إسلام ويب

صناعة الموتللشيخ : سلمان العودة

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الموت والحياة متلازمان، فإذا وجد أحدهما وجد الآخر، ومن المعلوم أن لكل منهما عشاقاً وطلاباً، فللحياة عشاقها الذين يخلدون إليها وإلى زخرفها، وكذلك للموت عشاق يطلبونه بل ويسعون إليه بكل ما يستطيعون، فالكافر يخاف الموت ويرهبه، والمؤمن يحب الموت في سبيل الله تعالى، فعشاق الموت هم المؤمنون الصادقون الموقنون بما أعده الله تعالى لعباده المؤمنين في الجنة، لذلك فقد تكلم الشيخ حفظه الله عن صناعة الموت وأن هناك رجالاً يصنعون الموت بأيديهم صنعهم الإسلام، ثم ذكر لماذا العداوة ضد الإسلام والمسلمين؟ ثم تكلم عن كتاب يسمى (يوم الله) وذكر طرفاً من معركة هرمجدون مع اليهود، وأنه لا سبيل إلى الصلح معهم، ثم ذكر نماذج من صناع الموت، وختم الدرس برسائل إلى صناع الموت.
    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.. إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم.. إنك حميدٌ مجيد.

    رقم هذا الدرس حسب عهدة الإخوة الحاضرين "95" من سلسلة الدروس العلمية العامة، التي تنعقد في هذا المسجد، جامع الذياب بـبريدة، وهو ينعقد في هذه الليلة، ليلة الثامن والعشرين من شهر صفر لعام ألف وأربعمائة وأربعة عشر من الهجرة، وفي ليلة الإثنين كما هو المعتاد، عنوان هذا الدرس: صناعة الموت.

    واعجباً لك يا سلمان! لقد حدثتنا قبل عن صناعة الحياة، وفقهنا وفهمنا أن صناعة الحياة تعني أن يشارك الإنسان في كل مجالٍ من مجالاتها، بصناعتها وإقامتها على شريعة الله جل وعلا، فما بال صناعة الموت إذاً؟! لقد حدثتنا قبل أسبوعٍ أيضاً، عن عشاق الحياة، عشاق زينتها وبهرجها وجمالها الزاخر المليء الأخاذ، أفترى للموت عشاقاً أيضاً يجب أن يتحدث عنهم؟!

    أيها الإخوة الأحبة الكرام! وأيها الأخوات الكريماتُ الحبيبات إلى آبائهن وأمهاتهن وأزواجهن، الكافات العافات، السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته.. أما بعد:

    فإن الموت والحياة أخوان صنوان نظيران متشابهان.. قال الله تعالى: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [الملك:2] ولا يتقن صناعة أحدهما إلا من يتقن صناعة الآخر، فالذي يصنع الحياة الكريمة هو الذي يختار الميتة الشريفة، وما أذل الناس وخفض رقابهم إلا حب الحياة والرغبة فيها دون قيدٍ أو شرط، قال الله تعالى عن اليهود: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] حياة هكذا!! أياً كانت، حتى ولو كانت حياة الذل، والفقر، والهوان، والضعف، والخمول!! المهم عندهم أن يظلوا أحياءً وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] والتنكير هاهنا في كلمة "حياة" هو للتحقير.

    ومن الطرائف التي تساق في هذا المجال: أنني سمعتُ زعيماً لمنظمةٍ يعدونها منظمة للتحرير، تحرير الأرض، وتحرير الإنسان، سمعته يقول في إذاعة كبرى، في يوم من الأيام، وهو يمدح المؤمنين والمجاهدين، والصابرين، وأنهم يحبون الموت كما تحبون الحياة، فيقول: قال الله تعالى: وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96] يظن أن هذه الآية مدح، ولم يدرِ أنها ذم، ويظنها في المؤمنين، وما درى أنها في بني إسرائيل اليهود!!

    خوف الكافر من الموت

    الكافر يخاف الموت ويرهبه، ولهذا يفشل الكافر في صناعة الحياة الحقيقية، ترى اليوم اليهود، كيف يذعرون لما يحدث لعددٍ بسيطٍ من جنودهم وأفرادهم على أيدي شباب المسلمين ربما كانوا صغاراً دون الخامسة عشرة، فيجن جنونهم، ويمطروا بلاد الإسلام بوابل النيران أياماً متتالية، خوفاً على حفنةٍ قليلة من جنودهم، لأن قتل واحد يرهب منهم ألوفاً بل عشرات الألوف، لماذا؟ لأنهم كما وصفهم ربهم العليم بهم فقال: أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ [البقرة:96].

    وترى أيضاً، كيف أن الأمريكان والأوروبيين والكفار بصفةٍ عامة يعتبرون قتل واحد منهم، أو سجن أعدادٍ قليلة، قضية كبرى!! ويثيرون من أجلها أعظم المعارك؛ المعارك السياسية والإعلامية، ويتدخلون، وتؤثر في قراراتهم الكبرى، من أجل حفنة من جنودهم يحاصرون في الصومال، أو يقتلون في البوسنة، أو يتعرض لهم هنا أو هناك.

    هذا أمرٌ لا يلامون عليه، نعم إنه دليلُ من جهة -ولا ننكر هذا- دليلٌ على أن للفرد عندهم قيمةً ومعنىً، وأن حكوماتهم تظهر من خلال ذلك، وفاءها والتزامها بالعقد والعهد والميثاق والبيعة التي عقدتها بينها وبين رعيتها، فتقول لشعوبها: نحن نهتم بكم، ونحرص على حياتكم، ونضحي من أجل أفرادٍ قلائل منكم، حرصاً على حياتهم، أو حريتهم، أو سعادتهم، أو رفاهيتهم، فلا يلامون على ذلك، ولا يعاتبون عليه، بل هم من خلاله يظهرون الالتزام بذلك العقد بين حكوماتهم وبين شعوبهم، لكن هناك في المقابل الرعب، والتعلق بالحياة، الذي حصرهم بين أربعة جدران.

    من بين الملايين، بل من بين مئات الملايين، الذين يعيشون في تلك البلاد لا يبعد أن تجد أفراداً يعدون على الأصابع مغامرين، فهم يشقون عنان الفضاء في رحلة ما يسمونها بغزو الكواكب.

    غزو الكواكب كشف العلم ظاهره     والله يعلم ما أخفوا وما كتموا

    أو قد تجد من بين هؤلاء: المغامر الذي يمخر عباب الماء، أو يغوص فيه، طمعاً في مغنم، أو طمعاً في شهرة، أو طمعاً في خلودٍ دنيوي عابر، أن يتكلم عنه الإعلام، أو يخلد ذكره التاريخ، أو ينصبوا له نصباً أو تذكاراً أو تمثالاً في ساحة أو ميدانٍ عام، يوجد آحاد وأفراد من هؤلاء، أما هذه الملايين، ومئات الملايين من أفرادهم، فكلهم يركضون وراء الحياة، وراء الحطام، كلهم حريصون عليها.

    إن الرجل الغربي اليوم يرى الدنيا ويرى فيها كل شيء، فإذا فقدها، فقد ينتحر، لماذا؟

    إذا خسر صفقة تجارية، أو خانته عشيقته، أو فقد أملاً من آماله، فإن أقرب حل لديه هو الانتحار، والانتحار نفسه دليل الفشل، ودليل على عدم القدرة على مواجهة المشكلات، وعدم القدرة على عدم التكيف مع الحياة وظروفها المتجددة، وإلا فكيف يفسر أنه اليوم يتم علاج عشرات الآلاف من الجنود الأمريكان من جراء معارك، كمعارك الخليج، ما خاضوا فيه حرباً حقيقية؟! ولا لاقوا مقاتلين ولا جنداً؟! وإنما كانوا يقاتلون من وراء جدر، ويقاتلون من خلال التقنية، ومن خلال الآلية العسكرية الضخمة التي جلبوها وتترسوا وراءها، فيكف كان الحال لو واجهوا حرباً؟! أم كيف تكون الحال لو واجهوا قوماً مؤمنين مسلمين يبحثون عن الموت كما يبحث أولئك عن الحياة؟! إنهم تعبوا على حياتهم، وتأنقوا فيها، فلا يحبون مغادرتها وتركها، ولهذا يسارعون في التمتع واللذة، حتى منذ طفولتهم.

    تحدث الأستاذ سيد قطب -رحمه الله تعالى- كيف أنه رأى صبيةً في الرابعة عشرة من عمرها، وكانت أمها تدربها على فنون اللذة الجسدية، فنون الجنس والغرام والحب، وكان هناك رجل يسألها، ويقول: ألا ترين أن هذه الطفلة ما زالت صغيرةً غريرة؟ فقالت له: إن الحياة قصيرة، وليس هناك وقتٌ ولا متسع لنصرف شيئاً في الطفولة، وشيئاً في الشيخوخة والهرم، فلا بد أن نستثمر الحياة ونتمتع بها.

    كيف يستثمرونها؟ في اللذات العابرة، والشهوات الجسمانية الحيوانية، حتى الأطفال يُربَّون على ممارسة الجنس والشراب وألوان النعيم المغرق؛ لأن الدنيا غاية همهم، ومنتهى آمالهم، وآخر طموحهم.

    الموت في نظر المسلم له معنى آخر

    أما حين تنظر إلى المسلمين، فإنك تجد فيهم عرفاً متوارثاً منذ عصر الرسالة، منذ عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو إن المسلم يعلم أن الحياة ليست هي كل شيء؛ حتى ذلك المسلم العادي، غير المتعلم، ولا الداعية، ولا المجاهد، هو يعرف أن ثمة حياة آخرة يؤمن بها، ويعتقد أنه سينتقل إليها، ويؤمل في ربٍ رحيم، ولهذا فالموت عنده له معنىً آخر، مختلف عن الموت في نظر الكفار الذين يرون الموت فناءً محققاً، وعدماً محضاً، ونهايةً لا حياة بعدها ولا وجود.

    أما المسلم المجاهد الباحث عن الموت، فهو لونٌ آخر، يرى أن الموت هو الحياة، قال الله تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [آل عمران:169].

    لم نخشَ طاغوتاً يحاربنا وإن     نصب المنايا حولنا أسوارا

    ندعو جهاراً لا إله سوى الذي     خلق الوجود وقدر الأقدارا

    ورءوسنا يا رب فوق أكُفنا     نرجو ثوابك مغنماً وجوارا

    كنا نرى الأصنام من ذهبٍ     فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا

    لو كان غير المسلمين لحازها     كنـزاً وصاغ الحلي والدينارا

    كم زلزل الصخر الأشم وما وهى     من بأسنا عزمٌ ولا إيمانُ

    لو أن آساد العرين تفزعت     لم يلقَ غير ثباتنا الميدانُ

    توحيدك الأعلى جعلنا نقشه     نوراً تضيء بصبحه الأزمانُ

    إنك تتعجب أشد العجب من أعدادٍ من المسلمين الموجودين اليوم، على سبيل المثال في الصومال جياع، عراة، عطاش، فقراء، محرومون من أبسط معاني الحياة الكريمة السعيدة، فيقومون في الشوارع، يرفعون الأوراق واللافتات، ويتجمهرون، ويقولون للغربي الكافر القادم إلى بلادهم: ارحلوا عن بلادنا، لا نريدكم، فيمطرونهم بالنيران والرصاص، ويسقطون منهم أكثر من عشرين قتيلاً في تجمهرٍ واحد، دون أن يكون المسلمون يحملون ولا حتى العصي أو العيدان، ثم تظن أن ذلك سوف يجعلهم يأوون إلى بيوتهم، ويختفون في أماكنهم ومعاقلهم وغرفهم، فإذا بهم يكررون العملية كل يوم، ويتزايد عددهم، ويرتفع صوتهم، وإذا بوسائل الإعلام العالمية تنقل هذه الرسالة إلى العالم الغربي، الذي ما زال يصم أذنيه عن صراخ المسلمين وصياحهم، وندائهم، واحتجاجهم!!

    إن العالم اليوم بهذه الطرق يضطر المسلمين اضطراراً إلى البحث عن الشيء الذي كان يجب أن يختاروه اختيارياً، إنه يضطرهم إلى صناعة الموت، ويجعل منهم مقاتلين أشداء أشاوس.

    نعم! هذا الدين أثبت خلوده وتاريخيته وبقاءه، غزته أممٌ كثيرة، فذهبت وبقي الإسلام، فقد جاء التتار بجيوشهم المتوحشة، وسمع صوت صياحهم من آفاقٍ بعيدة، فإذا بهم يجتاحون بلاد الإسلام، وإذا بالأنهار تجري أحياناً حمراء من دماء المسلمين، وأحياناً أخرى زرقاء من كتبهم التي أغرقوها في الأنهار، ثم ينتصر الإسلام، ويتحول التتار إلى مسلمين، وإذا بك اليوم تسمع جمهوريةً من بقايا الاتحاد السوفيتي، يسمونها تتارستان، وقد قرأت مقابلةً مع بعض شخصياتها، فإذا بهم يعلنون أنهم لا يعتزون إلا بالإسلام، هذه تتارستان هي منطلق التتار الذين وطئوا بغداد وبلاد الإسلام والشام، وفعلوا الأفاعيل وسفكوا دماء المسلمين، هاهي اليوم لا تفتخر إلا بالإسلام، ولا تعتز إلا به.

    بغت أممُ التتار فأدركتها     من الإيمان عاقبة الأمانِ<

    إنه الدين الخالد، الذي يملك عناصر البقاء، فإذا قاومه قوم انهزموا، وبقي الإسلام.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089138051

    عدد مرات الحفظ

    782100897