إسلام ويب

سلطان العلماءللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • العز بن عبد السلام شخصية بارزة على مر التاريخ الإسلامي، نال شهرته لأنه رجل لا تأخذه في الله لومة لائم، ينكر المنكر علانية وسراً على الملوك والأمراء، أحبه العامة وهابه الخاصة، ترأس عدة مناصب فكان أكبر منها، لا يداهن ولا يحابي أحداً، أخلص عمله لله فأعانه الله ووقاه، كان رحمه الله متصفاً بصفات شخصية، أنكر المنكر بلسانه ويده، وفي هذا الدرس سرد للمواقف البطولية له بغرض الاقتداء والعبرة لا لتسلية وإطراب الآذان السامعة، تأمل ثم تفكر وتشبه فإن التشبيه بالكرام فلاح.
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    أيها الإخوة: هذا هو الدرس الثالث والعشرون، في ليلة الإثنين السادس والعشرين، من شهر ربيع الأول لعام (1411هـ) وعنوان هذا الدرس هو: (سلطان العلماء).

    لا تنتظروا مني -أيها الإخوة- أن أتحدث لكم عن تفصيلات عن حياة العز بن عبد السلام، أنه ولد في عام (577هـ) أو توفي في عام (660هـ) أو عاش في الشام، أو مات في مصر.

    فإن هذه التفاصيل محلها كتب التراجم والتاريخ وهي لا تعنينا في كثير ولا قليل، فضلاً عن أن هذه المعلومات متوفرة بشكل واضح في مصادر ترجمة الإمام العز بن عبد السلام، ككتب طبقات الشافعية للسبكي، والأسنوي وابن قاضي شهبة، وبعض الرسائل الجامعية التي قدمت عن حياة هذا العالم الجليل.

    والتي كتبها مجموعة من الباحثين كـعبد العظيم فوده، والدكتور عبد الله الوهيبي، وعلي الفقير، وسيد رضوان الندوي، وغيرهم.

    إذاً: ليست مهمتي في هذه الجلسة أن أتحدث لكم عن ترجمة العز بن عبد السلام الملقب بـسلطان العلماء، كلا، وإنما أريد أن أقف عند جوانب ووقفات مهمة في حياة هذا الرجل، وقد تتساءلون: لماذا أتحدث عن ترجمة هذا الإمام؟

    فأقول: إن التاريخ يعيد نفسه، فأحداث الأمس هي نفسها أحداث اليوم، والمواقف المنتظرة من رجال اليوم، هي المواقف التي كان يفعلها رجال الأمس، والأمة تمر بها أزمات متكررة في عصورها تحتاج فيها إلى أن ترجع إلى ماضيها وتعيد النظر فيه.

    إني تذكرت والذكرى مؤرقة     مجداً تليداً بأيدينا أضعناه

    أنّى اتجهت إلى الإسلام في بلدٍ     تجده كالطير مقصوصاً جناحاه

    كم صرفتنا يدٌ كنا نصرفها     وبات يملكنا شعبٌ ملكناه

    بالله سل خلف بحر الروم عن عرب     بالأمس كانوا هنا واليوم قد تاهوا

    وإن تراءت لك الحمراء عن كثبٍ     فساءل الصرح أين العز والجاه؟!

    وانـزل دمشق وسائل صخر مسجدها     عمن بناه لعل الصخر ينعاه

    هذي معالم خرسٌ كل واحدة     منهن قامت خطيباً فاغراً فاه

    الله يعلم ما قلبت سيرتهم     يوماً وأخطأ دمع العين مجراه

    واسترشد الغرب بالماضي      فأرشده ونحن كان لنا ماضٍ نسيناه

    يجب أن نعود إلى ماضينا، إلى تاريخنا نستلهم منه الدرس والعبرة.

    لماذا لقب بسلطان العلماء؟

    لقب الشيخ بهذا اللقب الذي اخترته عنواناً لهذه المحاضرة (سلطان العلماء) من قبل أحد تلاميذه، وهو الشيخ المعروف الإمام ابن دقيق العيد، ولهذا اللقب سرٌ معروف يتضح من خلال هذه المحاضرة.

    وخلاصته أن العز بن عبد السلام كان محتسباً على عِلْية القوم من الأمراء والسلاطين، يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وكان ذا قوة وسطوة وهيبة تذل عندها كل القوى، وتضعف عندها كل الإمكانيات.

    والشيخ الإمام العز بن عبد السلام عاش في الشام ثم في مصر، وعايش دولة بني أيوب التي أنشأها صلاح الدين، وكانت دولةً قوية، ولكن في آخر عصرها تنافسوا على الملك وأصبح بعضهم يقاتل بعضاً، حتى اضطر بعضهم إلى أن يتحالف مع الصليبين النصارى من أجل أن يتفرغ لقتال إخوانه، وبني عمه، أو يستعين بهؤلاء النصارى الصليبيين في قتالهم وفتح بلادهم.

    ثم كان في آخر دولتهم أن حكمت امرأة ولأول مرة في تاريخ الإسلام تملك المسلمين امرأة كانت تسمى شجرة الدر، وحيث أنها لما مات زوجها أخفت خبر وفاته وعينت رجلاً يحكم بالاسم، وكانت هي تدير الأمور، وظلت على هذا الحال ثلاثة أشهر تقريباً حتى امتعض الناس من هذا الأمر وغضبوا، ثم تنازلت هي عن الأمر وعاد الحق إلى نصابه.

    وهذه من الأشياء التي يتمسك بها بعض الذين يحاولون أن يقولوا: إن المرأة يمكن أن تتولى السلطة والحكم في بلاد الإسلام، يحتجون بأنه على مدى أربعة عشر قرناً حكمت امرأة ثلاثة أشهر، ولا أدري كيف يحتجون بثلاثة أشهر ولا يحتجون ببقية القرون كلها، التي لم يحدث فيها ولا من قبيل المصادفة أن امرأة حكمت، ولم يحدث فيها مرة واحدة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما خرج من المدينة -مثلاً- في أحد الغزوات أو السرايا أنه كان يجعل امرأة تكون نائباً عنه في المدينة المنورة؟! والمهم أن هذا هو حال دولة بني أيوب.

    بعد ذلك آل الأمر إلى ما يسمى بالمماليك، وكانوا من الأتراك وغيرهم وكانوا عبيداً مماليك للحكام، ثم قفزوا على السلطة وحكموا فيها فترة من الزمن، وقد عاصر الإمام السلطان العز بن عبد السلام - سلطان العلماء - عاصر بداية وجود هذه الدولة وعاش فترة فيها.

    أبرز الجوانب في شخصيته

    ومن أبرز الجوانب التي أود أن أتحدث فيها عن شخصية هذا الرجل: هو ما يتعلق بالشجاعة والجرأة التي كان يتميز بها في قول كلمة الحق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لقد جدد السلطان العز بن عبد السلام الإنكار العلني على السلاطين والأمراء، فكان ينكر عليهم علناً وأمام العامة، وأحياناً من على أعواد المنابر ولا يخاف في الله لومة لائم، وهذا هو الهدي والسمت الذي كان موجوداً عند الصحابة رضي الله عنهم والتابعين.

    فمثلاً لما جاء مروان بن الحكم وغير بعض سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقدم خطبة العيد على الصلاة ثم خطب على المنبر، قام أبو سعيد الخدري وأنكر عليه، وكذلك قام رجل آخر فيما بعد وأنكر، فقال أبو سعيد الخدري: أما هذا فقد قضى ما عليه، بل إن الرجل وقف للأمير وجره بثوبه وقال له: خطبت قبل الصلاة وكانت الصلاة قبل الخطبة فقال: قد ترك ما هنالك.

    وهكذا كان عمر رضي الله عنه يقف على المنبر، فيأمر وينهى، فيقوم إليه الرجل فيأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر ويحتج عليه وهو على المنبر، فجدد العز بن عبد السلام هذا الهدي والسمت الذي كان معروفاً عند الصحابة والتابعين والأئمة المهديين فكان ينكر على هؤلاء العلية من القوم، على السلاطين وغيرهم علانية، ولم يكن يعتقد أن في هذا ضرراً أو إثارة فتنة.

    فوائد الإنكار العلني

    كان الشيخ يدرك أن في ذلك الإنكار العلني وقول كلمة الحق والصدع بها، فوائد عديدة ومن أهمها:

    أولا: أن العالم يعذر ويعرف الناس أنه قال وتكلم وأمر ونهى فلم يطع؛ فيعذر، ولا يكون مجالاً لحديث الناس أن يقولوا: داهن، ونافق، وسكت عن الحق، لا، بل يعرفون أنه قال بملء فيه ولكن لم يستجب له فحينئذٍ هو معذور في ذلك.

    وقد مررت بعددٍ من بلاد الإسلام في أقاصي الأرض بل وفي غيرها من البلاد الكافرة التي يوجد بها بعض المسلمين، فوجدت أنهم يعتبون كثيراً على علماء الأمة أنه حصل كذا، وحصل كذا، وحصل كذا، وما سمعنا كلمة حق.

    إذاً: العالم إذا قالها صريحة واضحة؛ فإنه يكون في ذلك العذر له عند الناس.

    ومن فوائد ذلك -أيضاً- التفاف العامة حول هذا العالم إذا رأوه يقول كلمة الحق بقوة وشجاعة ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فإنهم إذا رأوا ذلك التفوا حوله، وأحاطوا به، وأخلصوا له الود، ووفوا معه، لماذا؟ لأنهم يعرفون أن هذا عالم يريد وجه الله والدار الآخرة، ليس له مطامع، ولا مقاصد، وأنه بذل نفسه في سبيل الله عز وجل.

    فمن أجل ذلك يحيطون به، ويفدونه بأرواحهم ومهجهم، ويبذلون من أجله وفي سبيل الحفاظ على مكانته كل غالٍ ونفيس، بخلاف ما إذا لم يكونوا يعلمون بما يقول ويفعل فإنهم قد يتهمونه، ويسوء ظنهم به، وينفضون من حوله، فيبقى العالم منفرداً ليس معه أتباع، ولا يستجيب له أحد، ولا ينتفع بعلمه أحد.

    ومن فوائد إنكار العالم بهذه الطريقة: أنه يشجع الآخرين على الإنكار، فإن كثيراً من الناس يقولون: إذا سكت العالم فغيره من باب الأولى، وإذا سكت طالب العلم فكذلك.

    فكان العز بن عبد السلام رضي الله عنه ورحمه الله حين يصدع بها عالية مدوية على أعواد المنابر وفي ملأٍ من الناس، كان يفتح الطريق للآخرين ويقودهم إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن لا يهابوا ولا يخافوا في الله لومة لائم.

    ومن الفوائد: قبول الحق، فإن الحق إذا قيل علناً، وأمر بالمعروف، ونهي عن المنكر، من قبل عالم موثوق معروف بصدقه وإخلاصه وأنه لا يريد الحياة الدنيا ولا زينتها، ولا يبغي علواً في الأرض ولا فساداً كان إعلانه بذلك سبباً في قبول الحق الذي قال به والإذعان له.

    ومن أهم فوائد ذلك: رفع مستوى الأمة، وعدم حجب الحقائق عنها، بمعنى أن العالم إذا جهر بالحق وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر كأنه يقول للأمة كلها: أنتم الحكم بيني وبين خصمي، فأنا قلت الحق وأنتم اسمعوا، فيرتفع مستوى الأمة حينئذٍ، وتصبح أمة مؤثرة قوية، كل فرد منها له قيمته، وله مكانته ورأيه، وله كلمته، وليسوا مجرد أتباع يؤمِّنون ويؤيدون ولا يعرفون هذا من ذاك، ولا يستطيعون أن يشاركون بالرأي والمشورة، لا،بل أصبحت أمة قوية لها ثقل ولها مكان.

    وهذا لا يكون إلا إذا أشركها العلماء في أمورهم، وأمرهم، ونهيهم، وصدعهم بالحق؛ وجعلوا الأمة تشارك معهم في هذا العمل، لا يحجبون الحقائق عن الأمة بحجة أن الناس رعاع والناس همج والناس فيهم، وفيهم، لا،كانوا يعلنونها للناس ويجعلون الناس يتبنون الدفاع عن الحق بمجرد أن قاله العالم ونطق به.

    حجته في الإنكار العلني

    لم يكن العز بن عبد السلام يرى مانعاً شرعياً من ذلك، بل بالعكس كتب العز بن عبد السلام لأحد الأمراء، لما كتب إليه أحد الأمراء خطاباً شديد اللهجة يعاتبه على بعض الأمور ويقول تكلمت في أمور لا داعي لها وكان يجب أن لا تتحدث فيها، وفرض عليه الإقامة الجبرية في بيته وعاقبه بعقوبات.

    فقال له العز بن عبد السلام: كل ما فعلتَ لا يضيرني، بل هو أمر كنت أتمناه منذ زمان، وأما قولك بأن كلامي يثير الفتنة فأنا ما تكلمت إلا بالحق، ورد البدع لا يثير الفتن، إنما الذي يثير الفتن هو السكوت على البدع وجحد الحق وكتمانه.

    العز بن عبد السلام رحمه الله كان ينطلق من مبدأ صريح، وموقف واضح عبّر عنه في خطابه الذي أشرت إليه قبل قليل، فقال لهذا الأمير الذي عاتبه: "ثم إننا بعد ذلك نـزعم أننا من جملة حزب الله عز وجل وأنصار دينه وجنده، والجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي" هكذا يقول العز بن عبد السلام "الجندي إذا لم يخاطر بنفسه فليس بجندي".

    إذاً ليس صحيحاً أن الإنسان يدعي أنه جندي من جنود الله عز وجل، مجاهد في سبيل الله، آمر بالمعروف ناه عن المنكر ثم لا يخاطر بنفسه في هذا السبيل ولو مرة واحدة، هذا لا يكون أبداً، الذي يريد السلامة لا يكون جندياً، ولا يلبس لباس الجند، ولا يحمل البندقية؛ بل يجلس في بيته، هذه هي طريقة العز بن عبد السلام رضي الله عنه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089123332

    عدد مرات الحفظ

    781991210