هناك موضوع بل موضوعات مهمة جداً لطالب العلم، فأبدأ -إن شاء الله- من هذه الليلة بالعرض أو التعرض لهذه الموضوعات ولو بشيء من الاختصار، لعل أن يكون فيها فائدة ونفع -إن شاء الله- وهناك موضوعان متقابلان مهمان، سيكون الحديث عنهما بإذنه تعالى لأسابيع عديدة، الأول منهما: أعذار أهل العلم في ترك العمل بسنة من سنن النبي صلى الله عليه وسلم -أعذار العلماء في ترك العمل بحديث من الأحاديث أو سنة من السنن- ويدخل فيه الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين أهل العلم، ويقابله موضوع آخر يمكن أن أختار له عنواناً حول مثالب الطلاب، وهو إشارة إلى آفات طالب العلم التي تعترضه ويلزم التنبيه عليها للحذر منها، ومن هذه الليلة إن شاء الله يكون البدء بالموضوع الأول وهو: الأسباب التي تجعل بعض أهل العلم يتركون العمل بحديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
والذي دعاني إلى طرح هذا الموضوع ما أراه في واقع كثير من طلبة العلم في هذا العصر من الجرأة على العلماء، ورميهم -أحياناً- بالألفاظ القاسية الشديدة، التي لا تتناسب مع مقدارهم ومكانتهم وجهادهم في سبيل الله عز وجل.
وعلى سبيل المثال بين يدي الآن كتاب يقول فيه مؤلفه في مقدمته: وإنه من المؤسف المحزن أن من الناس من يدينون بأديان أئمة مذاهبهم، ومشايخ طرقهم،ثم يقول: ألا فليعلموا أنه لا دين إلا دين الكتاب والسنة، وأئمة المذاهب يأخذون من التوراة والإنجيل أو من أين؟! ثم يقول: وأن التقليد الأعمى من غير دليل كفر بالله العظيم، ولقد آن الأوان لكي نحطم هالات التقديس وتيجان الربوبية التي وضعت فوق رءوس أئمة المذاهب ومشايخ الطرق -ومما يلفت النظر أنه جمع بين أئمة المذاهب ومشايخ الطرق وشتان بينهما- ثم يقول في صلب الكتاب وهو يتعقب الشيخ الألباني في أحد المسائل حين تكلم الشيخ عن موضوع الإيمان واختلاف الناس في مسماه قال -تعقيباً على قول الشيخ الألباني: إن العلماء اختلفوا في ذلك اختلافاً كثيراً- قال هذا المتعقب: إن اختلاف الناس في مسألة من المسائل يرجع إلى أنهم لم يدينوا بدين الكتاب والسنة، وإنما دانوا بأديان أئمتهم ومشايخهم، فلا بد من الاختلاف حتماً، أما دين الله -دين الكتاب والسنة- فليس فيه ذرة اختلاف قطعاً ويقيناً، يقول الحق تبارك وتعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النساء:82] ثم يقول: فعلمنا يقيناًَ أن الذي من عند غير الله فيه اختلافاً كثيراً -كذا كتبها ملحونةً فهو لا يفرق بين المبتدأ والخبر، والفاعل والمفعول- وعلمنا يقيناً أن الذي من عند الله وحده ليس فيه ذرة اختلاف، ثم قال: وأهدي إلى القارئ الكريم بحثٌ -الصواب (بحثاً) لأنه مفعول به منصوب، بحثاً- من دين الكتاب والسنة لمسمى الإيمان والإسلام، ثم جاء بما فهمه هو من النصوص واعتبره هو دين الكتاب والسنة.
ومثل هذا كثير في هذا العصر، أصبحت تجد كثيراً من الناس يتجرءون على الأئمة والطعن فيهم، وأنهم لم يختلفوا إلا لأنهم لم يدينوا بدين الكتاب والسنة، وهذا يوجب أن نعرف وخاصة ونحن ندرس -بحمد الله- مسائل على ضوء الكتاب والسنة، ونعرض فيها لأقوال الأئمة المتبوعين وغيرهم، فلا بد أن نعرف ما هي الأسباب التي تؤدي إلى اختلاف هؤلاء الأئمة أو تركهم لعمل بحديث من الأحاديث.
السبب الأول: أن لا تبلغه هذه السنة، أي لم تصل إليه، وهذا ما سأتعرض له الآن.
السبب الثاني: أن تبلغه ولا يعتقد أنها تدل على هذا الحكم، أي أن يبلغه الحديث لكن لا يعتقد أنه يدل على الحكم الذي قيل أنه تركه، ويمر علينا من هذا أشياء كثيرة في الدروس، يصل إليه الحديث لكن لا يوافق هذا الإمام على أن هذا الحديث يدل على ما تقولون.
السبب الثالث: أن يبلغه الحديث، ولكنه ينساه، في وقت من الأوقات أو على الدوام، فيفتي بخلافه.
السبب الرابع: أن يبلغه الحديث ويحفظه ولا ينساه ويعتقد دلالته على الحكم المطلوب، لكنه يعتقد أنه منسوخ بدليل آخر، فهذه أربعة أسباب كبرى، كل اختلاف لظواهر القرآن والسنة عند أي إمام من الأئمة المعتبرين لا يخرج عن أحد هذه الأسباب الأربعة البتة، وسنعرض لكل سبب في وقت خاص إن شاء الله.
ولنلق نظرة سريعة على أعلم الناس وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، بل وعلى أعلم الصحابة وهم الخلفاء الأربعة، فبالنظر سنجد أن هؤلاء الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم قد فاتهم شيء من السنة، كان عند غيرهم ممن هو أقل منهم علماً وأقل ملازمة للرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه الذي كان ملازماً للرسول صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول -كما في الصحيح-: دخلت أنا وأبو بكر وعمر، خرجت أنا وأبو بكر وعمر.. فكانا ملازمين له صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله، وبالذات أبو بكر رضي الله عنه، ومع ذلك جاءت إليه الجدة تسأله نصيبها من الميراث وهي أم الأم وفي رواية أم الأب، فقال لها: مالك في كتاب الله شيء، وما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لك شيئاً، ولكن ارجعي حتى أسأل الناس.
فصعد أبو بكر رضي الله عنه على المنبر، وسأل الصحابة إن كان أحد منهم يذكر أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر في ميراث الجدة شيئاً، فقام المغيرة بن شعبة فذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس، فقال: هل معك أحد؟ فقام محمد بن مسلمة فشهد على ذلك، فأعطاها أبو بكر السدس، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه، والإمام أحمد، وهو من رواية قبيصة بن ذؤيب عن أبي بكر رضي الله عنه، وقبيصة من التابعين لم يلق أبا بكر رضي الله عنه، فروايته عنه مرسلة، فالحديث على هذا مرسل ولكنه يعتضد بالإجماع على الأخذ به، فقد ذكر محمد بن نصر المروزي أن الصحابة والتابعين اتفقوا على أن نصيب الجدة السدس، فهذا أبو بكر رضي الله عنه خفي عليه ميراث الجدة حتى أخبره من هو أقل منه علماً وهو المغيرة بن شعبة رضي الله عنه ومحمد بن مسلمة، وكذلك وردت هذه السنة عن عمران بن حصين رضي الله عنه.
ثم انظر إلى الخليفة الثاني وهو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد طالت مدة خلافته فكثرت فتاواه رضي الله عنه، وهو من فقهاء الصحابة المعدودين ولذلك نقل عنه أشياء كثيرة حفيت عليه فيها سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، من أشهرها ما في الصحيحين أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر بن الخطاب في بيته، فقال: السلام عليكم، هذا عبد الله بن قيس، فكان عمر مشغولاً ببعض شأنه وربما كان يريد أن يؤدب أبا موسى لأن أبا موسى كان والياً على الكوفة وكان عمر يريد أن يبين له أن حجز الناس في الأبواب وحجبهم أمر ثقيل وشاق على النفوس، فاستأذن أبو موسى مرة ثانية، وقال: السلام عليكم هذا أبو موسى، فسكت عمر، فاستأذن مرة ثالثة، وقال: السلام عليكم هذا الأشعري، ثم انصرف، فانتهى شغل عمر وانتبه، وقال: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ قالوا: بلى، قال: علي به، فنظروا فإذا هو قد ذهب، فجاءوا به إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه، فقال: ألم أكن أسمع صوتك تستأذن بالباب؟ قال: بلى، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فإن أذن له وإلا فليرجع} فقال عمر: لتأتيني ببينة على ما قلت أو لأودعنك، فـعمر رضي الله عنه كان يشدد في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يتثبت الناس في التنقل والرواية، لذلك ضرب المثل بـأبي موسى؛ لأنه يعرف أن أبا موسى لا يمكن أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن أراد أن ينبه الناس إلى أنه هكذا سنفعل، فمن كان غير متثبت فعليه أن لا يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج أبو موسى من عنده مذعوراً فزعاً، فمر على نفر من الأنصار جلوساً، فقال لهم: هل سمع أحد منكم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقول: الاستئذان ثلاثاً، فتضاحك القوم، فقال لهم: يأتيكم أخوكم فزعاً مذعوراً فتتضاحكوا، فسألوه ما شأنه فأخبرهم، فقال أبي بن كعب: لا يقوم معك إلا أصغرنا، فقام معه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، فذهب إلى عمر رضي الله عنه فشهد عنده أنه سمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقول ذلك.
وفي صحيح مسلم أن أبياً جلس مع أبي موسى عند المنبر فقال عمر لمن حوله: إن وجد أبو موسى أحداً يشهد له فستجدونه عند المنبر، وإن لم يجد فلن تجدوه، فلما أقبل عمر وجد أبا موسى وأبياً عند المنبر، فقال لـأبي موسى أوجدت أحداً؟ قال: نعم، هذا أبي بن كعب، فقال: ما تقول يا أبا المنذر؟ قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول كذا وكذا، ثم قال أبي بن كعب: يا ابن الخطاب لا تكن عذاباً على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: إنما سمعت أمراً فأردت أن أتثبت.
فهذا عمر رضي الله عنه وهو من هو في سعة علمه، وجلالة قدره، وثناء الرسول صلى الله عليه وسلم عليه في الأحاديث الصحاح، حتى أنه ذكر في الحديث الصحيح: {أنه رأى الناس وعليهم قمص، منهم من يبلغ الثدي، ومنهم من دون ذلك، وعلى
وحادثة أخرى لـعمر رضي الله عنه وهي أنه لما ذهب إلى الشام ونـزل بـسرف وهي بلدة على أطراف الجزيرة بحدود الشام، سمع بأن الطاعون قد أصاب أهل الشام وانتشر فيهم، فتحير في ذلك رضي الله عنه فجاء بالمهاجرين الأولين فاستشارهم، فأشاروا عليه برأي ولم يذكروا له سنة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أحضر الأنصار واستشارهم فأشاروا عليه برأي، ثم أحضر مسلمة الفتح واستشارهم فأشاروا عليه برأي وكان عبد الرحمن بن عوف غائباً في بعض شأنه، فلما جاء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول في الطاعون: {إذا نـزل الطاعون في أرض وأنتم فيها؛ فلا تخرجوا منها فراراً منه، وإذا سمعتم به في أرضٍ؛ فلا تقدموا عليه} ففرح بذلك عمر وسر ورجع، فهذه السنة خفيت على عمر رضي الله عنه، بل وعلى جمهور المهاجرين وسائر المسلمين، وحفظها عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، ولـعمرقصص عديدة غير هذه.
فإذا انتقلت إلى الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه، وجدت أنه لم يعلم بأن المرأة المتوفى عنها تعتد في بيتها، حتى أخبرته بذلك الفريعة بنت مالك، أخت أبي سعيد الخدري أخبرته بقصتها وأنه توفى عنها زوجها فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تعتد في بيتها حتى يبلغ الكتاب أجله، والحديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
فإذا انتقلت إلى الخليفة الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وجدته وابن عباس رضي الله عنهما يقولان: بأن المتوفى عنها وهي حامل تعتد أطول الأجلين من الحمل أو من أربعة أشهر وعشراً، مع أن في الصحيحين وغيرهما من حديث سبيعة الأسلمية حين توفي عنها زوجها سعد بن خولة فوضعت فأخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أنها خرجت من عدتها بذلك.
فإذا كان هذا هو الشأن في الصحابة بل في الخلفاء الراشدين؛ فغيرهم من العلماء من باب أولى أنه قد يفوت الواحد منهم شيء من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس يشترط أن يكون محيطاً بالسنة كلها، فإن هذا لو قيل لكان معناه أنه لا مجتهد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى من الصحابة، لأنه سبق أن من الصحابة من قد تخفى عليه السنة من سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا جانب، وهو يتعلق بخفاء السنة على بعض العلماء.
الشرط الأول: عدالة الراوي.
والشرط الثاني: ضبطه.
والشرط الثالث: اتصال الإسناد.
والشرط الرابع: السلامة من الشذوذ.
والشرط الخامس: السلامة من العلة القادحة.
فهذه خمسة شروط يتوقف عليها تصحيح الحديث، بل ومن العلماء من يضيف شروطاً أخرى ككون الراوي فقيهاً وكونه عالماً، وكونه مشهوراً بحمل العلم، وما أشبه ذلك، وكل شرط من هذه الشروط أهل ومحل لأن يختلف فيه أهل العلم، فإن ما يوجد -مثلاً- بين علماء الجرح والتعديل من الاتفاق والاختلاف، مثل ما يوجد بين غيرهم من أصحاب العلوم الأخرى، فهم يختلفون في توثيق الراوي، ويختلفون في لقائه لشيخه، ويختلفون في العلل، ويختلفون في الاتصال والانقطاع، ويختلفون في الوصل والإرسال، ويختلفون في الشذوذ وعدمه، والأمثلة على هذا أكثر من أن تحصر، ولم أر داعياً لذكر أمثلة لكثرتها أولاً، ولأنه يمر خلال هذه الدروس أمثلة كثيرة جداً، ولو أردنا أن نمثل بأمثلة مما سبق، لوجدنا أن هناك مما اختلف فيه العلماء بسبب اختلافهم في توثيق الراوي أو تضعيفه، وهناك حديث اختلفوا فيه لاختلافهم في اتصال إسناده أو انقطاعه، وهناك ما اختلفوا فيه لاختلافهم في شذوذه أو عدمه، أو اختلافهم في وجود علة فيه من اضطراب، أو إرسال خفي أو نحو ذلك.
فإذا كانت هذه الاختلافات كلها موجودة، ورأيت إماماً ترك العمل بحديث ما، ولو كان صحيحاً في ما اطلعت عليه أنت، فتذكر أن هذا العالم المجتهد قد يرى هذا الحديث ضعيفاً، فحينئذ لا يلزمه أن يقول بموجبه، ولا أن يعمل به، بل يلزمه ألا يعمل به إن وجد أولى منه، من حديث آخر أو ظاهر آية أو قياس جلي أو ما أشبه ذلك مما قد يرجحه بعضهم على الحديث الضعيف، هذا الجانب الأول أو العذر الأول للعلماء في ترك العمل بسنة من السنن، وهو ألا يعتقد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذه السنة أو هذا الحديث، إما لأنه لم يبلغه أصلاً وإما أنه لم يصح عنده من وجه صحيح، والله أعلم.
فما يتعلق بالنسيان فهو أمر جبلي طبيعي في البشر، لا ينفك منه إنسان مهما كانت منـزلته، ومهما كان علمه وحفظه، والنسيان على نوعين:
النوع الأول: نسيان مطلق كامل، بمعنى أن ينسى الإنسان الشيء فيذكر به فلا يذكره، وهذا غير ممكن في حق النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مبلغ عن الله عز وجل فيما يتعلق بالرسالة والتبليغ والوحي، إلا أن يكون في مجال النسخ، أن ينسخ شيء فيحتمل أن ينساه النبي صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ [الأعلى:6-7] وكما في قوله تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة:106] أما أن ينسى الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبر به من أمور التشريع والوحي فيذكر به ولا يذكره، فهذا غير ممكن في شأن النصوص المحكمة، ولكنه ممكن في حق غيره من البشر أياً كانوا من الصحابة فمن دونهم.
أما النوع الثاني: فهو أن ينسى الإنسان شيئاً فإذا ذكر به تذكر، وهذا جائز حتى في حق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع صوت قارئ يقرأ في المسجد في الليل، فقال: رحم الله فلاناً كم من آية أذكرنيها كنت أنسيتها} أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد دلت رواية البخاري على أن فلاناً هذا هو عباد، يعني عباد بن بشر الصحابي الجليل المشهور، وفي رواية أنه عبد الله بن زيد، وكونه عباد أقوى لأنها في البخاري، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم نسي آية فلما سمع عباداً يقرؤها تذكرها صلى الله عليه وسلم.
ثم من بعده من الصحابة والتابعين وسائر علماء الإسلام يعرض لهم من النسيان من النوع الأول والنوع الثاني، وسأذكر الآن بعض الأمثلة التي فيها ذكر نسيان من بعض الصحابة أو غيرهم، سواء ذُكِّروا فتذكروا أم ذكروا فلم يتذكروا، من غير تمييز بين هذا وذاك.
فمن الروايات الصحيحة المتفق عليها عن عمر رضي الله عنه أنه سئل عن الرجل يجنب في السفر -رجل مسافر تصيبه الجنابة وليس معه ماء كيف يصنع؟!- فقال عمر رضي الله عنه: لا يصلي حتى يغتسل، فقال له عمار بن ياسر رضي الله عنه: أتذكر يا أمير المؤمنين يوم كنت أنا وأنت في الإبل فأجنبنا، فأما أنا فتمرغت بالتراب تمرغ الدابة، وأما أنت فلم تصل، فلما أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت له ذلك فقال: إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا، وضرب بكفيه الأرض، لوجهه ويديه، فقال عمر: اتق الله يا عمار، قال عمار: إن شئت لم أحدث به يا أمير المؤمنين، قال عمر رضي الله عنه: بل نوليك من ذلك ما توليت، يعني أذن له أن يحدث به ويتحمل مسئولية هذا الخبر الذي نسيه عمر رضي الله عنه ولم يذكره.
وأبلغ من ذلك ما ورد عند أبي يعلى وسعيد بن منصور أن عمر رضي الله عنه صعد المنبر يوماً فقال: أيها الناس، لا تغالوا في صُدق النساء، فإني لا أعلم رجلاً زاد في الصداق على مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته إلا رددته، وكان مهر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبناته ثنتي عشرة أوقية ونشاً ونصفاً، فقامت امرأة وقالت: لم يا أمير المؤمنين؟ ثم تلت قوله تعالى: وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً [النساء:20] فسكت عمر رضي الله عنه، ورجع إلى قولها، وهذا الإسناد فيه مجانب بن سعيد وفيه لين، ولكن ورد الحديث من طرق عديدة في مصنف عبد الرزاق عن أبي عبد الرحمن السلمي، وفي الموفقيات للزبير بن بكار عن عبد الله بن مصعب، وفي غيرها من الكتب، فالظاهر أن الرواية قوية، وقد ذكرها السيوطي في الدر المنثور وقال: بسند جيد، وفي بعضها أن عمر لما ذكرت المرأة الآية، قال: أخطأ رجل وأصابت امرأة، أو أخطأ عمر وأصابت امرأة، ورجع على نفسه باللوم: أن كل الناس أفقه منك يا عمر، وهذا دأب المؤمن يزدري نفسه ويهضمها ولا يرفعها فوق قدرها، فها أنت ترى أن عمر رضي الله عنه نسي هذه الآية وما تدل عليه من أنه يجوز أن يكون المهر قنطاراً وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً [النساء:20] ثم ذكرته هذه المرأة فتذكر.
بل لماذا نذهب بعيداً ونحن نجد أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم قد أطبقوا على نسيان مفهوم قوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] بعد أن دهشوا لموته صلى الله عليه وسلم، حتى قام عمر وهو من أقوى الناس وأثبتهم وأجلدهم، يقول: إن قوماً زعموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، ويصفهم بالنفاق، وأنه سوف يأتي ويقطع رقابهم، فلما صعد أبو بكر وتلى هذه الآية تناقلها الناس حتى كأنهم لم يسمعوها قبل اليوم، وصارت تتلى في كل بيت كأنها نـزلت الساعة.
ومما يذكر من نسيان بعض الصحابة ما رواه الحاكم والبيهقي وغيرهما أن الزبير رضي الله عنه قال له النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم: {هل تحب
فقال الزبير: بلى ولكني نسيت، ثم لوى عنق راحلته وشق الصفوف وخرج من المعركة، وذهب حتى نـزل في وادٍ يقال له وادي السباع، فاتبعه رجل يقال له عمر بن جرموز فقتله غيلة، واحتز رأسه -والله حسيبه- ثم جاء برأسه إلى علي بن أبي طالب واستأذن عليه فقال علي: لا تأذنوا له وبشروه بالنار، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {بشر قاتل
ولذلك صنف أهل العلم كتباً خاصة بهذا الباب، فصنف الإمام الدارقطني كتاباً أو جزءاً فيمن حدث ونسي، ثم تبعه على ذلك الإمام الخطيب البغدادي أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت المشهور بـالخطيب البغدادي، فصنف جزءاً فيمن حدث ونسي، وتبعهم السيوطي فلخص كتاب الخطيب البغدادي في جزءٍٍ سماه تذكرة المؤتسي فيمن حدث ونسي، وذكر فيه ما يربوا على ثلاثين حالة حدث فيها أهل العلم الثقات بأحاديث ثم نسوها.
ومن الطريف أنهم ينسونها أحياناً، فيقول من روى عنه إنك حدثتني بهذا، فيبدأ الشيخ يروي عن فلان أنني حدثته عن فلان، ومن ذلك ما رواه سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أيما امرأة نكحت بغير ولي فنكاحها باطل} والحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، قال ابن جريج: فلقيت الزهري فسألته عن الحديث فلم يعرفه.
ومن ذلك أيضاً ما رواه ربيعة بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين} والحديث أيضاً رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، قال العلماء: فنسي سهيل بن أبي صالح هذا الحديث، فكان يقول: حدثني ربيعة بن عبد الرحمن، -الذي أخذ عنه هذا الحديث- أنني حدثته عن أبي عن أبي هريرة: {أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد واليمين} وقد ذهب أكثر أهل العلماء من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين إلى أنه تقبل هذه الرواية وإن نسيها صاحبها ما دام الراوي عنه ثقة، وذهب بعض الأحناف إلى عدم قبولها، ولذلك ضعفوا الحديث الأول وأجازوا أو أجاز كثير منهم أن تنكح المرأة البالغة العاقلة نفسها، ولكن الصحيح أنه يقبل إذا كان الراوي ثقة إذا كان الذي أخذ عن هذا الرجل الذي نسي ثقة.
والمقصود أن النسيان يعرض لابن آدم، وقد يتذكر وقد لا يتذكر، فقد ينسى إمام من الأئمة أو عالم من العلماء آية قرآنية أو حديثاً نبوياً فيقول بخلاف ما يدل عليه، فإن ذكر وكان الحديث ظاهراً أو كان الدليل آية قرآنية تذكر ورجع كما رأيتم، وقد يذكر فلا يتذكر، ويبقى على نسيانه سواء لعلة ظهرت له كما حصل لبعضهم، أو لأنه شرد من ذهنه هذا الحديث ولم يستطع أن يتذكره، والإنسان من طبيعته أن ينسى بعض الأشياء كما قيل: (قد يغلط الحافظ أحياناً) مهما يكن في الحفظ والإتقان، فهذا من الأعذار التي تلتمس لأهل العلم الثقات المعتبرين المتبوعين في نسيانهم في مخالفتهم لبعض الأحاديث النبوية.
الأمر الأول: يرجع إلى مخالفة هذا العالم في قضية أصولية، ويُفهم هذا المعنى من خلال الأمثلة التالية:
فقد يكون العالم يخالف أو له رأي في قضية من القضايا الأصولية، وهذه القضية أثرت في موقفه من هذا النص، فمثلاً العلماء يختلفون كثيراً في مسائل الأصول ومن ذلك اختلافهم في الدلالات، فقد اختلفوا في ما يسمى بمفهوم المخالفة، ودلالة مفهوم المخالفة هل يعمل بها، تصح أم لا، والمقصود بمفهوم المخالفة -كما سبق في مواضع عديدة- هو إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، يعني إذا نطق الشارع بتحريم أمرٍ وسماه أثبتنا للمسكوت عنه نقيض هذا الحكم، ودلالات مفهوم المخالفة كثيرة عند العلماء من أشهرها عند الأصوليين ما يسمونه بدلالة الحصر، فمثلاً في السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن سهل بن سعد -في قصة طويلة- قال: {إنما التصفيق للنساء} إنما هي أداة حصر، دل هذا الحديث على أن التصفيق للنساء، ودلالته على هذا الحكم، هل هي بالمنطوق أو بالمفهوم؟ بالمنطوق، لأن نص الحديث إن التصفيق إنما هو للنساء، لكنه يدل بمفهومه على إثبات نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه، فبالنسبة للرجال هل يحسن أو يشرع لهم التصفيق؟ لا، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حصر التصفيق للنساء في الصلاة؛ فدل على أنه يثبت للرجال حكم آخر، أو أن حكم المسكوت عنه وهو التصفيق للرجل له نقيض حكم المنطوق، وعُلِمَ من نصوص أخرى أن الرجل يسبح، بل من نفس الحديث لكن من غير هذا الموضع، فهذه دلالة الحصر، أو مفهوم الحصر.
كذلك من دلالات المفهوم التي يذكرها الأصوليون دلالة الصفة، فمثلاً: إذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {في السائمة زكاة} كما في كتابعمر في الترمذي وعند أبي داود وفي الموطأ؛ أنه في السائمة من الغنم أنه إذا كانت من الأربعين إلى مائة وعشرين شاة، فكونه وصفها بأنها سائمة، هذا وصف دل بمنطوقه على أن السائمة التي ترعى من الغنم إذا بلغت هذا النصاب ففيها زكاة، لكن دل بمفهوم المخالفة لهذه الصفة على أن غير السائمة كالمعلفة ليس فيها زكاة، هذا يسمى مفهوم الصفة، ومن الأمثلة من القرآن الكريم الاستدلال بقوله: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً [الإنسان:21] فإن البعض قد يحتج بأن وصفه خمر الجنة بأنه طهور يدل بمفهوم المخالفة على العكس، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون النقيض هو النجاسة قد يكون النقيض هو النجاسة؛ لأنه وقد يكون عدم الطهورية، وقد يكون وصف الخمر في الجنة بأنها شراب طهور أي طيبة مباركة بخلاف خمر الدنيا فهي خبيثة محرمة، على كل حال فإنه يصلح مثالاً لمفهوم الصفة.
ومن دلالات المفهوم عند الأصوليين دلالة اللقب، وذلك كما في حديث عبادة عند مسلم: {الذهب بالذهب، والفضة بالفضة... إلى آخر الحديث، فقوله الذهب بالذهب والفضة بالفضة إلى آخر الأصناف الستة دل عند من يقول بمفهوم اللقب؛ على أن الحكم لا يجري فيما عدا هذه الأصناف، الربا لا يجري فيما عدا هذه الأصناف المنصوص عليها، وهذا مذهب ضعيف، وجمهور العلماء على خلافه كما قد يمر -إن شاء الله- في أيام ودروس مقبلة، ومثل له بعضهم أيضاً بقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما الماء من الماء} وهذا الحديث منسوخ، والمقصود أن الإنسان لا يجب عليه الغسل إلا إذا أنـزل، فدل هذا الحديث بمفهوم اللقب على أن غير الإنـزال لا يوجب الغسل، لكن هذا منسوخ بالحديث المتفق عليه: {إذا جلس بين شعبها الأربع ثم جهدها فقد وجب الغسل} زاد مسلم {وإن لم ينـزل} فهذا مفهوم اللقب.
من مفهومات المخالفة عند الأصوليين مفهوم الغاية، وهي أن يقيد الشرع شيئاً بغاية، مثل قوله تعالى: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ [البقرة:187] فأباح الأكل والشرب إلى غاية معينة؛ وهي أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ومثاله من السنة، أيضاً ورد في البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن المرأة لا تحل لزوجها الأول حتى تذوق العسيل} أي لا يكفي مجرد العقد والدخول -مثلاً- حتى يجامعها، فقيد الحكم بغاية فدل على أنه قبل حصول هذه الغاية لا يوجد الحكم، فلو فرض أن رجلاً عقد على امرأة مطلقة بائنة هل تحل بمجرد هذا العقد لزوجها الأول؟ لا، إذن يثبت للمسكوت عنه نقيض حكم المنطوق، هذا مفهوم الغاية.
من المفاهيم عن الأصوليين مفهوم الشرط وهو أن يعلق الشرع الحكم على شرط، وأمثلته كثيرة جداً منها قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم عن ابن عباس: {إذا دبغ الإهاب فقد طهر} فهذا شرط، يعني أنه علق الطهارة على الدبغ، فدل على إثبات نقيض حكم المنطوق للمسكوت عنه، ودل الحديث بنصه (بمنطوقه) أن الإهاب إذا دبغ طهر، لكن بمفهومه على أن ما لم يدبغ فإنه نجس، هذه خمسة أنواع من دلالة المخالفة.
والنوع السادس والأخير هو مفهوم العدد أن ومثال مفهوم العدد حديث ابن عمر: {إذا كان الماء قلتين لم يحمل الخبث} الحديث رواه الأربعة عن ابن عمر، فالحديث قيد الماء بالقلتين، فنص الحديث على أن الماء إذا كان قلتين لم يحمل الخبث لكن دل بمفهومه على أن ما دون القلتين يحمل الخبث، وقد سبق الحديث على هذه المسألة وأن هذا المفهوم عارض بمنطوقه.
وكل ما سبق من الأمثلة المقصود منه بيان معنى هذا المفهوم وهذه الدلالة، إذاً عندنا ستة أنواع تسمى دلالات أو مفهوم المخالفة، قد يكون مفهوم المخالفة مفهوم حصر، وقد يكون مفهوم صفة، وقد يكون مفهوم لقب، وقد يكون مفهوم غاية، وقد يكون مفهوم شرط، وقد يكون مفهوم عدد، وكل هذه الأنواع اختلف فيها أهل العلم، فبعض أهل العلم أبطل دلالة مفهوم المخالفة بالكلية، ككثير من الحنفية والظاهرية ذهبوا إلى أن جميع هذه الدلالات لا يؤخذ بها، وإنما يؤخذ بما نص عليه الشارع، أما ما سكت عنه الشارع فإنه يؤخذ حكمه إما من نصوص أخرى أو يبقى على الأصل فقد يكون الإباحة -مثلاً- أو قد يكون الحل أو ما أشبه ذلك، فمن العلماء -علماء الأصول- من نازع في دلالة المفهوم، ومنهم من نازع في بعض الدلالات، لكن جمهور العلماء على قبول أو الأخذ بدلالة المفهوم.
المقصود من ذلك أن العالم الذي لا يقول بدلالة المفهوم -مثلاً- قد يخالف مفهوم نص من النصوص، فليست مخالفته حينئذ في أنه لا يحترم النص، لكن لأنه لا يرى أن هذا المفهوم لازم له في الشرع، وهذا قد يجعله يترك كثيراً مما تفهمه أنت من النصوص أنه يدل بمفهومه على كذا، هو لا يدل عنده على ما ذكرت، هذا مثال للقضايا الأصولية التي يكون الاختلاف فيها مؤدياً إلى الاختلاف في كثير من المسائل الفقهية.
المثال الثاني: هو اختلاف علماء الأصول في الأمر وماذا يقصد، والأمر عند الأصوليين: هو طلب الفعل على جهة الاستعلاء، كقوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ [الحج:77-78] فهذه كلها أوامر: اركعوا واسجدوا، من أعلى إلى أدنى، هذا هو الأمر، اختلف علماء الأصول في الأمر المطلق المجرد عن القرائن، ماذا يقصد؟ قد يوجد أمر دلت القرينة على أنه للوجوب، وقد يوجد أمر دلت القرينة على أنه للاستحباب أو للإباحة، كما في قوله تعالى: وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [المائدة:2] فالصيد ليس واجباً أو مستحباً لكنه مباح، إنما لأنه منع في حال الإحرام؛ بين الله عز وجل أن الإنسان إذا حل من إحرامه حل له أن يصطاد.
إذاً: الأمر المجرد عن القرائن علام يدل؟
اختلف العلماء واختلف الأصوليون، ذهب جمهور الأصوليين إلى أن الأمر يقتضي الوجوب، الأمر المجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فإذا أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأمر ولم يوجد قرينة تصرف هذا الأمر عن الوجوب فهو واجب، واستدلوا بأدلة منها قوله تعالى: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ [النور:63] فهدد المخالفين للأمر بالفتنة أو العذب الأليم، ومنها قول موسى عليه السلام لهارون: أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه:93] قال الشاعر:
أمرتك أمراً جازماً فعصيته |
ومنها -وهي ومن أقواها- قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك} هل السواك مستحب؟
نعم مستحب بإجماع أهل العلم، ومع ذلك هو غير مأمور به بمعنى الإيجاب، بدليل قوله: {لولا أن أشق... لأمرت} فدل على أنه ما أمر خشية المشقة، والمقصود أنه لم يأمرهم أمر إيجاب، كما أن قوله: {لولا أن أشق } دليل على أن المقصود أمر الإيجاب لأن المستحب ليس فيه مشقة، بحيث أن الإنسان في سعة في أن يفعله أو أن لا يفعله، هذا من أقوى الأدلة على أن الأمر للوجوب، والأدلة على ذلك كثيرة ولذلك كان القول بأن الأمر للوجوب قولاً قوياً راجحاً.
ومن العلماء والأصوليين من ذهبوا إلى أن الأمر المطلق المجرد عن القرائن يدل على الاستحباب، لأنه أقل ما يمكن أن يقال، فلا انتقل إلى ما فوقه من الإيجاب إلا بدليل جديد، يعني الأمر أقل ما يدل عليه الندب أو الاستحباب فنأخذ بالاستحباب، ولا نرتقي إلى القول بالإيجاب إلا بدليل جديد.
ومن الأصوليين من قالوا أنه مشترك بين الإيجاب أو الاستحباب، ومنهم من قالوا بالتوقف في ذلك، وهذه المسألة، مسألة هل الأمر للوجوب أو للاستحباب؟ يترتب عليها اختلاف في نصوص كثيرة جداً، ولعله سبق نماذج عديدة لها، فإذا كان عالم أمام نص من النصوص فيه أمر بشيء، فقال بأن هذا الأمر مستحب وليس بواجب، فليس لأنه لا يحترم هذا الأمر أو يبطل دلالته، لكن لأنه يرى أصلاً بناء على أدلة قامت في نفسه على أن الأمر يدل على الاستحباب، وإن كان هذا القول مرجوحاً، لكن هذا عذر له في القول باستحباب هذا الأمر وعدم إلزام الناس به، خاصة إذا قال بهذه المسألة بناء على دليل وهو أهل للبحث والترجيح في هذه المسألة، والأمثلة لذلك كثيرة جداً.
ومسألة ثانية الاختلاف في النهي لأن الكلام في النهي هو -أيضاً- مثل الكلام في الأمر، فالنهي من المسائل التي اختلف علماء الأصول فيها، فالنهي هو طلب الكف بعكس الأمر فهو طلب الفعل، النهي طلب الكف على جهة الاستعلاء، وقد اختلف علماء الأصول فيه فقال بعضهم وهو الجمهور: أن النهي يدل على التحريم -النهي المجرد عن القرائن- وهذا هو الأقوى، وقال بعضهم: يدل على الكراهة، وقال بعضهم: بالاشتراك، وقال بعضهم: بالتوقف، أي نفس الأقوال في النهي هي نفس الأقوال الموجودة في حال الأمر، فاختلف العلماء في هذا كما اختلفوا في ذلك، فالنهي أو الأمر في القرآن أو السنة عندهم كله يدخل في هذه المسائل.
فمثلاً قوله صلى الله عليه وسلم: {لا تشربوا أو لا تأكلوا} يدخل في هذه المسألة النهي عن الأكل والشرب في آنية المشركين، والأمر بغسل الإناء سبعاً من ولوغ الكلب وتتريبه، بل كل أمر من القرآن والسنة -والمقصود مجرد الأمر- فقد نقول: أن هذا الأمر بمجرده يدل على كذا، أو أن هذا النهي بمجرده يدل على كذا، لكن قد توجد قرائن في نفس المثال تدل على أن هذا الأمر للوجوب أو أن هذا الأمر للتحريم، لكن نحن حين نأخذ المثال بذلك، فهذا عذر لكثير من أهل العلم في ترك سنة من السنن أو المخالفة فيها، وهو مخالفتهم في قضية أصولية كمخالفتهم في أنواع الدلالات، أو مخالفتهم في الأمر، أو مخالفتهم في كون الأمر يقتضي الفورية، أو مخالفتهم في النهي.
الجانب الثاني من كونه يخالف في كون الحديث يدل على المقصود أن يخالفك في دلالة اللفظ، بحيث أن يكون اللفظ يحتمل أكثر من معنى، ومن أظهر الأمثلة على ذلك لفظ (القرء) الوارد في القرآن الكريم: وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوء [البقرة:228] القروء: جمع قرء -آخره همزة- والقرء كما يقولون: لفظ مشترك يطلق على الطهر، ويطلق على الحيض، وهذا يسمى في لغة العرب -أيضاً- من ألفاظ الأضداد، وقد صنف فيها العلماء كـالاصمعي والسجستاني وغيره، صنفوا كتباً في ألفاظ الأضداد، أي: أن يكون اللفظ يدل على الشيء وعلى ضده، وهناك الألفاظ المشتركة وهي التي تدل على عدة معاني، مثل ما قالوا مثلاً: أن العين تدل على العين المعروفة، وعلى عين الذهب، وعلى عين الشيء أي على ذاته، وعلى العين التي تصيب الإنسان، وعلى عين الماء الجارية، وعلى معانٍ أخرى وكلها تسمى عيناً، فإذا ورد لفظ من هذه الألفاظ في الشرع، فأيها المقصود به؟
هذا يقع فيه اختلاف، ولذلك اختلف العلماء من الصحابة ومن بعدهم في لفظ القرء المقصود، ما هي الأقراء التي تعتد بها المطلقة؟
هل هي ثلاث حيض أو ثلاثة أطهار؟ فذهب من الصحابة عائشة وابن عمر وزيد بن ثابت وتبعهم الإمام الشافعي ومالك ورواية عن أحمد إلى أن المقصود بالأقراء الأطهار، وذهب أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وتبعهم أبو حنيفة إلى أن المقصود بالأقراء الحيض، وكلهم اعتمدوا على نص من كتاب الله.
وفيما يتعلق بالسنة النبوية يقع اختلاف في ألفاظ كثيرة جداً في مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم بها، فقد ورد ألفاظ اختلف العلماء في تحديد معناها، من أقربها مثلاً المزابنة، والمحاقلة، الملامسة، والمنابذة، هي ألفاظ ورد الشرع بالنهي عنها؛ ثم اختلف العلماء في تحديد المقصود بها اختلافاً كبيراً، وكل منهم أخذ بالحديث لكن فهمه على وجه على غير ما فهمه الآخر، وليس هذا مجال بيان هذه الألفاظ ومعانيها، ولكن المقصود أن كل من قال بأحد هذه الألفاظ يعتبر أنه أخذ بالحديث لكن على ما يرى أنه مدلوله، ولا يمكن أن يعيب بعضهم على بعض في ذلك.
ولذلك لما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم الصحابة كما في الصحيحين: {أن من كان منكم سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة} اختلفوا في مقصود الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا، هل مقصوده فعلاً أن لا يصلوا العصر إلا في بني قريظة؟
أو مقصوده الإسراع إلى الذهاب إليهم؟
فمن الصحابة من أخذ بظاهر هذا الحديث واعتبر عمومه قاضياً على غيره، فلم يصلِّ إلا في بني قريظة، مع أن صلاة العصر أدركتهم في الطريق، فأخر الصلاة حتى خرج وقتها، ومنهم من عرف أن المقصود هو الإسراع إلى هؤلاء القوم، وعندنا دليل آخر وهو دليل الأوقات وتحديد وقت كل صلاة، فما دام أدركتنا الصلاة فنصليها في الطريق ثم نواصل المسير، فصلوا ثم واصلوا، واختلف الفقهاء من بعدهم في أي الفريقين كان أصوب؟
وهذا طبيعي ما دام اختلف الصحابة اختلف من بعدهم، فمن الفقهاء من قال: أن الذين صلوا في الطريق كانوا أصوب، لأنهم عرفوا المقصود وحققوا المسارعة؛ وحققوا أيضاً الصلاة في وقتها، وهذا الذي عليه كثير من أهل العلم كـابن تيمية وابن القيم وغيرهما، ومنهم من قال أن الذين أصابوا هم من أخذوا بظاهر الحديث، فلم يصلوا حتى وصلوا إلى بني قريظة، وعلى كل حال فالمقصود الإشارة إلى أنه قد يقع اختلاف في فهم مقصود اللفظ، مع الاتفاق على صحة اللفظ، وعلى وجوب العمل به لكن يقع الاختلاف في المقصود بهذا اللفظ.
والمختلفون إذا كانوا مجتهدين فهم مأجورون على كل حال، كما في حديث عمرو بن العاص المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فلا ينبغي أن يعيب بعض المجتهدين على بعض.
والكلام في النسخ وشروطه يطول؛ ولكن باختصار أقول: من المعلوم أنه لا ينبغي القول بالنسخ إلا إذا كان الدليل عليه ظاهراً؛ لأن النسخ يعني إبطال دليل شرعي ومفهومه، وأن يكون هذا الدليل -آية أو حديثاً في حكم ما- لم يرد في دلالته على هذا الشيء، فلا ينبغي أن يقال بالنسخ إلا إذا كان الدليل عليه ظاهراً، إضافة إلى شروط أخرى مثل أن يعلم المتقدم والمتأخر، وأن لا يمكن الجمع، أو أن يكون النسخ ثبت بالنص كما في قوله صلى الله عليه وسلم: {كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها} فهذا النسخ ثبت بالنص.
العلماء يختلفون في نسخ بعض النصوص لبعض، ولذلك قد يترتب على ذلك في كثير من الأحيان اختلافهم في حكم شرعي وأضرب لذلك مثلاً واحداً: ورد في حديث بسرة بنت صفوان رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من مس ذكره فليتوضأ} والحديث رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وقال البخاري: هو أصح شيء في الباب، وصححه كثير من أهل العلم، والحديث دليل بظاهره على أن من مس ذكره وجب عليه الوضوء، لأن الأمر كما سبق يقتضي الوجوب إذا كان مجرداً عن القرائن فهذا حديث، يقابله حديث آخر وهو حديث طلق بن عدي في قصة الرجل الذي سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: {هل يتوضأ من مس الذكر؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا. إنما هو بضعة منك} والحديث رواه الخمسة وصححه ابن حبان وقال بعض أهل العلم: إنه أحسن من حديث بسرة، فمن العلماء من يقول بأن حديث بسرة الأول ناسخ لحديث طلق بن عدي، لماذا هو ناسخ؟ قالوا: لأنه متأخر، لأن بسرة تأخر إسلامها، بخلاف طلق بن عدي فهو متقدم الإسلام، واحتج بعضهم على تأخر حديث بسرة وأنه ناسخ فعلاً بما ذكره عدد من أهل العلم منهم ابن حزم: أن حديث بسرة ناقل عن الأصل، أما حديث طلق بن عدي فهو مبق عن الأصل، والناقل عن الأصل مقدم على المبقي، ومعنى هذا الكلام أنه إذا ورد في المسألة دليلان أحدهما موافق للأصل، لأنه لو لم يرد نص شرعي لمس الذكر، لو لم يرد دليل فما حكم مس الذكر؟
هل ينقض الوضوء؟
لا، لو لم يرد دليل أصلاً لما كان مس الذكر ناقضاً، فالآن عندنا حديثان أحدهما موافق لهذا الأصل وهو حديث طلق بن عدي لأنه قال: {إنما هو بضعة منك } فهذا الحديث مبقٍ لمس الذكر على الأصل أنه لا ينقض الوضوء، وعلله بعلة وهو أنه بضعة منك فهو كيدك أو رجلك أو أي جزء من جسمك.
والحديث الثاني حديث بسرة ناقل عن الأصل قال: {من مس ذكره فليتوضأ} فجاء بحكم جديد ما كان ليفهم إلا من النص الشرعي، وهذا مأخذ قوي فيما يظهر، لأنه يدل على تأخر حديث بسرة، أرأيتم هل يتوقع مثلاً أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مجلس من المجالس: من مس ذكره فليتوضأ، ثم يأتي رجل منهم فيقول يا رسول الله إني مسست ذكري فهل أتوضأ؟
فيقول صلى الله عليه وسلم: لا، إنما هو بضعة منك، هل يتوقع هذا؟!
هذا بعيد، هذا لا يتصور.
لكن العكس ممكن بأن يقول رجل: يا رسول الله، مسست ذكري فهل أتوضأ؟
قال له: لا تتوضأ؛ لأنه بضعة منك، فأجابه وأفتاه الرسول صلى الله عليه وسلم بعدم الوضوء بناء على الأصل، ولذلك علل بأنه بضعة منك فالأصل أنه لا يجب على الإنسان الوضوء من مس أي جزء من أجزاء جسمه إلا إذا ورد دليل، ثم تجدد لدى الرسول صلى الله عليه وسلم حكم وعلم بأن مس الذكر ينقض الوضوء فأخبر به أصحابه بأن من مس ذكره فعليه الوضوء، فهذا دليل على أن حديث بسرة متأخر، وحديث طلق بن عدي متقدم، ولذلك رجح جمع من أهل العلم وجوب الوضوء من مس الذكر، وليس المجال الآن مجال تفصيل هذه المسألة، إنما هو الإشارة إلى أن النسخ والقول به سبب لاختلاف أهل العلم في كثير من المسائل، فقد تجد إنساناً مثلاً لا يتوضأ من مس الذكر فلا تعيبه حينئذ؛ لأنه اعتمد على حديث رواه الخمسة وصححه ابن حبان، وقد تجد آخراً يتوضأ ويقول بوجوب الوضوء، فأيضاً لا تلومه لأنه يعتمد على حديث رواه الخمسة وصححه الترمذي وابن حبان وقال البخاري إنه أصح حديث في الباب.
وينبغي ويجب أن لا يعيب هؤلاء على هؤلاء، ولا هؤلاء على هؤلاء، وإن كان لا يمانع أن يكون هناك نقاش أو جدل بالتي هي أحسن ومفاوضة ومدارسة في هذه الأمور، هذا لا بأس به بل هو مطلوب، لأنه يساعد على الوصول إلى الحق، لكن الشيء المعيب هو أن تكون هذه الأشياء مدعاة إلى الخصومة والبغضاء والوقيعة والسب وما أشبه ذلك من الأمور التي حرمها الله ونهى عنها، فلا يجوز أن تقع بسبب هذه الأشياء التي هي معتمد فيها على أصول أو على أدلة شرعية.
نسأل الله أن يهدينا لما اختلف فيه من الحق بإذنه، وبإذنه تعالى نبدأ بالجزء الثاني وهو المهم وهو المقصود أصلاً من هذه الدروس، وهو الكلام عن المثالب والمعايب التي يقع فيها طالب العلم وإنما المقصود بالإشارة إليها التنبيه على وجوب اجتنابها، والله أعلم.
وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر