إسلام ويب

شرح فتح المجيد شرح كتاب التوحيد [30]للشيخ : عبد الله بن محمد الغنيمان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد أوجب الله على المؤمنين البراءة من الكافرين وإخبارهم بذلك؛ لأن الله عز وجل قطع الصلة بين المسلم والكافر، حتى وإن كانت هذه القرابة تصل إلى حد الأبوة أو البنوة أو الأخوة، وقد أثنى الله على نبيه إبراهيم لبراءته من أبيه وقومه، كما أثنى على الصحابة الأولين الذين تبرءوا من قرابتهم واحتسبوا ذلك عند الله، فأثابهم الله على ذلك إيماناً في قلوبهم وتأييداً ونصرة.
    قال المصنف رحمه الله: [ وقوله تعالى: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي [الزخرف:26-27] ]

    في قول الله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28] في هذه الآية يبين الله جل وعلا أن المسلم يجب عليه أن يتبرأ من الكافر، وأن يعلمه بأنه بريء منه؛ لأن الله جل وعلا قطع الصلة بين المسلم والكافر، انقطعت الصلة وإن كان أباه أو أخاه أو ابنه كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [المجادلة:22]، ثم ختم الآية بالثناء على الصحابة الذين تبرءوا من أقربائهم: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22]، وهذه -كما يقوله بعض المفسرين- نزلت في أبي عبيدة لما حاول قتل أباه حينما رآه في بدر.

    فالمسلم بريء من المشركين، يتبرأ منهم ويعلمهم أنه عدو لهم، فلا صلة بين المسلم والمشرك الكافر عموماً، ولهذا قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4] ثم استثنى الله جل وعلا عدم التأسي بقول إبراهيم لأبيه: (لأستغفرن لك)، فقال: إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ [الممتحنة:4] يعني: لا تتأسوا به. لأن الله أخبر في الآية الأخرى أنه وعد أباه بذلك، فلما تبين له أن أباه عدو لله تبرأ منه، وهكذا يكون الموحد، ولا يتم توحيد الإنسان إلا بأن يكون ولاؤه لله جل وعلا، وكذلك من كان على هذا النهج من عباد الله جل وعلا.

    وفي هذه الآية توضيح لمعنى شهادة أن لا إله إلا الله: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:26-27] وتوضيح ذلك أن إبراهيم عليه السلام تبرأ من جميع المعبودات لأنها باطلة وضلال، واستثنى منها الذي فطره وهو الله جل وعلا.

    ومعنى ( فطرني ): خلقني بعد أن لم أكن شيئاً، وهذا يدل على أن قوم إبراهيم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فتبرأ من المعبودات كلها واستثنى منها إلهه وربه جل وعلا الذي يجب أن تكون العبادة كلها له.

    فمعنى (لا إله إلا الله) هو هذا الولاء والبراء، أن يتبرأ من كل المعبودات ويخلص عبادته لله وحده، فكل العبادة لمعبود واحد هو الله جل وعلا، ويكفر بكل ما يعبد من دون الله.

    ثم إن العبادة كل ما يتقرب به الإنسان إلى ربه جل وعلا من فعل أو قول يرجو بذلك الثواب ويخاف إن لم يأت به أن يعاقب، أو يسأله مطلباً معيناً سواء أكان من أمور الدنيا أم من أمور الآخرة، فهو عبادة، بل الدعاء هو مخ العبادة وأصلها وأساسها، والله جل وعلا أوجب الدعاء على عباده فقال: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي [غافر:60] وهذا القول يقتضي أنه يجب، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر:60] وسواء كان الدعاء لمسألة معينة ونفع معين من أمور الدنيا والآخرة أم يخص الآخرة، فكله يكون من أفضل العبادة، فلا يجوز أن يكون الدعاء لغير الله جل وعلا، وهكذا جميع أنواع العبادة يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وهذه الآية موضحة لمعنى شهادة أن لا إله إلا الله.

    وكثير من آيات القرآن يوضح ذلك توضيحاً جلياً، غير أن كثيراً من الناس يعرض عن فهم القرآن وتدبره، وقد ذم الله جل وعلا الذين لا يفهمون القرآن ولا يتدبرون، فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، فيجب على المسلم أن يتفهم كتاب ربه؛ لأن الله يخاطب عباده بالخطاب الذي يدعوهم فيه إلى أن يفهموه ويعملوا به.

    كلام ابن كثير في تفسير هذه الآية

    قال الشارح رحمه الله: [ قال ابن كثير رحمه الله تعالى: يقول تعالى مخبرا عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء، ووالد من بعث بعده من الأنبياء الذي تنتسب إليه قريش فى نسبها ومذهبها: إنه تبرأ من أبيه وقومه فى عبادتهم الأوثان فقال : وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:26-28] أي: إن هذه الكلمة -وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، وهي لا إله إلا الله- جعلها فى ذريته يقتدي به فيها من هداه الله من ذرية إبراهيم عليه السلام ( لعلهم يرجعون ) أي: إليها ] .

    قوله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27] يبين الله فيه أن على المسلم ألا يعتمد على نفسه وعلى فعله وقوته، وإنما يلجأ إلى ربه في كل ما يصدر منه، ويبرأ من الحول والقوة؛ فإن الهداية بيد الله، فالإنسان لا يملكها إذا لم يهده الله جل وعلا، فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف:27] يقول: إذا اتجهت هذا الاتجاه فأنا أرجو هدايته وأطلبها منه، وليست الهداية مني وإنما هي من الله جل وعلا، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهذا من مقتضى العبودية، أن يكون الإنسان مستسلماً منقاداً لله جل وعلا، وألا يكون لنفسه مع الله جل وعلا منازعة ينازعه فيما يصدر من الله جل وعلا ولا فيما يصدر من العبد، غير أن العبد مكلف بامتثال الأمر واجتناب المنهي عنه، ثم هو إذا لم يعنه الله جل وعلا ويهده لذلك لا يستطيع أن يعمل شيئاً، ولهذا وجب علينا أن ندعو الله جل وعلا بهذا الدعاء في كل ركعة من ركعات الصلاة، فنقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] أي: إذا لم تعنا على عبادتك لا نستطيع أن نعمل شيئاً. فالعبد يكون مستسلماً منقاداً لله بارئاً من الحول والقوة، وإنما هو عبد لله يتصرف فيه كيف يشاء، فهو يسأل ربه مفتقراً إليه، مظهراً فقره في عبادته التي يتقرب بها إلى الله بأن يوفقه الله جل وعلا فيها وفي مستقبله وفي جميع أحواله، يجب أن يكون العبد بهذه المثابة، وأن يعلم أن الخلق كلهم لا يغنون عنه شيئاً، أما إذا أصبح ينازع ربه في التصرفات فإنه يكون له نوع من التكبر على الله جل وعلا وعلى عبادته، فيخذل في ذلك، ويعرض الله جل وعلا عنه ويكله إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه تولاه الشيطان وضل، نسأل الله العافية.

    ففي هذا دليل على أن العبادة مقترنة بالاستعانة، وأنها لا تصح العبادة حتى تقترن بعون الله جل وعلا وتوفيقه، فالإنسان يعبد ربه ويسأله التوفيق والعون على ذلك.

    معنى قوله: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)

    قال الشارح رحمه الله: [ قال عكرمة ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغيرهم في قوله : وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف:28] يعنى: (لا إله إلا لله)، لا يزال في ذريته من يقولها ] .

    وقد كانت هذه الكلمة وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفونها، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، والمقت: شدة البغض والكراهة، يمقتهم لأنهم على الشرك، وكان العقلاء منهم -وهم قلة- يرون أنهم على ضلال، ولكن لا يهتدون إلى دين؛ ولهذا ذهب منهم جماعة يطلبون الدين وكانوا يقولون: إن لله ديناً هو أرضى من دينكم هذا، فذهبوا إلى النصارى، فوجدوهم ضلالاً، وذهبوا إلى اليهود فوجدوهم على غضب من الله تعالى، فاعتزلوا الكل وصاروا يعبدون الله على حسب ما تهديهم إليه عقولهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3087501839

    عدد مرات الحفظ

    772704351