إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [8]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ما حصل بين الأنبياء وأممهم من الخلاف والخصومة إنما كان على التوحيد، فهم صلوات الله وسلامه عليهم بعثوا لتقرير التوحيد ونفي الشرك، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث دعاته يأمرهم أن يبدءوا بالدعوة إلى التوحيد أولاً، ثم إلى بقية فرائض الدين بعد ذلك.
    قال المصنف رحمه الله: [ وعن معاذ بن جبل قال: (كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار فقال لي: يا معاذ ! أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً، قلت: يا رسول الله! أفلا أبشر الناس؟ قال: لا تبشرهم فيتكلوا) أخرجاه في الصحيحين ].

    قال الشارح: [ معاذ بن جبل رضي الله عنه من علماء الصحابة وأفاضلهم وأكابرهم، ومن السابقين إلى الإسلام، وهو أنصاري من الخزرج، وجاء في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له: (يا معاذ ! والله! إني لأحبك؛ فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن معاذاً يحشر أمام العلماء برتوة)، والرتوة: إما أن تكون المكان المرتفع، أو أن يكون أمامهم بمسافة لفضله؛ لأنه جاء أنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وهذا أفضل العلم.

    وهو الذي بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته نائبا عنه في الدعوة والتبليغ والحكم والقضاء إلى اليمن، وقال له لما بعثه: (لعلك لا تراني بعد اليوم)؛ لأنه بعثه في السنة العاشرة للهجرة، فصار يبكي فقال: (لا تبك)، ثم ذهب وبقي في اليمن حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عاد في خلافة أبي بكر ، وذهب للقتال في الشام، ومات في الشام ].

    سبق أن معاذاً رضي الله عنه كان من أكابر صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمائهم، وأنه أرسله الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اليمن في آخر حياته داعياً ومبلغاً عنه حاكماً، ثم إنه بقي في اليمن حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء في خلافة أبي بكر الصديق ، ثم ذهب لقتال الروم فتوفي في الشام رضي الله عنه.

    وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: (والله! إني لأحبك؛ فلا تدعنَ دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)، وجاء أنه صلى الله عليه وسلم قال: (معاذ يحشر أمام العلماء يوم القيامة برتوة)، يعني: بمرتفع أو بمسافة أمامهم، لما اختص به من علم الحلال والحرام، وهو ممن شهد بدراً وما بعدها من مشاهد الإسلام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى غير ذلك مما جاء في فضله رضوان الله عليه.

    وقوله هنا: (أتدري ما حق الله على العباد؟)، هذا سؤال من النبي صلى الله عليه وسلم وجهه إليه، وهذه طريقة كان صلوات الله وسلامه عليه كثيراً ما يخرج العلم بها؛ ليكون أدعى إلى قبوله والتنبه له؛ لأن الإنسان إذا سئل وهو لا يدري فإن نفسه تتطلع إلى قبول الجواب، ثم يكون متشوفاً له ومتشوقاً إليه، فيقبله أكثر، ويعلمه أكثر مما لو ألقي عليه إلقاءً، وهذا من حسن تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحسن تبليغه وطريقته في إيصال العلم إلى صحابته.

    والدراية هي: المعرفة، فقوله: (أتدري؟) يعني: تعرف ما هو الحق الذي أوجبه الله على عباده؟ ثم إن قول معاذ رضي الله عنه: (الله ورسوله أعلم)، يدل على حسن الأدب من المتعلم، فإذا كان المتعلم لا يعلم ما سئل عنه فليكل علمه إلى عالمه، ولهذا قال: (الله ورسوله أعلم).

    وهذا لا يلزم منه أن معاذاً رضي الله عنه كان يجهل حق الله على عباده الذي هو التوحيد، ولكن المقام مقام تنزل الوحي، والرسول صلى الله عليه وسلم ينزل إليه من الله ما يشاء الله جل وعلا أن يجعله حقاً زائداً على الحق الذي يعلمه معاذ ، فلهذا قال: (الله ورسوله أعلم).

    وقوله في الجواب: (حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً)، هذا هو الحق الذي خلق الله جل وعلا الخلق له من الجن والإنس ليقوموا به ويلتزموه، وهو عبادته وحده وعدم الشرك. والعبادة مأخوذة من الذل والخضوع، فهي غاية الحب في غاية الذل والخضوع، وإذا كان العبد محباً الحب الذي هو الغاية وذالاً فهذه هي العبادة، فإنه لابد أن يفعل ما أمره به محبوبه ويمتثله ويجتنب ما نهاه عنه، مستلزماً فعل الأمر وترك المنهي عنه.

    وسبق أن العبادة في الشرع هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فتشمل أفعال القلب وأفعال الجوارح، وكذلك فعل اللسان.

    وفعل الجوارح مثل: الصلاة والقيام والركوع والسجود، والبذل مثل الصدقة، وإزالة الأذى عن طرق المسلمين، وما أشبه ذلك.

    والأقوال مثل: قراءة القرآن والذكر والدعاء، وفعل القلب مثل: خشية القلب وخوفه وحبه وما أشبه ذلك.

    فكل فعل يتقرب به الإنسان جاءه عن طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عبادة، وكل فعل أمر الله جل وعلا به وحث عليه فإن فعله عبادة، وكذلك كل شيء أمر الله جل وعلا أن يترك ويجتنب فتركه واجتنابه خوفاً من الله عبادة، فصارت العبادة هي فعل الجوارح من الأيدي والجسد كله، ويشمل ذلك فعل اللسان من الأقوال: كالذكر والقراءة، وكذلك فعل القلب: من الإرادات والنيات والخوف والخشية وما أشبه ذلك، كل هذا داخل في العبادة.

    فقوله: (يعبدوه) أي: يعبدونه بهذه الأفعال ويوحدونه، والعبادة مبنية على التذلل مع الحب والرجاء، فيعبد ربه ذالاً خاضعاً، ويرجو أن يثيبه على ذلك، والإسلام كله يدخل في العبادة، وهذا حق لازم يسأل عنه الإنسان إذا فرط فيه أو قصر فيه أو ترك منه شيئاً، فهذه هي العبادة التي أوجبها على عباده، ولهذا سماها الحق، والحق في اللغة هو: الشيء الذي يستقر ويثبت، ولهذا يقال: حق في المكان إذا استقر فيه وثبت، فهو أمر ثابت على العباد لله جل وعلا، يسألهم جل وعلا عنه إن تركوه أو فرطوا به.

    ثم قال: (وحق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، وقال في حق الله: (أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً) k فبين أن العبادة تقتضي ترك الشرك، وأنها تكون فعلاً وتركاً، يعني: فعلاً للتوحيد وتركاً لضده، فإذا لم تكن كذلك فإنها غير معتبرة، ولا تكون عبادة شرعية، فالعبادة الشرعية لابد أن تكون فعلاً وتركاً، فيكون التعبد والتذلل لله بفعل أوامره، وكذلك بترك ما نهى الله عنه، وأعظم ما أمر الله جل وعلا به هو التوحيد، وأعظم ما نهى عنه هو الشرك.

    والشرك هو: أن يشرك في العبادة التي أمر أن تكون له، وأن يجعل معه فيها غيره، واقتصر على هذا لأن هذا في ضمنه.

    ويجب الإقرار للرسول صلى الله عليه وسلم بالرسالة، والالتزام بكل ما جاء به التزاماً تاماً، من فعل الصلوات وأداء الزكاة والصوم والحج وغير ذلك، فإنه إذا عبد وذل وخضع فلابد أن يفعل المأمور ويترك المنهي عنه ويجتنبه.

    معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)

    ثم قوله: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، كلمة (شيئاً) هنا نكرة تعم كل ما يدخل تحت هذا الاسم، فإن وقع منه شيء من الشرك وإن كان صغيراً فإنه لم يأت بهذا الشرط، ويجوز أن يعذب؛ لأنه لم يأت بما شرط عليه.

    وقد اختلف العلماء في قوله صلى الله عليه وسلم: (وحق العباد على الله ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، ما المقصود بالحق للعباد على الله؟

    فقال قوم: إن للعباد على الله حقاً مستحقاً على سبيل القياس بحقوق العباد، وهذا قول طائفة ضالة وهم المعتزلة، فقاسوا الله جل وعلا على خلقه، ولهذا يقول العلماء: إنهم مشبهة الأفعال ونفاة الصفات، أي: يعطلون صفات الرب جل وعلا ويشبهون أفعال الرب جل وعلا بأفعال خلقه، فيجعلون للعابد أجراً يطلبه من الله، كما أن من عمل عملاً لإنسان فإنه يستحق عليه أجراً، وهذا خطأ محض؛فإن الله جل وعلا لا يحق عليه أحد شيئاً، فهو المالك لكل شيء، وهو الخالق لكل شيء.

    وقال فريق آخر: إنه ليس للعباد على الله حق يطلب، وإنما ذلك مجرد وعد فقط، فـ(حقه) يعني: تحقق موعوده. أي أن وعده حق، وما وعد به سيقع، فقد وعد أهل الخير بالإثابة ووعد أهل الشر والشرك بالعقاب، فهذا معنى الحق عندهم، وهذا أيضاً ليس صحيحاً.

    والصواب هو القول الثالث: أن للعباد على الله حق أحقه هو على نفسه جل وعلا، ولم يلزمه إياه أحد من الخلق، بل هو رحمة منه وفضل وإحسان، كما كتب على نفسه الرحمة، ولهذا يقول جل وعلا: وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم:47]، ولا يوجد أحد حقه عليه، ويقول جل وعلا: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ [الأنعام:54].

    فالحق الذي جعله للعباد: أن يثيب الطائع الإثابة التي يستحقها، ولهذا قال: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً)، هذا هو الحق الذي أحقه الله جل وعلا على نفسه.

    وقد حرم جل وعلا على نفسه الظلم، كما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي ذر الحديث القدسي الطويل، وفيه أنه قال جل وعلا: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، فهو الذي حرم ذلك على نفسه، وهو الذي أحق الحق لعباده المؤمنين على نفسه، لم يحقه عليه أحد من الخلق، فقوله: (ألا يعذب من لا يشرك به شيئاً) أي: من مات وهو غير مشرك بالله جل وعلا شيئاً، وكلمة (شيئاً) قلنا: يدخل فيها الشرك الأكبر والشرك الأصغر، فإنه لا يمسه شيء من العذاب، وهذا خبر مطلق في جميع أنواع العذاب، لا عذاب الدنيا ولا عذاب القبر ولا عذاب الآخرة.

    فإنه من سلم من الشرك كبيره وصغيره فإنه يكون من السابقين إلى الجنة، الذين يدخلون الجنة بغير حساب، كما سيأتي بيان ذلك؛ لأن (شيئاً) نكرة عامة يدخل فيها كل ما يسمى شركاً في الشرع.

    أما الشرك الأكبر فقد عُلم أنه ليس مع صاحبه أمن ولا اهتداء مطلق، فإذا مات عليه فهو من الخالدين في النار، كما قال جل وعلا: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا [النساء:116]، ويقول جل وعلا في الآية الأخرى في قصة عيسى عليه السلام لما نهى بني إسرائيل عن الشرك: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ [المائدة:72]، فأخبر جل وعلا أن الجنة محرمة على المشرك، وأنه ليس له مصير إلا النار، والشرك الأكبر هو: أن يعبد مع الله غيره، والعبادة أنواع متعددة، فأي عبادة جعلها لغير الله أو جعل العبادة بين الله وبين عباده فإنه يكون واقعاً في الشرك، وقد علم أن شرك المشركين ليس معناه أنهم كانوا يعتقدون أن أصنامهم شريكة لله في التدبير والخلق والإيجاد والتصرف، وإنما كانت عقيدتهم أن أصنامهم ومعبوداتهم من اللات والعزى ومناة وغيرها من الأصنام التي يتجهون إليها كان شركهم أن يجعلوها وسائط بينهم وبين الله يتقربون بها إلى الله، فيدعون الله بواسطتها، ويسألونها أن تشفع لهم عند الله، كما قال الله جل وعلا عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3]، ولهذا أخبر الله جل وعلا عنهم أنهم إذا سئلوا: من الذي خلقهم وخلق من قبلهم؟ ومن الذي خلق السموات والأرض؟ ومن الذي ينزل من السماء ماء فيحيي به الأرض وينبت لهم النبات الذي يأكلون منه وتأكل منه أنعامهم؟ إذا سئلوا عن ذلك قالوا: الله. أي: الله وحده ليس معه شريك، ولهذا جعل الله جل وعلا ذلك حجة عليهم بأن يخلصوا العبادة له ما داموا يقرون بأنه المتصرف في هذه الأشياء وحده، المنفرد بإيجادها والتصرف بها وحده.

    قال الله جل وعلا: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22] أي: يعلمون أن الله هو الذي يفعل هذه الأشياء المذكورة. يعني: هو الذي خلقهم وخلق من قبلهم وحده، وهو الذي جعل الأرض مستقرة فراشاً لهم يتمكنون من الانتفاع بها والاستقرار عليها، وهو الذي جعل السماء بناءً فوقهم، وهو الذي ينزل من السماء المطر فينبت به النبات وحده لا شريك له في ذلك، ولهذا قال: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] لأنه المتفرد بفعل ما ذكر، فإذا كان كذلك فلا يجوز أن تتجهوا إلى غيره في الدعاء والتوسل وطلب الشفاعة، فهذه المذكورات التي تجعلونها وسائط بينكم وبين الله لا تستطيع أن تشفع لكم.

    فهذا في الواقع هو شرك المشركين، يقول جل وعلا في الآية الأخرى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، وقال جل وعلا: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [الزخرف:87]، وقال جل وعلا عنهم: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ [النمل:62]، والجواب: أنهم يقولون: هو الله وحده، فلا يوجد أحد يجيب المضطر غيره لا الأصنام التي يتجهون إليها ولا غيرها، بل كانوا إذا وقعوا في الشدائد أخلصوا الدعاء لله وحده، وتركوا ما كانوا يشركون به، فهذا هو شركهم الذي إذا ماتوا عليه صاروا خالدين في النار، وإلا فهم يعلمون أن الله جل وعلا ليس معه شريك يدبر ويخلق ويوجد ويعدم ويحيي ويميت، يعلمون هذا، وهذا أمر مقطوع لا شك فيه، فالقرآن واضح جداً في هذا، وآياته كثيرة فيه.

    وإن من المتعين على العبد المسلم أن يتعرف على ما كان المشركون يفعلونه خوفاً من أن يقع في فعلهم وهو لا يشعر؛ لأن الذي لا يعرف الشر لا يعرف الخير، كما جاء في الحديث عن حذيفة رضي الله عنه قال: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه)، فالذي لا يعرف الشر يوشك أن يقع فيه وهو لا يدري، ويظن أنه خير.

    وهذا في الشرك الأكبر، أما الشرك الأصغر فهو بحر لا ساحل له، ولكثرته وكونه غير منضبط بضابط يحدده بالعمل المعين جُعل تعريفه بالأمثلة، فهو كيسير الرياء، وكالحلف بغير الله، كأن يحلف -مثلاً- بالنبي، أو بالكعبة، أو بالأمانة، أو بالشرف، أو ما أشبه ذلك، وربما صار من الشرك الأكبر حسب ما يقوم في نية الحالف وقصده وإرادته، فإذا حلف بمخلوق من المخلوقات يعتقد أن هذا المخلوق يستطيع أن يطلع على ما في قلبه ويعاقبه إذا كان كاذباً فإن هذا من الشرك الأكبر وليس من الأصغر، أما إذا كان أمراً جرى على لسانه فهذا من الشرك الأصغر، والشرك الأصغر لا يجعل المسلم كافراً، ولكنه ذنب يستحق العقاب عليه من الله إذا لم يعف عنه، وكذلك يسير الرياء في العمل، والرياء معناه: أن يعمل عملا لله جل وعلا ثم يقصد بعمله أن يراه الناس فيثنون عليه أو يحبونه، فيزين العمل من أجل ذلك أو يحسنه أو يطيله. فإذا كان هذا الشيء الذي بعثه على العمل هو الرياء فهذا لا يكون شركاً أصغر؛ لأن هذا صفة المنافقين والكفار، كما قال الله جل وعلا عن المنافقين: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء:142]، وكذلك قال عن الكفار، وأخبر أنهم خرجوا من ديارهم بطراً ومراءاة للناس في أعمالهم.

    ولكن إذا عرض هذا الشيء في أثناء العمل، فهذا لا يخلو إما أن الإنسان يستدعي ذلك ويستمر معه فهذا يكون شركاً محبطاً للعمل الذي قارنه، أو أنه يدافعه ويعرض عنه فإنه لا يضره، فملاحظة الناس وقصدهم وجلب أنظارهم إلى العمل وتحسينه من أجلهم يكون شركاً، ولكنه من الشرك الأصغر وليس من الشرك الأكبر، وهذا إذا كان يسيراً قليلاً أما إذا كان كثيراً فلا. وكذلك قول الإنسان: لولا الله وفلان. أعني: كونه يضيف الأفعال إلى أسبابها، فإنه يكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أن الفاعل هو الله، وإنما ذلك مجرد سبب، وكذلك كون الإنسان يبخل بالحق حباً للمال، فإن حبه للمال وبخله بالحق الذي وجب عليه يجعله مقدماً حبه المال على حبه لله جل وعلا ولفعل طاعته، فيكون بذلك داخلاً في الشرك الأصغر، وهذا كثير جداً، ولهذا قال: (ألا يشرك به شيئا) أي: فإنه لا يعذر من يشرك به شيئاً، فإذا سلم الإنسان من الشرك قليله وكثيره كبيره وصغيره فإنه يكون سالماً من عذاب الله مطلقاً، ولا يناله عذاب في الدنيا ولا بعد الموت، ولا في القبر ولا بعد البعث، وهو الذي يكون سعيداً سعادة تامة وكاملة، ويكون مهتدياً هدىً تاماً وكاملاً، فصار الأمر كله في ترك الشرك وفعل التوحيد لله جل وعلا، وهو الذي جعل أصحابه ممن اصطفاهم الله جل وعلا من عباده، فعلى هذا يكون الحق الذي أوجبه الله جل وعلا على نفسه هو أن يثيب الطائع ويجزيه بطاعته، وليس معنى ذلك أن الطاعة ثمن للإثابة، وليست ثمناً للجنة، فقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لن يدخل أحدا منكم عمله الجنة. قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه)، وجاء هذا في صحيح البخاري من حديث عائشة وغيرها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لن يدخل أحداً منكم الجنة عمله)، فالجنة ليست ثمناً للعمل، وإنما هي فضل من الله جل وعلا، ولو أن الله جل وعلا عاقب وحاسب الإنسان على ما أعطاه من النعم والفضل ما قامت عبادته بنعمة واحدة، كنعمة البصر ونعمة السمع ونعمة سلامة الأعضاء وصحة البدن، ونعم الله لا حصر لها، فقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر عن رجل فيمن كان قبلنا أنه عبد الله جل وعلا في جزيرة في البحر سبعين سنة، وأن الله أخرج له شجرة رمان تخرج كل يوم له حدقة يأكلها، وأجرى له عيناً من البحر يشرب منها، وليس له عمل إلا هذا فقط، يأكل هذه الرمانة ويشرب من الماء ويعبد ربه، وسأل الله جل وعلا أن يقبضه ساجداً فقبضه ساجداً، وبعدما مات بقي ساجداً، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا صار يوم القيامة وجيء به بين يدي الله، يقول الله جل وعلا لملائكته: ادخلوا عبدي الجنة برحمتي، فيقول هذا العبد مدلاً بعمله: لا يا رب! بعملي، فيقول الله جل وعلا: حاسبوه، فيحاسب، فإذا نعمة واحدة من النعم قد أتت على عبادة سبعين سنة، فيقول الله جل وعلا: اذهبوا به إلى النار، فيصيح: يا رب! أدخلني الجنة برحمتك، فيقول الله جل وعلا: ردوه، فيسأله: من الذي خلقك ولم تكن شيئاً؟ أليس هو الله؟ من الذي جعل لك السمع والبصر والفؤاد؟ من الذي جعل لك الأيدي والأرجل؟ من الذي استخرج لك عيناً عذبة من الماء الملح؟ من الذي أنبت لك كل يوم حدقة من الشجرة وهي لا تخرج في السنة إلا مرة واحدة؟).

    فليست الأمور إلا برحمة الله جل وعلا، ولكن العمل سبب لدخول الجنة وليس جزاءً، وإنما هو سبب، والله أرحم الراحمين، فإذا حسنت نية الإنسان وصار عمله على وفق السنة فإن الله يعفو عن الكثير، وله الفضل والمنة.

    ثم إنه معلوم أن الله جل وعلا لم يخلق الخلق لحاجته إليهم، ولا للتكثر بهم من قلة، ولا للتعزز بهم من ذلة، وإنما خلقهم لحكمة يريدها، خلقهم لعبادته، ثم إنه جل وعلا لم يحرم عليهم ما حرم بخلاً عليهم، وإنما مصلحة لهم، فكل أمر يأمرهم الله جل وعلا به لمصلحتهم، وكل عبادة يتعبدون بها هي لهم، والله جل وعلا لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين، كما جاء في الحديث الذي يقول الله جل وعلا فيه: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم كانوا على أتقى رجل واحد ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ورطبكم ويابسكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل في البحر)، ثم قال في آخره: (إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)، فالله غني عن طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين وكفر الكافرين، وإنما الفاسق والكافر والعاصي يضر نفسه، ولن يضر الله جل وعلا شيئاً، وسوف يكون مرجعه إلى الله فيجزيه بما يستحق، كما قال الله جل وعلا: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93] أي: كلهم يأتيه ذليلاً خاضعاً ليس له ناصر ولا شافع ولا معين. فالواجب على العبد أن يعلم أن ربه جل وعلا أكرم الأكرمين، وأنه أمره بالطاعة لمصلحته -أي: لمصلحة العبد- وأنه كذلك حرم عليه ما حرم لمصلحته -مصلحة العبد- فيجب أن يطيع ربه ويتبع أمره ويجتنب نهيه، فالله جل وعلا كريم جواد، يقبل القليل ويعفو عن الكثير؛ ولهذا جعل جزاء السيئة سيئة واحدة وجزاء الحسنة عشر أمثالها، مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا [الأنعام:160]، أما السيئة فقال: فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160]، وهذا من كرم الله وجوده وعدله، والله كريم جواد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087501953

    عدد مرات الحفظ

    772704921