إسلام ويب

الثبات حتى المماتللشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أمر الله سبحانه بالثبات على دينه حتى الممات، وفي سبيل ذلك جعل باب التوبة مفتوحاً، أما عوامل الثبات على الدين فهي: الثبات على عقيدة التوحيد، وإقام الصلاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والثبات على بيعة الحاكم ما أقام الدين، والثبات على حجاب المرأة وعدم اختلاطها بالرجال، وأخيراً الثبات على الشوق إلى لقاء الله تعالى.
    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة.

    من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المسلمون! أحييكم جميعاً بتحية الإسلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    لقد اختار الأبناء عنوان كلمتنا هذه وجعلوه: (الثبات حتى الممات)، فماذا يعنون بهذا العنوان؟ على أي شيء الثبات؟

    وهنا أذكر قول الله عز وجل في ندائنا معاشر المؤمنين والمؤمنات! من سورة آل عمران إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، فهذا النداء الإلهي الموجه إلينا معاشر المؤمنين والمؤمنات! يأمرنا فيه بالثبات على الإسلام حتى الموت، وهو نص صريح في هذا المعنى، إذ قال تعالى آمراً: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ [آل عمران:102]، ومعنى: اتَّقُوا اللَّهَ [آل عمران:102] عز وجل: خافوه، ارهبوه، اخشوه، فلا تعصوه، وانهضوا بالتكاليف، وقوموا بها، وواصلوا ذلك حتى الموت، فإن من انقطع؛ انقطع حبله وسقط، وخسر خسراناً أبدياً.

    أضيف إلى هذا ما أجمع عليه أهل العلم في هذه الأمة من أن الأعمال بالخواتيم، فقد يعمل أحدنا ما شاء الله أن يعمل ثم ينبت حبله وينقطع، فيسقط فيتلاشى ويتمزق.

    ويشهد لهذا المعنى أيضاً: حديث عبد الله بن مسعود في الصحيح وهو: ( إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ). فالعبرة إذاً: بالخواتيم؛ فلهذا الثبات.. الثبات! حتى الممات.

    ويشهد لهذا أيضاً ويقرره ما صح عنه صلى الله عليه وسلم إذ يقول: ( ستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل ).

    (فتن كقطع الليل المظلم)، قد غشتنا هذه الفتن، وغطت عالمنا الأرضي.

    (يصبح فيها الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، يمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه..)، إذاً: الكفر وبيع الدين والتخلي عنه والتنكر له.

    (يبيع دينه بعرض من الدنيا قليل)، نعم! لو أعطي ملء الأرض ذهباً ما كان شيئاً كثيراً، فقد يقف أحدهم في عرصات القيامة فلو أن له ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدى به، بنص كتاب الله.

    إن الشقي من الناس عندما يعاين جهنم وقد برزت يود في ذلك المقام لو أن له ما في الأرض جميعاً ومثله معه؛ ليفتدي به، وليس له ذلك ولا يقبل منه؛ لأن حكم الله جرى في أن أصحاب الأرواح الطيبة والنفوس الزكية الطاهرة، يسكنهم في جواره في الملكوت الأعلى، وأن أصحاب الأرواح الخبيثة المنتنة، الشريرة المظلمة هؤلاء يلعنهم ويبعدهم عن ساحة الخير وعن دار السلام، ويحشرهم في ذلكم العذاب المقيم، في جهنم دار المتكبرين والظالمين.

    ويشهد لهذه الحقيقة تلك الدعوة الربانية التي دعا بها يوسف عليه السلام، إذ قص الله تعالى لنا قصته، يوسف الصديق بن الصديق بن الصديق، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال تعالى بعد ما قص أحداث قصته وقد دامت أربعين سنة، لما جلس يوسف على أريكة الملك، ودانت له تلك الديار، وأصبح الملك الحق، واجتمع شمله بأبويه وإخوته، وأصبح متمكناً من أن يأكل ما يشاء ويلبس ما يشاء ويسكن كيف شاء، وله أن يبطش أو ينتقم ممن يشاء في هذه الساعة، يرفع كفيه إلى ربه فيقول: رَبِّ [يوسف:101]، أي: يا رب! قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ [يوسف:101]، هذه أمنية يوسف بعد أن تمكن من أن يتقلب في تلك البلاد كيف شاء، إذ دانت له وخضعت، كان حنينه وشوقه إلى الملكوت الأعلى، يريد مواكبة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

    فمن هنا كان هذا العنوان؛ عنوان الساعة: وهو الثبات حتى الممات؛ خشية أن ننقطع فيضيع كل شيء، فلم نستفد من صيام ولا صلاة، ولا من صدقة، ولا من زكاة، ولا من حج ولا اعتمار، ولا من ذكر ولا من تلاوة قرآن، بل ولا جهاد ولا رباط، يا ويل من انقطع! إنها الردة والرجعة إلى الظلمة بعد الدخول في النور، فما أحوجنا إلى الاستمرار في هذا الطريق حتى النهاية، وإن طلبنا عوناً وحق لنا أن نطلب العون، من يقوى على أن يموت مسلماً؟ من يملك ذلك وهو في خضم الفتن، لابد من اللجوء الصادق إلى الله، هو الذي يثبت عباده المؤمنين متى طلبوا ذلك ورغبوا فيه، وألحوا في تطلابه والحصول عليه، إذ كان الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم يناجي ربه في سجوده ويقول: ( اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك )، يعلن عن حاجته إلى ربه، عن ضعفه وقلة قدرته، يسأل ربه أن يثبت قلبه على ما هو عليه حتى يلقى ربه، فكيف بنا ونحن في ظلمات هذه الفتن، فلنسأل الله تعالى -إن أمكن- في كل ركعة لا في كل صلاة: ( اللهم يا مقلب القلوب والأبصار ثبت قلوبنا على دينك ).

    والله عز وجل يستجيب لعباده المؤمنين، وقد وعدنا بذلك، جاء هذا الوعد في آخر سورة إبراهيم الخليل عليه السلام، في قول الله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ [إبراهيم:27]، فالله يفعل ما يشاء؛ لأن إرادته حرة مطلقة، فمن شاء هداه ومن شاء أضله، من شاء رحمه ومن شاء عذبه، من شاء أعطاه ومن شاء منعه، فإرادته فوق كل إرادة؛ لأنه عليم حكيم: إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ [يوسف:83].

    فمن قصده وقرع بابه، ورفع صوته ضارعاً باكياً سائلاً، حاشاه أن يحرمه سؤله، أو أن يمنعه طلبه، ومن أعرض عنه وتشاغل بغيره، بل قرع باب سواه وطاح بين يدي غيره فهذا المحروم، ومثل هذا لا يعطى ولا يهدى ولا يرحم، فإن إرادته تتبعها حكمته، فلا يظن ظان أن من لازم باب الله يسأله الهداية أنه لا يهديه ما كان هذا، ولا تظن هذا في الله، ولا أن عبداً أذنب وغرق في ذنبه ثم رفع كفيه إلى ربه مستغفراً تائباً نادماً باكياً ولازم باب الله بالاستغفار والتوبة حاشا لله أن يحرمه قبول توبته، كيف وهو القائل: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53]، ومعنى هذه الآية، ومن حق كل سامع وسامعة أن يفهم معناها، وأن يفهم مراد الله منها، فقد اغتر بها من اغتر، وظن أن الله وعد عباده بأنه سيغفر ذنوبهم كلها ولم يؤاخذهم على شيء منها، محتجاً بهذا النص الكريم: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]، إن مراد الله من هذا: أنه ليس هناك ذنب يعجز الله تعالى عن مغفرته والصفح عن فاعله والعفو عنه، لو أحرقت مصراً بكامله وتبت وقبل توبتك غفر لك، فإن ذلك الذنب لا يعجزه.

    وأذكر لكم مذكراً الناسين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة: أن مجموعة من المسرفين في الإجرام والظلم والشر والفساد، لما أصبح الناس يدخلون في دين الله أفواجاً وجماعات، تململوا وتضايقوا من بقائهم في تلك الظلمة، في ذلك الحيز من الضيق والهم والكرب، أيسلمون؟ وهل يُقبلون؟ وقد غطت ذنوبهم السهل والوهاد والجبال، ما تركوا ذنباً إلا قارفوه، فوفقهم الله إلى أن يراسلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعثوا رسولهم إليه يقول له: فعلنا وفعلنا وفعلنا، فإن كان الله قادراً على أن يغفر لنا ويقبلنا دخلنا في دين الله وأسلمنا له، وإن كانت ذنوبنا مثلها لا يغفر لابد من المؤاخذة فلنترك أنفسنا على ما نحن عليه، فكان الرد كالبرقية العاجلة: قُلْ [الزمر:53] يا رسولنا! قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].

    إذاً: فلا يقنطن قانط ولا ييأسن يائس، مهما كانت ذنوبه إن هو عزم عزم الصادقين على أن يطهر ويصفو ويزكو، ورمى بنفسه في بحر طاعة الله الطاهر النقي، من صلاة إلى زكاة، ومن ذكر إلى دعاء، ومن صالحة إلى أخرى، وكره كل خبيث، واشمأزت نفسه وانقبضت من كل سوء، فإنه لو عاش يوماً واحداً، بل ساعة واحدة، غفر الله له ذنوبه، إنه يغفر الذنوب جميعاً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088457273

    عدد مرات الحفظ

    776842677