ثم دخل صلى الله عليه وسلم مكة، ثم عرج به ربه إلى سدرة المنتهى، وذلك أنه لما أغلقت في وجهه أبواب الطائف عنه فتح الله جل وعلا له أبواب السماء.
وكان رفيقه إلى الطائف زيد بن حارثة فجعل الله جل وعلا رفيقه إلى سدرة المنتهى جبريل، كل ذلك إكراماً من الله لنبيه عليه الصلاة والسلام، فكانت رحلة المعراج:
أسرى الله بك ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
لما رأواك به التفوا بسيدهم كالشهب في البدر أو كالجند بالعلم
صلى وراءك منهم كل ذي خطر ومن يفز بحبيب الله يأتمم
ثم عاد صلى الله عليه وسلم من ليلته، ثم كانت أحداث وأحداث، ثم هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دخلها يوم الإثنين، وكان قد هاجر يوم الإثنين، وولد يوم الإثنين ونبئ يوم الإثنين كيومنا هذا.
فدخلها صلى الله عليه وسلم من جهة الجنوب من جهة قباء، ثم ركب ناقته بعد أيام متوجهاً إلى داخل البلدة وهو يقول: (دعوها فإنها مأمورة) .
فإذا كانت ناقته عليه الصلاة والسلام تسير بهدي الله فكيف به كله صلوات الله وسلامه عليه؟
فدخل المدينة وبنى مسجده، وحول مسجده بنى حجرات أمهات المؤمنين التي كان يأوي إليها عليه الصلاة والسلام.
ثم كان يوم بدر، وفي يوم بدر حقق التوحيد في أعظم غاياته، ذلك أن الله جل وعلا وعده بالنصر، قال الله جل وعلا: وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ [الأنفال:7] فكان يعلم أنه لن يهزم؛ لأن الله وعده إحدى الطائفتين، والطائفتان إما العير وإما النصر، والعير قد فرت ونجت فلم يبق إلا النصر، ومع ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام وقف يدعو ويلح على ربه في الدعاء حتى أشفق عليه صاحبه أبو بكر .
ثم كان يوم أحد، وفي يوم أحد شج رأسه وكسرت رباعيته وسال الدم على وجهه، فنظر إلى قريش وهو يقول: (كيف يفلح قوم شجوا رأس نبيهم).
شجوه وهو يدعوهم إلى الله ليبين الله جل وعلا لكل أحد أن كل وجه وإن كان وجه محمد عرضة للتغير، عرضة للفناء، عرضة للنقص، إلا وجه الحي القيوم جل جلاله.
قال الله جل وعلا: وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88] .
فالشمس يراها الناس مثالاً لكل خير لكنها تخسف أو تكسف، والقمر يضرب به المثل في الجمال لكن يعتريه الكسوف، فكل كامل إلى نقصان وكل حي إلى موت، إلا وجه العلي الأعلى جل جلاله.
ثم إنه كان بعد ذلك أحداث أخر حتى كان يوم الفتح فدخل صلى الله عليه وسلم مكة مطأطأً رأسه تواضعاً لربه، ثم دخل الكعبة فكبر في نواحيها وصلى فيها ركعتين ثم خرج، ثم أعطى مفتاح الكعبة لبني شيبة قائلاً: (خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم) .
ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه رأى قبل ذلك صورة أبيه إبراهيم يستقسم بالأزلام، فقال: (قاتلهم الله ما لشيخنا وللأزلام) فسمى صلى الله عليه وسلم إبراهيم شيخه، وهو لم يقل لأحد من الأنبياء غيره أنه شيخه إلا لأبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
ثم إنه صلوات الله وسلامه عليه حدثت له معارك وحروب في الطائف وتبوك، حتى إذا كان العام العشر أذن في الناس أن نبي الله سيعزم على الحج، فأم المدينة خلق كثير كلهم يريد أن يصحبه، فحج حجة الوداع، وأنزل الله جل وعلا عليه فيها: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] .
فعلم صلى الله عليه وسلم أنه سيموت فودع الناس، وأخذ يقول: (لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا) وكان جبريل يدارسه القرآن كل عام، ودارسه القرآن في ذلك العام مرتين.
ثم عاد إلى المدينة وبقي فيها إلى أن دخل أول شهر ربيع فدخل على عائشة وهي عاصبة رأسها تقول: (وارأساه، قال: بل أنا وارأساه) ثم أخذ يشكو المرض، فخرج إلى شهداء أحد فاستغفر لهم ودعا لهم وأثنى عليهم وذكرهم بخير.
ثم أتى بقيع الغرقد ودعا لأهله وقال: (ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع آخرها أولها) .
ثم عاد إلى بيته فدبت فيه الحمى، فتصدق بدنانير تسعة كانت عنده وأعتق غلمانه، ولم يبق له من متاع الدنيا إلا سيفه عليه الصلاة والسلام وحجرات أمهات المؤمنين.
وفي اليوم الذي مات فيه -وكان يوم الإثنين- دخلت عليه أول الأمر ابنته فاطمة ولم يزل فيه شدة، فأجلسها بجواره وأخبرها أنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم أخبرها أنها أول أهله لحوقاً به وأنها سيدة نساء أهل الجنة فرضيت وقرت ثم خرجت.
ثم دخل عليه أسامة بن زيد حبه وابن حبه وقد وهنه المرض، فطلب منه أن يدعو له فلم يستطع وهو سيد الفصحاء وإمام البلغاء أن يرفع صوته بالدعاء، لكنه رفع يديه حتى تقر عينا أسامة .
ثم خرج أسامة ودخل عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك، فنظر صلى الله عليه وسلم إليه ولم يقدر وهو في تلك الحالة أن يطلب السواك، وإنما اكتفى بتحديق النظر فيه، ففهمت عائشة مراده، فأخذت السواك من أخيها فقضمته وطيبته ثم استاك صلوات الله وسلامه عليه ليكون فوه رطباً قبل أن يلقى الله.
ثم أتاه الملك فخيره بين الخلد في الدنيا ولقاء الله ثم الجنة، وما ملئت قلوب الأنبياء بشيء أعظم من الشوق إلى الله، فسمعته عائشة يقول: مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا [النساء:69] بل الرفيق الأعلى. قالها ثلاثاً، ثم مالت يده وفاضت روحه عليه الصلاة والسلام إلى أعلى عليين في المحل الأسنى والملكوت الأعلى.
ثم غسل، وتولى شرف غسله علي بن أبي طالب والعباس وابناه قثم والفضل يقلبان الجسد الشريف، وأسامة وشقران مولاه يسكبان الماء من غير أن تكشف لرسول الله عورة.
ثم كفن في ثلاث أثواب، ثم استعظم الصحابة أن يقدموا أحداً بهم إماماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصلوا عليه أرسالاً أي: متفرقين. أول من صلى عليه عمه العباس كبير بني هاشم، ثم بنو هاشم، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم سائر الناس.
ثم حفر له في الجهة الجنوبية الغربية من حجرة عائشة ، ونزل في قبره علي وقثم والفضل وأسامة وشقران ، ثم وضع صلى الله عليه وسلم في لحده ونصبت عليه تسع لبنات، ثم حثي التراب على قبره عليه الصلاة والسلام، فوقعت الأمة بموته في أعظم مطيبة ابتليت بها، قال حسان رضي الله عنه وأرضاه:
بطيبة رسم للرسول ومعهد منير وقد تعفو الرسوم وتهمد
بها حجرات كان ينزل وسطها من الله نور يستضاء ويوقد
معارف لم تطمس على العهد آيها أتاها البلى فالآي منها تجدد
عرفت بها رسم الرسول وصحبه وقبراً به واراه في الترب ملحد
فبوركت يا قبر الرسول وبوركت بلاد ثوى فيها الرشد المسدد
صلوات الله وسلامه عليه.
ينبغي أن يعلم أن الناس يحشرون يوم القيامة أحوج ما يكونون إلى ثلاثة أمور:
يحشرون عراة. أحوج ما يكونون إلى الكسوة.
ويحشرون عطشى، أحوج ما يكونون إلى الماء.
ويحشرون فتدنو منهم الشمس فهم أحوج ما يكونون إلى الظل.
فالموفق من كساه الله، ومن سقي من الحوض المورود، ومن أظله الله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله، جمع الله لي ولكم هذه الثلاثة كلها.
وحتى ينال المرء ذلك لا بد أن يقتدي بسيرته، وحتى نقتدي بسيرته لا بد أن نعرف الطريق الإجمالي الكلي لحياته صلى الله عليه وسلم وحياة الأنبياء من قبله، قال الله جل وعلا ذاكراً إبراهيم وثمانية عشر نبياً بعده وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام:83-87].
ثم قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90] فالعبرة كل العبرة بالاقتداء بهدي الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم.
وما فطر الأنبياء على شيء أعظم من فطرتهم على تعظيم الله جل جلاله، إنه لا تدرك غاية ولا ينال مطلوب ولا يدفع مرهوب إلا بالرب تبارك وتعالى، وأسعد الناس برب العباد أعظمهم وأشدهم تعظيماً له.
وما فطر الله قلب أحد على شيء أجل وأعظم من أن يفطره على أن يحب الله ويجل الله ويرجو الله، فمن جمع الله له أن يحبه ويجله ويرجوه هو العبد الموفق المسدد، وكل قلب خلا من محبة الله أو من رجاء الله أو من إجلال الله فلا خير فيه أبداً.
وما أعطى الله أنبياءه ورسله ولا الصالحين من بعدهم شيء أعظم من أن يجعل في قلوبهم أنهم لا يحبون أحداً مثله، ولا يرجون أحداً مثله، ولا يخافون أحداً مثله، ولا أحد أعلم بالله من الله، فمن أراد أن يعرف الله فليقرأ القرآن وليقرأ ثناء الله على ذاته العلية وتمجيد الرب لنفسه سبحانه وتعالى.
قال الله جل وعلا في آية جامعة مانعة: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ * يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ [النور:43-44].
هذه الآية من أعظم آيات القرآن دلالة على الرب؛ لأن الله جل وعلا ذكر فيها مخلوقاً واحداً هو السحاب، فجمع الله جل وعلا بالسحاب أربع نقائض:
فالسحاب يكون منه الغيث، وفي نفس الوقت تكون منه الصواعق، والصواعق نار، والماء والنار لا يجتمعان فجمعهما الله جل وعلا في السحاب.
والسحاب تكون منه الظلمة إذا تراكم بعضه على بعض حتى يحجب الشمس ويحجب القمر، ويكون منه البرق، والبرق ضياء، والضياء والظلمة لا يجتمعان.
فجمع الله الماء والنار والظلمة والضياء في مخلوق واحد، ولا يقدر على هذا إلا الله.
ومن دلته المخلوقات على عظمة الله عرف الله، لأن الله عرف نفسه بطريقين: إما بذكر أسمائه أو بذكر صفاته التي منها صفات ذاتية وصفات فعلية، وكل هذه الجملة تدل على الخلاق العظيم والرب الجليل جل جلاله، فمن عرف الله لم يجهل شيئاً، ومن جهل الله لم يعرف شيئاً، وما فطر الأنبياء على شيء أعظم من فطرتهم على محبة الله جل وعلا وتعظيمه، قال ربنا: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165] .
وقال ربنا تبارك وتعالى يخبر عن حال الصالحين مع ربهم تبارك وتعالى: وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [المائدة:83-84] فالغاية الأولى في الاهتداء بهدي الأنبياء المعرفة بالرب تبارك وتعالى.
لقد قبل إبراهيم أن يلقى في النار عرياناً من أجل الله، والجزاء من جنس العمل، فيكون إبراهيم أول من يكسى من الخلائق يوم القيامة قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، والله يقول: إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [التوبة:120] هذه محبة الله وتعظيمه ورجاؤه وهي أعظم صفات الأنبياء والمرسلين.
أخفوا العمل عن الناس إكراماً لله فأخفى الله مثوبتهم وجزاءهم عن الناس إكراماً لهم، والله جل وعلا خير من يثيب ويعطي وخير من يمنع جل جلاله.
فصلاة الليل أعظم هديه عليه الصلاة والسلام، تقول عائشة : (فقدته ذات ليلة فإذا هو في المسجد قد انتصبت قدماه يقول في سجوده: اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك، لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك) .
لما أتتك قم الليل استجبت لها تنام عينك أما القلب لم ينم
الليل تسهره بالوحي تعمره وشيبتك بهود آية استقم
يا ليتني كنت فرداً من صحابته أو خادماً عنده من أصغر الخدم
صلوات الله وسلامه عليه.
ومن أعظم الأسباب التي ينال بها العبد غاياته ويحقق بها المرء مطلوبه أن يكون باراً بوالديه جملة وبأمه على وجه الخصوص، قال الله تعالى: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء:23] .
فمن رزقه الله جل وعلا حناناً على والديه وشفقة على أبويه فهذا الموفق، ولما أنطق الله عيسى بن مريم في مهده وهو نبي الله قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ ?وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا [مريم:30-31] ثم قال: وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [مريم:32-33].
والغاية أن النبي الخاتم بين أن بر الوالدة من أعظم أفعال الخير، وفي المسند بسند صحيح: (أنه جاءه رجل يشكو ذنوبه فقال له صلى الله عليه وسلم: ألك والدة؟ قال: لا. قال: ألك خالة؟ قال: نعم. قال: فبرها) فجعل صلى الله عليه وسلم بر الوالدة أو بر الخالة مطية لتكفير الذنوب وستر العيوب وتحقيق الفوز من لدن علام الغيوب جل جلاله.
من هديه صلى الله عليه وسلم أنه حذر أمته من الشهوات، قام عليه الصلاة والسلام ذات ليلة كما في الصحيحين من حديث أم سلمة فزعاً يقول: (سبحان الله ماذا أنزل الله الليلة من الفتن، سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات لكي يصلين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة) .
فذكر صلى الله عليه وسلم التحذير من الفتن ودعا إلى صلاة الليل والفرار من رق الشهوات، وما من أحد إلا سيوسد في الترب وتحل عنه أربطة الكفن وسيواجه عمله إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.
هذا أيها المباركون ما تيسر إيراده وتهيأ قوله، وإن كان قد بقي شيء من الوقت، والأفضل أن يترك لأسئلتكم، فأحياناً يكون في الإجابة على الأسئلة حل لما يبتغيه الناس ويرتضونه، هذا والله تعالى أعز وأعلى وأعلم، وصلى الله على محمد وعلى آله، والحمد لله رب العالمين.
الجواب: عروض التجارة مما تؤدى فيه الزكاة، وتنقسم على الصحيح من أقوال العلماء إلى قسمين:
عروض مديرة وعروض مربصة، فالعروض المربصة مثل البيوت والأراضي، فهذه لا تزكى إلا إذا بيعت لعام خلا.
أما العروض التي يتداولها الناس بيعاً وشراء ولا تمكث ثابتة، وتسمى مديرة عند المالكية، فهذه تجب فيها الزكاة إذا حال الحول، فمثلاً إذا حال حول على البقالة فإن صاحبها يقوم ما يباع فيها ويزكيه.
أما الأشياء الثابتة مثل الثلاجات والخزانات فهذه لا تدخل، وإنما يدخل ما يباع ويتداول، ثم بعد أن تقيم قيمته تخرج زكاته في كل ألف خمسة وعشرون ريالاً.
وإذا كان الدكان مؤجراً فالمال الذي يقبضه ليس فيه زكاة حتى يحول عليه الحول، فمن يؤجر عمارة أو دكاناً أو استراحة فالمال المقبوض ليس فيه زكاة حتى يحول حول على قبضه.
الجواب: الله جل وعلا يبتلي بكل شيء، والحياة دوائر، ومعنى (دوائر) أن الله إذا أراد أن يبلغ عبداً منزلة عالية يجعله في هذه الدوائر، فيبتلى بشيء قليل، فإذا نجح زاد في ابتلائه وهكذا، وكلما أعد الله لعبده منزلة عظيمة كان الوصول إليها بطريقة أعظم، برهان ذلك في كلام الله، فإن الصديقة مريم عليها السلام كانت تقية وهي في المحراب في بيتها لم يقع منها سوء، فلما أراد الله أن يجعلها صديقة بحق خرجت من قومها، فلما خرجت من قومها قال الله: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا [مريم:16] شرقي بيت المقدس، والنصارى إلى اليوم يعظمون جهة الشرق.
موضع الشاهد: أنها لما أصبحت منفردة لوحدها جاءها جبريل ليبلغها منزلتها عند الله، لكن حتى تعطى هذه المنزلة لا بد من اختبار، فتمثل لها جبريل في صورة شاب تام الخلقة حسن الوجه حتى يفتنها، فتعوذت بالله منه: قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ [مريم:18] فلما تعوذت نجحت فقال لها جبريل: إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:19].
فلا نطلق القول بأن الابتلاء بالشهوات دليل على حب الله، لكن أي منزلة عظيمة لا يرقى إليها الإنسان حتى ينتصر على شهواته، والشبهات في المقام الثاني.د
الجواب: هذا باب طويل، لكن سآتي بمثال: النبي عليه الصلاة والسلام كان يتجنب مسألة العموم، يعني: التقعيد العام، من أخطائنا مثلاً أن يرقى إنسان على كرسي فيأتي سؤال: ما هي وسائل الثبات؟ ما هي وسائل طلب العلم؟ بماذا تنصحني من كتب التفسير؟ كيف أفسر القرآن؟ فيأتي جواب عام، وهذا خطأ، ولا بد أن يكون جواب هذه الأسئلة على معرفة بالسائل فردياً.
ونأتي بمثال من السنة: النبي صلى الله عليه وسلم تبعه سراقة بن مالك في يوم الهجرة وكان سراقة يومها كافراً، والذي أخرج سراقة هو المال والطمع في الجائزة (مائة ناقة) فلما عرف أن النبي صادق لكنه غير مقتنع أنه نبي قال له النبي عليه الصلاة والسلام: (يا
وذلك أنه إذا رجع إلى المنزل وغير رأيه وقال: أنا أخطأت فلو تبعته وفزت بالمائة ناقة، يتذكر سواري كسرى شخصية دنيوية، فردها بمثلها!
ولما دخل عليه عمر وقد أثر الحصير في جنبه فقال عمر : (يا رسول الله، كسرى وقيصر في ما هم فيه وأنت في هذا الحال) ما قال: يا عمر ، غداً أنت تفتح المدائن ويأتي كسرى تحت قدميك وتأخذ سواري كسرى فتعطيه سراقة ، لم يكلمه بالدنيا؛ لأن شخصية عمر غير شخصية سراقة ، فقال له: (أفي شك أنت يا
هذه طرائق لفهم كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعامل.
في يوم الفتح جاءه العباس بن عبد المطلب قال: (يا نبي الله، إن
الجواب: القرآن الطريق الأول والأوحد لفهم الدين، والسنة كلها في آية واحدة: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7] .
ولا يمكن الفصل بين القرآن والسنة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي) .
ومشكلة الأمة اليوم في أنها لا تتدبر كلام الله، تجد طالب علم يحفظ متوناً ويحفظ قصائد ويجلس على الكرسي ولو سئل عن تفسير آية لم يعرف شيئاً، وهذا قدح في العلم.
الطريق الأول هو القرآن، وفي حديث حذيفة عند البخاري : (فعلموا من القرآن ثم علموا من السنة)بهذا الترتيب، ثم تأتي المتون والشروح.
ثم إن قلوب الناس لا تغير بشيء إلا بالقرآن، قال الله جل وعلا لنبيه: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ [الإسراء:79] أي: بالقرآن في الليل.
وقال: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45] .
وقال: وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا [الفرقان:52] فالمؤمن في كل حياته يلتزم القرآن.
أما قضية التدبر فيقرأ بتمعن ويفهم أقوال أئمة السلف من الصحابة والتابعين وغيرهم في فهم كلام ربهم، وهذا كلام طويل صعب أن يقال باختصار في مجلس كهذا.
الجواب: الأسهم من عروض التجارة تقوم إذا مر عليها حول بسعر يومها ثم تزكى سواء انخفضت أو ارتفعت.
الجواب: الطريق للخشوع أن يعظم الله خارج الصلاة، فمن عظم الله خارج الصلاة باتباع أمره واجتناب نهيه يرزقه الله الخشوع إذا وقف بين يديه.
أما من يعرض عن الله خارج الصلاة كمن يعق والدته أو والده وهو ذاهب إلى المسجد، ويظلم جاره أو صديقه وهو ذاهب إلى الحرم، أو يسب هذا ويلعن هذا، أو يمنع الأجراء والعمال الذين تحت يده حقهم، ثم يقف بين يدي من أمره بهذا كله وينتظر خشوعاً أنى له أن يخشع؟
يقول بعض الفضلاء: الاستعداد للصلاة والوضوء مبكراً والذهاب إلى المسجد مبكراً هذه عوامل ثانوية، والعوامل الحقيقية أن يعمل الإنسان بالقرآن والسنة قبل أن يقف بين يدي الله.
أنى لقلب أن يخشع وقد ترك وراءه والدة غاضبة وأجيراً يدعو الله جل وعلا عليه!
أنى لقلب أن يخشع وهو يسب فلاناً ويلعن فلاناً.
أنى لقلب أن يخشع وهو يسهر الليل على ما حرم الله؟
لا يمكن لهؤلاء أن يخشعوا، لكن من عظم أمر الله حق التعظيم إذا وقف بين يدي الله يرزقه الله الخشوع حتى ولو كان خصمك عاصياً، والله لن تغلب من عصى الله فيك بأعظم من أن تطيع الله فيه.
يقولون: إن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وأرضاه مر على بستان للأنصار وفيه ثلاثة شبان أو أربعة يشربون الخمر، فصعد على السور ونزل عليهم فقالوا: يا أمير المؤمنين، نحن جئنا بواحدة وأنت جئت بثلاث إن الله يقول: وَلا تَجَسَّسُوا [الحجرات:12] والله يقول: وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا [البقرة:189] والله يقول: حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا [النور:27] وأنت تجسست وأتيت من فوق السور ولم تستأذن فرجع عنهم لأنهم حاجوه بالقرآن رغم أنهم يشربون الخمر.
قال حافظ :
وفتية أولعوا بالراح وانتبذوا لهم مكاناً وجدوا في تعاطيها
ظهرت حائطهم لما علمت بهم والليل معتكر الأرجاء ساجيها
قالوا مكانك قد جئنا بواحدة وجئتنا بثلاث لا تباليها
فائت البيوت من الأبواب يا عمر فقد يزن من الحيطان آتيها
ولا تجسس فهذه الآي قد نزلت بالنهي عنه فلم تذكر نواهيها
فعدت عنهم وقد أكبرت حجتهم لما رأيت كتاب الله يمليها
وما أنفت وإن كانوا على حرج من أن يحجك بالآيات عاصيها
من نفذ أوامر الله خارج الصلاة يرزق الخشوع والبكاء بين يدي الله، والله يقول: وَقَلِيلٌ مَا هُمْ [ص:24].
الجواب: السيرة من أعظم ما عني به العلماء، ولا بد أن تفهم السيرة مع القرآن والقرآن مع السيرة، فمن أراد أن يفهم السنة من غير القرآن فلن يفهم شيئاً، ومن أراد أن يفهم القرآن من غير السنة فلن يفهم شيئاً، لكن النبي أنزل عليه القرآن فكان المثال العظيم لتنفيذ ما جاء في القرآن. هذا من حيث الإجمال.
أما من حيث الكتب فهناك كتاب اسمه: السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية للدكتور مهدي رزق الله ، سوداني الجنسية. هذا الكتاب من أفضل ما كتب في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
الروض الأنف للسهيلي .
سيرة ابن هشام هذا كذلك جيد في بابه.
الجواب: السؤال ليس كاملاً؛ لكن إذا كان الجنين الذي سقط قد دبت فيه الروح فهذا يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
وأما إن لم تدب فيه الروح فهذا قطعة لحم تدفن دون أن يصلى عليها، ولا يجب على الزوجة ولا على الزوج شيء غير ذلك.
الجواب: يجوز الشراء ممن يبيع الدخان، فالمسألة منفكة، النبي صلى الله عليه وسلم اشترى من اليهود، وقد ذكر عنهم أنهم أكلة ربا، فإثمه في بيع الدخان عليه لا عليك إذا اشتريت منه شيئاً مباحاً.
الجواب: الآن استمر في التوبة وحج، وإذا أغناك الله بعد ذلك فتصدق بما يغلب على الظن أنه يكافئ ما عليك من ديون بنية أصحابها.
الجواب: المرأة لا يمكن أن يستمتع بها استمتاعاً كاملاً، قال صلى الله عليه وسلم: (فإن استمتعت بها استمتعت بها على عوج، وإن أردت أن تقيمها كسرتها وكسرها طلاقها) .
وهذا أمر معلوم، قال علي رضي الله عنه: يتمنعن وهن الراغبات، ويتظلمن وهن الظالمات، فاستعيذوا بالله من شرارهن وكونوا من خيارهن على حذر!
هذه جملة ما يقال في المرأة، فالعاقل يعاملها على أنها مخلوق ضعيف وعلى أنها أسيرة عنده، فيتنازل عن بعض حقوقه التي لا تضره.
نبيكم صلى الله عليه وسلم حلف أن يفارقهن شهراً، فاعتزل مشربة له، ثم عاد بعد تسعة وعشرين يوماً، فقابلته عائشة فقالت له: بقي يوم، ولم تقل: أهلاً وسهلاً وحياك الله، تعني: أنت حلفت على شهر وقد مر تسع وعشرون فقط، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن الشهر يكون تسعة وعشرين يوماً ويكون ثلاثين يوماً) فالمرأة مرأة مع إجلالنا لها، لكن الله يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36] .
وقال: (كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا
أما الهداية فبين لها أنك تكون رقيقاً عليها من أجل الله، فمن عظم الله أمام المخلوق كان ذلك أعظم سبب لهدايته.
الجواب: من اتقى الله حفظه الله، فإن الله تكفل لأهل تقواه بالرزق من حيث لا يحتسبون وبالأمن مما يخافون، وبالنجاة مما يحذرون، قال سبحانه: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا [الطلاق:2-3] .
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر