إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [21]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • يجب على الداعية إلى الله أن يبدأ بالأهم فالأهم، وأهم شيء هو التوحيد، فهو أصل الأصول، فعلى من يدعو إلى الله أن يصحح توحيده وعقيدته أولاً، ثم يدعو الناس إلى التوحيد ثانياً، فالتوحيد هو لبُّ دعوة الرسل صلوات الله وسلامه عليهم.
    قال المصنف رحمه الله: [ باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله ].

    قوله: [باب: الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله] يعني الدعاء إلى توحيد الله جل وعلا، والمصنف لما ذكر وجوب هذا الأمر على المسلمين عموماً، وأنه يجب على كل مكلف أن يعبد ربه وحده، وأن يجتنب الشرك -وهذا واجب عيني يتعين على كل فرد من المسلمين ذكورهم وإناثهم- ذكر فضل من حقق هذا، وأن من حقق التوحيد يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، ثم ذكر الخوف من كون الإنسان إذا فعل ذلك وعلم أنه ينبغي له أن يخاف أن يناله الشيطان في شيء ينقص توحيده أو يدخل عليه ما يضعف إيمانه.

    ثم بعد هذا يقول: إذا تحلى الإنسان بهذا الأمور فهو الكامل في أمور التوحيد؛ لأنه عرف وعمل وحقق وخاف، والإنسان إذا خاف من شيء اجتنب الأسباب التي تؤدي إلى ذلك المخوف، وإذا وصل إلى هذا الحد فهو قد تمسك بالتوحيد.

    وبقي أنه لا يجوز أن يقصُر هذا على نفسه، بل يجب عليه أن ينشره، وأن يدعو إليه؛ لأن السعادة التي ذكرها الله جل وعلا للذين ذكرهم في قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر:3] ذكر فيها التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وهو الدعوة إلى التوحيد، وإلى الخير، فهم يعرفون المعروف ويدعون إليه، ويعرفون المنكر ويدعون إلى تركه وينهون عنه.

    ثم يصبرون على ما ينالهم في طريق الدعوة؛ لأن الذي يدعو لابد أن يؤذى سواء بالكلام أو بالفعل، بل قد يضرب وقد يسجن، وقد يهدد بالقتل وقد يقتل، فعليه أن يصبر؛ لأن هذا هو الطريق إلى الله، وهو طريق الرسل ، وليس معنى هذا: أن هذا يجب على طائفة معينة، بل يجب على كل أتباع الرسول صلى الله عليه وسلم الدعوة، ولكن بحسب حالهم، كما قال سبحانه: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فلا يقال للإنسان الذي لا يستطيع أن يدعو: يجب عليك أن تدعو. ولكن الذي عرف وعمل يجب عليه أن يدعو على قدر المستطاع، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (بلغوا عني ولو آية)، فلا يكون الإنسان قاصراً الخير على نفسه، بل يجب أن يبدأ بنفسه ثم بالأقرب فالأقرب إلى أن يُوصِل الخير إلى عباد الله، ولا يحصره على قوم معينين.

    فمن هنا أتى المصنف بهذا الباب، فقال: [باب الدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله]، وقصده بالدعاء إلى شهادة أن لا إله إلا الله الدعاء إلى الإسلام، والدعاء إلى التوحيد؛ لأن الإسلام مبناه على هذه الكلمة -شهادة أن لا إله إلا الله-، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم كلهم كانوا يدعون إلى هذه الكلمة، بل أول ما يبدءون به هو هذه الكلمة، وهذا هو الذي يجب على الداعي، وهو أن يدعو الإنسان إلى تصحيح عقيدته أولاً، وإلى تصحيح العلم الذي ينطوي عليه قلبه، بأن يعتقد الحق ويعلمه، ثم يبعث الجوارح للعمل بهذا العلم؛ لأن العلم قبل القول والعمل، كما قال الله جل وعلا: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [محمد:19]، فبدأ بالعلم أولاً.

    فيجب على الداعي أن يبدأ بالأهم فالأهم، والأهم هو: الأصل الذي يبنى عليه غيره، والذي يبنى عليه غيره هو التوحيد شهادة أن لا إله إلا الله، وقد اتفق العلماء على أنه لا يعتبر الإنسان مسلماً حتى يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ولابد أن ينطق بها، أما لو علم بقلبه أن الإسلام هو الدين الصحيح وأحبه في قلبه ورأى أنه هو الحق ولكنه لم ينطق بالشهادتين فهو كافر، وإذا مات على ذلك فهو في النار، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله)، فلابد من القول.

    ويبني على هذه الشهادة سائر الأعمال، فإذا كان الإنسان -مثلاً- مخلاً بمعنى هذه الشهادة، كأن يتوسل بالصالحين، أو يدعو أصحاب القبور ويرى أنهم يشفعون له، وأنهم يسمعون دعاءه ويستجيبون له فلا يصح أن تذهب إليه وتقول: صل الصلوات. أو: قم الليل وتصدق وصم. لأن صلاته وصومه وصدقته باطلة وهو يدعو غير الله، فلابد أن يخلص أولاً عقيدته، وأن تكون خالصة لله، ويعلم أنه لا يجوز أن يُصرف من الدعاء شيء لغير الله جل وعلا، بل يكون الدعاء خالصاً لله جل وعلا، فالدعاء الغيبي النفعي أو الخوف الغيبي لا يكون لغير لله جل وعلا، فإذا لم يكن مخلصاً فهو ما عرف التوحيد كما ينبغي، فيجب أن يدعى إليه أولاً، كما سيأتي في الأحاديث التي تنص على هذا .

    شروط الدعوة إلى الله

    ثم الدعوة إلى الله جل وعلا لها شروط ثلاثة لابد منها:

    الشرط الأول: أن تكون الدعوة مراداً بها وجه الله جل وعلا، ولا يُراد بها الظهور أمام الناس ليقال: هذا داعية ناجح، وهذا متكلم فصيح وبليغ، وهذا يعرف من العلم ما لا يعرفه غيره، فإنه إذا أراد شيئاً من ذلك فعمله لنفسه، وهو يدعو الناس إلى نفسه في الواقع، وإن أظهر أنه يدعو إلى الله فهو كاذب في دعوته، بل هو يدعو إلى عبادة نفسه وأن الناس يعظمونه، وهو بهذا يدعو إلى شهواته ومراده، فلابد أن يكون الداعي مريداً بدعوته وجه الله لا يريد جزاءً غير ذلك من عرض الدنيا ولا من ثناء الناس ومحبتهم له وقربهم إليه، فلا يجوز أن يريد شيئاً من ذلك، فإن أراد شيئاً من ذلك فهو لا يدعو إلى الله وإنما إلى غير الله.

    الشرط الثاني: أن يكون الداعي متبعاً في ذلك طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يدعو على حسب أوضاع يضعها هو أو جماعته ، أي: لا يضع قوانين أو أنظمة أو قواعد يقعدها بعقله ونظره ويسميها (منهج الدعوة)، فإن هذا باطل، بل الدعوة يجب أن تكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويجب أن يُترسَّم طريقه، والرسول صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنوات يدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأول ما دعا يبدأ الناس إلى ذلك، ودعوته صلى الله عليه وسلم محفوظة، فكل ما قاله وما قيل له أو جله، ما ذهب عن الأمة منه شيء، بل حُفِظ والحمد لله، فعلى الداعية أن يعرف سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يترسم طريقه .

    الشرط الثالث: أن يكون الداعي على بصيرة بدعوته، بأن يكون على علم، ويدعو على علم، ويعرف ماذا يدعو إليه، وماذا يجب أن يترك ويجتنب، وإن لم يكن كذلك صارت دعوته تفسد أكثر مما تصلح .

    الواجبات على الداعية في دعوته

    هناك واجبات على الداعية منها:

    أن يكون رفيقاً في دعوته، فلا يدعو الناس بالعنف والكلام البذيء والكلام المنفر، أو التحكم بالناس، أو استنقاصهم وما أشبه ذلك، بل يجب أن يكون عنده بصيرة في ذلك، وعنده رفق بالناس، والإنسان -مثلاً- قد يفعل أفعالاً قد أقام عليها أكثر عمره، فإذا جئت إليه من أول وهلة قلت له: هذا حرام وهذا لا يجوز أن تقيم عليه. أو: أنت لم تفعل شيئاً وما أشبه ذلك فقد يستصعب هذا القول، بل يجب أن يأخذه الداعية بالرفق شيئاً فشيئاً، حتى يحبب إليه الطاعة وطريق اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن يعرفه الأصل الذي هو شهادة أن لا إله إلا الله، ثم يعلمه الواجبات .

    أن يكون حليماً، فلابد أن يكون الداعية حليماً، فإذا وقع له كلام يخدش شعوره أو يسيء إليه، ولا يعجل، يحلم ويصبر، ولو كانت دعوته لله فلا يستعجل على الناس، ولا يغضب عليهم؛ لأن الأذى الذي يسمعه من الناس أو يناله منهم يحتسبه عند الله، ويرجو أن الله يثيبه عليه.

    ويكون كذلك رحيماً، فمن الواجبات أن يكون رحيماً، فهو عندما يدعو الناس يدعوهم شفقة عليهم من أن يدخلوا النار، ثم هذا لا يدعوه إلى أنه يود العصاة ويحبهم، بل يبغضهم في الله جل وعلا، ولكن في دعوته إياهم يرحمهم؛ لأنه يعرف أن الناس لا يستطيعون مقاومة النار ومقاومة عذاب الله جلا وعلا، فهو يرحمهم خوفاً عليهم من أن يقعوا في عذاب الله، ويبين لهم الحق من خلال هذه الأمور.

    وأصل الدعوة في هذا ما سيأتينا في الآية التي سيذكرها المؤلف، وهي قول الله تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].

    هذا هو الأصل الذي ينبغي للداعية أن يتبناه دائماً، وهو ما دلت عليه هذه الآية الكريمة، فالله جل وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول هذا القول: قل هذه سبيلي ، فهذه الإشارة هي إلى دعوته صلى الله عليه وسلم التي يدعوا الناس إليها، أي: هذه الدعوة التي أدعو الناس إليها هي سبيلي التي أرسلت من أجلها، وهذا الطريق هو الذي أحيا عليه، وأموت عليه، فأعمل له ما حييت، ولا أنافس أهل الدنيا في دنياهم، أو أطلب ملك الدنيا أو غيرها، وإنما أحيا لدعوة لله جل وعلا.

    أقسام الناس المدعوين

    ويلزم أن يكون الداعية حاصلاً على القوة؛ حتى يمكن أن يدعو بطريقة ناجحة، وذلك أن الناس الذين يدعون يكونون ثلاثة أقسام غالباً:

    قسم يكون جاهلاً بالحق ولو تبين له لاتبعه، فهذا دعوته فقط لبيان الحق، فيبين له ويزاح عنه ما يعترض سبيل الحق إذا كان عنده شبهه فقط .

    وقسم آخر قد تلبَّس بأمور يصعب عليه تركها من دنيا أو رئاسة أو ما أشبه ذلك، فهذا يُدعى بالحكمة والموعظة، بالترهيب والترغيب، فيؤتى له بالترهيب والترغيب، أي: بالنصوص التي تتوعد المعرض والذي يفعل المعاصي وهذا القسم يكفيه ذلك .

    قسم ثالث لا يكون عنده عناد، ولكن عنده تكبر وعنده إباء عن قبول الحق، فمثل هذا يحتاج إلى قوة، فأن أفادت معه المجادلة وبيان الحكمة وبيان العظات والزواجر والوعيد فهذا هو المطلوب، وإن لم يفد معه ذلك ينتقل معه إلى السلاح فيقاتل، ولهذا ذكر الله جل وعلا في بعض الآيات في القرآن الحديد مقروناً بالكتاب؛ ليبين أن الذي يعرض عن الكتاب ولا يقبله يصار معه إلى الحديد وإلى القوة قوة السلاح، فالذي يقف بوجه الدعوة ويصد عنها ويتكبر ويتجبر ، ليس أمام أهل الدعوة الذين يدعون إلى الله معه إلا استعمال القوة، فلهذا الداعي الناجح يجب أن يكون متصفاً بهذه الأمور، وإلا فتكون الدعوة ناقصة قاصرة، أن يكون عنده العلم، وعنده الحلم، وعنده المقدرة على إبطال الشبهة وإيصال العلم إلى من عنده شبهة، وإزاحة ما أمامه من غشاوة، ثم كذلك يكون عنده قوة إذا أرادوا أن يبطلوا دعوته أو يقاتلوه أو يصدوه عن دعوته، فيقاومهم كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك.

    بيان بداية دعوته صلى الله عليه وسلم

    الرسول صلى الله عليه وسلم في مبدأ دعوته كان مثل ما قال صلوات الله وسلامه عليه: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ)، وذلك أن الإسلام بدأ بالرسول صلى الله عليه وسلم وحده فقط، وواحد كيف يعمل أمام أمة كافرة كلها لا تعرف شيئاً من الحق، بل هي على الباطل وعلى الكفر والشرك والظلم؟! وإن كان عندهم عقول في الواقع، والإنسان الذي يتأمل بعقله يعلم أنهم ليسوا على شيء.

    كما ثبت في صحيح مسلم عن عمرو بن عبسة قال: (كنت في الجاهلية أرى أن الناس ليسوا على شيء وهم يعبدون الأصنام والشجر والحجر)، فهو رجل في البادية ما عنده علم ولا تعلم، ومع ذلك يقول: ( كنت أرى أن الناس ليسوا على شيء)؛ لأن عقله وفطرته دلته على ذلك، قال: (فكنت أتخبر الأخبار وأسأل الناس الذين يأتون من هنا وهنا، وآتي موارد الماء وأسألهم: هل من خبر؟ هل من علم؟ وكل من سألت لم يخبرني بشيء، وفي يوم من الأيام جاء قوم من قبل مكة فقلت لهم: هل من خبر؟ قالوا: نعم. رجل يخبر خبر السماء. قال: فقعدت على راحلتي) يعني أنه ما استراح لما هم عليه، بل هو قلق مما هم فيه، فالله فطر الناس على كونهم يعبدونه.

    قال: (فقعد ت على راحلتي- أي: ركب راحلته -وذهبت إلى مكة، فلما جئت إلى مكة إلى هذا الذي يخبر خبر السماء: وسألت عنه فإذا الناس عليه جرآء) أي: كل واحد عليه جريء يعني أنهم يؤذونه ويشتمونه ويتكلمون فيه.

    يقول: (فخفت وتلطفت -أي: صار لا يسأل، وإنما يتحسس يبحث عنه وهو مختف صلوات الله وسلامه عليه- حتى دخلت عليه فوجدته مختفياً في بيت، فقلت: ما أنت؟ قال: (أنا نبي. قلت: وما نبي -أي: أنه لا يعرف كلمة نبي-؟ فقال: أرسلني الله. فقلت: وبم أرسلك؟ قال: أرسلني بأن يُعبد الله وحده، وبمحق الأصنام والأزلام. فقلت: ومن معك على هذا؟ فقال: معي حرٌ وعبد، ومعه يومئذ أبو بكر وبلال ، فقلت له: إني متبعك..) فرجع إلى قومه حتى سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم هاجر إلى المدينة فجاء إليه.

    قال: فقلت له: أتعرفني؟ فقال: (نعم، أنت الذي أتيتني بمكة)، وذكر بقية الحديث.

    والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء إلى قومه وحده على الإسلام، فهل يسوغ أنه يؤمر بالقتال أو يؤمر بالقوة؟! لو قاومهم بالقوة لقضوا عليه، ولقتلوه عند أول وهلة، مع أنه واثق بوعد الله جل وعلا له تمام الثقة، ولهذا توعدهم وهو وحده، وقال: والله! إن لم تؤمنوا بي فسوف ينصرني الله جل وعلا عليكم، وأقتل رجالكم وآخذ أموالكم. وهل يمكن أن يقول هذا عاقل وهو غير واثق؟! بل هو وحده، وليس معه جنود ولا دولة تحميه، ولكن كان معه الله جل وعلا، وهو الذي يحميه، ولكن المقصود: أن الإنسان إذا جاء وحده بهذا الأمر وصدع به بدون خوف فإنه يدل على أنه نبي من عند الله، كما قال هود عليه السلام لما قال له قومه: مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ [هود:53] يقولون: لماذا نترك عبادة الآلهة والأصنام وغيرها والأشجار وغيرها؟ ألأنك قلت لنا: هذا شرك، اعبدوا الله؟ لا نتركها عن قولك.

    ثم قالوا في مجادلتهم إياه: إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ [هود:54]، أي: هذا قولنا: إن آلهتنا أصابتك بجنون فأصبحت تخالفنا كلنا وتأتي بشيء غريب عند ذلك قال لهم: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]، يعني: اجتمعوا أنتم كلكم مع آلهتكم فافعلوا ما تستطيعون فعله نحوي من قتل أو سجن أو تعذيب، لن تصلوا إلي، لهذا فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:55]، تحداهم جميعاً مع أنهم عاد الذين أوتوا من القوة ومن الجبروت ومن عظم الأجسام ما ذكره الله عنهم، ومع ذلك ما استطاعوا أن يفعلوا به شيئاً.

    وكذلك الله جل وعلا أمر رسوله أن يقول لمشركي قريش هذا. ويتحداهم بذلك، وكل رسول يتحدى قومه بأن يكيدوه ولا ينظرونه، أما كونهم حاولوا قتله فنعم، ولكن هذا هي سنة الله، ولما جاءهم بالدعوة تبين لهم الحق كلهم إلا إنسان معرض، والمعرض لا عبرة به، أما الذي يتأمل قوله ويتأمل ما جاء به، فلابد أن يتبين له الحق.

    ولهذا يقول المسور بن مخرمة رضي الله عنه -و المسور بن مخرمة خاله أبو جهل -: قلت لخالي: يا خال! أكنتم تتهمون محمداً قبل أن يقول مقالته بالكذب؟ فقال: يا ابن أخي! والله لقد كنا نسميه وهو شاب الأمين، ووالله ما جربنا عليه كذبة واحدة، ولم يكن عندما خطه الشيب ليكذب على الله جل وعلا يقول المسور : فقلت: يا خال! ولمَ لا تتبعونه؟ فقال أبو جهل : إننا وبنو هاشم تسابقنا، أطعموا فأطعمنا، وسقوا فسقينا، وأجاروا فأجرنا، فلما تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا: منا نبي. متى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه. يعني: ما منعه إلا الحسد والكبر، وكل من لم يسلم كان على هذه الطريقة.

    ذكر ابن إسحاق رحمه الله في السيرة والبيهقي في الدلائل وغيرهما من العلماء عن عدد من كبراء قريش مثل: أبي جهل ، والأخنس بن شريق ، وأبي سفيان ، وغيرهم ممن سماهم ابن إسحاق من كبراء قريش، قال: كانوا إذا جنّهم الليل ذهبوا يستمعون قراءة النبي صلى الله عليه وسلم، وكل واحد يكون في مكان لا يدري عنه الثاني في ظلمة الليل، فيبقون يستمعون له إلى الصباح، وفي أول مرة استمعوا له حتى أصبحوا فرجعوا فالتقوا في الطريق فلام بعضهم بعضاً، وقالوا: لو رآكم سفهاؤكم لتسارعوا إلى اتباعه فلا تعودوا إلى مثلها. وفي الليلة الثانية عادوا، وكل واحد يقول: لعل الآخر لا يعود. فالتقوا ثم تلاوموا، ثم عادوا في الليلة الثالثة، ثم تلاوموا كذلك، ثم عادوا في الليلة الرابعة، وبعد ذلك تماسكوا. وقالوا: لا نبرح من هنا حتى نتعاهد على ألا نعود. فتعاهدوا وتعاقدوا على أنهم لا يأتون مرة أخرى يستمعون إليه خوفاً من أن يراهم الناس الذين ليسوا رؤساء فيقتدون بهؤلاء ويتبعون الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم مشى بعضهم إلى بعض فقال كل واحد للآخر: ما ترى؟ فيقول: والله إني لأسمع شيئاً أعرفه، ووالله إنه لحق فيعترفون أنه حق، وفي النهاية قالوا: لن نتبعه فلم يتبعوه لأنه ليس من قومهم، وقد كانوا يتنافسون الشرف فأبوا اتباعه.

    والمقصود أن الرسول صلى الله عليه وسلم بقي في مكة ما يقرب من اثنتي عشرة سنة وهو يدعو إلى توحيد الله جل وعلا، وهو يتحمل الأذى ويصبر على ما يناله، ولم يؤمر بالقتال، بل يقول الله جل وعلا له: فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا [المعارج:5] يأمره بالصبر، ويأمره بالتحمل والدفع بالتي هي أحسن، حتى هاجر إلى المدينة وصار له قوة وأنصار ودولة، وصار له رجال يدافعون عن الحق معهم قوة عند ذلك أمره الله بالقتال.

    وهكذا ينبغي للداعية أن يكون على نهج النبي صلى الله عليه وسلم، فلا يذهب إلى قومٍ يتحداهم ويهددهم ويتوعدهم وهو لا يستطيع أن يملك شيئاً، بل يجب أن يترسم طريق الرسول صلى الله عليه وسلم في المنهج، وكذلك فيما يدعو إليه في القول والعمل، فإن فعل ذلك فهو في الواقع ناجح.

    وليس مهمة الداعية أن الناس يستجيبون له، فالاستجابة إلى الله، وإنما مهمته أن يبين الحق، فإن قُبل حمد الله على ذلك، وإن لم يُقبل الحق منه صبر واحتسب وعلم أن العباد عباد الله هم ملك الله يتصرف فيهم، فهو يتصرف في الجميع جل وعلا كيف يشاء .

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087501844

    عدد مرات الحفظ

    772704374