى أنه علم إدراكي، ولكن يشكل عليه في كلام شيخ الإسلام نفسه أنه إذا تكلم عن مذهب أبي الحسن الأشعري فإنه يقول: "إن قول أبي الحسن هذا -أي: أن الإيمان هو التصديق- أصله قول جهم بن صفوان " . مع أن أبا الحسن الأشعري قطعاً لا يقصد بالتصديق العلم الإدراكي، وإنما يريد علم القبول، فهل أراد ابن تيمية بهذا التردد في تفسير كلام جهم ، أم أنه أراد أن الأشعري يشارك الجهم في الأصل دون التحقيق للقول؟

    هذه مسألة تردد.

    وقد يقول قائل: فما هو الراجح؟ أقول: لا يلزم العلم بالراجح، فـالجهم أقل من أن نهتم بترجيح إلى أي المذهبين يذهب، لكن المهم أنه يذهب إلى مذهب باطل بدعي... إلخ؛ فالسلف كـوكيع وأحمد وعبد الرحمن بن مهدي وأمثالهم جعلوا مقالة جهم بن صفوان كفراً، وقد نقل هذا شيخ الإسلام وغيره، وهذا ما أشار إليه المصنف في قوله: "وهذا منسلخ عندنا من قول أهل الملل الحنفية".

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089142588

    عدد مرات الحفظ

    782140627