إسلام ويب

حتى تغيروا ما بأنفسكمللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لا يحصل للأمة خير ولا شر إلا بسبب عملها وتصرفها -كأمة- وهذه قاعدة شبه مطردة في الفرد أيضاً، ولذلك فإن التغيير من الله سبحانه وتعالى لا يكون إلا بأن تغير الأمة حالها. والأمة المسلمة وجدت لتبقى؛ لأن فيها عوامل للنجاح أعظمها المبدأ الصحيح الذي تفتقده -بشكله الكامل- جميع الأمم والمجتمعات الأخرى، وكذلك فدين هذه الأمة دين عملي؛ يؤدي بها إلى الرقي والتقدم، هذا بالرغم من سلبية الكثير من أفراد هذه الأمة وقلة الرجال الفاعلين فيها.
    الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

    أيها الإخوة.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته, وحياكم الله تعالى في هذه الليلة المباركة، وهي ليلة الخميس، التاسع والعشرين من شهر ربيع الأول لعام ألف وأربعمائة وإحدى عشرة للهجرة.

    إن عنوان هذه الكلمة أو المحاضرة: "حتى تغيروا ما بأنفسكم"، وأستغفر الله عز وجل فإنني ما قصدت بهذا العنوان حكاية كلام الله تعالى, وإنما قصدت به عنواناً أنشأته من عند نفسي, واقتبست معنى الآية الكريمة العظيمة فيه, ألا وهي قوله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11].

    وإنما جعلت العنوان خطاباً (حتى تغيروا) لأني لاحظت أمراً في غاية الخطورة نعانيه نحن المسلمين, ألا وهو أننا في كثير من الأحيان نتحدث عن غيرنا أكثر مما نتحدث عن أنفسنا.

    نعيب غيرنا، ونحمل المسئولية غيرنا، ونلقي بالتبعة على غيرنا, ونجعل الأسباب من غيرنا, وإذا سمعنا أحداً ينتقد, أو ينصح أو يوجه؛ خيل إلينا أنه يتحدث عن أمة أخرى أو شعب آخر أو أناس آخرين, لكن قلّما يسمع الواحد منا الحديث، وهو يحس أنه هو بذاته وباسمه وشخصيته المخاطب قبل غيره, ولذلك يقل الانتفاع من الكلام، لأن كل واحد يعتقد أنه ليس مخاطباً ولا مقصوداً, فاخترت أن يكون العنوان خطاباً "حتى تغيروا ما بأنفسكم" لدفع هذا المعنى الموجود في نفوسنا.

    وسوف تكون هذه الكلمة في سبع نقاط أو سبع وقفات، الوقفة الأولى عبارة عن مقدمات لابد منها.

    الله حرم الظلم على نفسه وعلى غيره

    إن الله تعالى حرم الظلم على نفسه، كما قال جل وعلا: وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ [هود:101] في أكثر من موضع من القرآن الكريم, وقال: وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ [الزخرف:76] وقال: وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة:70] وقال: وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت:46] وفي الحديث القدسي في صحيح مسلم عن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال الله تعالى: {يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً, فلا تظالموا} ومن عدله جل وعلا؛ أنه جعل الجزاء في الدنيا والآخرة مترتباً على فعل الإنسان وعمله.

    فأهل الجنة يقال لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32] هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:24]؛ وأهل النار كذلك إنما دخلوها بذنوبهم وبخطاياهم وأعمالهم.

    وكذلك الجزاء الدنيوي، إنما يناله من يناله, إن كان خيراً فبعمله الخير, وإن كان شراً فبعمله الشر, ولذلك قال الله عز وجل: {يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه} فمن عدله جل وعلا أن كل أمر يحصل للإنسان في الدنيا أو في الآخرة فهو بسبب عمله، وما ظلمه الله تعالى شيئاً.

    مصائب الأمة بفعل البشر

    نحن نعلم جميعاً أن الجزاء الأخروي حق, وهناك في الآخرة جنة ونار, وهذا من أصول العقيدة الإسلامية، كذلك يجب أن نعلم أن الجزاء الدنيوي واقع أيضاً.

    صحيح أن الدنيا ليست دار جزاء, ولكن الله جعل في هذه الدنيا نواميس وسنناً تجري على العدل والاستقامة, فكل ما يصيب الأمم دعك من الأفراد، مثلاً: كون فلان أصابه مرض، أو حادث سيارة، أو كان عنده مؤسسة وفشلت فاترك هذه جانباً.

    دعنا نتكلم في المصائب العامة: فمثلاً: أمة من الأمم أصابها جدب وقحط, وهلكت الأموال والزروع والمواشي, أو أصابها فقر شديد, أو أصابتها هزائم عسكرية أو سياسية أو هزائم اقتصادية, أو نكبات عامة, فالقرآن الكريم صريح في أن هذا بفعل البشر، بسبب فعل الناس، قال تعالى: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم:41] وقال تعالى: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

    ولما جاءت معركة أحد وانهزم المسلمون, وكانوا يتصورون أنه ما دام ألهم المسلمون وقائدهم محمد صلى الله عليه وسلم ويقابلون جيشاً مشركاً يعبد اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى, كانوا يعتقدون أنَّ النصر لهم حتماً, فأصابتهم المصيبة وقتل منهم من قتل, وجرح من جرح, حتى رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت حلق المغفر في وجنتيه, وشج رأسه, وكسرت رباعيته, وسقط صلى الله عليه وسلم في بعض الحفر التي حفرها أبو عامر الفاسق -الذي كان يسمى بـالراهب- حتى أشيع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد قتل, فهنا دهش المسلمون وتلفتوا يقولون: أنّى هذا؟! كيف يحصل هذا؟! فجاءهم الجواب بياناً مفصلاً في سورة آل عمران، قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] إذاً كما أن الجزاء الأخروي حق, فكذلك الجزاء الدنيوي حق, قال الله تعالى: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [النمل:50-51].

    فالمصائب في الدنيا -المصائب العامة- بسبب الذنوب, والسعة في الرزق والمال والأهل والمتاع الطيب هو أيضاً بسبب الطاعات, هذه هي القاعدة العامة وكل قاعدة لها استثناءات, البشر قد لا يستطيعون أن يطبقوا القاعدة في كل ظرف وفي كل حال, لكن هذه القاعدة ربانية قرآنية لا كلام فيها.

    التغيير من عند أنفسنا

    إنَّ الله عز وجل ربط التغيير بفعل الناس, فإذا كان الناس في حال خير وانتقلوا إلى حال سيئة, فلا ينبغي أن يقولوا: من أين جاء هذا؟ لأنه يقال لهم حينئذٍ: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165] وكما قال الله عز وجل في سورة الأنفال: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الأنفال:53].

    أمة من الأمم عزيزة منيعة الجانب قوية قاهرة غالبة ممكنة في الأرض, ثم يؤول الأمر بها إلى انهيار وانهزام وتصبح في ذيل القافلة, وتصبح أمة لا قوام لها ولا اعتبار لها ولا شأن لها, تسمى كما يقولون في لغة العصر الحاضر "العالم الثالث"، والآن أخرجوا مصطلحاً جديداً يسمونه "العالم الرابع"، وهو الذي فيه تخلف التخلف, الذين لا يجدون لقمة يأكلونها, وكلهم أو جلّهم أميون لا يقرءون ولا يكتبون, والمرض يسري فيهم سريان النار في الهشيم إلى غير ذلك من مظاهر التخلف, فيما يسمونه بحزام البؤس أو العالم الرابع، وهي دول من أمم المسلمين.

    يجب هنا أن يتساءل الإنسان، أو أن يفكر أن هذا المصير الذي آلت إليه تلك الأمة العزيزة المنيعة, إنما هو من عند أنفسها وبسبب ذنوبها, وكذلك العكس فهذه الأمة أو غيرها التي تعيش في وضع سيئ متردٍ، وتريد الخروج؛ منه أن عليها أن تفكر أن البداية تأتيها من عند نفسها، لا تتصور أبداً أن الخروج من هذا المأزق، ومن هذه الأزمات، ومن هذا التخلف، ومن هذا الجهل، يأتي بشيء يقدمه لها أعداؤها، فهذا لا يتأتى أبداً كما يقول الشاعر:

    وما نيل المطالب بالتمني      ولكن تؤخذ الدنيا غلابا<

    الحياة صراع بين الحق والباطل

    الحياة صراع، والذي لا يملك وسائل القوة والصراع والسباق, يهزم ويصبح في آخر الركب وفي ذيل القافلة, فمن كان على حال سوء يطمع في الانتقال إلى حال حسنة, يجب أن يعرف أن البداية تأتي من عنده هو, أن يغير ما بنفسه فيغير الله تعالى ما به، وهذا يصدق على حال الأمة وعلى حال الفرد.

    أما بالنسبة للأمة فهي قاعدة مطردة, أما بالنسبة للفرد فقد يظهرها الله عز وجل في كثير من الأحيان بشكل أو بآخر, قد تجد إنساناً اليوم يظلم ويعتدي ويأخذ بغير حق, اصبر لا تتعجل الأحداث، لا تقل: ولماذا الله تعالى لم يعاقبه على ما فعل؟! يقول الله عز وجل: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ [إبراهيم:42] ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله عز وجل ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قول الله تعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102]}.

    إذاً لا تتعجل، يوماً أو شهراً أو سنة إن الأمور في ميزان الله غير الأمور في ميزاني وميزانك أنت, نحن إذا رأينا الباغي والظالم مكث شهراً أو سنة وما انتقم الله عز وجل منه, استبطأنا الأمر وتعجّلنا، لكن اصبر فمن الممكن أنك تموت وما رأيت النتيجة, ويراها ولدك أو أخوك الأصغر, فكم من إنسان ظالم أو معتدٍ أو منحرف، أو مستهزئ بالدين، أو ساخر بالمؤمنين، أمهل الله له وأملى له, ثم أخذه أخذ عزيز مقتدر.

    تعجيل العقوبة للعبرة والعظة

    كم من إنسان كان يقوم على تعذيب المسلمين وإيذائهم والزّج بهم في السجون, وإذا استنصروا بالله عز وجل، قال لهم كما قال بعض زبانية التعذيب في أرض الكنانة في وقت من الأوقات, لما رأوا إنساناً يصرخ: يا الله، قالوا: لو جاء الله لجعلناه في هذه الزنـزانة والعياذ بالله وما هي إلا أزمنة قصيرة حتى يأخذهم الله عز وجل بشكل غريب, حتى إن أكبر زبانية التعذيب الذي كان يعذب بعض العلماء والدعاة, كان من ضمن وسائله في التعذيب أنه يمنعهم من الذهاب لقضاء الحاجة, زماناً طويلاً, ودار الدهر دورته, فإذا بهذا الرجل يفقد سلطانه وأبهته ومكانته, وإذا به يصاب بصعوبة التبول حتى إنه يجال به في مستشفيات الدنيا، يصرخ صراخاً شديداً حينما يريد أن يقضي حاجته, ثم مات بهذا المرض, ولما سمع بعض ضحاياه بهذه القصة، وكان في الحرم المكي الشريف خر لله تعالى ساجداً.

    إن الله عز وجل يعجّل لمن يشاء العقوبة في هذه الدنيا, وإن كانت الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار عمل, وهذا الجزاء الذي يظهره الله عز وجل إنما هو من باب العبرة والعظة, التي يبينها الله جل وعلا لعباده.

    ولقد حشد القرآن الكريم الكثير من الآيات والقصص السابقة، التي تبين أن هذا هو الطريق, فلا تنتظر أبداً أن يكون التغيير بواسطة ملك يهبط من السماء, كلا, ولا بواسطة شيء يخرج من الأرض، إنما التغيير بواسطة الإنسان، فالإنسان هو مدار التغيير بإذن الله جل وعلا, فالله جعل النواميس في هذا الكون خاضعة لتغيير الإنسان، كما قال قتادة رضي الله عنه: [[من الإنسان التغيير، ومن الله تعالى التيسير]] الإنسان لا يمكن أن يغير بنفسه القدر:

    إذا لم يكن عون من الله للفتى      فأول ما يجني عليه اجتهاده

    فربما يقوم إنسان بسيط تفكيره بسيط، يفتح بقالة أو متجراص متواضعاً وتبدأ أمواله تكثر، فتأتي بعد عشر سنوات ويصبح من أصحاب رءوس الأموال, ثم تجلس معه تتحدث، هل تميز ذلك الإنسان بذكاء عن غيره؟ لا، بماذا تميّز؟ هذا من توفيق الله عز وجل, يهب ذلك لمن يشاء, وقد تجد إنساناً صاحب تفكير وتخطيط، وعنده لجان وعنده مستشارون، وعنده خبرات ودراسات وتحاليل وتقارير وأشياء, ويقوم بمشاريع وفي النهاية تنهار، ويصبح هذا الإنسان منكسراً لا مال له.

    فالأمور لا شك مرتبطة بقضاء الله وقدره, وإذا لم يعن الله العبد فأول ما يجني عليه اجتهاده.

    إذا لم يكن عون من الله للفتى      فأول ما يجني عليه اجتهاده

    لكن ينبغي أن ندرك أن التغيير يبدأ من الإنسان, لا تتصور أن التغيير يبدأ من المصنع, بعض الإخوة -مثلاً- يقول: إن الطريق إلى تقدم العالم الإسلامي هو الاهتمام بالصناعة نحن لسنا نشك أن العالم الإسلامي لكي يصبح عالماً متقدماً، لابد أن يملك الصناعات سواءً الصناعات الحربية أم غيرها, وما دام يستورد من غيره فلن يتقدم لأن حاجاته بيد عدوه، يفرج عنها متى شاء ويمنعها ويحجبها متى شاء, هذا ليس فيه شك ولا نجادل فيه, لكننا نقول المهم: هو الإنسان, إذا أفلحنا في صناعة الإنسان -إن صح التعبير- في إيجاد الإنسان الفعال المؤثر القوي صاحب الهمة, ثقوا أن الأمور كلها ستتبدل، سيأتي المصنع والمتجر, وسوف تأتي القوة والتنظيم وكل شيء، إذاً ينبغي أن ندرك أنه -كما يقولون- حجر الأساس في موضوع التغيير هو الإنسان.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087496626

    عدد مرات الحفظ

    772675495