لقد أوجب الله على المؤمنين البراءة من الكافرين وإخبارهم بذلك؛ لأن الله عز وجل قطع الصلة بين المسلم والكافر، حتى وإن كانت هذه القرابة تصل إلى حد الأبوة أو البنوة أو الأخوة، وقد أثنى الله على نبيه إبراهيم لبراءته من أبيه وقومه، كما أثنى على الصحابة الأولين الذين تبرءوا من قرابتهم واحتسبوا ذلك عند الله، فأثابهم الله على ذلك إيماناً في قلوبهم وتأييداً ونصرة.
معنى قوله تعالى: (وإذ قال إبراهيم لأبيه وقومه إني براء مما تعبدون..)
ومعنى ( فطرني ): خلقني بعد أن لم أكن شيئاً، وهذا يدل على أن قوم إبراهيم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه غيره، فتبرأ من المعبودات كلها واستثنى منها إلهه وربه جل وعلا الذي يجب أن تكون العبادة كلها له.
فمعنى (لا إله إلا الله) هو هذا الولاء والبراء، أن يتبرأ من كل المعبودات ويخلص عبادته لله وحده، فكل العبادة لمعبود واحد هو الله جل وعلا، ويكفر بكل ما يعبد من دون الله.
ثم إن العبادة كل ما يتقرب به الإنسان إلى ربه جل وعلا من فعل أو قول يرجو بذلك الثواب ويخاف إن لم يأت به أن يعاقب، أو يسأله مطلباً معيناً سواء أكان من أمور الدنيا أم من أمور الآخرة، فهو عبادة، بل الدعاء هو مخ العبادة وأصلها وأساسها، والله جل وعلا أوجب الدعاء على عباده فقال: وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي[غافر:60] وهذا القول يقتضي أنه يجب، وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ[غافر:60] وسواء كان الدعاء لمسألة معينة ونفع معين من أمور الدنيا والآخرة أم يخص الآخرة، فكله يكون من أفضل العبادة، فلا يجوز أن يكون الدعاء لغير الله جل وعلا، وهكذا جميع أنواع العبادة يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وهذه الآية موضحة لمعنى شهادة أن لا إله إلا الله.
وكثير من آيات القرآن يوضح ذلك توضيحاً جلياً، غير أن كثيراً من الناس يعرض عن فهم القرآن وتدبره، وقد ذم الله جل وعلا الذين لا يفهمون القرآن ولا يتدبرون، فقال: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا[محمد:24]، فيجب على المسلم أن يتفهم كتاب ربه؛ لأن الله يخاطب عباده بالخطاب الذي يدعوهم فيه إلى أن يفهموه ويعملوا به.
قوله جل وعلا عن إبراهيم عليه السلام: فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ[الزخرف:27] يبين الله فيه أن على المسلم ألا يعتمد على نفسه وعلى فعله وقوته، وإنما يلجأ إلى ربه في كل ما يصدر منه، ويبرأ من الحول والقوة؛ فإن الهداية بيد الله، فالإنسان لا يملكها إذا لم يهده الله جل وعلا، فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ[الزخرف:27] يقول: إذا اتجهت هذا الاتجاه فأنا أرجو هدايته وأطلبها منه، وليست الهداية مني وإنما هي من الله جل وعلا، فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء، وهذا من مقتضى العبودية، أن يكون الإنسان مستسلماً منقاداً لله جل وعلا، وألا يكون لنفسه مع الله جل وعلا منازعة ينازعه فيما يصدر من الله جل وعلا ولا فيما يصدر من العبد، غير أن العبد مكلف بامتثال الأمر واجتناب المنهي عنه، ثم هو إذا لم يعنه الله جل وعلا ويهده لذلك لا يستطيع أن يعمل شيئاً، ولهذا وجب علينا أن ندعو الله جل وعلا بهذا الدعاء في كل ركعة من ركعات الصلاة، فنقول: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ[الفاتحة:5] أي: إذا لم تعنا على عبادتك لا نستطيع أن نعمل شيئاً. فالعبد يكون مستسلماً منقاداً لله بارئاً من الحول والقوة، وإنما هو عبد لله يتصرف فيه كيف يشاء، فهو يسأل ربه مفتقراً إليه، مظهراً فقره في عبادته التي يتقرب بها إلى الله بأن يوفقه الله جل وعلا فيها وفي مستقبله وفي جميع أحواله، يجب أن يكون العبد بهذه المثابة، وأن يعلم أن الخلق كلهم لا يغنون عنه شيئاً، أما إذا أصبح ينازع ربه في التصرفات فإنه يكون له نوع من التكبر على الله جل وعلا وعلى عبادته، فيخذل في ذلك، ويعرض الله جل وعلا عنه ويكله إلى نفسه، ومن وكل إلى نفسه تولاه الشيطان وضل، نسأل الله العافية.
ففي هذا دليل على أن العبادة مقترنة بالاستعانة، وأنها لا تصح العبادة حتى تقترن بعون الله جل وعلا وتوفيقه، فالإنسان يعبد ربه ويسأله التوفيق والعون على ذلك.
معنى قوله: (وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون)
وقد كانت هذه الكلمة وقت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم لا يعرفونها، ففي صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب)، والمقت: شدة البغض والكراهة، يمقتهم لأنهم على الشرك، وكان العقلاء منهم -وهم قلة- يرون أنهم على ضلال، ولكن لا يهتدون إلى دين؛ ولهذا ذهب منهم جماعة يطلبون الدين وكانوا يقولون: إن لله ديناً هو أرضى من دينكم هذا، فذهبوا إلى النصارى، فوجدوهم ضلالاً، وذهبوا إلى اليهود فوجدوهم على غضب من الله تعالى، فاعتزلوا الكل وصاروا يعبدون الله على حسب ما تهديهم إليه عقولهم.
هذا أمر اتفق عليه الخلق كلهم، كونهم يقرون بأن الله ربهم، ولكن اختلفوا في كونهم يعبدون معه غيره، أما إقرارهم بأنه هو الذي يخلقهم وهو الذي يرزقهم وينعم عليهم، وإذا وقعوا في شدة يجيب دعوتهم ويكشف الشدائد عنهم فهذا أمر اتفق عليه جميع الخلق، وما شذ عنه إلا شواذ الناس الذين فسدت عقولهم وأصبحت عقولهم مغطاة بالتقليد الأعمى الذي وجدوا عليه الضلّال، وهذا لا يفيد شيئاً، كون الإنسان يقر بأن الله ربه وخالقه وأنه المحيي المميت المتصرف ما يفيد شيئاً حتى تضاف إليه عبادة الله وحده بالأمور التي تصدر من الإنسان، ومن هنا قسم العلماء التوحيد إلى قسمين أو ثلاثة أقسام، فيجوز أن نقول: إنه ينقسم إلى قسمين. ويجوز أن نقول: إنه ينقسم إلى ثلاثة: توحيد أفعال الله جل وعلا، أي: الأفعال التي تصدر منه، مثل الخلق والرزق وإنزال المطر والإحياء والإماتة، وكل ما يتصرف الله جل وعلا به فإنه ينفرد به، وهذا الشرك فيه قليل، وإنما وقع الشرك فيه من أفراد من الناس إما عناداً وتكبراً، أو جهلاً قد غطى على العقل تماماً، كما وقع في بعض هذه الأمة.
وهكذا الكفرة والظلمة وهؤلاء الذين ذكر عنهم أنهم ادعوا أنهم هم الذين يتصرفون مع الله وأنهم شركاء له في التصرف، وهذا شذوذ في الخلق، وشذوذ في التفكير والنظر والادعاء والعناد والتكبر، أما سائر الخلق فكلهم يقرون بأن الله هو الرب الخالق المحيي المميت المتصرف في الكون كله، وأنه لا شريك له في ذلك، ولهذا يقول الله جل وعلا مخاطباً الناس: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ[البقرة:21]، ففي هذا أمر يقرون به، وهو أنه هو الذي خلقهم وخلق الذين قبلهم، لا أحد ينكره، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ فِرَاشاً[البقرة:21-22] وأيضا يقرون أن الذي خلق الأرض وجعلها ممهدة يستطيعون الاستقرار عليها والمشي على متنها وحرثها والتصرف فيها مما ينفعهم هو الله، الله الذي جعلها بهذه المثابة وجعلها لهم فراشاً، وَالسَّمَاءَ بِنَاءً[البقرة:22] يعني: رفعها فوقهم يشاهدونها، وهذه السماء هي التي نشاهدها فوقنا، وليست كما يقول الكفار اليوم، فالكفار اليوم ينكرون السماء، ويقولون: إنما هو الفضاء، فيعبرون بالفضاء عن العلو، ويقولون: إن هذه الزرقة من إفرازات الأبخرة والأثير وما أشبه ذلك. وهذا كفر بالله جل وعلا، فالله جل وعلا يقول لنا: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا[ق:6] يأمرنا بالنظر إليها والاعتبار بها، ويأمرنا بأن نرجع البصر فيها ونكرره، وأننا إذا كررناه يعود إلينا خاسئاً وهو حسير، وكذلك يخبرنا بأنه هو الذي رفع السماء بلا عمد نراها فوقنا، فهذه هي السماء، ولكن لشدة بعدها ما ترى إلا لمن يكون على الأرض، أما إذا ارتفع الإنسان إلى جهتها ذهبت هذه التي ترى، وفي حديث جابر أن الميت إذا مات وخرجت روحه أن الملائكة تتولاها وتصعد بها، فإن كان مؤمناً استفتحوا لها باب السماء ففتح، وإن كان كافراً أو فاجراً أغلقت دونه أبواب السماء، ثم يقال لهم: (اطرحوها طرحاً) من السماء الدنيا، فتطرح طرحاً، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ[الحج:31]، ومع ذلك لا تضيع الروح، وإنما تأتي إلى الجسد وتكون فيه فتذوق العذاب الأليم مع الجسد، كما أن روح المؤمن تنعم مع جسدها .
فالمقصود أن الله جل وعلا يخبرنا أنه هو الذي خلق الأرض وبنى السماء وجعلها لنا بناء، وأنزل من السماء ماء، والسماء يطلق على السماء المبنية التي هي السبع السموات، ويطلق على كل ما فوقنا، فكل ما فوقنا فهو سماء، ولهذا قوله: وَأَنْزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً[البقرة:22] لا يلزم أن يكون المطر ينزل من السماء المبنية بل ينزل من فوق، فالله يخلقه بين السماء والأرض.
فالمقصود أن التوحيد ينقسم إلى قسمين: قسم هو توحيد الله بأفعاله التي يفعلها، وهذا يسمى توحيد الربوبية؛ لأن الرب هو الخالق المالك المتصرف، وهذا وحده لا يفيد، لابد أن ينضم إليه التوحيد الثاني، وهو توحيد الأسماء والصفات؛ لأن الأسماء والصفات تختص بالله جل وعلا.
توحيد الألوهية
القسم الثاني: التوحيد الذي يطلب من العبد أن تكون أفعاله واحدة لواحد، واحدة لله جل وعلا لا يكون له فيها شريك، أن يكون الدعاء لله، والنذر لله، والصلاة لله، والركوع له، والسجود له، وكل ما يتعبد به الإنسان من صوم وتوبة واستغفار وغير ذلك وطلب نفع وكشف ضر يجب أن يكون كله لله وحده، وإلا فلا يقبل منه شيء، فالذي يشرك في هذه العبادة يكون عمله حابطاً؛ فإن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصاً، وهذا الذي خلق له الناس، فيجب عليهم أن يتعرفوا على هذا، ويجب عليهم أن يعلموا ذلك ويتعرفوا عليه، فالخطر شديد جداً، فقد جاء في الصحيح في حديث عبد الله بن مسعود أنه قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من مات وهو يشرك بالله شيئاً دخل النار، ومن مات وهو لا يدعو لله نداً دخل الجنة) فالأمر ليس سهلاً، فعلى الإنسان أن يتعرف على هذا الأمر ولا يستهين به، ويجب عليه أن يهتم به غاية الاهتمام أكثر من اهتمامه بجسده وبيته الذي ينظفه وينظمه ويؤثثه، يجب أن يهتم بدينه وبعبادته أكثر من ذلك وأعظم ؛ لأن الدين هو رأس المال في الواقع، الدنيا ستزول، والبدن سينتهي أجله ويموت، ولكن إذا كان الإنسان على التوحيد فأمامه الحياة السعيدة الأبدية، أما إذا كان على غير ذلك فأمامه الحياة الأبدية التعيسة التي لا يخفف عنه فيها العذاب ولا يقضى عليه فيموت، خالداً فيها أبد الآباد، فيجب على العبد ألا يغفل عن هذا ولا يتساهل به.
قال الشارح رحمه الله: [ قلت: فتبين أن معنى (لا إله إلا الله) توحيد العباد بإخلاص العبادة له والبراءة من كل ما سواه.
قال المصنف رحمه الله: وذكر سبحانه أن هذه البراءة وهذه الموالاة هي شهادة أن لا إله إلا الله، وفي هذا المعنى يقول العلامة الحافظ ابن القيم رحمه الله في الكافية الشافية:
وإذا تولاه امرؤ دون الورى طرا تولاه العظيم الشان ].
وبعد هذا يقول فيها:
كن واحداً في واحد لواحد أعني طريق الحق والإيمان
يقول: إنه لا يقبل إلا هذا، (كن واحداً) يعني: عبداً لله، لا تكن عبداً لله ولغيره، كن واحداً لواحد، والواحد هو الله، وقوله: (في واحد) يعني: في طريق واحد، وهو طريق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله لا يقبل من الدين إلا ما شرعه على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذا قال: أعني طريق الحق والإيمان، يعني: الحق الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان.