إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [5]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أنبياء الله تعالى دينهم واحد وإن اختلفت شرائعهم، فكل واحد منهم جاء بالدعوة إلى توحيد الله، والنهي عن الشرك، والأمر باجتناب الطاغوت، وهو كل ما تجاوز العبد به حده من معبود أو متبوع أو مطاع.
    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وقول الله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ].

    هذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36].

    (ولقد): الواو هنا واو القسم، واللام موطئة للقسم، فالله يقسم، وهل نحتاج إلى أن يقسم ربنا لنا؟ الله جل وعلا هو أصدق قيلاً، ولا يمكن أن يخبر عن شيء خلاف الواقع تعالى وتقدس، ولكن الإنسان ظلوم كفور، وظلوم جهول، لهذا تمادى كثير من الخلق بظلمه، فأقسم رب العالمين له: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً)، والبعث في الأصل: هو إثارة الشيء. يقول العرب: بعث فلان البعير. إذا أثاره من مبركه، ويقال: بعث الصيد. إذا أثاره من مكامنه. ويقال: بعثت فلاناً إلى فلان، أي: أرسلته برسالة إليه سواء أكانت الرسالة كلاماً أم غير ذلك، ومنه البعث الذي أخبر الله جل وعلا به: وأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [الحج:7] يعني: إخراج الموتى أحياءً بعدما كانوا رميماً، بل بعدما كانوا تراباً؛ لأن الإنسان إذا قبر وبقي شهوراً وسنيناً تبلى عظامه وتصبح تراباً، ويبقى منها جزء صغير جداً قد لا يرى بالعين يسمى (عجب الذنب)، جزء صغير جداً في أسفل ظهر الإنسان، منه ينبت الإنسان مثل البذرة التي تكون للشجرة، فلو أتيت إلى أرض هامدة في الصيف مثلاً، وبحثت بكل ما تستطيع أن تبحث عن بذور فيها فلن تجد شيئاً، ثم إذا نزل المطر يخرج النبات بكثرة، كذلك الإنسان يتفتت ويصبح تراباً كما أخبر الله جل وعلا أنه يعيدهم تراباً، وهو ما خلقوا منه، فإن أصل خلقنا من التراب، خُلِق أبونا آدم من تراب كما أخبر الله جل وعلا بذلك، ثم يعاد الإنسان إلى أصل خلقه التراب، إلا الرسل فقد حرم الله عز وجل على الأرض أن تأكل أجسادهم، فلا تبلى أجسادهم بل تبقى طرية كرامة لهم، ومع ذلك يموتون، فكل رسول مات، وما بقي أحد من الرسل، كلهم ماتوا وذهبوا إلى ربهم، ثم يبعثون كما يبعث غيرهم من الخلق، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة اليهودي الذي لطمه أحد الصحابة، كان يبيع سلعة في سوق المدينة، فجاء أحد الصحابة فقال: أشتريها بكذا، فقال: والذي فضل موسى على العالمين لقد أعطيت بها كذا وكذا، يعني: أكثر من هذا، عند ذلك غضب الصحابي وقال: تقول هذا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أيدينا؟ فلطمه، يعني: إنك تفضل موسى على نبينا، فجاء اليهودي يشتكي من الصحابي، فقال: يا رسول الله! إنه يقول كذا وكذا، عند ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تفضلوني على موسى؛ فإني يوم القيامة أكون أول من تنشق عنه الأرض، فأجد موسى قائماً قابضاً بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، وفي رواية في صحيح مسلم: (فيصعق الناس الصعقة الثانية، فأكون أول من ينفض التراب عن رأسه، فأجد أخي موسى قائماً بقائمة من قوائم العرش، فلا أدري أبعث قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟)، وصعقة الطور هي حينما سأل ربه النظر كما قال الله: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، فهذه صعقة الطور التي حصلت له لما تجلى الله جل وعلا للجبل، فتدكدك الجبل وصار دكاً، أي: صار هباء لرؤية الله جل وعلا، مع ذلك وقد تجلى الله تعالى قليلاً جداً جداً، حتى جاء عن بعض السلف أنه قال: مثل ثقب الإبرة. ولهذا ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي موسى الأشعري قال: (قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات)، وهكذا كانت عادته صلوات الله وسلامه عليه إذا تكلم لا يطيل الكلام، ويتكلم بكلام واضح جلي يحفظ عنه، يقول: (قام فينا بخمس كلمات)، يعني: قام يخطب بخمس كلمات، وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً صلوات الله وسلامه عليه حتى تحفظ، ولهذا حفظ الصحابة أحاديثه صلوات الله وسلامه عليه، يقول: (قام فينا بخمس كلمات، فقال: إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)، وبصره جل وعلا لا يمكن أن يحول دونه شيء، يبصر كل شيء، ولكن احتجب عن خلقه بالنور، حتى لا يذهب الخلق كله، وسبحات وجهه، أي: نور وجهه وجماله وبهاؤه. هذه سبحات وجهه، لو كشف الحجاب لزال كل شيء، وما يستطيع شيء أن يقوم لنور الله جل وعلا، وقد يقول قائل: إذاً كيف يراه الناس يوم القيامة؟

    نقول: الرؤية يوم القيامة غير هذه، رؤية يوم القيامة رؤية نعيم، إلا الرؤية في الموقف فإنها أمر آخر، وقد ثبت أن المؤمنين يرونه، ثم إن الخلق يركبون تركيباً لا يقبل الموت، يركبون بالبعث تركيباً لا تقبل الروح فيه مفارقة الجسد أبداً، يركبون للحياة الأبدية، ولهذا يدخل أهل النار النار ويصلونها دائماً ولا يموتون، ولا يوجد موت، وكذلك أهل الجنة لا يوجد عندهم موت مهما عظمت الكوارث، وأحوال القيامة ما أحد يستطيع أن يقوم لها في تركيب الخلق اليوم أبداً، فسيموتون في أول وهلة لو كانوا على هذه الصورة وهذه الحياة، كيف يقفون ألف سنة على أقدامهم؟ يستطيع الإنسان حينئذ ذلك وهو عار، فلا يوجد ثوب، ولا نعال، ولا أكل، ولا شرب، ألف سنة والشمس فوق رأسه ما تغيب عنه أبداً، ولا يجد إلا موطئ قدميه فقط، وليس هناك جلوس، قال تعالى: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6]، وهو يوم عسير على الكافرين، ولكننا ننسى هذا الشيء ولا نذكره، والواجب أن يهمنا كثيراً، والمقصود أن حياة الناس بعد البعث غير هذه الحياة، هي حياة أخرى، حياة لا تقبل الموت أبداً، فلو جاءه الموت من كل مكان لا يموت.

    يقول الله جل وعلا: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا [النحل:36] البعث هو الإثارة، ومعنى هذا: أن الله أرسل الرسل من الأمم إليهم، كل أمة بعث الله منها رسولاً يعرفونه، يعرفون نسبه، ويعرفون صدقه، ويعرفون أمانته، كل أمة يأتيهم رسول بهذه الصفة، فيعرفون لسانه، ويعرفون أمانته وصدقه؛ لأنه لا يبعث إلا خيار الخلق، وهو فضل الله يتفضل به على من يشاء، فيرسله إلى قومه.

    وقوله: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ [النحل:36]، كل رسول يقول لقومه هذه المقالة (اعبدوا الله)، كل رسول يقول هذا القول لأمته، فدل هذا على أن دين الله واحد وهو عبادة الله وحده، وأن الخلق خلقوا لهذا، وأنه لا يجوز للإنسان أن يعبد غير الله، وأن سبب شرك المشركين أنهم وزعوا العبادة بين الله تعالى وبين المعبودات الأخرى فحصل الشرك بذلك، وهذا لا يسمى عبادة، فلا تسمى العبادة عبادة إلا إذا كانت خالصة لله، والعبادة سبق تعريفها أنها اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، فالقول الذي يكون باللسان مثل التسبيح والتهليل والقراءة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هذا كله عبادة، وكذلك الأعمال التي تكون بالجوارح مثل الركوع والسجود والمشي إلى المساجد والجهاد والحج، ومنه أيضاً الأعمال التي تؤدى بالأيدي من الصدقات، وكذلك إنكار المنكر الذي يُتناول باليد، وكذلك إزالة المؤذيات عن الطرق، فهذه عبادة يثاب عليها الإنسان، وكذلك الأعمال الباطنة -أعمال القلب- مثل الخشية والخوف والرجاء والحب والإنابة وغير ذلك من أعمال القلوب، هذه كلها عبادة، فالعبادة تشمل كل ما أمر الله جل وعلا به، وأحب وجوده من الإنسان وأثاب عليه، وكذلك تشمل ترك كل ما نهى الله عنه، فإذا ترك الإنسان المعصية خوفاً من الله فهي عبادة، ولا يجوز أن يترك الإنسان شيئاً لأجل الإنسان؛ لأن هذا عبادة، ولا يجوز أن تكون العبادة لغير الله، كما أنه لا يجوز للإنسان أن يفعل شيئاً مما يطلب الثواب عليه من أجل الإنسان؛ لأنه عبادة، والعبادة لا تجوز أن تكون لغير الله، فالمقصود أن دين الرسل واحد، كلهم أمروا أممهم أن يعبدوا الله وحده.

    أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، والطاغوت مأخوذ من الطغيان، والطغيان: هو تجاوز الحد. والإنسان إذا تجاوز حده صار طاغوتاً، والحد هو الشيء الذي خلق له الإنسان، والإنسان خلق عبداً ليعبد الله، فإذا نصب الإنسان نفسه ليكون رباً صار طاغوتاً، فإن نصب نفسه ليكون معبوداً، أو نازع الله في حكمه وأصبح يحكم بغير ما أنزل الله صار طاغوتاً، فعن جابر بن عبد الله أنه قال: (الطاغوت الشيطان)، وفي رواية: (كهان ينزل عليهم الشياطين)، فالكاهن هو الذي ينزل عليه الشيطان، وجاء عن عمر رضي الله عنه أنه قال: (الطاغوت الشيطان)، وجاء عن مالك رضي الله عنه أنه قال: (كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت)، فكل المعبودات طواغيت إلا الذي يعبد وهو غير راضٍ، كالصالحين والأولياء والأنبياء، فبعضهم يعبدون ولكنهم لا يرضون بهذا، النصارى يعبدون عيسى، واليهود يعبدون عزيراً، فلا يسمى هؤلاء طواغيت، ولما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن الأصنام أنها وعابدوها في جهنم جاء رجل من الكفار وقال: أنا أخاصمك فأخصمك، قال له: ألم يعبد عيسى؟ ألم يعبد عزير؟

    فإذاً يكونون في النار، فأنزل الله جل وعلا: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ [الأنبياء:98]، إلى أن قال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ [الأنبياء:101-102]، فالذين سبقت لهم من الله الحسنى مثل الأنبياء والمؤمنين والأولياء لا يكونون داخلين في هذا، وقد جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في حديث الشفاعة: (يأتي الله جل وعلا يوم القيامة ثم ينادي عباده فيقول جل وعلا: إني أستمع لكم منذ خلقتكم فاستمعوا لي. ثم يقول جل وعلا: أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟ فكلهم يقولون: بلى يا رب. فيمثل لكل عابد معبوده في الدنيا)، فالذي يعبد الشمس تمثل له الشمس، والذي يعبد الصنم يأتيه ذلك الصنم، أما الذي كان يعبد عيسى أو يعبد أي نبي أو يعبد ولياً، فيمثل له شيطان بصورته، فيقال: اتبعوهم. فيتبعونهم إلى جهنم كلهم، فيبقى المؤمنون وفيهم المنافقون، فيأتيهم الله جل وعلا ويقول: علام جلوسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: ننتظر ربنا..إلى آخره.

    والمقصود أن الله يولي الإنسان ما كان يتولاه في الدنيا من معبوداته، فهذا يدلنا على أن العبادة يجب أن تكون لله وحده، وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وأن كل معبود من دون الله إذا كان حجراً أو شجراً أو صنماً أو غير ذلك فهو طاغوت، أما إذا كان قبراً فإن كان من أولياء الله يستثنى؛ لأنه عبد وهو غير راض؛ لأن أولياء الله لا يرضون بالعبادة، وقول الإمام مالك : (الطاغوت ما عبد من دون الله) واضح وحق، ويقول ابن القيم في تعريف الطاغوت: الطاغوت كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع. فجعل الطاغوت ثلاثة أنواع: ما يعبد من دون الله، وما يتبع على الضلال، وما يطاع في المعاصي، فكل من يأمر بالمعصية فيطاع فهو طاغوت، وكل من يتبع على جهل وضلال فهو طاغوت، وكل من يعبد من دون الله وهو راضٍ فهو طاغوت، ويقول: فهذه طواغيت العالم، وإذا تأملتها فهي كثيرة في الناس، فكل ما صد عن حكم الله فهو طاغوت، وكل ما صد عن عبادة الله فهو طاغوت.

    وبهذا يتبين لنا معنى الطاغوت، فهو ما صد عن عبادة الله أو ما عبد من دون الله، وقد بين ربنا جل وعلا أن الكفر بالطاغوت فرض على كل مسلم، كما قال الله جل وعلا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [البقرة:256]، فبدأ بالكفر بالطاغوت قبل الإيمان، ولا يمكن أن يستقيم إيمان إلا بالكفر بالطاغوت؛ لأن الإسلام مبني على نفي وإثبات، نفي الإلهية عن غير الله وإثباتها لله، ومن نازع الله جل وعلا في شيء من ذلك فإنه يكفر، والكفر بالطاغوت التبرؤ منه وبغضه وإظهار عداوته، فيتبرأ منه ويبغضه ويعاديه ويصبح عدواً له، وإلا فلا يكون كافراً به، كما قال الله جل وعلا: لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، وبهذا يتبين لنا معنى الآية.

    معنى الطاغوت

    قال الشارح رحمة الله عليه: [ الطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (الطاغوت الشيطان)، وقال جابر رضي الله عنه: (الطاغوت كهان كانت تنزل عليهم الشياطين)، رواهما ابن أبي حاتم ، وقال مالك: (الطاغوت كلما عبد من دون الله).

    قلت: وذلك المذكور بعض أفراده، وقد حده العلامة ابن القيم حداً جامعاً، فقال: الطاغوت: كل ما تجاوز به العبد حده من معبود أو متبوع أو مطاع. فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله، أو يتبعونه على غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها وتأملت أحوال الناس معها رأيت أكثرهم أعرض عن عبادة الله تعالى إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طاعة الطاغوت ومتابعته ].

    في هذا الكلام الذي ذكره ابن القيم رحمه الله بيان الطاغوت وحده، يقول: كل ما خرج عن طوره وعن المعنى الذي خلق له يكون طاغوتاً أو يكون عابداً للطاغوت. وذلك أن الله جل وعلا خلق العباد لعبادته، وحرم عليهم غير هذا، فحرم كل ما صد عن العبادة، وكل إنسان عبد غير الله فقد أشرك، ويكون العابد لغير الله عابداً للطاغوت، وبين أن هذا يكون في العبادة، ويكون في الطاعة، ويكون في الاتباع، ولا يخرج الإنسان عنها.

    والعبادة في الواقع ليست هي السجود والركوع في الصلاة وما أشبه ذلك، العبادة هي عبادة القلب، أن يتعبد القلب لشيء، فعبودية القلب يجب أن تكون لله وحده، ومن أجل هذا حرم الله على عبده أن يسأل المخلوق؛ لأن في المسألة ميل للقلب، ومودة لمن أعطى وبذل، ويصبح يحبه القلب ويتعلق به، والله أراد من عبده أن يكون قلبه كله له، وأن يكون حراً، وأن يكون مع الناس الآخرين مثلهم لا يتعبد قلبه لهم، فإذا أنعم أحد عليه بنعمة يقابلها بمثلها أو بأحسن منها، فإذا أحد أعطاه شيئاً يبذل له مثله أو أحسن منه حتى يكون قلبه سالماً لله جل وعلا سليماً من التعبد لغيره، وسبق أن المسألة من المحرمات التي تباح في موطن الضرورة، فالضرورة تبيح المحرمات كما هو معلوم، أما إذا لم يضطر الإنسان فيجب أن يكون عبداً لله، لا يتعبد قلبه لغير الله جل وعلا، وهذا من ناحية عبودية القلب.

    وكذلك الجوارح، كونه يخضع في ظاهره لغير الله جل وعلا، وإن كان قد يكون هذا تستراً وتقية، وإلا فالقلب يبغض هذا المخضوع له، بل قد يلعنه؛ لأنه إما أن يكون ظالماً يقهره بذلك ويذله، فهذا لا يكون عبادة؛ لأن العبادة لابد أن يجتمع فيها التعظيم والذل والحب، وإذا لم يجتمع فيمن يعبد الذل والخضوع والتعظيم مع المحبة لا يكون عابداً، ولكن كون الإنسان يصد عن عبادة الله ويعرض عنها نهائياً، ويشتغل في غيرها فهذا من الإعراض ومن عدم الاهتمام بعبادة الله جل وعلا، والله خلق عباده ليعبدوه، ولهذا أخبر الله جل وعلا عن الذين يعرضون عن آياته أنهم من أهل النار، نسأل الله العافية، والعلماء يذكرون من نواقض الإسلام أن الإنسان إذا لم يهتم بدينه ولم يرفع به رأساً يكون مرتداً وإن كان مع المسلمين، فلابد أن يهتم بدينه ويهمه مصيره وما خلقه الله له، ويسأل عن ذلك، ويؤدي الواجب عليه، فلابد من الالتزام، والالتزام شرط في صحة الإسلام، كونه يلتزم بالإسلام، ويلتزم بمعنى (لا إله إلا الله)، فيشهد أن لا إله إلا الله ويلتزم بذلك، وإلا فلا يفيده مجرد انتسابه، ومجرد كونه عاش في بلد مسلم وبين مسلمين إذا كان معرضاً عن عبادة الله.

    ومن الطواغيت من جاوز حده في الاتباع، وكون الإنسان يتبع في دينه شخصاً بعينه في أمور دنياه، لا يدخل في ذلك، بل ذلك في أمر الدين فقط، أما أمور الدنيا فللإنسان أن يفعل كل ما فيه صلاح دنياه إذا لم يكن ذلك محرماً، وهذا مباح له، ولكن كونه في أمر دينه يتبع شخصاً بعينه، فيجعل أقواله هي التي يجب أن يأخذ بها ولو جاءت النصوص من كتاب الله ومن أحاديث رسوله لم ينظر إليها، فيقول: هذا الشخص أعلم بها مني ومن الآخرين. فهذا الذي يخشى عليه؛ لأنه في الواقع جعل هذا الشخص في منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا طاغوت؛ لأنه اتبعه في الدين بلا دليل، وليس الكلام في الذين لا يعرفون الأدلة، الكلام فيمن يعرف الدليل، أما العامي الذي لا يعرف دليلاً، ولا يعرف معاني الآيات ومعاني الأحاديث فهذا فرضه وواجبه أن يسأل من يثق به من أهل العلم؛ لأن الله جل وعلا يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فهذا الذي يستطيع أن يفعله، ولو استطاع أن يتعلم لوجب عليه ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087501871

    عدد مرات الحفظ

    772704423