فإن هذه الأمة قد اختارها الله عز وجل واصطفاها وأخرجها للناس، لا لنفسها فحسب بل للبشرية كلها، لتخرج هذه الأمة الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربها إلى صراط العزيز الحميد.
والدافع للحديث في هذا الموضوع أن هذه الأمة في هذا العصر بل ومنذ قرون قد أصبحت في ذيل القائمة، باعتبار وجودها وقوتها وعزتها وتمكينها في الأرض، وذلك بسبب ضعف تمسكها بهذا الدين، وضعف التزامها به، فتقدمتها أمم أخرى كانت تعيش على فتات موائدها، وكما قيل:
تقدمتني أناسا كان أكثر شوطهم وراء خطوي إذا أمشي على مهل |
وبذلك أصبح كثير من أبناء هذه الأمة، ينظرون إلى الأمم الأخرى نظرة إكبار وإعجاب وتقدير بل وتقديس أحياناً، وكيف لا يكون ذلك في زعمهم ونظرهم وهم يعتبرون أن هذه الأمم -الأمم الكافرة من الرومان والأمريكان والروس وغيرهم- قد تقدمت في مضمار الحضارة والعلم المادي وسبقت الأمة الإسلامية سبقاً بعيداً، في الوقت نفسه الذي أصبحت هذه الأمة ليس لها وجود يذكر في واقع الحياة، لا من الناحية الشرعية ولا من الناحية الدنيوية العلمية والعملية.
فلا هي الأمة التي تهدي الناس بهدي الله جل وعلا، وتنير لهم طريق الحياة، وتصدر لهم الخلق الفاضل والسعادة القلبية -تخلت هذه الأمة بطبيعة الحال مؤقتاً- ولا هي بالأمة المتقدمة علمياً وحضارياً ومادياً أيضاً.
وهكذا ترتب على هذا الوضع انسلاخ كثير من شباب هذه الأمة عن هويتهم الإسلامية، وأصبح كثير منهم يتحدثون عن الآخرين حديث المعجب الذي ملأ الإعجاب عليه جوانحه وعقله، فأصبح يُكِنُّ للأمم الأخرى كل تقدير وإعجاب، وينظر إلى الأمة التي ينتسب إليها نظرة ازدراء، حتى إنك تقرأ في ملامح بعضهم، وتحس في أحاديثهم، وكتاباتهم، وقصائدهم أن كثيراً منهم يشعرون بالخجل من انتسابهم لهذه الأمة، وكأن الواحد منهم ينتسب إلى أب لا يحب أن ينتسب إليه، فيتحسس من هذه النسبة ويستحي منها.
نعم، في المسلمين اليوم من يخجل أن يجاهر بأنه مسلم، خاصة في بعض المواقع وفي بعض المجالس وفي بعض المواقف، فقد يقول أنا عربي على استحياء أيضاً، ولكن الشيء الكبير الذي يهمه هو أن يظهر أمام الآخرين بأنه إنسان مثقف ومتحضر، وأنه يتابع أحدث أخبار الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي والمادي، وأنه قد ضرب بسهم في العلوم الدنيوية، وأنه إنسان عاش في أوروبا كذا سنة، وعاش في أمريكا كذا سنة ودرس في الجامعة الفلانية، وصديقه هو الدكتور فلان وفلان من الشخصيات الغربية.
وسأقف معكم وقفات مهمة في شأن هذه الخصائص لكنني أشير قبل ذلك إلى بعض الأحاديث الواردة التي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بعض ما ميز الله به هذه الأمة، أو ميز بها نبيها صلى الله عليه وسلم على سائر الأمم وعلى سائر الأنبياء.
فمن ذلك -مثلاً- ما رواه البخاري ومسلم عن
رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي} والمعنى خمس خصائص: {نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس كافة} فذكر عليه الصلاة والسلام هذه الخصائص الخمس، وهذا الحديث لا يعني بحال أن الخصائص التي لهذه لأمة ولنبيها المختار عليه الصلاة والسلام خمس فقط، بل هذا العدد كما يقول الأصوليون ليس له مفهوم.
ولذلك جاء في حديث أبي هريرة عند مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {فضلت على الأنبياء بست -وذكر أربعاً من هذه الخصائص- ثم ذكر أنه ختم به النبيون عليه وعليهم الصلاة والسلام، وأنه أوتي جوامع الكلم} وكذلك في حديث حذيفة في صحيح مسلم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه فضل على الأنبياء بثلاث وذكر اثنتين، وقال: {وجعلت صفوفنا كصفوف الملائكة} فهذه ثمان خصال الآن.
وكذلك في حديث حذيفة عند النسائي وابن خزيمة بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أن من خصائصه: أنه أعطي هذه الآيات من أواخر سورة البقرة، وهي قول الله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] أو قول الله: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [البقرة:284] إلى آخر السورة.
وكذلك في حديث علي بن أبي طالب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أعطيت أربعاً وذكر منها: أنه سُمي قال: حتى أنا، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم، فلا يأمرني إلا بخير
وينبغي أن نفرق بين خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وخصائص أمته على الأنبياء والأمم الأخرى، وبين خصائص النبي على أمته، بمعنى أن النبي عليه الصلاة والسلام وأمته لهم خصائص على غيرهم من الناس، وهي ما تحدثت عنه، وهناك خصائص للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، مثل كونه صلى الله عيه وسلم يحق له أن يتزوج بأكثر من أربع -مثلاً- ومثل كون نسائه لا يجوز أن يتزوجن بعده: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً [الأحزاب:53] إلى غير ذلك من الخصائص الكثيرة والكثيرة جداً.
وقد صنف فيها العلماء، حتى إن الحافظ أبا عبد الرحمن السيوطي صنف فيها كتاباً اسمه الخصائص جمع فيه ألف خصيصة للنبي صلى الله عليه وسلم على أمته، وهذه الخصائص ليست كلها مُسلَّمة، فبعضها مما يدعي بعض العلماء فيه الخصوصية والواقع أنه ليس خاصاً به عليه الصلاة والسلام، كما ادعى بعضهم خصائص للنبي عليه السلام لم تثبت له بل هي عامة له ولأمته؛ لأن القول بالخصوصية لا يثبت إلا بدليل كما هو معروف، وبعض العلماء إذا تعارض عندهم حديثان؛ قالوا: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، كما قال بعضهم -مثلاً- في الركعتين بعد الوتر أن هذا خاص به عليه الصلاة والسلام، وكما قال بعضهم في الركعتين بعد العصر التي كان يحافظ عليها صلى الله عليه وسلم حيث قالوا: هذه خاصة به، وعلى كل حال فالقول بالخصوصية لا يثبت إلا بدليل.
والمقصود ليست خصائص النبي صلى الله عليه وسلم على أمته، بل المقصود خصائص النبي عليه الصلاة والسلام وخصائص هذه الأمة المحمدية على غيرها من الأمم الأخرى.
ولذلك فإن لي وقفات وإشارات في هذا المجلس مع هذه الخصائص، لا تخلو -إن شاء الله- من فائدة.
فمعظم الخصائص هي عامة للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته وليست خاصة له، ولكن حتى الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم فإن للأمة منها حظ كبير ونصيب وافر، فحين يقول النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً: { أوتيت جوامع الكلم } وهذا لا يعني أن هذا الأمر ليس لأمته منه شيء، وكذلك حين يقول: {سميت أحمد} لا يعني أنه ليس للأمة حظ، حين يقول: {ختم بي النبيون} لا يعني أنه ليس للأمة حظ من هذه الخصيصة، بل للأمة حظ يقل أو يكثر من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف لا يكون لها حظ وهي خصائص لنبيها صلى الله عليه وسلم، فلو لم يكن من حظها من هذه الخصائص إلا أنها خصائص للرجل الذي رضيت به رسولاً ونبياً وإماماً وهادياً لكفى ذلك، فهذا مَعْلَم لابد من الوقوف عنده.
أولاً: نجد أن هذه الخصائص رواها لنا جماعة من الصحابة، فرواها لنا جابر كما في الحديث المتفق عليه -وقد ذكرته قبل قليل- وليس هذا فقط بل إن هذا المعنى جاء عن ابن عباس، وأبي موسى الأشعري، وأبي ذر الغفاري، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأحاديث هؤلاء الصحابة رواها الإمام أحمد في مسنده بأسانيد حسان كما يقول الحافظ ابن حجر في فتح الباري، وكذلك جاءت هذه الخصائص عن أبي هريرة وغيرهم كما سيأتي الإشارة إلى طرف منها.
فكون هذه الخصائص تروى عن ستة أو سبعة أو ثمانية من الصحابة، يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلهج بها بين الحين والحين، ويكثر من ذكرها حتى حفظها عنه أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.
وهذا يثير سؤالاً لماذا كان النبي صلى الله ذعليه وسلم معنياً بذكر هذه الخصائص؟
لكن قبل الإجابة على هذا السؤال أشير إلى أمر آخر يدل على اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم بإبراز هذه الخصائص، وهو: في حديث عمرو بن شعيب الذي رواه أحمد بسند حسن أنَّ ذِكرَ النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الخصائص كان في غزوة تبوك.
وغزوة تبوك من أواخر الغزوات إن لم تكن آخر الغزوات التي غزاها النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يوحي بأنه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على ألا تنسى، ولذلك فإن من الأشياء التى حرص عليها النبي صلى الله عيه وسلم أمور كان يقولها حتى وهو في مرض الموت، وكأنه يقول: أوصيكم بهذه الأشياء في اللحظات الأخيرة، ولماذا كان عليه السلام حريصاً على ذكر هذه الخصائص؟
ولا شك أنه يريد بهذا من أمته ألا تنسى دورها القيادي الذي كلفها الله تبارك وتعالى به في قيادة البشرية، وتصدر موكب الإنسانية.
إن الله تبارك وتعالى لم يرضَ لهذه الأمة أن تكون في ذيل القافلة، تلتقط فتات موائد الأمم الأخرى، وتكون في فكرها وخُلقها وعلمها، بل وحضارتها تابعة لغيرها من الأمم، بل هذه الأمة أراد الله تبارك وتعالى لها أن تكون في الصدر، وكما قال أبو فراس الحمداني:
وإنا لقوم لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر |
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على أن لا تنسى هذه الأمة دورها القيادي في قيادة البشرية وتصدر موكبها، وفي المقابل كان صلى الله عليه وسلم يدرك بما أخبره الله تعالى من علم الغيب وأطلعه عليه، أن هذه الأمة ستمر بها فترات تنسى فيها مهمتها، وتضعف فيها وتتأخر عن موقعها، وبالتالي سوف تصبح هذه الأمة تابعاً لغيرها من الأمم، وسوف تصبح مقلدة لغيرها من الأمم، ومتشبهة بالأمم الأخرى، فتدخل وراء الأمم الأخرى جحر الضب، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة؛ حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله، اليهود والنصارى، قال: فمن؟} أي: نعم، هم اليهود والنصارى.
فأشار عليه الصلاة والسلام إلى أنه ستمر بهذه الأمة حالات ضعف وفترات ركود وتخلف وتأخر، فتتقهقر فيها هذه الأمة، ويتصدر ركب البشرية أمم أخرى، وهذا هو الواقع الذي نعيشه اليوم.
فلذلك بيّن صلى الله علية وسلم هذه الميزة؛ حتى تظل الأمة مدركة أن الوضع الراكد المتخلف الذي تعيش فيه ليس هو الوضع الذي خلقها الله له، ورضيه لها، بل هو استثناء تسعى الأمة للخروج منه والوصول إلى الموقع الذي وصلت إليه، أرأيت الأستاذ حين يكون عنده طالب في الفصل، وجرت العادة أن هذا الطالب دائماً في المقدمة بتقدير ممتاز، ويأخذ العلامة (100%) في كل مادة، حتى عرف هذا الطالب في المدرسة بين أقرانه وبين أساتذته، فحين يخفق هذا الطالب يوماً من الأيام في مادة من المواد، أو حتى يخفق في سنة من السنوات لظروف ألمت به -ظروف أو صحية، أو أي سبب آخر- وقد كان أساتذته قبل ذلك ينفخون في همة هذا الطالب وعزيمته، حرصاً منهم على أن يظل هذا الطالب محتفظاً بموقعة، وحين يقع من الطالب هذا التأخر لظرف من الظروف أو سبب من الأسباب، فإن المدرس لا يفقد ثقته بهذا الطالب بل يعمل على أن يأخذ بيده لينهض من كبوته، ويلتمس له العذر فيما وقع فيه، ويبين له أن بإمكانه أن يستعيد موقعه السابق، وهذا هو الدور الذي تؤديه هذه الأحاديث للأمة في مثل هذا الوقت، في تقول للأمة: أنتم ممن كتب لهم هذه الخصائص، ممن كُتب أن تكونوا خير الأمم، فما بالكم أصبحتم في آخر الركب وفي ذيل القائمة؟!
إن هذه الكبوة وهذه العثرة التي وقعتم فيها لا تعفيكم من محاولة النهوض مرة أخرى، ولذلك فإننا نجد -مثلاً- أن مسألة التقليد والتشبه بالأمم الأخرى التي ابتليت لها الأمة الإسلامية اليوم، فأصبحت تقلد الغرب في كل شيء: في الشكل والمظهر وميزات الشخصية والأسماء واللغة، فضلاً عن العلوم والنظريات العلمية، وأشياء أخرى كثيرة جداً أصبحت الأمة الإسلامية عالة فيها على غيرها، وأصبحت تقلد ليس فيما يُحسن، فالأمور الجيدة الحسنة لا تعد تقليداً، ولو أخذت من الأمم الأخرى فلا حرج في ذلك ولا ضير، وقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأمور الحسنة عن غيرهم، كما في شأن حفر الخندق، وكما في مسألة اللباس الذي كانوا يلبسونه مما نسجه فارس والروم وغيرهم، وكما في مسألة تدوين الدواوين، وغير ذلك من الأشياء المفيدة النافعة التي تُعلَّم المسلمين أن الخير هم أحق به من غيرهم، فكل خير يوجد عند أمة من الأمم الأخرى فالمسلمون أجدر به وأحرى، وإنما المصيبة أن المسلمين أصبحوا يأخذون عن الأمم الأخرى ما يدل على ضياع هويتهم وشخصيتهم.
وإلا فما معنى كون المسلم -مثلاً- يقلد غيره في شكل شخصيته: في هندامه ومظهره وثيابه وصفَّة شعر الرأس؟
إن أعفوا شعر الرأس أعفينا، وإن حلقوا شعر الوجه حلقنا، وإن لبسوا الملابس بصفة لبسنا، وإن تكلموا بطريقة تكلمنا، حتى الأسماء والعادات، والتقاليد، وطريقة الأكل، والشرب، والتعامل، وعبارات الشكر والثناء، حتى العبارات فأصبحنا نقتبس من اللغات الأخرى كلمات، وكم منا من يفخر بأنه يجيد ويتقن كلمات يعبر فيها بلغة أخرى، ويشعر بنشوة حين يتحدث بهذه الطريقة.
وهنا يأتي دور إحياء الثقة في المسلم بدينه وأمته، وأنه لا يجوز له أن يكون هكذا وينبغي أن يذكر أن له خصائص تمنعه من ذلك، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم حريصاً على ذكر هذه الخصائص وتكرارها وإشهارها حتى في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: غيرهم من باب الأولى، فالقضية ليست إرثاً يُورث، بل القضية عمل يُكتسب، ومن استقام على هذا المنهج تميز بهذه الخصائص، ومن انحرف فليس له عند الله من خلاق.
ولذلك اليهود -بنو إسرائيل- كانوا يفتخرون ويعتبرون أنفسهم شعب الله المختار كما هو معروف، لكن هذا الفخر مرفوض؛ لأنهم اعتبروا أنفسهم شعب الله المختار؛ بسبب أنهم بنو إسرائيل، وهذه ليس لها عند الله قيمة ولا وزن، قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13] وليس بين الناس تفاضل عند الله جل وعلا بنسب، فلا فضل لعربي على عجمي، ولا لقرشي على غير قرشي إلا بالتقوى، وهذا لا يمنع أن هناك فضائل خصَّ الله بها أمماً أمم وقبائل كقريش وغيرها، لكن لا يعني كونه قريشاً -مثلاً- ألا يطيع الله عز وجل، وأن يعصيه، وأن يتمرد على تعاليم الإسلام! كلا، فمن عصى وانحرف فليس له موقع حتى ولو كان ابن نبي، وهذا ابن نوح ذكر الله تبارك وتعالى عنه: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ [هود:46] فيكون مصيره في الدنيا إلى الغرق ومصيره في الآخرة إلى الحرق، فلم ينفعه أن يكون أبوه نبياً، وهذا عم النبي صلى الله عليه وسلم، أبو لهب وأبو طالب مأواهم في النار، ولذلك يقول القائل:
كن ابن من شئت أدباً يغنيك محموده عن النسب |
إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبي |
ويقول آخر:
لعمرك ما الإنسان إلا ابن سعيه فلا تترك التقوى اتكالاً على النسب |
لقد رفع الإسلام سلمان فارس وقد وضع الشرك النسيب أبا لهب |
إذاً: كون الإنسان من قبيلة كذا، ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة، وكون الإنسان عربياً، ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة، وكون الإنسان يعيش في الجزيرة العربية التي لها من الخصائص كيت وكيت وكيت -وهذا موضوع آخر يطول الحديث فيه- ليس له معنى إذا لم يستقم على الجادة.
وإنما هذه الخصائص عمل وإخلاص واستقامة وصدق وجد.
ولذلك من اعتمد على مواريث أنه فلان بن فلان، وأنه عربي، وأنه يعيش في الجزيرة العربية، وأنه ربما يتكل على هذه الأشياء ويكسل حتى يتأخر، وآخر ليس له من المواريث ما يجعله يفتخر، فيجد ويكدح ويعمل حتى يستطيع أن يثبت نفسه في الواقع، وينفع نفسه، وينفع غيره ويكون أعلى للناس، ولذلك ذكر بعض المؤرخين أنه في كثير من العصور كان كثير من العلماء، والفقهاء، والقضاة، والمفتين الذين هم مرجع الناس ومفزعهم في أمور دينهم وعقيدتهم وأحكامهم وشرعهم من الموالي الذين ليس لهم نسب عربي يفتخرون به، لكن هؤلاء الناس عرفوا أن موقعهم هو بتقواهم لله عز وجل، فلم يعتمدوا على أمر من الأمور الموروثة، بخلاف آخرين ربما اتكئوا على أشياء ورثوها واعتمدوا عليها وتركوا الجدَّ والاجتهاد والعمل فاستأخروا وسبقهم غيرهم.
ولذلك قال الله عز وجل: وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الجاثـية:16] أي: على عالم زمانهم، فكانت الهداية فيهم وقتاً من الأوقات، فقادوا البشرية فيها، وبغض النظر عن فشلهم في هذه القيادة والأخطاء التي ارتكبوها، فالمهم أنها نـزعت منهم القيادة وسلمت إلى الحنفاء من اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ولا تنـزع منهم هذه القيادة الربانية.
وقد ترتفع أمة من الأمم بحضارتها الدنيوية وبعلمها المادي، فهذا قد يحدث كما هو واقع الآن، لكن هاتوا لنا أمة هدت البشرية بعد الأمة المحمدية.
ولذلك لما تأخر المسلمون عن دورهم القيادي صارت البشرية تتخبط في دياجير الظلمات، ففقدت السعادة، وفقدت الخلق، وفقدت الدين، ولذلك وصلت في هذا العصر من الانهيار والفساد والتخبط إلى مستوى أصبحوا هم يتبرمون ويتضجرون منه، وهناك كتب عديدة -مطروحة اليوم في الساحة- كتبها علماء غربيون مختصون تصرخ بأقوالهم: إن حضارتكم إلى انهيار وإلى زوال، وحتى بعض المفكرين المسلمين الذين كانوا مخدوعين بهذه الحضارة، اقتنعوا بهذه الحقيقة وأصبحوا يؤكدون عليها، كما فعل المفكر الجزائري مالك بن نبي وغيره.
والحضارة الغربية حضارة تنظر بعين واحدة، فهي حضارة المادة لكن الروح في خواء، لماذا؟
لأنه ليس هناك أمة هداية ربانية تقود البشرية، ولذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم هي خير الأمم وآخر الأمم، وهو صلى الله عليه وسلم ختم به النبيون، كما ختمت الأمم بأمته، ويستحيل أن توجد أمة تهدي البشرية غير أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد يحصل أن يهدي البشرية -مثلاً- الهنود؛ لكن متى؟
حين يحملون الإسلام.
وبذلك يكونون من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ويمكن أن يهدي البشرية أيُّ أمة من الأمم -أعني: عرقاً من العروق، أو جنسية من الجنسيات- متى ما حملوا الإسلام، ولكن الأدلة مع ذلك تؤكد على أن الأمة العربية أيضاً سوف تضطلع بدور كبير في مسألة هداية البشرية في المستقبل كما فعل أسلافهم في الماضي، والحديث في هذه القضية أيضاً خارج عن موضوعنا إنما هو مجرد إشارة.
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {أعطيت مفاتيح الأرض} وهذا إشارة إلى أن هذه الأمة سوف تعطي من النصر والتمكين ما يجعل الدنيا ملكاً لها، وفي حديث آخر في صحيح البخاري قال عليه الصلاة والسلام: {بينا أنا نائم أوتيت مفاتيح الأرض -أو مفاتيح خزائن الأرض- حتى وضعت في يدي} وفي حديث ثوبان في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زُوي لي منها} وفعلاً انتشرت الفتوح الإسلامية في المشرق وفي المغرب أكثر مما انتشرت في الشمال والجنوب.
وعلى كل حال الحديث يوحي بأن الأمة الإسلامية سوف تهيمن على البشرية كلها أو جلها، وهذا حدث مرة واستمر ردحاً طويلاً من الزمن، ولا يعني أنها انتهت هذه البشائر النبوية؛ لأن هذه الوعود التي وعدها النبي صلى الله عليه وسلم ليست متوقفة عند وقت معين، بل نصوص القرآن والسنة تعمل في كل وقت، وليست منسوخة.
ومن الأدلة على ذلك أيضاً الأحاديث الواردة في شأن الطائفة المنصورة والتي منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: { ظاهرين على الناس لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} والطائفة المنصورة بلا شك تمثل واجهة تجاهد عن هذه الأمة، وقد وصفهم عليه الصلاة والسلام بأنهم ظاهرون منصورون لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم؛ إلا ما يصيبهم من اللأواء يعني: الجهد والتعب.
ومن ذلك أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض الأحاديث -لما ذكر تأخر هذه الأمة وأنه سوف يصيبها الوهن-: {ولينـزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن} فدل على أن المهابة موجودة أصلاً في صدور الأعداء من المسلمين، ولكن لما ضعف المسلمون وتأخروا وأولعوا بحب الدنيا وكراهية الموت؛ نـزعت المهابة من صدور عدوهم وألقي في قلوب المؤمنين الوهن، وهو حب الدنيا وكراهية الموت؛ وهذا في حديث ثوبان وهو عند أبي داود وأحمد وغيرهما وهو حديث صحيح.
ومن ذلك أيضاً أن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنـزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً [آل عمران:151] فدل على أن الرعب قد أُلقي في قلوب المشركين؛ لكن متى؟ حين يواجهون هذه الأمة الذين يحملون لا إله إلا الله، أما حين يواجهون من يصرخون ويقولون نحن نتحدى القدر، أو يقول قائلهم:
آمنت بالبعث رباً لا شريك له وبالعروبة ديناً ما له ثاني |
فحينئذٍ يستأسد حتى من هم إخوان القردة والخنازير، كما صنع اليهود حين واجهوا من يتسمَّون باسم العروبة في عدة حروب، فحين يواجه الأعداء المسلمين يُلقي الله عز وجل في قلوبهم الرعب.
ومن ذلك أيضاً الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما بسند حسن من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري} فدل ذلك على أن كل من يخالف أمر النبي عليه الصلاة والسلام ضربت عليه الذلة والصغار، سواء كان كافراً أو كان مخالفاً لأمر النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمر دون بعض.
ولذلك حتى عصاة المسلمين وفساقهم لهم ذل وصغار بحسب فسقهم، يقول الحسن البصري عن بعض أهل المعاصي: [[إنهم وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين، إلا أن ذل المعصية في رقابهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه]].
فهو لا يجد في الواقع من القصص ما يقوله لأولاده، ولا يجد من البطولات والفضائل والنماذج الحية ما يقوله لمن يربيهم، والأستاذ والخطيب والشاعر كذلك، فنحس بأن الواقع مر، ولذلك ليس في الواقع ما نتغنى به أو نمدحه، فنلجأ إلى أن نلتفت إلى الماضي، ولا أقول: إن الالتفات إلى الماضي خطأ، بالعكس نحن أمة لو نسينا ماضينا فلا وجود لنا، وكما يقول الشاعر أحمد شوقي:
مثلُ القوم نسوا تاريخهم كلقيط عيَّ في الناس انتسابا |
ويقول الآخر:
ومن وعى التاريخ في صدره أضاف أعماراً إلى عمره |
فكيف ننسى ماضينا وفيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم! وهو الذي جاءتنا هداية السماء بواسطته، وفيه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا أمنة لمن بعدهم فإذا ذهب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى أمته ما يوعدون -كما صح بذلك الحديث- وكيف ننسي ماضينا وفيه القرون المفضلة التي حكم النبي صلى الله عليه وسلم بفضلها وخيريتها!
ولا أقول إننا ننسى ماضينا، لكنني أقول: إن الاعتماد على الماضي والتغني به لا يكفي، فلا يكفي أن يقول الإنسان: أبي كان وكان وكان... فحينئذٍ نقول له: أنت أصبحت "كنتياً" والناس يقولون فلان كنتيٌ إذا ترك العمل الصالح وصار يقول: كنت وكنت وكنت...، وهذا أيضاً ما يحدث للإنسان الكبير، فعندما يكبر سنه لم يعد يستطيع أن يعمل شيئاً فيكتفي حينئذٍ أن يتحدث عن مآثره وفضائله السابقة فعلت وفعلت وكنت وكنت... فهذا يسميه العرب كنتياً، فلا يكفي أن يكون الإنسان كنتياً، بل لابد مع النظر إلى الماضي والاستفادة منه أن ننظر إلى الحاضر وأن نعد لذلك، فهذا المركز الذي تبوأته هذه الأمة في الماضي لم تنله إلا بالجهاد الصادق، ولهذا كان من شرائع الإٍسلام الجهاد، حتى قال الرسول صلى الله عليه وسلم إنه : {ذروة سنام الإسلام}.
وفي الحديث الآخر: {إن في الجنة مائة درجه أعدها الله للمجاهدين في سبيله} وعندما تقرأ الأحاديث الواردة في الجهاد وفي الاستشهاد -اقرأ مثلاً في أقرب كتاب وهو رياض الصالحين ما ورد في الجهاد وفي الشهادة- تتعجب من عظمة هذه النصوص، وقبل ذلك اقرأ الآيات الواردة في الجهاد في القرآن الكريم وتفسيرها، تجد أمراً غريباً، فما هو السر في تعظيم هذه الشعيرة؟
لأن هذه الشعيرة روح يسري في الأمة، فإذا فقدت الأمة هذه الروح فلا حياة لها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحديث نفسه: {نصرت بالرعب مسيرة شهر} والرعب إنما يكون للمجاهدين الذين يحملون سيوفهم على عواتقهم ويقول قائلهم:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمراً |
جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبراً |
محمود مثل إياز قام كلاهما لك في الوجود مصلياً مستغفراً |
العبد والمولى على قدم التقى سجداً لوجهك خاشعين على الثرى |
فهؤلاء يحملون سيوفهم على عواتقهم مجاهدين في سبيل الله جل وعلا، فهم الذين نصروا بالرعب، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي أمامه وهو في المسند: {ونصرت بالرعب يقذف في قلوب أعدائي} وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهو في المسند يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ونصرت بالرعب على أعدائي ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر}.
أي: هل الجيش الذي كان فيه النبي عليه الصلاة والسلام هو فقط الذي ينصر بالرعب، والجيوش التي خرجت بدون النبي عليه الصلاة والسلام -كالسرايا أو من بعده- لا تنصر، أم أنها تنصر أيضاً؟
الذي قد يبدو للإنسان لأول وهلة أن هذا خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام، لكن الذي أعتقده أن هذا عام له ولأمته، وأمامي مجموعة من الأدلة تؤكد أن الرعب -وكلمة الرعب في حد ذاتها مرعبة- ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم بل هو عام له ولأمته، وأعرض على أسماعكم وعلى أنظاركم بعض هذه الأدلة التي تؤكد أن الرعب عام لكل مجاهدي هذه الأمة، فمن ذلك -كما أسلفت قبل قليل- أنه حتى الخصائص التي تخص النبي عليه الصلاة والسلام لأمته منها نصيب.
وعلى سبيل المثال: الجهاد الأفغاني الذي أعاد للمسلمين ثقتهم بأنفسهم وبدينهم، فهذا الجهاد مهما يكن ومهما تكلم حوله الناس يكفي أن ندرك أن دولة من الدول التي تسمى الدول الكبرى، وهى إما أول أو ثاني دولة في العالم تضطر إلى الهزيمة والفرار أمام قوم عزل لا حول لهم ولا قوة إلا بالله جل وعلا، وأمام قوم لا يصنعون السلاح وما تدربوا في بلاد الغرب، وما تخرجوا من جامعاتها، وكانوا ببنادقهم وأسلحتهم القديمة، ووسائلهم المتواضعة، وإيمانهم القوي يُقلقون مضاجع هؤلاء الكفار حتى أجلوهم واضطروهم إلى الفرار، وإلى إراقة ماء وجوههم أمام البشرية كلها، وغادروا بلاد الأفغان.
وفي مطارق المجاهدين ما يدل على الرعب والذعر الذي قذفه الله تعالى في قلوبهم، وقصص المجاهدين أثناء الجهاد قصص كثيرة جداً، وهي تؤكد فعلاً أن المؤمنين والمجاهدين كانوا ينصرون بالذعر والرعب الذي يلقى في قلوب أعدائهم، أكثر مما ينصرون بأسلحتهم وقوتهم.
مثل آخر: إن مراكز الدراسات والرصد في بلاد الغرب حالياً أصبحت تعد وتصدر دراسات رهيبة عما يسمونه بالصحوة الإسلامية، وهي دراسات يظهر فيها الرعب، فهم حين يتحدثون عن الصحوة يتحدثون حديث الإنسان الذي يحس بأن الخطر محدق به، فهو يتكلم بلا عقل ولا وعي، ويطلق عبارات غريبة، وهذا التخوف من هذه الصحوة ليس لقوة الصحوة، فنحن المسلمين أصحاب الصحوة لا شك أن فينا ضعف ونقص وفينا أشياء كثيرة تحتاج إلى إصلاح؛ لكننا بدأنا، ولذلك يعجبني قول أحد الشعراء:
بدأنا نمزق ثوب العدا ونلطم بالحق وجه السدم |
بدأنا وفينا الأسى والهوان وفينا الضياع وفينا السقم |
وفينا الكرامة مهجورة كمحصّنة لوثتها التهم |
وفينا وفينا... إلى آخر القصيدة، ففينا عيوب كثيرة، ولا يعني وجود التوجه الإسلامي والصلاح أننا وصلنا إلى النهاية، لكن يعني أننا بدأنا، والواقع أنه لم يكن أحد يتصور أن هذه البداية الإسلامية كان يمكن أن تقض مضاجع المراقبين الغربيين إلى هذا الحد، لكنه الذعر والرعب الذي قذفه الله عز وجل في قلوب الأعداء، وهذه مجرد أمثلة.
أما قضية هل الجهاد هجومي أو دفاعي؟
فهذه مسألة لا تعنينا الآن؛ لكن ليس صحيحاً أن المسلمين يقيمون في بلادهم فإذا هاجمهم عدو دافعوا عن أنفسهم، فالقطَّة إذا هوجمت في بيتها دافعت عن نفسها، وكل أمة من الأمم تدافع عن نفسها، لكن الأمة الإسلامية تتميز بأنها ترفع راية الجهاد ليس من أجل إكراه الناس على أن يدخلوا في الإسلام، لكن من أجل حمل الإسلام إلى الناس، ورفع الفتنة عن الناس، وإتاحة الفرصة لمن أراد أن يسلم أن يسلم، ولمن أسلم ألا يضايق ويضطهد حتى يضطر إلى الرجوع عن دينه، كما هو واقع اليوم حتى في بعض بلاد المسلمين، ففي بعض البلاد الإسلامية المحافظة يُسلم إنسان فلبيني أو كوري أو من أي جنسية أخرى ويكون مدير الشركة -أو رئيسها- نصرانياً فيظل يضطهد هؤلاء المسلمين، ويضايقهم ويجعلهم يعملون في رمضان في الشمس، ويمنعهم من أداء فريضة الحج، ويعمل كافة الوسائل حتى يضغط عليهم للرجوع عن دينهم.
فالإسلام شرع الجهاد حتى يزيل كل عقبة يمكن أن تحول بين إنسان وبين أي الإسلام، وحتى تخضع الدنيا كلها لحكم الإسلام، فإما أن يسلموا وإما أن يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون، وإلا فالسيف هو الحكم بيننا وبينهم.
فهل من المعقول أن نقول للإنسان الذي يشتغل فرضاً في تعليم الناس الطب: هذا راتبك، ونقول للذي يشتغل في تعليم الناس الهندسة: هذا راتبك، ونقول للذي يشتغل في تعليم الناس الطباعة: هذا راتبك، ثم نترك الذي يشتغل بتعليم الناس العلوم الشرعية من الكتاب والسنة والهدايات التي هي سر تميزنا واختصاصنا، ونقول له: لا يمكن! أن نعطيك أجراً على عملك، هذا لا يمكن، فنحن عندما فرغناه لهذا العمل لابد أن نعطيه مقابل ذلك، وهذا مثلٌ أقصد به أن أبين أن هذه الغنائم التي أحلها الله لهذه الأمة؛ ليس معناها أن الجهاد شُرِعَ من أجل الغنائم، فالجهاد إنما شرع للهدف الذي ذكرته، لكن لأن المسلمين سوف ينشغلون بالجهاد أحلت لهم الغنائم، أما الأمم السابقة فكانت الغنائم عليهم حراماً.
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {غزا نبي من الأنبياء فلما خرج بقومه قال لهم: اسمعوا! لا يتبعني رجل بنى بامرأة وهو يريد أن يدخل بها ولم يدخل بها} فرجل قد عقد على امرأة وما دخل عليها مشغول البال معها، فهذا ليس لنا فيه حاجة: {ولا رجل بنى داراً ولما يبني سقفها} أي: يشتغل بعمارة بناء، فالخاطر مشغول مع البناء، والمهندس وعمال البناء وكذا وكذا، فهذا لا حاجة لنا به: {ولا رجل اشترى غنماً أو خلفات وهو منتظر نتاجها} فمن عنده غنم وإبل حوامل وهو ينتظر ولادتها فلا يتبعني: {فرجع من كان كذلك وما بقي مع هذا النبي إلا الصفوة}ولذلك لما اقترب هذا النبي من هذه القرية خاف من غروب الشمس، فخاطب الشمس وقال لها: {أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا -ونحن المؤمنين نصدق بهذا لأننا ندرك أن الذي سير الشمس قادر على إيقافها- فتوقفت الشمس، فهجم هذا النبي على أعدائه وانتصر عليهم، فجمعت الغنائم -وكان الأولون من بني إسرائيل وغيرهم، منهم من لم يشرع له الجهاد أصلاً، ومنهم من شرع له الجهاد ولكن لاحظ لهم في الغنيمة، فكانوا إذا غنموا شيئاً جمعوه فأتت نار من السماء فأحرقته- فجمعوا الغنائم فعلا وأتت النار من السماء لتأكل هذه الغنائم فلم تأكلها، فقال هذا النبي عليه الصلاة والسلام: فيكم غلول -أي: إن أناساً أخذوا من الغنائم شيئاً سراً- ليبايعني من كل قبيلة رجل -فأمر كل قبيلة أن يبايعه منها ممثل- فبايعه من كل قبيلة رجل، فلصقت يد رجل بيد النبي، فقال: فيكم الغلول، لتبايعني هذه القبيلة رجلاً رجلاً، فلصقت بيده يد رجلين أو ثلاثة، فقال: فيكم الغلول أنتم غللتم، فأخرجوا لهذا النبي بذرة من الذهب بقدر رأس بقرة، فوضعها مع الغنائم فأتت النار فأحرقتها، ثم أحلها الله تبارك وتعالى لنا؛ لأن الله تبارك وتعالى علم ضعفنا وعجزنا وحاجتنا فطيبها لنا}.
فهكذا يقول صلى الله عليه وسلم، فأحلت هذه الغنائم لهذه الأمة لأنها جزء لا يتجزأ من مهمة الجهاد الشرعي الذي وضعه الله تبارك وتعالى وشرعه لهذه الأمة.
فالمؤمن الموجود اليوم على ظهر الأرض يقرأ هذه الآية ويعلم أنه مخاطب بها، فإذا كان هو من الذين آمنوا وعملوا الصالحات؛ فإن الله تعالى قد وعدهم بأن يستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وأن يمكن لهم في الأرض كما مكن للذين من قبلهم، وأن يُبدلهم من بعد خوفهم أمناً حتى يعبدوه لا يشركون به شيئاً، وهذا الوعد قطعاً سيتحقق لأن وعد الله لا يتخلف.
وأريد أن أشير إلى معنى مهم جداً في نظري، وهو يعصم كثيراً من الناس من وجود نوع من الشك أو التردد، فقد يقول قائل: يا أخي المسلمون جاهدوا في فلسطين، و بلاد الشام، وفي الفلبين، وأفغانستان، وإرتيريا، وفي بلاد كثيرة، ومع ذلك ما حدث لهم هذا الوعد، فما هو السر؟
فأقول: إن السر قد بينه الله تعالى أكمل بيان في كتابه العزيز، واسمع لقول الله عز وجل: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ [الحج:39-40] فهذه هي الآيات التي شرع فيها الجهاد: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج:40] (فوعد) قاعدة وضعها الله رب العالمين لا يمكن أن يرتاب فيها مسلم مطلقاً، قال تعالى: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [الحج:40] ثم قال -وهنا السر-: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41].
إذاً: حين تجد أن هناك حركة جهادية في الماضي، أو في الحاضر، أو في المستقبل جاهدت ومع ذلك لم تمكن ولم تنصر فارجع إلى هذه الآية، واعلم أن الله ينصر من إذا مكنوا في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر، وأنت ما يدريك بأن هؤلاء الذين يجاهدون باسم الإسلام في الماضي، أو في المستقبل، أو حتى في الحاضر؛ أنهم فعلاً لو مكنوا لفعلوا، فهذا أمر غيبي عند الله لا أحد يستطيع أن يجزم به، ومهما أحسنا الظن، ومهما رأينا من علامات الخير، تظل قضية كون الإنسان يستخق على النصر أمر عند الله، وربما لو انتصرت بعض الحركات الجهادية لتمزقنا، أو لتأخر وفاؤها بما جاهدت من أجله، أو لحدث مالا تحمد عقباه، فالأمر لله، وهو سبحانه وتعالى يعلم المستقبل.
ولذلك ينصر من يعلم أنهم إذا انتصروا جاهدوا، وصبروا، وأمروا، ونهوا، وصلوا، وأقاموا شرع الله عز وجل، فهذا هو السر: [الحج:40] ثم وصف هؤلاء بأنهم الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ [الحج:41] فلا تكن في مرية من هذا الأمر.
فأخرج كتاباً وأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذا السؤال فقال: عليه الصلاة والسلام: {مدينة هرقل تفتح أولاً} ومدينة هرقل القسطنطينية، وهكذا حدث الوعد الأول، والآن عندنا وعدان في الحديث، قول الرسول عليه الصلاة والسلام: {مدينة هرقل تفتح أولاً}.
فيدل على أمرين:
الأمر الأول: وهو نص أن مدينة هرقل تفتح في المرحلة الأولى.
الأمر الثاني: وهو مفهوم أن مدينة روما تفتح ثانياً بعد ذلك، فهذا معنى قوله أولاً، وإلا فلا معنى أن تقول أولاً وتسكت ألا وعندك ثانياً، فمدينه هرقل متى فتحت؟
فتحت في القرن التاسع على يدي محمد الفاتح، فتحقق الوعد الأول بعد حوالي تسعة قرون، والغريب في الأمر أن المسلمين قبل ذلك بقرون لما فتحوا الأندلس قاربوا أن يفتتحوا مدينة روما وكانوا قاب قوسين أو أدنى منها، وكانوا من القوة بدرجة كبيرة، فلحكمة يعلمها الله خاض المسلمون معركة مشهورة يسمونها معركة (توربواتيه) ويسميها المؤرخون المسلمون معركة (بلاط الشهداء) فهزموا في هذه المعركة، وكان من نتيجة هذه المعركة أن تأخر المد الإسلامي وانتشر المد الروماني، واكتسح هؤلاء البلاد الإسلامية، فتأخر المسلمون بعد أن كانوا قاب قوسين أو أدنى من مدينة روما وروما لم يدخلها فتح إسلامي إلى اليوم، وهذا يؤكد أن للإسلام جولة قادمة منتصرة يصل فيها المسلمون في الفتوحات إلى بلاد لم يصلوا إليها في الماضي.
وأقول: الدلائل والعلامات على ذلك كثيرة:
الأمر الأول: تخبط البشرية الذي أشرت إلى طرف منه، وهو موضوع خطير مهم، وقد أصبح الآن قضية علمية وليس مجرد كلام إنشائي خطابي يحتاج إلى حديث خاص.
الأمر الثاني: هذه الصحوة الإسلامية المباركة التي يعيشها المسلمون.
وأقول لمن يستبعدون هذا الأمر: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ * وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [هود:121-123].
ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} وهذا مجرد مثال؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أشار بهذا المثال إلى أن الله عز وجل وضع عنا الآصار والأغلال، ويسر لنا الدين.
ولذلك جاء في الحديث الآخر -حديث حذيفة- أن النبي صلى الله عليه وسلم عدَّ من ضمن الخصائص التي مُيِّز بها: {أنه أوتي الآيات الأواخر من سورة البقرة} وهذه الآيات فيها قول الله عز وجل: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286] ففيها إشارة إلى رفع الآصار والأغلال عن هذه الأمة، فقوله عليه الصلاة والسلام: { جعلت لي الأرض مسجدا } أي: مكاناً يُصلى فيه؛ ولذلك جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم}.
وفي حديث ابن عباس عند البزار قال: {وكان النبي لا يصلي حتى يبلغ محرابه} أما النبي صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده، فإن الواحد منهم إذا أدركته الصلاة صلى حيث كان، فعنده مسجده وعنده طهوره، وكذلك قوله عليه السلام: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} فالمقصود بالطهور: أن التراب مطهر، وهذا يشمل عدة أمور:
منها: التيمم؛ وذلك أن الإنسان إذا لم يجد الماء أو خاف الضرر باستعماله جاز لـه أن يعدل عن الماء في الوضوء أو الغسل إلى التيمم، فيضرب بيديه الأرض ضربة واحدة ويمسح بها وجهه وكفيه، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عائشة وعمار وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، وهي أحاديث كثيرة جداً، وأجمع العلماء على مضمون هذا الحكم من حيث الجملة وإن اختلفوا في التفاصيل، فالمهم أن هذا هو معنى قوله: {وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً} لكن حتى غير هذا من الأشياء التي يسِّر فيها الشرع في مسألة الطهور.
فمثلاً: أن الإنسان لو وطئ بنعله أذى أو نجاسة ثم مشى بها على الأرض طهرت بالتراب بدون حاجه أن يغسلها، ولذلك في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عند أبي داود وأحمد ومالك وغيرهم بسند صحيح: {أن النبي صلى الله عليه وسلم صلّى بأصحابه يوماً ثم خلع نعاله فخلع الصحابة نعالهم فلما سلم قال: مالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إن جبريل أتاني آنفا فأخبرني أن بهما أذى -أو قذراً- فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه؛ فإن وجد فيهما أذى فليمسحها وليصلِّ فيها} ولم يأمر عليه السلام بغسلها بل اكتفى بمسحها.
في حديث أم سلمة وفي حديث امرأة من بني عبد الأشهل عند أبي داود بسند حسن: {أن امرأة قالت: يا رسول الله! إن لنا إلى طريق المسجد منتنة، فكيف نصنع إذا مطرنا؟ قال: أليس بعدها طريق هي أطيب منها؟ قالت: بلى، قال: فهذه بهذه فقال: عليه الصلاة والسلام يطهره ما بعده
وروى أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما نقلاً عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا وطئ أحدكم بنعله الأذى فإن التراب لـه طهور} إذاً صور التطهير بالتراب ليست خاصة بالتيمم فقط بل التيمم وغيره، وهذه تشير إلى موضوع التيسير كما ذكرت.
والتيسير لـه أمثلة ونماذج كثيرة جداً؛ بل إن العلماء رحمهم الله وضعوا قواعد، منها: قول الفقهاء والأصوليين مثلاً: (المشقة تجلب التيسير) وقولهم: إذا ضاق الأمر اتسع، بمعنى: أن الدين ليس فيه عسر ولا حرج ولا شدة، فإنسان لم يجد الماء فالعودة إلى التراب.
مثلاً: إنسان لبس الخفين يمكن أن يمسح عليهما بدلاً من غسل القدمين، وإذا لبس العمامة بشروطها يمكن أن يمسح عليها بدلاً من مسح الرأس، وكذلك إنسان لا يستطيع أن يصلي قائماً صلى قاعداً، وإذا لم يستطع أن يصلي قاعداً صلى على جنب، وإذا لا يستطيع أومأ إيماء، وهكذا، جميع التكاليف الشرعية والأوامر والنواهي محددة ومربوطة بقدرة الإنسان واستطاعته، وليس فيها عسر ولا حرج ولا مشقة على الناس، وهذا أمر شامل في جوانب العبادات والمعاملات وغيرها، والحديث فيها يحتاج إلى بسط.
وبعض الناس يتوسع في هذا الأمر ويحلل ما حرّم الله بحجة أن الدين يسر، فيقول: الغناء حلال؛ لأن الدين يسر، ومسألة تطويل الثوب لا شيء فيها؛ لأن الدين يسر، وهذه أمور مشهورة، ومنهم من يقول لك: أخذ الفائدة الربوية أمر عادي، والدين يسر فلا داعي إلى أن نشدد في الأمر، ومسألة الأمور المحرمة التي فيها نصوص صريحة ليس لنا دخل فيها، فنقول له: أنتلقى عنك أم نتلقى عن الله والرسول عليه الصلاة والسلام؛ إننا لا نشرع من عند أنفسنا، واليسر إنما هو في أمور معينة نص عليها الشارع، أو في قضايا كلية تعم بها المشقة والبلوى، أما مثل هذه القضايا التي هي مخالفات صريحة لأوامر الله ورسوله فلا كلام فيها لأحد بعد قول الله وقول الرسول صلى الله عليه وسلم.
دعوا كل قول عند قول محمد فما آمِنٌ في دينه كمخاطر |
وهذه القواعد والأصول مستنبطة من مثل هذا الحديث، ومن قول الله عز وجل: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] وقوله جل وعلا: وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى [الأعلى:8] وغير ذلك من النصوص.
ولذلك فإن الأمة الإسلامية من وراء نبيها عليه الصلاة والسلام الذي أوتي جوامع الكلم، أوتيت زمام الفصاحة، والبلاغة، والأدب، والشعر، وأنواع فنون القول.
ولذلك فإننا نعتقد أن الواجب على حملة رسالة الإسلام، ودعاته، وعلمائه أن يكون لهم من الفصاحة والبلاغة، وحسن القول، وجمال العبارة، ورشاقة الأسلوب ما ليس لغيرهم، وأعني بذلك أن يكون هناك أدباء مسلمون، وشعراء مسلمون، يحسنون فن الكلام، والحديث، والأدب، والشعر، ويستطيعون أن يدعو الناس إلى الإسلام ويربوهم على أخلاقيات الإسلام من خلال منابر الخطابة والأدب والشعر، ومع الأسف الشديد قد تأخر المسلمون عن هذا الميدان وأصبح كثير ممن ينتمون إلى الأدب والشعر في هذه الأمة يأخذون من أدب الغرب، فالواحد منهم لا يعتبر أديباً ولا شاعراً ولا قاصاً إذا لم يقرأ للقصاص الغربيين والفرنسيين، وتجد الواحد منهم يقول: أنا قرأت لفلان، وهو مستعد أن يذكر لك القاص الأمريكي فلاناً، والقاص الفرنسي فلاناً، والقاص البريطاني فلاناً، وأنه قرأ لـه كذا من كتبه المترجمة، وربما يعرف من قصصهم وأدبهم الشيء الكثير، وينسج على منوالهم.
بل أصبحنا نجد كثيراً يلجئون إلى أسلوب الغموض والرمز في التعبير عن معانيهم لأنهم يحملون معاني غير إسلامية، وتأخر الأديب المسلم عن الساحة، ولله در ذلك الشاعر الذي يقول منتقداً من يلجئون إلى الرمز والغموض في الشعر:
الشعر ما لم تلح في التيه جذوته نوراً مبيناً فلا كانت عطاياه |
إن ضمه الحرف حيناً في توهجه أو ضمه الرمز حيناً في حناياه |
فالشعر ما زال يذكي وهج شعلته وقع الصراع فيؤتي بعض نجواه |
فهذا يؤكد أن الأديب المسلم يجب أن يبرز ويوجد، شاعراً، وأديباً، وكاتباً، ومتحدثاً، وخطيباً، وناقداً، وأن يُوصل إلى الناس تعاليم الإسلام وأخلاقيات الإسلام من خلال هذه الوسائل المباحة، والتي تؤثر في لفيف من القراء.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمتي أمتي، فذهب جبريل إلى رب العزة جل وعلا، وأخبره -وهو تبارك وتعالى أعلم- فقال الله جل وعلا: قل له إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك
}.ولذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث إلى بعض الخصائص، ِمنها: قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس وهو في الصحيح: {أن من همَّ بحسنة فلم يعملها كتبت لـه حسنة كاملة، فإن عملها كتبت لـه عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، ومن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبت لـه حسنة كاملة، وإن همَّ بها فعملها كتبت عليه سيئة واحدة} والمقصود من تركها لوجه الله وليس من تركها عجزاً، فهذا تكتب عليه سيئة لو تركها عجزاً، وكذلك أخبر الله عز وجل أن الحسنة بعشر أمثالها، ومن ذلك أنه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أشار إلى أنه أعطي الشفاعة، والشفاعة التي أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ستة أنواع:
أولها: شفاعته صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف في فصل القضاء، حين يأتون إلى الأنبياء آدم ومن دونه فيعتذرون ويردونهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيلبي، ويقول: أنا لها، أنا لها، فيشفع للخلق في فصل القضاء، فيفصل الله جل وعلا بين عباده، وهذه عامة لجميع الأمم.
ثانيها: الشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة.
ثالثها: الشفاعة في قوم من أمته استحقوا النار ألا يدخلوها، بل يغفر الله عز وجل لهم ويدخلهم الجنة رأساً.
رابعها: الشفاعة في قوم من أهل الجنة أن ترفع منازلهم في الجنة.
خامسها: الشفاعة في قوم دخلوا النار أن يخرجوا من النار ويُدخَلوا الجنة، وهؤلاء كثير؛ ولذلك صح في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لكل نبي دعوة مستجابة، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة، فهي نائلة إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً} ولذلك فإن شرط الحصول على شفاعة المصطفي صلى الله عليه وسلم، -وبأبي هو وأمي- أن يموت الإنسان موحداً لا يشرك بالله شيئاً، فكل من وقع في شرك فإنه محروم من شفاعته صلى الله عليه وسلم، ومسألة عدم الشرك بالله مسألة خطيرة وكبيرة، وقد سبق أن تحدثت عندكم عن هذه النقطة بالذات، والمهم أن شفاعته عليه الصلاة والسلام نائلة -إن شاء الله- من مات لا يشرك بالله شيئاً حتى وإن عذبوا، وهذبوا، ونقوا، فإنهم يخرجون من النار ويدخلون الجنة.
سادسها: هو نوع خاص به، وخاص -أيضاً- برجل واحد وهو: شفاعته عليه الصلاة والسلام في بعض أقاربه أن يخفف عنهم العذاب، وتلك شفاعته صلى الله عليه وسلم في أبي طالب كما ثبتت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إنه في ضحضاح من نار} وفي لفظ: {تحت قدميه جمرتان من نار يغلي منهما دماغه، وإنه لأهون أهل النار عذاباً، وما يرى أن في النار أحداً أشد عذاباً منه، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار} فخُفف العذاب عن أبي طالب بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم نظراً لأنه كان يرعى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحوطه ويحميه، وقد يقول قائل: لماذا خص أبو طالب؟
فأقول: من الطبيعي أن يخص أبو طالب لأنه ليس هناك رجل آخر عمل مع النبي صلى الله عليه وسلم مثلما عمل أبو طالب، فهو رجل كافر ومع ذلك فعل من الحماية والحيطة وتمكين الرسول صلى الله عليه وسلم من القيام بدعوته في وقت الاستضعاف ما لم يفعله غيره.
ولذلك لما مات كان خليفته وهو أبو لهب يقف ضد النبي صلى الله عليه وسلم، ويشهر به، ويقول: صابئ كذاب، لا تطيعوه، إنه يريد منكم أن تتركوا كذا وتتركوا كذا، فلم يكن هناك رجل مشرك وقف مع النبي صلى الله عليه وسلم مثلما وقف أبو طالب طيلة حياته مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك خص بهذه الشفاعة.
فهذه بعض الوقفات والمعالم التي أحببت أن أبسطها بين أيديكم حول هذه الأحاديث التي ذكر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بعض خصائصه وخصائص أمته.
نسأل الله جل وعلا أن يعز هذه الأمة وأن يعيد لها مكانتها وعزتها ومجدها، وأن يكتب لها العز والنصر والتمكين إنه على كل شئ قدير: وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ [إبراهيم:20] وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الحج:40] والله تبارك وتعالى أعلم وصلى الله وسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
الجواب: أما النصر فهو بالدرجة الأولى في مجال القتال الحربي، وهكذا النصوص جاءت؛ ولذلك قال: {ولو كان بيني وبينهم مسيرة شهر} ولكن هذا لا يمنع أيضاً الرعب في غيره من المجالات، ولذلك ذكرت مثلاً رعب أعداء الإسلام من الصحوة الإسلامية، وهذا الرعب ليس في مجال الحرب، لأنه ليس ثمة حرب بين الإسلام وخصومه على المستوى العام، فلا مانع أن يكون الرعب موجوداً حتى في مجالات أخرى كمجال المناظرة العلمية وغيرها.
الجواب: الأسباب كثيرة جداً؛ لكن الشيء الذي لا يجب أن يذهب عن البال، أن هذه سنة الله تعالى في الأمم، لأنه ما من أمة عبر التاريخ ظلت دائماً في القمة، فهذه سنة إلهية، قال تعالى: وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140].
فيوم لنا ويوم علينا ويوم نُسَاء ويوم نسر |
ولذلك ليس بغريب أن يحصل لأمة من الأمم ضعف، ودعونا ننظر إلى الأمم المسيطرة اليوم، فالأمم الغربية كانت في أوقات وقرون وأحقاب متطاولة أمة لا يعلم بها التاريخ ولا قيمة لها، وفي وقت من الأوقات كان الأوروبيون يأخذون بعض القبسات من النور والعلم عن طريق المسلمين في الأندلس وكانوا يفتخرون بأنهم يجيدون اللغة العربية، وعندما تدخل كنائسهم تجد فيها لوحات مكتوبة باللغة العربية، وفيها آيات قرآنية أحياناً.
واليهود -مثلاً- مرت بهم قرون متطاولة وهم أمة مستضعفة منهكة ذليلة، لكن كتب الله عز وجل لهم الآن بحبل من الناس وتأييد منهم بعض التمكين، فعلى الإنسان ألا يكون دائماً أسير اللحظة والحاضر، فلا تنظر لليلة أو اليوم أو لو سنة أو عشر سنوات، فإن أعمار الأمم لا تقاس بهذه الأشياء.
الجواب: هذا صحيح، ولذلك قلت في حديثي: إننا في البداية ولسنا في النهاية، ونحن نعتقد أننا وضعنا أقدامنا -إن شاء الله- على الطريق، لكن المسلمون بحاجة إلى أن يستكملوا الجوانب الأخرى، حتى في مجال التمسك بالإسلام، فلا نقول: إن المسلمين قد وصلوا إلى ما يجب أن يكون، فهناك حاجة شديدة إلى العلم الشرعي، وإلى الالتزام بالكتاب والسنة، وتصحيح المفاهيم والعقائد، وتوحيد الصفوف، وإلى تجنب الأخطاء، وإلى أشياء كثيرة، ثم في المجالات الأخرى في المجالات الأدبية، والفكرية، والعلمية، والصناعية المسلمون بحاجة إليها أيضاً.
ومما يحمد أننا نجد كثيراً من الشباب المسلم أصبحوا يتخصصون في مجالات علمية وصناعية تحتاجها الأمة الإسلامية، ولا شك أن هذه من المجالات التي هي فرض كفاية، فما دامت الأمة الإسلامية بحاجة إلى طبيب إلى مهندس وإلى خبير في كافة المجالات، فإن التقصير في هذا يعتبر ذنباً تأثم به الأمة كلها حتى تقوم بهذا الواجب الكفائي.
الجواب: في الواقع لا يحضرني كتب تنطبق عليها الشروط التي ذكرت، إلا أنني أشرت خلال حديثي إلى بعض الكتب المطبوعة التي يمكن أن يستفاد منها، وإن لم تكن كتب موثقة بمعنى أن كل ما فيها صحيح، وبعض الكتب المؤلفة في السيرة النبوية قد تذكر شيئاً من ذلك.
الجواب: هؤلاء كما قال الله عز وجل عن بني إسرائيل: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ [الأعراف:169] ويقول الله عز وجل معاتباً لهؤلاء: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ [الأعراف:169] فالاعتماد على عفو الله فقط ليس مسلكاً صحيحاً؛ لأن عفو الله إنما ينال بسبب وهو عملك الصالح، ولذلك يقول الله عز وجل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف:156] لكن لمن؟
فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ [الأعراف:156-157] إلى آخر الآيات.
فرحمة الله إنما تُنال بسبب أعمال الإنسان الصالحة، ورحمة الله هي السبب لدخول الإنسان الجنة، فبرحمة الله أدخلهم الجنة، وإنما استحقوا رحمته بأعمالهم الصالحة، أما الإنسان الذي يعتمد على هذا فقط فهو كمن يقرأ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون:4] ويسكت، يقول الله عز وجل: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ [الحجر:49-50] ولذلك لا يأتي في القرآن موضع تذكر فيه الجنة إلا ويذكر فيها النار، وتذكر فيه الرحمة إلا ولا يأتي موضع تذكر فيه العذاب، حتى يكون قلب المؤمن بين الخوف والرجاء.
الجواب: السهو والنسيان من طبيعة هذه الأمة لكنه ليس خاصاً بها، بل جميع البشر يقع منهم السهو والنسيان، لكن فيما يتعلق بالرسل والأنبياء فإنهم معصومون عن ذلك فيما يبلغون عن الله تبارك وتعالى.
الجواب: الذي أرى أن الخروج إلى بلدان غير إسلامية، أو الخروج للدعوة، وتفريغ الإنسان نفسه للدعوة، يحتاج لأن يكون الإنسان على مستوى من العلم، أما مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} فصحيح، أي: أن الإنسان إذا علم شيئاً يجب أن يبلغه ولو كان قليلاً، فإذا رأيت أحداً على خطأ وأنت تعرف أنه خطأ من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فتقول له: هذا خطأ، لكن كونك تجلس في المسجد كي تدرس الناس وأنت لا تعرف إلا شيئاً يسيراً فتفتي بغير علم، وتقول مالا تعرف، فهذا لا يجوز.
زكذلك كونك تخرج للدعوة وأنت في نفسك بحاجة إلى أن تكون نفسك؛ لأنك ستدعو الناس إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فربما إذا لم تكن محصناً بعلم صحيح من الكتاب والسنة أنك تقع في الخطأ، وربما تعمل ببدعة وأنت تظن أنها سنة، وربما تستشهد بحديث موضوع وأنت تحسب أنه في صحيح البخاري وربما تقرأ آية غلطاً أحياناً، وربما تأتي بأمثلة تضربها للناس وتعتقد أنها تكفي في الإقناع، وفي الواقع أنها لا تكفي لأنه لا بد من ربط الناس بالكتاب والسنة، فالإنسان أرى أنه لا بد أن يعد نفسه إعداداً جيداً قبل أن يخرج، خاصة إذا كان سيذهب إلى بلاد الكفار ليدعو الناس، وهناك مشكلات ومغريات، وشبهات وشهوات قد يتضرر منها الإنسان.
الجواب: ما دام أن النصر بالرعب تبين أنه ليس خاصية للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فهذا القيد وهو مسيرة شهر يتجه أن يكون كذلك أيضاً ليس خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم.
الجواب: التفرق أنواع: فإن كان التفرق من باب اختلاف التنوع -كما يقول علماؤنا- أي أن الناس منهم من يتخصص في شيء ومنهم من يتخصص في شيء آخر، فهذا لا ضير فيه، فالمسلمون لا بأس أن يوجد من بينهم من يتفرغ مثلاً لبناء المساجد وعمارتها والقيام بالمشاريع الخيرية، وآخر يقوم بشئون الدعوة، وثالث يقوم بالتعليم، وآخر يقوم بالكتابة والتعليم وهكذا، فهذا من باب اختلاف التنوع ولا بأس به.
أما اختلاف التضاد وهو تفرق المسلمين إلى جماعات وأحزاب، وكل قبيلة فيها أمير المؤمنين ومنبره وكل إنسان يلقي باللائمة على غيره ويعتقد أن الحق معه وأن غيره باطل، وينظر إلى غيره نظرة ازدراء ودونية، وحسناته عنده سيئات، وسيئات أصحابه عنده حسنات، فهذا لا شك أنه من العوج، وهو أعظم أسباب تأخر الأمم وتخلفهم.
الجواب: هذا عبارة عن مجموعة خمس محاضرات سجلت في أشرطة مناقشة لآراء وأفكار الشيخ الغزالي في كتابه السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث ثم في سائر كتبه ومؤلفاته الأخرى القديمة والحديثة، وقد كتبت هذا الحوار وعدلته، وأضفت إليه وهذبته، وطبع في كتاب ويتلخص في ستة فصول تقريباً.
الفصل الأول: عبارة عن تصنيف الشيخ الغزالي وإلى أي مدرسة ينتسب، وقد تبين من الدراسة أن الغزالي أقرب ما يكون إلى المدرسة العقلية، وإن لم يكن صورة طبق الأصل.
الفصل الثاني: عن موقف الغزالي من أحاديث الآحاد، وقد تبين أنه لا يأخذ بها في العقيدة، وأنه يردها أحياناً لأسباب غير وجيهه ومن منطلق عقلاني يمكن أن يرد عليه بالحجة العقلانية نفسها.
الفصل الثالث: موقفه من قضية القضاء والقدر، وقد تبين أن موقف الغزالي غير واضح أو غير مضطرد، فهو قد يفسر القدر أحياناً بالعلم، وقد يفسر القدر أحياناً بالنواميس الكونية التي وضعها الله تبارك وتعالى في الأشياء.
الفصل الرابع: هو عن موقف الغزالي في قضية الشيعة، وقد تبين أن موقفه مضطرب في هذه المسألة؛ حيث إنه لا يدري حقيقة الخلاف بيننا وبينهم، ويقول: إن الخلاف بيننا وبينهم بسيط، بل يقول: نحن متفقون معهم في الأصول والفروع، وقد نقلت بالنصوص الموثقة من كتب القوم ما يؤكد حقيقة الهوة، والخلاف الجوهري القائم بيننا وبينهم في الأصول والفروع.
الفصل الخامس: وهو موقف الغزالي من قضية المرأة وهو فصل طويل تحدثت فيه عن مجموعة من المواقف والآراء الغريبة التي قال بها الغزالي في عدد من كتبه، وبعضها لم يسبق إليه على مدى التاريخ الإسلامي.
الفصل السادس: وهو بعنوان: الأدب العلمي عند الغزالي بين النظرية والتطبيق، وقد تحدثت فيه عن كلام الغزالي النظري في وجوب التحلي بمكارم الأخلاق والأدب في الحوار والهدوء في المناقشة، ثم أتبعته بنصوص وعبارات قالها الغزالي في من ينتقدهم، حيث بدأ بالصحابة ومروراً بالتابعين وانتهاء بالعلماء المعاصرين وشباب الصحوة الإسلامية.
والفصل السابع: بعنوان نظرات في كتاب السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث وهو أطول هذه الفصول، وهو عبارة عن نقد للكتاب في وقفات محددة.
الجواب: الواقع أنا لا أقول الكلام الذي ذكره الأخ هكذا، فإن كان يقصد الأخ كلامي الأخير في ضرورة الاستفادة من الأساليب والوسائل، أو من الأساليب اللغوية فهذا كلام آخر.
أما مسألة الاستفادة من العلم الموجود فهذا أمر متفق عليه عند المسلمين، من أن ما عند الآخرين من علم لا ضرر فيه فإن المسلمين أجدر به وأولى، وكان المفروض أن يسبقوا غيرهم إليه، أما إشارة الأخ فالواقع أننا لا نعتقد أن الإسلام بحاجة إلى أن نطوعه لظروف العصر.
فمثلاً ما معنى كوني أقول: لا داعي أن أمنع المرأة من قيادة السيارة ويجوز لها أن تقود السيارة، فيأتيني واحد ويقول يا أخي، لماذا؟
فأقول: الدليل أن امرأة ذهبت في رحلة فضائية من روسيا -مثلاً- أو يقول إنسان: يجب الإذن للنساء بالخروج إلى المساجد، وحثهن على الخروج وهذه سنة، فأقول له يا أخي، لماذا؟
فيقول: والله لأنه يوجد امرأة هندية أخذت جائزة نوبل لأنها نصرانية مبشرة، وامرأة فعلت، وامرأة فعلت.
وأقول مثلاً: يأتي إنسان ويقول: يمكن للمرأة أن تصبح رئيسة للدولة، فيأتي إنسان آخر ويقول: يا أخي، ما هو الدليل من الكتاب أو من السنة؟
فيستدل مثلاً بملكة بريطانيا فهذا غير صحيح أن نطوع تعاليم الإسلام وأحكامه لضغوط الواقع عليه، فنحن نريد أن نصوغ الواقع على ضوء الإسلام، لا أن نراجع تعاليم الإسلام لنصوغه على ضوء الواقع، ونتخلص من أشياء نعتقد أن فيها غضاضة علينا إن قدمناها للناس، فهذا نوع من الهزيمة الفكرية في الواقع.
الجواب: لا يجوز، {ما أسفل من الكعبين في النار} كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، سواء كان بخيلاء أو بغير خيلاء، أو لم يكن يعلم أنه طويل؛ وهذا لا يتصور، لأن الإنسان يحس، ولا يمكن أن يلبس ثوباً دون علمه، إنما هذا عذر يحتج به بعض الناس المقصرين.
الجواب: هذا لا يجوز، الوظائف -إن شاء الله- كثيرة، والله عز وجل لم يجعل شفاء هذه الأمة فيما حرم عليها، وأبواب الرزق مفتوحة، وعليك أن تبحث عن المجال الصحيح الذي تشبع فيه نفسك وولدك وزوجك، وتسقيهم وتكسوهم بالمال الحلال: {فأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به} كما في صحيح البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وما هو واجبنا من أجل تحرير فلسطين من أيدي اليهود؟
وكيف نقوم بهذا الواجب بإذن الله تعالى؟
الجواب: أحياناً نحن قد نتعجل الخطوات، فقد يتخيل الإنسان أن الطرق مسدودة فيقول كيف نستطيع؟
وهذه الأمور لا تأتي في يوم وليلة، بل الأمور تبدأ صغيرة ثم تكبر، وخذ على سبيل المثال قبل سنتين أو ثلاث سنوات من كان يتصور هذه الانتفاضة التي حصلت؟
كلنا بل حتى المحللون والخبراء والعلماء والسياسيون لم يكن أحد منهم يتوقع هذا الأمر، ثم أحدثه الله بإذنه تبارك وتعالى على يدي شباب صالحين ونساء متدينات.
فالله عز وجل يخلق ما يشاء ويصنع ما يشاء، وإذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون، وإذا أراد أمراً يسّر أسبابه، ولكن علينا ألا نتعجل الخطوات.
فالأمة التي عاشت قروناً مهزومة لا يمكن أن تنتقل من هذه الهزيمة في يوم وليلة، بل تحتاج إلى وقت حتى تصل إلى المستوى اللائق بها.
أما واجبنا نحو الانتفاضة فيتلخص في أمور منها:
أولاً: أن نحمل همَّ هؤلاء الإخوة، وأن نتابع أخبارهم بلهف، ونحرص عليهم، ونفرح بما يصيبهم من خير ونحزن بما يصيبهم من شر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن المؤمنين كالجسد الواحد.
ثانياً: تبني قضية فلسطين إعلامياً، بحيث نعلم الناس بأن الإسلام هو الذي يحرك هذه الصحوة وليست النصرانية ولا الشيوعية ولا العلمانية وإنما الإسلام، ونؤكد هذا بالأدلة الصحيحة.
ثالثاً: أن ندعمهم بما نستطيع من المال وغيره، وكذلك لا بد من الدعاء لهم.
الجواب: قصة الغرانيق هي: أنه بعض الناس يزعم أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقرأ القرآن عند الكعبة، فقرأ قول الله عز وجل: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى [النجم:19-20] فألقى الشيطان على لسانه أو في مسامع المشركين: (وإنها لهي الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى) وهذه القصة مكذوبة لا أصل لها، ولا يليق بمقام النبوة وحفظ الله تعالى لدينه وشرعه، وتبليغ هذا الدين للناس دون أن يتلبس به شيء، أن يحدث ذلك.
الجواب: أما صلاة الجماعة في المسجد فهي واجبة، أما إذا صلى الفريضة في البيت فليست باطلة، بل هي صحيحة لكنه آثم في هذا العمل، وهذا هو الصحيح من أقوال أهل العلم.
الجواب: أقول فيما يتعلق بالجهاد: لا يختلف اثنان من المسلمين في أن الجهاد شعيرة من شعائر الإسلام، ومن أنكره فهو مرتد عن الدين، لكن بطبيعة الحال قد يختلف المسلمون، في تقدير المصالح، وحتى الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم قد يختلفون، وقد يقول شخص: أنا أرى أن نبدأ بالجهاد، ويقول آخر: أنا أرى ألا نبدأ اليوم، ويرى آخر أن نأتي من جهة اليمين، وآخر من جهة الشمال، ويرى ثالث أن نرتب الجيش بطريقة، وابع أن نرتب بطريقة أخرى، وليس هذا في مسألة الجهاد في أفغانستان فقط، بل في الجهاد في كل مكان، في أفغانستان، وإرتيريا، وفلسطين، ومناطق عديدة.
والجهاد أنواع:
منها: الجهاد عبر ميادين الفكر والعلم وهذا من الجهاد العظيم اليوم لأننا نجد أن المسلمين يغزون في عقر دارهم بالأفكار الباطلة، والجهاد في واقع المجتمعات لأننا نجد كثيراً من المجتمعات الإسلامية أصبحت ضحية سيطرة العلمانيين والمنحرفين وغيرهم ممن يبرزون على أنهم شخصيات بارزة ومهمة، ويقودون الناس ويوجهونهم إلى وجهة غير إسلامية، فلا بد من مزاحمة هؤلاء، ولا أرى ترك المجتمعات الإسلامية لهؤلاء والخروج مع النفير العام إلى الجهاد، لكن من يخرج إلى الجهاد الأفغاني.
ويقول: أنا ليس لي دور في المجتمع، وأنا لم أخلق لطلب العلم، ولا أحس بأني من أهل هذا الشأن، وأحب أن أذهب لأقوي إيماني هناك ولأستفيد وأعيش معهم وقتاً معيناً؛ فهذا -إن شاء الله- إلى خير، وإن قتل فإنا نرجو له الشهادة، ويكفي الإنسان أن يقرأ -كما أسلفت- من الأحاديث الواردة في فضل من يستشهد في سبيل الله تعالى، لكني أعتب على بعض الشباب -في المقابل- الذين يغلون في هذا، فبعض الشباب يقوم ويكتب الآيات الواردة في الجهاد والأحاديث، ويعتبر أن كل شخص لم يذهب إلى أفغانستان منافق، وفي قلبه ضعف، وأنه جبان، وهذا أيضاً تصور غير صحيح والاعتدال مطلوب في كل شيء.
الجواب: لعلي أجبت على شيء من ذلك، وأقول: المجاهدون الأفغان بحاجة إلى دعمهم سواء بالمال والدعاء، وتبني قضيتهم إعلامياً -كما ذكرت- وهذا لا يقل عن مسألة الرجل، وقد سمعت بأذني من "عبد رب الرسول سياف أحد قادة المجاهدين، يقول: نحن بحاجة إلى المال، ولسنا بحاجة إلى الرجال، وغيره من قادة المجاهدين قالوا ذلك أيضاً، فالحقيقة دعم الجهاد الأفغاني واجب على المسلمين جميعاً، والتخلي عنه يعتبر نكوصاً وفراراً من المعركة، لكن كيفية الدعم؟
الدعم له ألف كيفية، وليس فقط كما يتصور بعض الإخوة الشباب من أنه لا يكون إلا بالخروج للجهاد، ووالله إذا وجد قائد محنك، ووجد عسكري قدير، ووجد أناس لهم كفاءة في هذا المجال، فسنقول لهم: اخرجوا لأن ميدانكم لا يسده غيركم، وإذا كان هناك أطباء يمكن أن يساعدوا في العلاج والتمريض؛ فينبغي أن يخرجوا وينظموا الخروج، وإذا كان هناك أناس يمكن أن يكون لهم مهمات تفتقر إليهم؛ فهؤلاء ينبغي أن يسارعوا في الخروج، ومن قعد هاهنا فعليه أن يدعم إخوانه بمجالات أخرى عديدة.
الجواب: هذا خطأ فالقرآن هو لب العلوم وأساسها، قال الله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:49] ولذلك على الشاب أن يأخذ من القرآن بنصيب حسن، فإن أمكن أن يحفظ القرآن فحسن، وإلا فعلى الأقل أن يحفظ شيئاً من القرآن الكريم.
الجواب: صبغ الشعر بالسواد لا يجوز، لأنه ورد نص في ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وجنبوه السواد} أما صبغه بغير ذلك فلا بأس به؛ شريطة ألا يكون على غرار ما تفعله النساء الكافرات، وبعض النساء يذكرن أن بعض الأخوات -هداهن الله- شعرها كأنه أصبح لوحة رسام، وقد يكون فيه اثنا عشر لوناً أحياناً، أي: أن هذه الأمر أصبح ألعوبة، فينبغي للمرأة المسلمة أن يكون لها استقلال وهو تميزها.
الجواب: نعم، بشرط ألا تكون هذه الأشياء مأخوذة عن الكافرات أيضاً، لأن التشبه بالكفار حرام كما في حديث ابن عمر {من تشبه بقوم فهو منهم} فكون: المرأة اليوم تسرح تسريحة فرنسية، وغداً قصة الأسد، وبعد الغد القصة الولاَّدية وهكذا، وكلما ظهرت ممثلة أو مغنية على شاشة التلفاز، أو على أشرطة الفيديو التي فتنت كثيراً من المسلمين اليوم بقصَّة تسارعت نساء المسلمين إليها، فلا شك أنها محرمة، أما كون المرأة تسرح شعرها بطريقة تعجبها وتعجب زوجها فلا شيء في ذلك إذا سلم من المحذور السابق، على أنه لا ينبغي أن يكون هذا شغلها الشاغل.
الجواب: قص الأظافر يجوز، بل هو مشروع إذا طالت، والتطيب شريطة ألا يكون بخوراً، لأن البخور قد يصل إلى أنف الإنسان، فلا ينبغي أن يستنشقه وهو صائم، وكذلك وضع المكياج لا بأس به في رمضان، وحكمه في رمضان مثل حكمه في غير ذلك، فتقام فيه المحاذير الأخرى.
ووضع المكياج أثبت الأطباء أن المبالغة فيه تضر ببشرة المرأة، وكذلك بعض النساء -كما أسلفت- أحياناً تبالغ في رسم وجهها حتى كأنه لوحة رسام، وتجلس ساعات أمام المرآة، وهذا لا ينبغي، والجمال في الحقيقة جمال الخلق، والجمال الفطري لا يعدله شيء، والاعتدال في هذه الأمور مطلوب.
الجواب: من العلماء من قال: إن قراءة القرآن للميت تصل، ومنهم من قال: لا تصل، لكنهم متفقون على أن الدعاء والاستغفار لـه مشروع؛ ولذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوصل خيراً إلى ميت أن يكثر من الدعاء لـه، وكذلك الصدقة فإنه ليس فيها اختلاف كما قاله بعض أهل العلم، والواقع أن فيه اختلافاً لكن الجماهير على أن الصدقة تصل إلى الميت إذا تصدقت عنه بشيء.
الجواب: تخصيص ليلة النصف من شعبان بالصيام والقيام لا يثبت فيه شيء، لكن على العموم يشرع للإنسان أن يصوم الأيام البيض من كل شهر وهي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر بما في ذلك شهر شعبان.
أما تخصيص النصف من شعبان بشيء، فلا يكاد يصح فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء.
الجواب: من الأيام التي يشرع فيها الصيام في محرم: اليوم التاسع والعاشر، أو العاشر والحادي عشر، وكذلك أيام البيض كما أسلفت، والإثنين والخميس، ولو صام المحرم كله فحسن.
الجواب: مشكلتنا أننا -كما ذكرت إشارة في المحاضرة- أصبحنا متطفلين على موائد الآخرين، فملابسنا تصنع في الغرب؛ ولذلك الإنسان أحياناً يريد أن يشتري لابنه الصغير لابنته الصغيرة ثوباً يكون مناسباً، فربما يمر بالسوق فلا يكاد يجد ثوباً بالشكل الذي يرضيه، فهم في الواقع يفرضون علينا أمزجتهم وتقاليدهم وعاداتهم، ونحن مهمتنا أن نستورد وننفذ، ولا أكثر من انتشار هذه العادات والتقاليد خاصة بين أخواتنا من النساء فيما يتعلق بالملابس والتسريحات وغيرها.
ولذلك فإن لبس هذا القصير في نظري أنه من أكبر المخاطر التي تهدد فتياتنا في هذه الجزيرة، ولو كان من ورائه عباءة؛ لأن العباءة: يمكن أن يحركها الهواء أو ترتفع المرأة؛ أو تصعد، أو تنـزل، أو تركب السيارة، أو تصعد على الرصيف -مثلاً- أو ما أشبه ذلك، فيظهر منها شيء، وهذا أمر ملحوظ وكلنا نشاهد ونلحظ.
وهناك أمر آخر: وهو أنه إذا كان وراءه العباءة فما الفائدة من لبسه؟
لكن المسألة أصبحت تدرجاً، ولذلك حتى العباءة هي الأخرى بدأت ترتفع ولا ندري متى يستقر بها القرار، وغطاء الوجه يوماً من الأيام كانت المرأة تلبس غطاء ساتراً فضفاضاً طويلاً، وأصبح الغطاء يرتفع قليلاً قليلاً حتى أصبح تحت الذقن وأصبح أعلى الرأس يبين، وأسفل اللحية يبين، والمرأة أحياناً قد تكون فتاة محافظة ومتدينة، ولا ترغب أن يظهر منها شيء؛ فتجد أنها بكل صعوبة تلتفت يمنة ويسرة، لأنها لو التفتت لظهر شيء من رقبتها، أو ظهر شيء من ذقنها، أو ظهر شيء من شعرها، فلماذا نلزم أنفسنا بهذه الأمور؟
ولماذا تكون أمورنا مستوردة عن الآخرين؟
أليس عندنا من الثقة بعاداتنا؛ بل بالشرائع التي تلقيناها عن ديننا ما يجعلنا نكتفي بها عن غيرها.
وبالمقابل أقول: هذه البدع وهذه التقاليد المنحلة مهما كانت موجودة، ولكنني أنصح الأخوات المتدينات أن يكون لديهن من الاعتزاز بالزي الإسلامي وبالشرائع الإسلامية ما يمكن أن يوجد تياراً مضاداً، فمثلاً كثير من الفتيات الآن أصبحت تلبس القفازين -غطاء اليدين- وأصبح هذا أمراً مألوفاً ومعروفاً نشاهده في كل مكان، وهذه ظاهرة طيبة بدأتها فتيات مؤمنات وانتشرت حتى عند غيرهن من سائر النساء غير المتدينات، فهي عادة طيبة، ونقول للأخت الطيبة: عليها ألا تكتفي أن تعمل هي بشرائع الإسلام بل عليها أن تنشر هذه الأشياء بين الناس.
الجواب: لا يجوز للرجل أن ينظر إلى وجه امرأة أجنبية عمداً، ولا يجوز لها أن تظهر أمامه وهي غير محجبة، وأعني بالحجاب تغطية الشعر وتغطية الوجه أيضاً، والأدلة على ذلك كثيرة تربو على خمسة عشر أو عشرين دليلاً ذكرت شيئاً منها في الكتاب الذي هو حوار هادئ مع الغزالي ونقلت بطبيعة الحال عن العلماء الذي كتبوا في هذا الباب وأشرت إليهم.
الجواب: الصلاة بالقفازين لا بأس بها، وستر اليدين في الصلاة مطلوب، ومن العلماء من قال بوجوبه، ومنهم من قال بأنه غير واجب، فإذا سترت يديها بالقفازين فهذا حسن، وإذا لم تسترها بالقفازين تسترها بثوبها الذي تلبسه للصلاة، وكذلك ما يتعلق بستر القدمين: فمن العلماء من قال بالوجوب، ومنهم من قال بأنه مستحب -أي في الصلاة- وليس بواجب، وأما الوجه فنص الفقهاء بأنه يكره ستره في الصلاة إذا لم يكن عندها رجال أجانب ولم تخش من مرورهم بها.
وما حكم قص الشعر للمرأة؟
وهل الحديث الذي يقول: إن عائشة قصت شعرها إلى ما تحت الأذن صحيح؟
الجواب: الحديث الذي في صحيح مسلم هو أن أمهات المؤمنين كن يأخذن من رءوسهن حتى تكون كالوفرة، وبناء عليه نقول: إن قص المرأة لشعر رأسها جائز، بشروط:
الأول: ألا يكون على صفة التشبه بنساء الكفار كما أسلفت.
الثانية: ألا يكون على صفة التشبه بالرجال، مثل بعض الأخوات -هداهن الله- التي تبالغ وتنهك شعر رأسها حتى يصبح كأنه شعر رجل، وهذا من الانتكاس في الفطرة، وأصبح الشاب يطيل شعر رأسه ويتشبه بالمرأة، وبالمقابل المرأة تقص شعرها حتى كأنها رجل، وهذا لا يجوز وخاصة إن كانت المرأة ذات بعل.
الجواب: نحن نعرف أن الإسلام حرّم على الرجل النظر إلى المرأة وإلى زينتها، وإذا كان الرجل يشاهد في الشارع -مثلاً- وجه المرأة أحياناً فقط، ويشاهد امرأة مغطاة بالكامل، فهو في التلفاز أو الفيديو يشاهد من المرأة شيئاً كثيراً يثير من الفتنة والشهوة في قلبه مالا يثيره رؤية المرأة المحجبة التي في الشارع في حالات غير قليلة، وكذلك التلفاز والفيديو يعلم الشاب والفتاة أن هذه امرأة في التلفاز تركب مع رجل لا تعرفه، وأنها تعتقد صداقةً مع صديق، وأنها تهرب من أهلها، وتخون زوجها، ويقبلها بحجة أنه زوجها ولا تعرفه ولا يعرفها، وكل إنسان يعرفون ذلك، وأيضاً مشاكل أخرى كثيرة جداً.
فتتربى الأجيال على أن هذه الأمور كلها لا بأس بها، وبالمقابل التلفاز يربي الناس على أن ما أحل الله لهم هو أمر سيء ويجب الفرار منه، فيتربى الناس مثلاً على أن طاعة الوالدين أمر غير محبب، والوالد يريد منك كذا والوالدة تريد منك كذا، وعلى أن تعدد الزوجات جريمة ونهايته إلى الفشل، فهذه هي الأشياء التي تربي أجهزة الإعلام الناس عليها، وأعتقد أن هذه الأمور لم تعد تخفى على أحد، لكن الإنسان أحياناً يلتمس في نفسه المبررات والمسوغات لارتكاب الحرام.
الجواب: هذا حسن، والجهاد بالمال قدمه الله في القرآن حتى على الجهاد بالنفس، قال تعالى: وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ [النساء:95].
الجواب: إن كان لا يرضى بذلك فلا يجوز، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه} أما إن كانت تعلم رضاه فلا بأس بهذا.
الجواب: لا بأس أن تضحي عنه أو عن غيره من الأحياء أو الأموات.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر