وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع الخلائق خيره ولم يسع الناس غيره، خلق فسوى وقدر فهدى وأخرج المرعى فجعله غثاء أحوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله.
أما بعد:
أيها المؤمنون! قبل ألف عام وماتين تقريباً مات أمير من أمراء العرب وقوادهم آنذاك يقال له: محمد بن حميد الطوسي فرثاه أبو تمام الشاعر العباسي المعروف بقوله :
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر
كأن بني نبهان يوم وفاته نجوم سماء خر من بينها البدر
مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
فلئن قيلت هذه الأبيات في رثاء واحد من أمراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيا ترى ما يقول الإنسان وهو يستذكر اللحظات الأخيرة، والساعات التي سبقت وفاة سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم.
أيها المؤمنون! نبيكم صلى الله عليه وسلم ولد عام الفيل، وصاحب مولده إرهاصات عظيمة تدل على أن هناك شيئاً ما سيكون، وأن هناك نبياً سيبعث، وأن هناك عظيماً سيقود الناس.
ثم نشأ صلى الله عليه وسلم في كنف جده عبد المطلب حتى أصاب قريشاً جدب الديار وقلة الأمطار، فطلب القرشيون من عبد المطلب أن يستسقي لهم، فحمل عبد المطلب رسولنا صلى الله عليه وسلم فألصقه بجدار الكعبة واستسقى به فما أنزله حتى سقوا وهو يوم ذاك صلى الله عليه وسلم غلاماً في الرابعة من عمره تقريبا.
قال أبو طالب :
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
يلوذ به الهلاك من آل هاشم فهم عنده في نعمة وفواضل
حتى إذا بلغ مبلغ الرجال تزوج صلى الله عليه وسلم من خديجة بنت خويلد ، ثم لما شارف على الأربعين صلى الله عليه وسلم حبب إليه أن يخلو بنفسه، فكان يأتي غار حراء يتحنث الليالي ذوات العدد، معه زاده طعاماً وشراباً، حتى كان ذلك اليوم العظيم الجليل في تاريخ الإنسانية كلها يوم ناداه الملك: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ [العلق:1-4].
من يومها أخذ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى دين ربه، ويرشد إليه متحملاً أصناف العذاب، وألواناً من الأذى، وكثيراً من السخرية، وهو لا يزيد صلى الله عليه وسلم على أن يقول: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون).
حتى بلغ من أذى كفار قريش له أنه كان عليه الصلاة والسلام ساجداً عند الكعبة فسخر منه بعض القرشيين المحيطون بها، فقال بعضهم لبعض: من يقوم إلى سلا جزور بني فلان فيضعه على ظهر محمد وهو ساجد، فقام أشقى القوم عقبة بن أبي معيط فحمل سلا الجزور ورفثه ووضعه على ظهره صلوات الله وسلامه عليه وهو ساجد، فلم يستطع أن يرفع ظهره حتى ذهب أحد الرجال وأخبر فاطمة فقدمت رضي الله عنها وأرضاها وهي يوم ذاك جارية صغيرة فحملت الأذى عن أبيها، ثم سبتهم، فلما رفع صلى الله عليه وسلم رأسه دعا عليهم قائلا: (اللهم عليك بـ
ثم ذهب إلى الطائف وعاد منها مكلوم الفؤاد، فلما عاد صادف ذلك موت عمه أبي طالب وموت زوجته خديجة، فأسرى به ربه تسلية له إلى سدرة المنتهى، ثم عرج به إلى السماوات السبع حتى وصل صلى الله عليه وسلم إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام.
يا أيها المسرى به شرفا إلى ما لا تنال الشمس والجوزاء
يتساءلون وأنت أطهر هيكل بالروح أم بالهيكل الإسراء
بهما سموت مطهرين كلاهما روح وريحانية وبهاء
تغشى الغيوم من العوالم كلما طويت سماء قلدتك سماء
أنت الذي نظم البرية دينه ماذا يقول وينظم الشعراء
فلما اشتد عليه أذى قريش أذن له ربه وأمره بالهجرة إلى البلدة الطيبة المباركة مدينته صلى الله عليه وسلم، فحط فيها رحله، وأسس فيها مسجده، وأقام فيها دولة الإسلام، وطبق فيها شرائع الدين، وأخذ صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله حق دعوته، ويجاهد في الله تبارك وتعالى حق جهاده سنين طوالاً حتى أتم الله جل وعلا له في العام الثامن من هجرته فتح مكة، فدخلها صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء، وعلى رأسه المغفر فطاف بالبيت وهو على راحلته.
ثم فتحت له الكعبة فدخلها صلى الله عليه وسلم فكبر الله في نواحيها، وأذهب عنها معالم الوثنية، ثم رأى صورة إبراهيم وقد صور له وهو يستقسم بالأزلام فقال: (قاتلهم الله ما لشيخنا وللأزلام ثم تلا: مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [آل عمران:67]).
ثم عاد صلى الله عليه وسلم يتابع جهاده ودعوته إلى ربه حتى كانت السنة التاسعة للهجرة فبعث أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أميراً على الحج في ذلك العام، وفي آخر العام التاسع بدأ صلى الله عليه وسلم يشعر بدنو أجله، ويشعر بقرب رحيله وفراقه لمن حوله من الناس، وكان أول إرهاصات هذا الأمر العظيم أنه عليه الصلاة والسلام ودع معاذاً لما بعثه إلى اليمن، ومعاذ على راحلته، وهو عليه الصلاة والسلام يمشي إلى جانب ناقة معاذ وبعد أن أوصاه بما يفعل في أمر الدعوة قال: (يا
ثم إنه صلى الله عليه وسلم أخذ يتم مناسك الحج شيئاً فشيئاً، حتى كان اليوم التاسع وهو يوم عرفة وكان يوم جمعة فصلى صلى الله عليه وسلم بالناس الظهر والعصر جمع تقديم، ثم خطب صلى الله عليه وسلم في الناس وهو راكب على راحلته القصواء خطبة عظيمة بين لهم فيها معالم الدين، وأومأ إلى قرب رحيله ودنو أجله، فكان صلى الله عليه وسلم يقول بعد كل مقطع من خطبته: (ألا هل بلغت)، فيقول الصحابة: نعم، فيقول صلوات الله وسلامه عليه: (اللهم فاشهد)، حتى كان واضحاً معهم، رغم أنه صلوات الله وسلامه عليه إمام المخلصين. قال عليه الصلاة والسلام لهم: (أيها الناس! إنكم ستسألون عني فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا رضي الله عنهم وأرضاهم: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ووفيت، وأديت الذي عليك كله، فرفع صلى الله علية وسلم سبابته إلى السماء ثم نكتها إلى الأرض ثم قال: اللهم فاشهد).
وكان كما قال جابر يودع الناس شاعراً بدنو أجله، وقرب رحيله حتى أتم صلى الله عليه وسلم المناسك فقال في اليوم الثاني عشر: (إنا نازلون غداً في خيف بني كنانة، فلما كان اليوم الثالث عشر رمى صلى الله عليه وسلم الجمرات الثلاث، ثم خرج من منى قبل أن يصلي الظهر، ونزل في خيف بني كنانة، وهو ما يسمى اليوم في مكة بالأبطح، فصلى بها الظهر والعصر، ثم صلى بها المغرب والعشاء، ثم اضطجع صلوات الله وسلامه عليه، ثم لما كان قبل الفجر أتى المسجد الحرام فطاف طواف الوداع، ثم صلى بالناس صلاة الصبح، ثم قفل راجعاً إلى المدينة، ترفعه النجاد، وتضعه الوهاد، وهي تتشرف بوطأة قدميه عليها، وهو عليه الصلاة والسلام يكبر على كل شرف من الأرض حتى دخلها) أي: دخل المدينة صلوات الله وسلامه عليه.
هذه أيها المؤمنون! على وجه الإجمال الأحداث العامة في حياته صلى الله عليه وسلم، والتي سبقت دنو أجله وقرب رحيله.
أنه صلى الله عليه وسلم بعد حجة الوداع أرسل إلى غلام له مولى له يقال له: أبو مويهبة فذهب هو وأبو مويهبة إلى البقيع، فأتى أهل البقيع واستغفر لهم ودعا لهم -صلوات الله وسلامه عليه- ثم قال: (يا
ثم رجع صلوات الله وسلامه عليه وقد شعر بصداع في رأسه، فاستقبلته زوجته عائشة وكانت رضي الله تعالى عنها قد أصابها صداع قبله، فلما دخل عليها قالت: يا رسول الله! وارأساه! تشتكي رأسها، فقال عليه الصلاة والسلام: (بل أنا وارأساه)، أخبر عن مرضه، وعن الصداع الذي يصيبه.
ثم ما زال الصداع يتعاقب عليه ويشتد مع حمى شديدة كانت تنوبه صلوات الله وسلامه عليه، وأخذ المرض يثقل عليه شيئاً فشيئاً، فلما أثقل عليه عرف أنه لا يستطيع أن يأتي على بيوت نسائه كلها، فلما كان في بيت ميمونة بنت الحارث اشتد عليه وجعه فأستأذن أزواجه رضي الله تعالى عنهن وأرضاهن أن يكون في بيت عائشة ، فأذن له صلوات الله وسلامه عليه، فخرج من بيت ميمونة إلى بيت عائشة تختط قدماه في الأرض متكئاً على رجلين: هما الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم أجمعين، حتى أتى بيت عائشة رضي الله تعالى عنها فمكث في بيتها يشتد عليه الوجع شيئاً فشيئاً، فلما ثقل عليه المرض، وشعر صلى الله عليه وسلم بدنو أجله أخذ يصنع أشياء يودع بها الناس، وتبرأ بها الذمة.
ولما كثر عليه المرض واشتد عليه الوجع طلب أن يهرق عليه سبع قرب من الماء لم تحل أوكيتهن، فأهرقوا عليه سبع قرب صلوات الله وسلامه عليه، ثم خرج إلى الناس عاصباً رأسه فدخل المسجد وبدأ بالمنبر، وأول ما بدأ به خطبته أن صلى على شهداء أحد واستغفر لهم؛ وفاء منه صلى الله عليه وسلم لأصحابه.
ثم بعد ذالك أخذ يوصي الناس بالأنصار وفاء منه صلى الله عليه وسلم للأنصار فقال: (إنهم كرشي وعيبتي، وإنهم أدوا الذي عليهم وبقي الذي لهم)، وأوصى الناس من بعدهم أن يقبلوا من محسنهم وأن يتجاوزوا عن مسيئهم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم قال: (إن عبداً خيره الله بين الدنيا وزهرتها ثم الجنة، وبين لقاء ربه فأختار ما عند الله، فبكى
فلما انتهى من ذلك صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر، ثم رجع صلوات الله وسلامه عليه إلى بيته يزداد عليه المرض شيئاً فشيئاً.
ثم دخلت عليه ابنته فاطمة فسارها بشيء في أذنها فبكت، ثم سارها كرة أخرى فابتسمت، ثم سئلت عن ذلك بعد فذكرت أنه أخبرها في الأولى بقرب أجله وأنه سيموت في مرضه هذا فبكت، ثم أخبرها بأنها أول أهله لحوقاً به، وأنها سيدة نساء أهل الجنة، فابتسمت رضي الله تعالى وأرضاها.
ثم إنه عليه الصلاة والسلام قبل أربعة أيام من وفاته أعتق غلمانه، وتصدق بسبعة أو تسعة دنانير كانت عنده صلوات الله وسلامه عليه.
ثم مكث المرض يشتد عليه فكان يغمى عليه أحياناً ويفيق أحياناً من شدة الحمى التي كانت تصيبه صلوات الله وسلامه عليه، فلما عرف أنه لا يقدر أن يصلي بالناس أرسل إلى أبي بكر أن يصلي، فخافت عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها في أن يقف في مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! إن أبا بكر رجل أسيف لا يملك دمعته، فأوصت من يدعو عمر أن يصلي فصلى بهم عمر ، فلما سمع صلى الله عليه وسلم صوت عمر قال: (يأبى الله ذلك والمؤمنون، لا يصلين بالناس إلا
وبقي أبو بكر يصلي بالناس حتى خرج إليهم صلى الله عليه وسلم ذات يوم فوجدهم يصلون وأبو بكر يتقدمهم، فأشار إلى أبي بكر أن ابق مكانك فلم يقبل، فرجع أبو بكر وصلى صلى الله عليه وسلم إماماً بهم، والناس يصلون بصلاة أبي بكر ، فلما فرغ من الصلاة قال لـأبي بكر : (ما منعك أن تثبت إذ أمرتك؟ فقال رضي الله تعالى عنه وأرضاه: ما كان لـ
ثم رجع صلى الله عليه وسلم إلى حجرته يشتد عليه المرض، وبين يديه ركوة فيها ماء، فكان يضع يديه في الركوة ويمسح بها وجهه الطاهر ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت سكرات، اللهم أعني على سكرات الموت)، ثم إنها دخلت عليه فاطمة وهو على هذا الحال، ودخل عليه أسامة ، فقالت فاطمة: (واكرب أبتاه! فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم).
فدخل عليه أسامة وأشار إليه أن ادع لي! فلم يستطع صلى الله عليه وسلم من شدة المرض أن يدعو له بلسانه، ولكنه رفع يديه يدعو لـأسامة في سره.
ثم ثقل عليه المرض فدخل عليه عبد الرحمن بن أبي بكر وفي يده سواك يستاك به، فأمعن صلى الله عليه وسلم وحد النظر في عبد الرحمن ففهمت عائشة أنه يريد المسواك، فأشارت إليه فأومأ برأسه أن نعم، ولم يستطع أن يقولها بلسانه، فأخذت المسواك من أخيها وقضمته، ثم طيبته وألانته، ثم أعطته رسول الله فاستاك به صلى الله عليه وسلم، كآخر عمل يصنعه في الدنيا، ثم أرجأه، ثم سمعته عائشة وقد أسندته إلى صدرها وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، اللهم اغفر لي وارحمني، اللهم اغفر لي وارحمني، بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)، كررها ثلاثاً، رافعاً أصبعه السبابة حتى كان آخر ما قاله من الدنيا: (بل الرفيق الأعلى).
ثم مالت يده صلوات الله وسلامه عليه، فوضعته عائشة على الأرض، وكان سنها يوم ذاك ثمانية عشر عاماً، ثم خرجت تلطم خدها مع من يلطمن من النساء، فشاع خبر وفاته فأصبح الناس فيه بين مفتون ساكت، وغير مصدق، قد أذهلهم الخبر، وداهمتهم الفجيعة، وحق لهم ذلك والله!
وكان أبو بكر رضي الله تعالى عنه في السنح -أي: في الحرة الشرقية- فأتاه رجل فأخبره الخبر، فعاد رضي الله عنه وأرضاه إلى بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل على رسول الله وهو مسجى في بيته، فكشف عن وجهه، وأتاه من قبل رأسه، ثم حدر فاه إلى جبهته وقال: واصفياه! ثم قبله أخرى وقال: وانبياه! ثم قبله أخرى وقال: واخليلاه! ثم قبله وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله! أما الموتة التي كتبها الله عليك فقد ذقتها، وأما غير ذلك فلن يكتبه الله عليك أبداً.
ثم غطاه رضي الله تعالى عنه وأرضاه وسجاه، ثم خرج إلى الناس يقتحم الصفوف وعمر واقف، فقال: اجلس يا عمر ! فلم يجلس، قال: اجلس يا عمر ! فلم يجلس، فحمد الله وأثنى عليه، فترك الناس عمر وأقبلوا على أبي بكر فقال رضي الله تعالى عنه وأرضاه: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ [آل عمران:144]، فكأن الناس لم يعلموا هذه الآية إلا يوم تلاها أبو بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وما كان أحد من الخلق إلا وأخذ يرددها.
ثم إنهم رضي الله عنهم وأرضاهم انشغلوا بأمر الخلافة، فلما فرغوا من بيعة أبي بكر رضي الله تعالى عنه وأرضاه تفرغوا لرسولهم صلى الله عليه وسلم، فتولى غسله عليه الصلاة والسلام أهل بيته: العباس وولداه الفضل وقثم ، وأسامة بن زيد وصالح مولاه وعلي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم.
ولم ير منه صلى الله عليه وسلم ما يرى من الميت؛ لأنهم عندما أرادوا أن يغسلوه احتاروا هل يجردونه صلى الله عليه وسلم أم لا، فألقى الله عليهم النوم فأصابتهم سنة فسمعوا منادياً يناديهم: أن اغسلوا رسول الله وهو في قميصه، فغسلوه صلوات الله وسلامه عليه وهو في قميصه يقلبه العباس وولداه، ويصب الماء أسامة وصالح ، ويغسله بيده علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم.
وبينما هم يغسلونه استأذن أوس بن خوري بدري من الخزرج نادى على علي من وراء البيت: يا علي! أنشدك الله وحظنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أدخلتني، فأذن له علي رضي الله عنه، فدخل أوس فأخذ ينظر دون أن يشاركهم في الغسل، فلما فرغوا من غسله كفنوه صلوات الله وسلامه عليه، وهو سيد ولد آدم، وخير خلق الله، أقسم له ربه بأنه ما ودعه وما قلاه، ومع ذلك يكفن كما كفن الموتى في ثلاثة أثواب.
ثم وضعوه صلى الله عليه وسلم على سرير، ثم حفروا له لما أخبرهم أبو بكر بقوله صلى الله عليه وسلم: (إنه ما من نبي يقبض إلا ويدفن حيث قبض)، فحفروا له بعد أن بعثوا إلى رجلين: أبي عبيدة وكان يحفر القبر شقاً، وأبي طلحة من الأنصار كان يلحد لحداً.
فالذي ذهب إلى أبي طلحة وجده فعاد معه فحفروا له صلى الله عليه وسلم.
ثم إنهم قبل أن يدفنوه وضعوا سريره على حافة القبر، ثم استعظموا أن يصلي أحد بهم إماماً على رسول الله صلى الله علي وسلم، فصلى عليه العباس وهو أسن بني هاشم أول الناس، ثم صلى عليه عصبته وقرابته من بني هاشم، ثم صلى عليه المهاجرون، ثم صلى عليه الأنصار، ثم صلى عليه النساء، ثم صلى عليه الصبيان، ثم صلى عليه العبيد صلوات الله وسلامه عليه.
صلوا عليه أرسالاً كل منهم يصلي لوحده، فلما فرغوا من الصلاة عليه نزل في قبره قثم والفضل وعلي بن أبي طالب ومولاه شقران رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم أجمعين، فنزلوا في قبره الطاهر الشريف، فوضعوا جسده في اللحد، ثم بنوا عليه تسع لبنات، ثم حثوا التراب على ذلك القبر الطاهر الشريف حتى أتموا دفنه صلوات الله وسلامه عليه.
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الطهر والكرم
أيها المؤمنون! هذا على وجه الإجمال موت رسولكم صلى الله عليه وسلم.
لا ريب أن الإنسان يعلم أن حديثاً كهذا لا يحتاج إلى بليغ تهتز له المنابر، ولا إلى خطيب تحمل صدى قوله المنائر، إنه حديث عن وفاة حبيبنا الذي لم تكتحل أعيننا بعد برؤيته، حديث عن رحيل حبيبنا الذي نسأل الله أن يرزقنا جواره في جنته، حديث عن حبيبنا الذي بلغ دين الله، وأرشد إليه، وناجى ربه، ودعا إليه، وكان أرحم الخلق بالخلق، وهو القائل صلوات الله وسلامه عليه لما زار بقيع الغرقد: (وددت لو أني رأيت إخواني فقالوا: يا رسول الله! ألسنا إخوانك؟ قال: بل أنتم أصحابي، ولكن إخواني لم يأتوا بعد، قالوا: يا رسول الله! وكيف تعرف من يأتي بعدك من أمتك؟ قال: إنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين من أثر الوضوء، وأنا فرطهم على الحوض)، أي: سابقهم إليه، فصلوات الله وسلامه عليه.
عظمة الرب جل جلاله:
الله تبارك وتعالى هو الحي وحده حياة لا موت فيها، والله تبارك وتعالى وحده من بيده مقاليد السماوات والأرض، والله جل وعلا وحده من بيده النفع وبيده الضر، وهذا سيد الخلق ورسول الحق، وصفوة الله من خلقه أجمعين، ومع ذلك ما كان له ولا لغيره أن يتجاوز مقام العبودية أبداً، فالله خالق وما سواه مخلوق، والله رب وما سواه مربوب، فمتى ينظر أولئك المتكبرون المتجبرون المتألهون بمالهم أو بسلطانهم أو بجاههم، متى يعلمون أن حقيقية الموت لم يسلم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، على قربه وجلال مكانته، وعلو منزلته، ودنوه صلى الله عليه وسلم من ربه، وقربه منه، ومع ذلك ذاق صلى الله عليه وسلم من الموت وكربه.
ولاقى صلى الله عليه وسلم من الأوجاع والشدائد حتى أضحى وهو نبي الأمة وأفصح الناس لساناً وبياناً ومقاماً، يطلب منه أن يتكلم فيعجز ويثقل لسانه عن الكلام، حتى أصبح صلى الله عليه وسلم يصلي الناس على أمتار من بيته ولا يستطيع أن يقوم إليهم، ولا أن يشاركهم صلاتهم، ولا أن يؤمهم حتى يثبت الله لكل أحد أنه صلى الله عليه وسلم وإن كان في المقام المحمود، والمنزلة العظيمة التي هو فيها، إلا أنه عليه الصلاة والسلام يبقى بشراً، فلا يتعلق أحد من الخلق بأي مخلوق كائناً من كان، لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا عبد صالح، ولا ولي فاضل، وإنما ينبغي أن تصرف القلوب كلها لله جل وعلا الواحد القهار.
قال تبارك وتعالى يعلم نبيه ويرشده: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر:30]، وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ * كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [الأنبياء:34-35].
قوله: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [الأنبياء:35]، عموم لا تخصيص فيه، وإطلاق لا قيد له، فكل ذي روح لا بد أن يوفى أجله، ويؤتى كتابه، ويموت كما يموت غيره: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:27].
لقد دعا الله جل وعلا الناس إلى أن يتكلوا على الله جل وعلا وحده لأنهم إذا توكلوا على شخص، واعتمدوا عليه في إنجاز شيء فربما مات هذا الذي توكلوا عليه قبل أن يقضي حوائجهم، ولذلك قال الله لنبيه: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا [الفرقان:58].
فإن رسولنا صلى الله عليه وسلم كان حريصاً في أخريات حياته أن يأتي إلى بقيع الغرقد مدفن أهل المدينة بين الفينة والفينة، حتى قال بعض العلماء: إنه كان صلى الله عليه وسلم ربما أتاه في كل أسبوع، فكان يأتي صلوات الله وسلامه عليه يدعو لأهله، ويستغفر لهم، ويدعو الله جل وعلا أن يمحو عنهم الخطايا، ويقيل عنهم العثرات.
أخرج الإمام مسلم في الصحيح من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها وأرضاها أنها قالت: (بات عندي رسول الله صلى الله علية وسلم ذات ليلة، وخلع نعليه ووضعهما عند قدميه، قالت: ثم لبث قليلاً حتى شعر أنني رقدت، ثم لبس نعليه رويداً، وأخذ رداءه رويداً، ثم مشى رويداً، وفتح الباب وأجفاه رويداً، قالت: فاختمرت وتقنعت ولبست إزاري وتبعته قالت: فإذا به يأتي أهل البقيع فيستغفر لهم، ويدعو لهم ثلاثاً رافعاً يديه، قالت: ثم انحرف فانحرفت، ثم هرول فهرولت، ثم أسرع فأسرعت، فدخلت البيت قبله، فلما رآني نائمة رضي الله عنها قد حفزني النفس قال: ما لك يا
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا أول من تنشق عنه الأرض، ثم
فالموت في المدينة فضيلة وأي فضيلة، قال عليه الصلاة السلام: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل فإني أشفع لمن يموت بها)، ومعلوم أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن أحداً لا يعلم متى يموت، ولكن قوله صلى الله عليه وسلم: (من استطاع منكم أن يموت في المدينة فليفعل)، أي: أن يكون غالب وقته، وعيشه، وغدوه ورواحه في المدينة التي حرمها الله وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالبقيع قد دعا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم لأهله، وقد قال بعض العلماء: إن دعوته صلى الله عليه وسلم لأهل البقيع ربما تشمل من يدفن فيه بعد موته صلوات الله وسلامه عليه، والحق أن النص يحتمله؛ لأنه عليه الصلاة والسلام قال: (اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد)، ولم يخصص زماناً ولا قوماً ولا أناساً، وإنما جعلها مطلقة وذلك الظن به وبرحمته صلوات الله وسلامه عليه.
العبرة الثالثة: أن الوفاء للغير، وإسداء الجميل إلى أهله من أعظم خصال الربانيين، وأعظم صفات الصادقين:
فرسول الله صلى الله عليه وسلم في أخريات حياته كان حريصاً على أن يكون وفياً مع من وقفوا معه، فخطب في آخر حياته يصلي ويستغفر لشهداء أحد؛ لأنهم قدموا أرواحهم، وقدموا مهجهم وأنفسهم وأموالهم في سبيل إعلاء كلمة الله، ووصى بالأنصار خيراً صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنهم قبلوه في دارهم، وحموه، ونصروه، وأيدوه، وظاهروه، وعزروه، صلوات الله وسلامه عليه، فحفظ لهم هذا الجميل، ووصى الأمة من بعدهم بهم خيراً.
وتذكر صلى الله عليه وسلم صنيع أبي بكر ، وأنه أول الناس إيماناً، وأعظم الناس نصرة للدين، وأنه الذي أيد الله به دينه بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، فأخبر الناس بمقام أبي بكر، وبمنزلته، وبعلو درجته عند الله وعند رسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي على المؤمن أن يتأسى في هذا وفي غيره بوفائه للناس، وإسدائه الجميل لمن يحسنون إليه ويقدمون له المعروف.
العبرة الرابعة: أن قراءة القرآن وتعويذ المريض بها أمر مشروع:
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان في حياته وقوته ونشاطه يقرأ على نفسه بالمعوذات، فيقرؤها في كفه ثم ينفث، ثم يمسح بيده صلى الله عليه وسلم، أما عند دنو أجله، وقرب رحيله صلوات الله وسلامه عليه فكانت عائشة تقرأ عليه، ثم إنها تنفث عليه، وتأخذ يده الطاهرة وتمسح بها على جسده صلوات الله وسلامه عليه رجاء البركة، وكانت تقول: علمت أن يده لنفسه خير من يدي! فرضي الله تعالى عنها وأرضاها.
والبعض اليوم يغفل عن أن يتعوذ بالقرآن، وأن يلجأ إلى الله جل وعلا في مرضه وفي كربه وفي شدته، وأن يستعين بالله جل وعلا، وقد كان صلى الله عليه وسلم يضع يده الشريفة على رأسي الحسن والحسين حفيديه ويقول: (أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة)، وكان يقول: (إن أباكما -يقصد إبراهيم- كان يعوذ بهما إسماعيل وإسحاق)، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
فإنه صلى الله عليه وسلم كان كلما رجع إليه نشاطه، وعادت إليه قوته يوصي الناس ويقول: (الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم)، وهو القائل: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر).
ولما كشف الستر الذي في حجرة عائشة ورأى المسلمين يصلون تبسم صلى الله عليه وسلم، وقرت عينه، لأن هذا هو العهد الذي ترك النبي صلى الله عليه وسلم عليه أمته، ومع ذلك لتجدن في الناس اليوم أقواماً وفئاماً يسمعون: حي على الصلاة.. حي على الفلاح، ومع ذلك يعرضون عن المساجد، ويقبلون على أماكن لهوهم، وعبثهم، وأماكن لا يليق ذكرها في مكان جليل كهذا، وهذا والعياذ بالله من الغفلة، ومن الإعراض عن الله وعن ذكره، ومن سوء الحياة التي يبتلي الله جل وعلا بها بعض عباده.
وما زال الناس والعياذ بالله في فتن يتبع بعضها بعضاً إلى يومنا هذا، وسيبقى الأمر إلى أن تقوم الساعة: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [الأحزاب:62].
ولا ريب أن أعظم ما فتن به الناس في زماننا هذا ما تبثه القنوات الفضائية من أنواع الفساد والانحلال الخلقي، ودعوة الناس إلى الإفساد، حتى أضحى القوم شباباً وشابات، فتياناً وفتيات يقلدون الغرب، ويحاكونهم في صنيعهم، وغابت الغيرة عن كثير من الرجال، كل ذلك بدعوى الحضارة والتقدم، ونسوا هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونسوا سنته وسيرته، ونسوا ما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه.
فيا أيها المؤمن! ينبغي عليك إن كنت قادراً على أن تنهى عن منكر أو تأمر بمعروف أن تتقي الله جل وعلا فيما بين يديك من أهلك ومن أبنائك وبناتك، وأن تتقي الله جل وعلا في من لك سلطان عليهم، فإن ما تبثه هذه القنوات بلا ريب ولا مرية ولا شك إنما هي دعوة لأخذ الناس عن دين الله، حتى يصبح الناس في الشر سواء، وفي الكفر على ملة واحدة، وفي الضلال على نهج واحد، أعاذنا الله من ذلك.
وقد علمتم ما أصاب المسلمين عندما علموا بخبر وفاته صلى الله عليه وسلم، حتى عمر وهو المحدث الملهم، الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان نبي بعدي لكان
وما ذاك إلا لعظيم محبتهم رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاعلم يا أخي! أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم دين وملة وقربة، جاء في الصحيح من حديث أنس رضي الله تعالى عنه أن أعرابياً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له عليه الصلاة والسلام: وما أعددت لها؟ قال: ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت)، فقال أنس : وأنا والله أحب الله ورسوله، وأحب أبا بكر وعمر .
وأنت أيها المؤمن! لا ريب أنك ترى أن الناس اليوم فريقان: منهم من غالى غلواً زائد عن الحد الشرعي في محبته صلى الله عليه وسلم، ومنهم -والعياذ بالله- من أراد أن يفر من الغلو فلجأ إلى الجفاء، فلم تعد محبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم عاطفة جياشة، ولا محبة صادقة، وإن سألته قال: أخاف من الشرك، أخاف من البدع، وكلا الفريقين بلا شك على خطأ.
فأما الأولون فربما قادهم الغلو في محبته وتعظيمه وإجلاله صلوات الله وسلامه عليه إلى الشرك بالله، والخروج من الملة بالكلية، والبوصيري نظم قصيدة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في أولها:
أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق بالظلماء من إضم
فما لعينيك إن قلت اكففا همتا وما لقلبك إن قلت استفق يهم
وهذه البردة غالى فيها البوصيري رحمه الله وعفا عنه غلواً غير شرعي في رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى بلغ بالناس الذين نهجوا نهجه، ولزموا بدعته أن قالوا: لا يجوز قراءة هذه القصيدة إلا أن يكون الإنسان متوضئاً متطهراً مستقبل القبلة، فجعلوا هذه القصيدة محاكاة للقرآن والعياذ بالله.
ثم نشأ أقوام خافوا أن يقعوا في هذا الأمر فجفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما ذكر أحدهم اسم رسولنا عليه الصلاة والسلام أو سمعه دون أن يصلي ويسلم عليه، وربما عاش دهره كله لم يأت قبره الشريف ليسلم عليه، وربما خاف من البدع أكثر فرفض أن يأتي أهل البقيع فيسلم عليهم، وربما رفض أن يأتي شهداء أحد فيسلم عليهم.
ولا ريب أيها المؤمنون! أن أهل السنة والجماعة يدورون مع الحق حيث دار، ويلزمونه حيث وجد، فإن المؤمن لا يتأثر بالبيئة التي حوله، ولا بما يسمع، وإنما يتأثر بالقول الحق الذي مصدره كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل سلف الأمة الصالح.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي البقيع فيسلم على أهله ويستغفر لهم، وكان يأتي شهداء أحد فيسلم عليهم ويستغفر لهم، وكان أصحابه من بعده يأتون قبره الشريف فيسلمون عليه، ويأتون أهل البقيع، ويأتون شهداء أحد فيسلمون عليهم تأسياً بفعله صلوات الله وسلامه عليه.
فلا يوجد في دين الإسلام شخص يموت الدين بموته ويبقي ببقائه، ولو وجد هذا الشخص لكان رسولنا صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز لأحد أن يربي الناس على أن يتعلقوا بزيد أو بعمر، أو يتعلقوا بالعالم الفلاني، أو بالداعية الفلاني، أو بالأمير الفلاني، فإن الدين دين الله، والهدى هدى الله، والمراد الجنة، والخوف من النار، أما الناس فإن قلوبهم بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فقد يمسي الرجل مؤمناً ويصبح كافراً، ويصبح مؤمناً ويمسي كافراً، والسعيد من تعلق بالله وحده، ولزم سنة محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يعط عقله لأحد غيره.. ولزم الكتاب والسنة ولم يجنح لشيء غيرهما، يحب الحق حيث وجد، ويكره الباطل حيثما وجد، ويعتذر لأئمة المسلمين وعلمائهم ودعاتهم إذا رأى أنهم قد أخطئوا السبيل أو حادو عن المنهج، أو ما إلى ذالك مما لا يسلم منه أحد من الخلق.
وكذالك الدعاة الربانيون، والعلماء الصالحون، والمصلحون في الأرض ينبغي أن يكون همهم شيء واحد، وهو أن يلزم الناس طريق الهدى، وأن يتبعوا سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
يا أخي! لا تنتظر من أحد حمداً ولا شكوراً، ولا تنتظر أن يذكرك الناس بلسانهم، ولا أن يشيروا إليك ببنانهم، لا تنتظر كلمة مدح، ولا شريط يوزع.
أخلص نيتك لله جل وعلا، وتقرب إلى الله بالدعوة إليه، واعلم أن الدعوة إلى الله أعظم القربات، ووظيفة الأنبياء، ومهمة المرسلين: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ [فصلت:33].
ادع إلى الله في بيتك مع زوجتك وأولادك، ادع إلى الله جل وعلا في مواطن عملك، كن هيناً ليناً، يأخذ الناس منه قولهم، كن هاشاً باشاً يعلم أن الناس لا يمكن أن يجمعوا على قلب واحد، ولذلك قال الله لنبيه: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107].
يؤتى إليه صلى الله عليه وسلم بالرجل وقد شرب الخمر فيجلد مرة بعد مرة، ثم يقول صلوات الله وسلامه عليه: (لا تعينوا الشيطان على أخيكم، والله ما علمته إلا محباً لله ولرسوله)، إذا أراد أن يدعو دعا بأسلوب حسن لين، يردف معاذاً خلفه، ثم يقول له: (يا
من أراد أن يدعو إلى الله فليكن هيناً ليناً، يبتسم للمسلمين، ويعلم أنه لا يخلو مؤمن من خطيئة.
العبد الصالح ذو العلم والبصيرة يتبع سبيل الحكمة ويبعد عن طرائق الفتنة؛ جاءه صلى الله عليه وسلم عمرو بن عنبسة أول بعثته صلوات الله وسلامه عليه وهو رابع أربعة في الإسلام فقال: (من أنت؟ قال: أنا نبي. قال: وما نبي؟ قال: نبي أدعو إلى الله وأحذر من عبادة الأوثان، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: اذهب إلى ديار قومك)، أي: لا تعرض نفسك للفتنة، قال: (فإذا سمعت أن الله أظهرني فأتني).
ولم يبتله صلى الله عليه وسلم، فقد يقدر العالم على شيء لا يقدر عليه داعية، ويقدر داعية على كلمة لا يقدر عليها من هو أدنى منه، ويقدر المعلم على كلمة لا يقدر عليها الطالب، ولا يمكن أن يكلف الناس كلهم بالدعوة إلى الله على طريق واحد وعلى كلمة واحدة.
لكن المؤمن قلبه يحترق إذا رأى منكراً، ويحترق إذا رأى معروفاً لا يؤمر به، ومع هذا فعليه أن ينظر إلى وضعه، وإلى أي الطرائق أجدى وأنفع في الدعوة إلى الله جل وعلا.
وكم من كلمة حرمت كلمات، وكم من محاضرة منعت محاضرات، وكم وكـم مما لا يخفى على أحد، فالمسلم ينبغي عليه أن يكون همه الأول والأخير أن تبقى الدعوة إلى الله جل وعلا قائمة، لا أن يبقى الأشخاص، فإن كان محمد صلى الله عليه وسلم مات والدين باق فمعنى هذا أن الدين لا يعلق بأحد، ولو كان أعلم أهل الأرض.
وينبغي أن يعلم المؤمن أن هذا النبي ما مات إلا وقد أدى الأمانة، وبلغ الرسالة ونصح الأمة، كنا في حج مع شيخنا ابن باز حفظه الله فجلس يحدث عن حجة الوداع، فلما وصل إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم للناس: (فإنكم ستسألون عني، فقال الناس: يا رسول الله! نشهد أنك أديت الأمانة، وبلغت الرسالة، ونصحت الأمة) بكى شيخنا حفظه الله، والله كأني أنظر إليه وهو يبكي في هذه اللحظة ويقول: وأنا أشهد أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة، فجزاه الله بأفضل ما جزى نبياً عن أمته.
إن كنا صادقين محقين في محبته فالفيصل في ذلك أن ننظر في أعمالنا, وفي خطواتنا، وفي أقوالنا، أين هوانا من هواه، أين هدينا من هديه، أين سمتنا من سمته، أين حديثنا من حديثه، أين ليلنا من ليله، أين نهارنا من نهاره، كيف يدعي مسلم أنه يحب الله حقاً، ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم وهو يعكف ليلة حتى الفجر على أمور حرمها الله وحرمها رسوله صلى الله عليه وسلم .. من أغان ماجنة، وأفلام خليعة، ما فيها ما يذكر بالله أو يدعو إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
تقول عائشة (بات عندي صلوات الله وسلامه عليه، حتى وجدت برد جسمه ثم قال لي: يا عائشة ! أتأذنين لي أن أعبد ربي؟ قالت: قلت: يا رسول الله! والله إني لأحب قربك، وأحب أن تعبد ربك، فقام صلى الله عليه وسلم إلى شن معلق فتوضأ ثم مكث يصلي ويبكي حتى دخل عليه بلال يستأذنه لصلاة الفجر، فقال له بلال : ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: يا بلال ! كيف لا أبكي وقد أنزل علي الليلة، ثم تلا خواتيم آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:190-191]).
كيف تدعي امرأة محبة محمد صلى الله عليه وسلم وهو القائل: (أيقظوا صواحب الحجرات، فرب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة، ثم قال: سبحان الله ماذا أنزل الليلة من الفتن!) ومع ذلك ربما تسهر الفتاة على الهاتف، أو على المذياع، وأخرى على التلفاز، وأخرى تخاطب أصحاب القنوات، وما إلى ذلك!
أين هؤلاء إن كانوا صادقين من محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن المحبة لا تعرف بالدموع، ولا بالخشوع أمام الناس، ولا بمثل ذلك، إنما تعرف حقيقتها باتباع هديه صلى الله عليه وسلم، وإن كان البكاء والخشوع عند ذكره صلى الله عليه وسلم منقبة؛ فإن مالكاً رحمه الله تعالى كان إذا ذكر رسول الله بكى، فقال له أصحابه: ما هذا يا أبا عبد الله؟ قال: لقد أدركت محمد بن المنكدر ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فاضت عيناه رحمه الله تعالى ورضي عنه!
فمحبته صلى الله عليه وسلم بالقلب والجوارح، ومحبته صلى الله عليه وسلم باتباع منهجه وسلوك مسلكه.
ومع ذلك كم ترى في الناس اليوم من لا يعرف رحمة للصغير، ولا توقيراً للكبير.
إن العلماء الربانيين والمسلمين الصادقين يحترم بعضهم بعضاً، لا لشيء إلا تأسياً بهدي محمد صلى الله عليه وسلم؛ ونحن ننقل من أرض الواقع: فقد كنا في العام الماضي مع الشيخين عبد العزيز بن باز ومحمد بن عثيمين حفظهما الله، فكانت هناك محاضرة للشيخ محمد في مسجد الشيخ عبد العزيز في مكة، فالمحاضرة معلن عنها أنها للشيخ محمد بن عثيمين فلما جلس الشيخ على الكرسي كان أول الحضور بين قدميه الشيخ عبد العزيز بن باز رغم أنه حفظه الله مفتي الأمه، فتحرج الشيخ محمد أن يتحدث، لكنه غلب عليه فتحدث.
فلما أكمل محاضرته جاءته الأسئلة، فقال: أحيلها إلى الشيخ، فقال الشيخ عبد العزيز : إنما كتبت لك، والله ما كنت لأجيب وأنت حاضر، فحلف الشيخ عبد العزيز على الشيخ محمد أن يجيب هو، فاستحيا الشيخ محمد وأخذ يجيب، وكأنه لم يستطع أدباً فأجاب على سؤال أو سؤالين ثم قال لفرط ذكائه: هذا سؤال يحتاج إلى تعقيب من الشيخ عبد العزيز، فلو عقبت! فعقب الشيخ عبد العزيز ، فلما انتهى قال الشيخ محمد : الآن لا أتكلم بعد ذلك، وقد أجاب الشيخ ابن باز.
فهذا مثال واقعي شاهدته بعيني وأنقله لك يا أخي! وربما نقله لك غيري، لكن المقصود أنه ينبغي على المؤمن أن يحترم ويوقر من هو أكبر منه، وبالأخص الوالدين.
من الناس اليوم من تسأله: أين أبوك؟ فيؤشر وكأنه يؤشر على رجل في قارعة الطريق، ويتكلم عن أبيه وكأنه يتكلم عن مرءوس بين يديه.
ينبغي للإنسان أن يعلم أن هذه الآداب الاجتماعية أصل من أصول دين الله جل وعلا، أمر الله بها، ودعا إليها، وطبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فاحترام المسلمين أياً كانت جنسياتهم، وأياً كانت دولهم، وأياً كانت منازلهم؛ أمر جاء به الشرع، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع: (كلكم لآدم وآدم من تراب)، ولما أراد أن يبعث جيشاً إلى الروم أمر عليه أسامة بن زيد رغم أن في القوم أبا بكر وعمر .
هذا أيها المؤمنون! ما أردنا بيانه، ونعتذر عما أخللنا به، لكن الذي ينبغي أن يصل إلى قلبي وقلبك أيها المؤمن! أن نعاهد الله جل وعلا على أن نكون صادقين في محبتنا لرسولنا صلى الله عليه وسلم، وأن نلتزم هديه، وأن نتبع سنته، وأن نكون على قلب لا يعرف إلا الله، ولا يحب إلا الله، ثم يحب من أمر الله جل وعلا بحبه.
كما يجب أن يسلم المسلمون جميعاً من ألسنتنا همزاً ولمزاً: (المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده)، وأن يسلم المسلمون جميعاً من قلوبنا، فلا يكون فيها غل ولا حسد ولا بغضاء.
نعلم أن هناك منكرات ومعاصي لن نستطيع أن نتخلص منها، فنسأل الله جل وعلا أن يعيننا على أن تخلص منها.
نرقب الله جل وعلا فيما نقول ونفعل، ونرجوه جل وعلا أن يرحمنا وأن يرزقنا شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أنـت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، ونسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه، خلقت السماوات السبع وما أظلت، وخلقت الأرضين السبع وما أقلت، تبدئ وتعيد، وأنت على كل شيء شهيد، أرجعت يوسف إلى أبيه، ورددت موسى إلى أمه، وجعلت النار برداً وسلاماً على إبراهيم، وسعت كل مخلوق عزة وحكمة، ووسعت كل شيء رحمة وعلماً ،نسألك اللهم باسمك الأعظم وبوجهك الأكرم يا حي يا قيوم! أن تصلي على محمد وعلى آله، وأن ترزقنا جواره في جنات النعيم، اللهم ارزقنا جوار نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم.
اللهم ارزقنا جوار نبينا صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم، اللهم أحينا في هذه الدنيا على هديه وسنته، وأمتنا اللهم مخلصين على ملته، اللهم وابعثنا تحت لوائه وفي زمرته، اللهم وأوردنا حوضه وارزقنا شفاعته، اللهم واختم لنا بخير واجعل مآلنا قربه في جناتك يا رب العالمين!
اللهم إن لم نكن أهلاً لأن ترحمنا فإن رحمتك أهل لأن تسعنا، اللهم إن لم نكن أهلاً لأن ترحمنا فإن رحمتك أهل لأن تسعنا، اللهم إن لم نكن أهلاً لأن ترحمنا فإن رحمتك أهل لأن تسعنا.
اللهم وردنا جميعا رجالاً ونساءً إلى دينك وهديك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على دينك، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبنا على دينك، اللهم إننا بشر يعرض علينا من الفتن ما يحيد بنا عن طريقك، اللهم ثبتنا على كل حال، اللهم إن حدنا عنك فردنا إليك يا رب العالمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر