إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [3]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أعظم ما أمر الله به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك، والقرآن الكريم كله في التوحيد كما بين ذلك أهل العلم، وأصل دعوة الرسل هي الدعوة إلى التوحيد، ولذا يجب معرفة التوحيد لتحقيقه والقيام به، ومعرفة الشرك للحذر منه واجتنابه.

    توحيد المعرفة والإثبات

    قال الشارح رحمه الله: [ قال العلامة ابن القيم رحمة الله عليه: وأما التوحيد الذي دعت إليه الرسل ونزلت به الكتب، فهو نوعان: توحيد في المعرفة والإثبات، وتوحيد في الطلب والقصد.

    فالأول هو: إثبات حقيقة ذات الرب تعالى، وصفاته وأفعاله وأسمائه، وتكلمه بكتبه، وتعليمه لمن شاء من عباده، وإثبات عموم قضائه وقدره وحكمته، وقد أفصح القرآن عن هذا النوع جد الإفصاح، كما في أول سورة الحديد، وسورة طه، وآخر الحشر، وأول تنزيل السجدة، وأول آل عمران، وسورة الإخلاص بكاملها، وغير ذلك ].

    هذا كثير في القرآن جداً، وقل آية في القرآن إلا وفيها شيء من أسماء الله وصفاته، إما صفة فعل أو صفة ذات أو غير ذلك، والحكمة في هذا أن الناس كانوا يحتاجون إلى هذا؛ لأن من حكمة الله جل وعلا أن الناس إذا احتاجوا إلى شيء يكون وجوده أكثر، مثل الماء، فالناس يحتاجون إلى الماء فصار وجوده كثيراً، ومثل وجود الهواء، ومثل وجود الملح، ومثل وجود النار وما أشبه ذلك، فكل شيء الحاجة إليه عامة شاملة كان وجوده وتيسيره أكثر للناس، وهذه حكمة من الله ورحمة منه.

    ففي زمن الصحابة ما كانوا بحاجة إلى تكثيره إلا من ناحية أن الله يعرفهم بنفسه، هذا هو الأصل، والله تعرف إلى خلقه بذكر أسمائه وأوصافه، وكل اسم له معنى يدل عليه، فعرف المؤمنون ربهم بهذا؛ لأن الله غير مشاهد، وليس له مثيل يقاس عليه تعالى وتقدس، فليس هناك طريق لمعرفته إلا أن يخبر جل وعلا عن نفسه، هذا هو الأصل في الإكثار من ذكر أسماء الله، وبعدما ذهب عصر الصحابة وعصر التابعين وأتباعهم وجاءت الخلوف حدث في الأمة من يكفر بهذا النوع وينكره، وأصل مجيء هذا الإنكار وهذا الكفر من اليهود والنصارى والمجوس الذين يعادون هذا الدين، فأوجدوا المؤسسات والجمعيات الخبيثة التي تحارب العقيدة، وصاروا يبثون سمومهم في أوساط الناس، وربما في الكتب أيضاً، وبدءوا بتشكيك الناس في معبودهم وإلههم، فصاروا ينكرون الأسماء والصفات، ولو جاءوا إلى الناس وقالوا: إن الله لا يتكلم، إن الله لا يسمع، إن الله لا ينزل إلى السماء الدنيا، إن الله لم يستو على عرشه، إن الله ليس فوقنا، وما أشبه ذلك، بدون أن يذكروا مبررات؛ ما قبل منهم ذلك، فأحكموا الخطة وقالوا: إنكم إذا قلتم هذا، قلتم بالكفر والتشبيه، فيجب أن تنزهوا الله عن هذه الأوصاف والأسماء، فجاءوا من هذا القبيل، فقبل قولهم الذين لا يعلمون، فانبرى العلماء للرد عليهم وإبطال كيدهم، فملأوا الدنيا كتباً، وكلها مأخوذة من كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم في الرد على مثل هؤلاء، وكتاب الله مملوء جداً بإبطال كيد هؤلاء، ولكن مع هذا كله انطلى هذا الخبث وهذه الدسائس على كثير من الناس، فأصبحوا إلى اليوم متأثرين بهذه الدعايات، فإلى الآن كثير من المسلمين متأثر بذلك، فأنكروا أن الله جل وعلا مستو على عرشه، وأنكروا أن الله جل وعلا فوق عباده، وأنكروا أن الله جل وعلا ينزل إلى السماء الدنيا، وأنكروا أن الله جل وعلا يأتي يوم القيامة لفصل القضاء، وأنكروا أن الله جل وعلا يتكلم ويكلم من يشاء كلاماً حقيقياً، إلى غير ذلك، وهذا كله تأثر بدعاية هؤلاء المبطلين، ولكن الذي يتبع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يعصمه الله جل وعلا بذلك.

    توحيد الطلب والقصد

    قال الشارح رحمه الله: [ النوع الثاني: ما تضمنته سورة قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وقوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64]، وأول سورة (تنزيل الكتاب) وآخرها، وأول سورة المؤمن ووسطها وآخرها، وأول سورة الأعراف وآخرها، وجملة سورة الأنعام، وغالب سور القرآن، بل كل سورة في القرآن فهي متضمنة لنوعي التوحيد شاهدة به داعية إليه.

    فإن القران إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله وأقواله، فهو التوحيد العلمي الخبري، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له، وخلع ما يعبد من دونه، فهو التوحيد الإرادي الطلبي، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته، وأمره ونهيه، فهو حقوق التوحيد ومكملاته، وإما خبر عن إكرام أهل التوحيد وما فعل بهم في الدنيا، وما يكرمهم به في الآخرة، فهو جزاء توحيده، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال، وما يحل بهم في العقبى من العذاب، فهو جزاء من خرج عن حكم التوحيد، فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه، وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم. انتهى ].

    سبق أن ذكرنا أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد في العلم والعقيدة، وتوحيد في النية والإرادة، وقلنا: إن شئت جعلته قسمين، وإن شئت جعلته ثلاثة أقسام، فمن باب البسط والإيضاح يكون ثلاثة من حيث تعلق التوحيد، فإما أن يتعلق بلفظ الرب جل وعلا فيكون توحيد الصفات والأسماء، أو يتعلق بأفعاله تعالى وتقدس فيكون توحيد الربوبية.

    وهذان القسمان يجوز أن نجعلهما قسماً واحداً؛ لأنهما يتعلقان بالرب جل وعلا صفة وفعلاً، فمن العلماء من يجعله قسماً واحداً، ومنهم من يجعله قسمين.

    فصفات الله جل وعلا وأسماؤه تثبت بالدليل الذي جاء في كتاب الله جل وعلا، وجاءت به الرسل فقط لا أكثر، ولا دخل للقياس في ذلك، ولا دخل للعقل في هذا، وقلنا: إن السبب في هذا شيئان:

    أحدهما: أن الله جل وعلا لا مثيل له ولا نظير له فيقاس عليه.

    الثاني: أنه تعالى وتقدس غيب ليس يشاهده أحد ولم يره أحد، فليس هناك طريق لمعرفته وتسميته ووصفه إلا الوحي فقط، قال الله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [البقرة:3] قال كثير من المفسرين: يؤمنون بالله لأنه غيب، فهو غائب عن كل الخلق، وقد قال جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا [البقرة:22].

    فكل هذا يدل على أنه متفرد جل وتقدس، ولهذا اتفق أهل السنة على أن أسماء الله جل وعلا وأوصافه توقيفية، ومعنى (توقيفية): أنه يوقف على النص فيها، فما جاء به النص وجب أن يؤمن به ويعتقد ويقال بمقتضاه، وما لم يأت به النص فلا يجوز أن يشرك بالله شيئاً لم يثبت بنص، والذين ضلوا في هذا الباب لأنهم يعتمدون على عقولهم، فضلوا فيه وتاهوا، فليس هناك طريق يمكن أن يوصل الإنسان إلى الحق إلا الاستمساك بكتاب الله وبسنة رسوله فقط، وهذا في الواقع هو أصل الإيمان، وهو أيضاً أصل دعوة الرسل.

    فالله جل وعلا تعرف إلى عباده بما يذكره من أوصافه وأسمائه، وكذلك بأفعاله تعالى وتقدس، فالمؤمنون لا يعرفون الله جل وعلا إلا عن هذا الطريق، بالإضافة إلى الفطرة، ولكن هذه مشتركة بين الخلق كلهم، كل الخلق فطروا على معرفة الله جل وعلا، ولكن هذا لا يكفي؛ لأن هذا قد يتغير، فالفطرة يغيرها المعلم الذي يتولى تعليم الإنسان وتربيته، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)، أما إذا ترك ونفسه فإنه يكون قابلاً للحق بل طالباً له، ولا يكفي كونه قابلا له؛ لأنه مولود على الفطرة، بل لابد أن يكون طالباً له، فإذا جاء الوحي لا يمكن أن يرده؛ لأنه موافق لما في فطرته، ولكن التربية هي التي تغير هذا.

    فأقسام التوحيد هي هذه الثلاثة، وليس هناك قسم رابع، كما يقول بعض الناس: توحيد الحاكمية، وبعضهم يأتي بقسم خامس ويقول: توحيد المتابعة، فتكون أقسام التوحيد خمسة: توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية، وتوحيد العبادة، وتوحيد الحاكمية، وتوحيد المتابعة، فهذا لا معنى له؛ لأن توحيد المتابعة داخل في توحيد الإلهية، وتوحيد الحاكمية داخل في توحيد الربوبية، لأن الرب جل وعلا هو الذي يحكم بين خلقه، وهو الذي يشرع ويأمر وينهى عباده، فإذا انصرف الإنسان إلى شارع آخر ومحكم آخر فإنه أشرك في توحيد الربوبية، والشرك في توحيد الربوبية يستلزم الشرك في توحيد الإلهية.

    توحيد العلم والعقيدة

    المقصود أن أقسام التوحيد ثلاثة أو اثنان إن شئت:

    فالأول: توحيد في العلم والعقيدة، وتوحيد العلم والعقيدة هو الذي يتعلق بالرب جل وعلا، يتعلق بأسمائه وأوصافه وأفعاله تعالى وتقدس، فيجب على العبد أن يأخذ هذا العلم من كتاب الله جل وعلا ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد أكثر الله جل وعلا من ذكر ذلك في كتابه حتى يعرف عباده ما يستحق، ويقدرونه القدر الذي يستحق، كما قال الله جل وعلا: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر:67]، فذكر بعد قوله: (وما قدروا الله حق قدره) الأفعال التي ينفرد بها والتي تقتضي تعظيمه وتمييزه جل وعلا عن سائر الخلق.

    وكذلك قوله جل وعلا في قصة نوح: مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا [نوح:13-14]، وذكر أفعاله بعد هذا، كأنه يقول: إن هذه الأفعال تدعوكم إلى أن تعرفوا قدر الله، وتعظموه العظمة التي يستحقها فتبين بهذا أنه جل وعلا يتعرف إلى عباده بذكر أفعاله وأوصافه، وهذا كثير في القرآن جداً، وهذا هو الطريق إلى الاقتناع بالإيمان بالله جل وعلا، وهو الطريق إلى اليقين الحق الذي من وصل إليه أصبح راسخاً في العلم، وأصبح لا يقبل التشكيك ولا يقبل الارتياب مع توفيق الله جل وعلا، وإلا فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، يقلبها كيف يشاء، إن شاء ثبتها على الحق، وإن شاء أزاغها)، ولكن إذا عرف الإنسان ربه، وخضع وذل له، وعبده؛ فعادته جل وعلا التي جرت في عباده أنه يثبته بالقول الثابت حتى يلقاه.

    معنى توحيد الإلهية

    النوع الثاني -وإن شئت قلت: النوع الثالث- توحيد الإلهية وهذا الذي صارت فيه الخصومة بين الرسل وأممهم ؛ لأنه هو الذي أنكر، وهو الذي دخله الشرك؛ لأن أكثر الخلق اتخذوا وسائط وشفعاء يجعلونهم وسائط بينهم وبين ربهم، ويدعون هذه الوسائط لتقربهم إلى الله زلفى لتشفع لهم، ولا يوجد أحد من الخلق زعم أن صنماً من الأصنام أو معبوداً من المعبودات له شركة في خلق السموات والأرض والجبال والأشجار، أو له قدرة على الإحياء والإماتة، لا يوجد أحد اعتقد هذا أبداً، وإنما زعموا أنهم عباد مقربون، أو أنهم لا ذنوب لهم، وأنهم إذا دعوا الله استجاب لهم، واتخاذهم وسائط أقرب إلى الإجابة وأقرب إلى الطلب من دعاء الله جل وعلا، وأصل هذا بني على تشبيه الرب بالمخلوقين، وليس التشبيه الذي يقوله المتكلمون.

    والتشبيه ينقسم إلى قسمين:

    القسم الأول: تشبيه الخالق بالمخلوق وهذا كثر جداً في الأمم السابقة، ولا يزال إلى الآن كثيراً في الخلق، فيجعلون المخلوق هو الأصل والخالق فرعاً تعالى وتقدس، فوجه التشبيه هنا أنهم رءوا أن الملوك والكبراء والعظماء لا يطلبهم الإنسان حاجته منهم رأساً، فلابد أن يذهب إلى محبيهم وإلى وزرائهم وإلى المقربين لديهم ويسألهم أن يتوسطوا له عند الرئيس والملك حتى تقضى حاجته، ووجدوا هذا أنجع وأسرع في قضاء الحاجة، بخلاف ما إذا ذهب ودخل عليهم بنفسه أو طلب منهم بنفسه فإنه ربما لا يلتفت إليه، فقاسوا رب العالمين الذي هو بكل شيء عليم وعلى كل شيء رقيب وشاهد يسمع ولا يخفى عليه شيء قاسوه على المخلوقين، تعالى الله وتقدس، هذا هو أصل الشرك الذي حدث للأمم في هذا الباب.

    فاتخذوا الوسائط حسب اختلاف نزعاتهم واتجاهاتهم، فمنهم من يتخذ ملكاً من الملائكة إن كانوا ممن يؤمن بالملائكة، ومنهم من يتخذ جنياً، ومنهم من يتخذ نبياً، ومنهم من يتخذ رجلاً صالحاً، ومنهم من يتخذ شجرة أو حجراً أو غير ذلك، وكلها أصلها هذا، وكل رسول كان يأمر قومه أن يخلصوا الدعوة لله فقط، وألا يدعوا معه أحداً، ولا يكون هناك وسائط: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُه [الأعراف:59] هكذا كل رسول يقول هذه المقالة لأمته: (اعبدوا الله ما لكم من إله غيره)، والإله هو الذي يألهه القلب بالدعاء والخضوع والذل، فيدعوه ويذل له ويعظمه، فهذا يوجب أن يكون الدعاء لرب العالمين فقط، ولا يجوز أن يكون لأحد من الخلق، سواء أكان عاقلاً أم غير عاقل، حاضراً أم غائباً، فمن جعل لمخلوق من المخلوقات شيئاً من ذلك فقد وقع في الشرك الأكبر الذي كانت الرسل تحذر منه وتدعوا قومها إلى الابتعاد عنه وتركه.

    القسم الثاني من أقسام التشبيه: تشبيه أوصاف الرب جل وعلا بأوصاف المخلوقين، كأن يقول مثلاً: يد الله كأيدينا، وسمعه كأسماعنا، وبصره كأبصارنا، وكلامه ككلامنا، تعالى وتقدس، وهذا هو الذي يتكلم به المتكلمون، ويجعله العلماء كفراً يخرج الإنسان من الدين الإسلامي، وهو الذي كثرت فيه المؤلفات التي ألفت في هذا الباب، والأصل في هذا قوله جل وعلا: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وما أشبه ذلك من الآيات، ولا شك أن التشبيه من أبطل الباطل، والذين قالوا به قلة، وقد أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن أمته ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة، وليس من هذه الفرق طائفة تقول بهذا التشبيه، وإنما يوجد بعض الأفراد يقولون بذلك.

    ولكن سبب كثرة الكلام في هذا أن كل من قال مقالة واعتقد عقيدة فمن يخالفه في مقالته وفي عقيدته يرميه بالتشبيه، فيقول: أنت مشبه، فكثر الكلام بهذا السبب؛ ولهذا نجد في كتب المقالات وغيرها من الكتب أنهم يعينون أناساً من الأئمة، فيقولون: هناك طائفة يقال لها (المالكية) إمامهم مالك بن أنس مشبهة، وطائفة يقال لها: (الحنبلية) إمامهم أحمد بن حنبل مشبهة، وهكذا، ويجعلون الذي يأخذون الآثار ويعملون بها من أهل الحديث مشبهة.

    وهكذا إذا نظرنا إلى الطوائف نفسها، فمثلاً اتباع أبي الحسن الأشعري الذين يسمون الأشعرية، بينهم وبين المعتزلة عداء وخصام، فالمعتزلة يرمون الأشاعرة بالتشبيه؛ لأنهم أثبتوا لله بعض الصفات، والمعتزلة يرون أن من أثبت صفة من الصفات كالسمع والبصر والكلام والإرادة فهو مشبه، فإذا أثبتها قالوا: أنت مشبه، والأشاعرة يجعلون من المشبهة من يثبت النزول لله جل وعلا في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا، أو يثبت العلو لله على خلقه، وكونه مستوياً على عرشه، أو يثبت الضحك لله، وأن الله يفرح ويحب ويرضى ويسخط، فيجعلونه مشبهاً، ويسمونه مشبهاً، ويقولون: هذا مشبه، وهكذا كل طائفة من الطوائف ترمي الطائفة التي خالفتها بالتشبيه، فهذا سبب كثرة الرمي بالتشبيه، وهذا يكون له مقالات معينة في كتب المقالات، ويسمونها طائفة المشبهة، ولكن لو طلبت طائفة معينة لها إيمان تقول بهذا ولها كتب تدافع عن هذا، وتستدل به لم يوجد ذلك أبداً، فليس لهذا وجود، وإنما التشبيه على حسب اعتقاداتهم، وعلى حسب ما يرون أنه باطل، بخلاف القسم الأول فإنه كثير جداً، ولكن لا يسمونه تشبيهاً، وإلا فالذي يأتي إلى القبر ويسأله أن يمده بالنصر وبالإغاثة وبالرزق وبالعطاء وبالنجاة وأن يتوسط له عند الله هذا هو المشبه حقاً، فقد شبه صاحب القبر برب العالمين في دعوته، وفي الطلب منه، وفي طلب ما لا يقدر عليه إلا رب العالمين تعالى وتقدس.

    ولهذا السبب أخبرنا ربنا جل وعلا عن الذين سموا المعبودات التي يتجهون إليها (آلهة) أن هذا كذب وزور، وأنها مجرد أسماء وضعت على مسماها، فقال: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23] يعني: ليس لها من معنى الإلهية شيء أبداً، إنما هو كذب وزور، فوضعت هذه الأسماء من أجل الكذب والتزوير والاعتقاد الباطل، وهذا في الواقع يختلف باختلاف الدعوات والاتجاهات.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087501953

    عدد مرات الحفظ

    772704919