إسلام ويب

المسلم بين غربتينللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • تحدث الشيخ في هذا الدرس عن معنى الغربة، ثم ذكر المقصود ببداية الإسلام غريباً، وكذلك المقصود بقوله صلى الله عليه وسلم: (وسيعود غريباً) ثم ذكر أن الغربة أمر نسبي تتفاوت بين مكان ومكان، وزمان وزمان، وتحدث عن حال البشرية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر بعض جوانب الانحراف البشري فيها، وبيَّن الفرق بين غربة الحنفاء وغربة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر انتهاء الغربة في أول الإسلام.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أيها الإخوة: عنوان هذه الكلمة هو (المسلم بين غربتين) وفي نهاية الكلمة أحب أن أسمع من بعض إخواني تحليلاً صحيحاً لهذا العنوان، يبين لنا ما هو المقصود بهاتين الغربتين المذكورتين في العنوان.

    فأما الغربة فإن النبي صلى الله عليه وسلم، قد بين لنا في أحاديث كثيرة -ثلاثة وعشرين حديثاً أو تزيد على ذلك- أن الإسلام بدأ في أول أمره غريباً، وأنه سيعود في آخر أمره غريباً كما بدأ أول مرة، حتى إن من العلماء من قال: إن الإسلام سينتهي برجل واحد، كما ابتدأ برجل واحد وهو محمد صلى الله عليه وسلم.

    أيها الإخوة... والمقصود بالغربة في هذا الحديث؛ هو بعض معانيها اللغوية، فإن العرب يطلقون الغربة على عدة معانٍ:

    فيطلقون الغربة على معنى الخفاء والغموض، ومنه قول بعض العلماء؛ أو تسميتهم للألفاظ ذات الدلالة غير الواضحة، في الأحاديث النبوية: غريب الحديث.

    فالمقصود بالغريب هنا، هو: اللفظ الذي يوجد في معناه غموض وخفاء ويحتاج إلى كشف وبيان؛ هذا معنىً من معاني الغربة.

    المعنى الثاني: من معاني الغربة هو: معنى النـزوح والخروج عن الوطن، ومن ذلك قول الشاعر:

    وما كان غض الطرف منا سجية     ولكننا في مدحج الغربان

    أي: غريبان، فهما قد نـزحا عن وطنهما.

    ومن معاني الغربة أيضاً: أن يوجد الإنسان بين قوم غير قومه، وفي بلد غير بلده، وأهل غير أهله، فهو بينهم غريب؛ لأنهم لهم حال وله حال إلى معان أخرى كثيرة.

    وكل هذه المعاني متحققة في معنى غربة المسلم، فالمسلم غريب بمعنى أنه قد نـزح عن وطنه وخرج عنه، إذ أن الإنسان إذا خلف في القوم الذين يقتدي بهم، شعر بالغربة، ولذلك كان الإمام أحمد رحمه الله يتمثل بقول الشاعر:

    إذا ما مضى القرن الذي أنت     فيهمُ وكلفت في قرن فأنت غريب

    والمسلم غريب أيضاً، بمعنى أن الناس من حوله في العموم، مخالفون لما هو عليه، عقيدة وسلوكاً ومنهجاً، ولذلك يشعر بينهم بالغربة، بمعنى المخالفة لما هم عليه.

    وكذلك المسلم يشعر بالغربة، بمعنى الغموض والاستخفاء؛ لأنه يجد في كثير من الأحيان أن المكانة والحظوة والشهرة والسمعة، هي لغير المتقين، وغير الصالحين من أهل الرياضة، أو أهل الفن، أو المال، أو الجاه أو غيرهم.

    هذه بإجمال بعض مشاعر الغربة، التي تنطلق من المعنى اللغوي لهذه الكلمة، وتنطبق على المعنى الشرعي لها، ويوافقها واقع المسلم في كل زمان وفي كل مكان.

    وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى إشارة مجملة بقوله: {بدأ الإسلام غريباً} فأشار إلى أن هذا الدين بدأ غريباً، والغربة هنا تعني غربة الإسلام في أول مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم.

    المقصود ببداية الإسلام غريباً

    وإلا فلو نظرنا إلى الدين جملة، وإلى معنى الإسلام الذي هو دين الأنبياء جميعاً عليهم الصلاة والسلام؛ لوجدنا أن أول البشر وهو أبونا آدم كان نبياً مكلماً وكان بنوه كذلك تعلموا منه الدين، وكانوا على شريعة من الحق، بل قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[إن الناس ظلوا على شريعة من الهدى عشرة قرون]].

    فالمقصود ببداية الإسلام في هذا الحديث، بدايته في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي أول مبعثه بدأ غريباً بفرد واحد وأشار صلى الله عليه وسلم إلى أنه سيعود.

    المقصود بقوله: وسيعود غريباً

    ونستطيع أن نعبر عن كلمة: سيعود بمعنى أنه سينتهي غريباً أيضاً فسيئول الأمر بالمسلمين إلى غربة كالغربة الأولى، ثم ينتهي شأن الدين تماماً، كما كان الحال في الجاهلية الجهلاء، التي لم يكن فيها بريق من نور الهداية إلا القليل.

    فهذه الغربة الأخيرة، التي أشار إليها صلى الله عليه وسلم بقوله: {وسيعود غريباً} تحتمل المعنى الذي أشرت إليه وهو في نظري معنى قوي، فيكون الحديث إشارة من النبي صلى الله عليه وسلم، إلى ما سيكون عليه الأمر بعد خروج عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وبعد نـزول عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، وقتالهم للدجال، وقتلهم له، واستقرار شأن الإسلام في الأرض، وضربه بجرانه فيها، حيث يبدأ الإسلام بعد ذلك يتناقص شيئاً فشيئاً، حتى يضعف شأن المسلمين، وحتى يبعث الله الريح الطيبة، فتقبض روح من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان، فلا يبقى أحد في الأرض يقول الله الله، أي: لا يبقى أحد في الأرض يقول: لا إله إلا الله.

    فهنا نقول: إن الإسلام عاد غريبا كما بدأ، واستحكمت الغربة استحكاماً، لا مطمع في زوالها وارتفاعها بعده، هذا الاحتمال الأول في الحديث، وعلى هذا الاحتمال، يكون قوله صلى الله عليه وسلم: {وسيعود غريباً} بمعنى العودة التي لا مطمع في الخروج منها؛ لأن الشيء إذا بدأ في صورة وعاد في صورة إلى نفس الصورة، نقول: إنه عاد عودة لن يتغير بعدها.

    أما الاحتمال الثاني -وهو معنى أشمل للحديث- فهو: احتمال أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أشار بهذا الحديث إلى ما سيحصل للمسلمين من ضعف وتقصير في جوانبهم العقائدية، والعملية وغيرها، وهذا أمر بدأ منذ زمن قديم، ونستطيع أن نقول إنه بدأ في زمن مبكر جداً من تاريخ الإسلام، واستمر في المسلمين إلى هذا اليوم، وإلى أن يشاء الله، وهو يتفاوت بين زمان وزمان ومكان ومكان.

    فقد تستحكم الغربة في بلد من البلدان، حتى يضيق الخناق على المؤمنين وتكتم أنفاسهم، ولا يستطيعون أن يجهروا بشيء من دينهم، ولا من شعائرهم، وقد يتنفس المسلمون الصعداء في بلد آخر وترتفع رايتهم، بل قد يكتب لهم النصر والتمكين في بلد من البلدان، فالغربة تتفاوت بين مكان ومكان.

    وكذلك تتفاوت بين زمان وزمان في سائر الأمكنة، فقد يعيش المسلمون غربة شديدة، ثم يبعث الله المجدد الموعود أو المجددين الموعودين الذين بشر بهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن، الذي رواه أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال {إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها} فبمجيء هؤلاء المجددين يضعف شأن الغربة، ويستحكم شأن الدين والإسلام، وترتفع الغربة شيئاً ما.

    إذاً: فالغربة تتفاوت بين زمان وزمان، وبين مكان ومكان.

    هذا هو المعنى الثاني، وعليه يجب التنبيه إلى أمر، وهو: أن وجود الغربة المستحكمة في الأمة المحمدية، أمر غير ممكن ولا متصور وجوده، إلا بعد انتهاء عهود المسيح عيسى بن مريم، والمهدي، ومجيء الريح الطيبة، التي تقبض أرواح المؤمنين، أما قبل ذلك فلا يتصور أن تعيش الأمة الإسلامية غربة مستحكمة، في جميع البلدان وفي جميع الأزمان.

    والسبب في هذا، هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث المتواتر الذي يقطع بصحته وثبوته كل طالب علم، أخبرنا صلى الله عليه وسلم أنه: {لا تزال طائفة من هذه الأمة، على الحق منصورة ظاهرة، تقاتل حتى يأتي أمر الله وحتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال}.

    ولذلك ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتبه، أحد هذه المواضع في كتابه القيم: اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم، أنه لا يتصور وجود أمة جاهلية مطلقة في الأمة المحمدية أبدا، اللهم إلا ما يكون بعد قبض أرواح المؤمنين فهنا لا يبعد أن تنقرض الأمة المحمدية وتنتهي، وتسيطر الجاهلية على الأرض كلها قبيل قيام الساعة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087496626

    عدد مرات الحفظ

    772675494