وأشهد أن معالم الحق ومسالك الهدى وطرائق المجد جعلها الله وفق هدي نبينا الأمين الصادق الوعد، المولود في مكة والمسترضع في بني سعد، صلى الله وسلم عليه صلاةً وسلاماً دائمين ما اتصلت أذن بخبر وعين بنظر، وما أظل الناس برق ورعد.
أما بعد:
عباد الله! فإن قول ربنا جل وعلا: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * ذَوَاتَا أَفْنَانٍ [الرحمن:46-48] ، إنما هو بيان لما أعده الله جل وعلا لأوليائه الصالحين ممن خاف مقامه، وسلك طريقه من جنات النعيم.
الجنة أيها المؤمنون! نعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، جعلها الله جل وعلا داراً لأهل طاعته، ومسكناً لأهل رحمته، نسأل الله في هذه الليلة المباركة الكريمة أن يجعلنا وإياكم من أهلها.
الأولى: موت النفوس وفراقها للأجساد.
والثانية: انتهاء الدنيا وقيام الساعة والبعث والنشور، وبعد هذين زمناً يكون دخول أولياء الله المتقين وعباد الله الصالحين لجنات النعيم.
فأما الأولى: فإن الله جل وعلا قال في كتابه وقوله الحق: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران:185]، وقال سبحانه: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].
وكتب الله جل وعلا على هذه الأرواح أن تسكن الأجساد يوم يأتي الملك والنطفة مستقرة في رحم الأم فينفخ فيها، ثم تمكث ما شاء الله لها حتى يصبح العبد خلقاً آخر كما أخبر الله رب العالمين، ثم إذا كتب الله ساعة الفراق حضرت الملائكة كما حضرت في الأول لتنفخ في الرحم تحضر لتأخذ الأمانة التي أودعتها في ذلك الجسد، فتكون ساعة الوفاة.
وما أرَّقَ الصالحين، وأقض مضاجع المتقين إلا ساعة الإقبال على الله جل وعلا، فإن العبرة بالخواتيم، ويثبت الله من شاء على صراطه، ويبقي الله تبارك وتعالى من صدقت نيتهم على طريقه، قال أهل العلم رحمهم الله: من صدق فراره إلى الله صدق قراره مع الله، فمن صدقت توبته وإنابته وأوبته إلى ربه صدق قراره وسيره وهديه على صراط الله حتى يلقى الله تبارك وتعالى.
فهذا الهم أقض مضاجع المتقين من قبل، وأرق الصالحين من عباد الله؛ ولذلك سعوا أعظم ما سعوا في أن يختم الله جل وعلا لهم بخير.
ولما كان النوم أخو الموت كما أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم مضت السنة الفعلية والقولية أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا أضطجع وأراد أن ينام وضع يده تحت خده قائلاً: (باسمك اللهم أحيا وأموت)؛ رجاء أنه إذا قبض فإنه يقبض على اسم الله تبارك وتعالى.
وفي الخبر الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم جاءته فاطمة ابنته وقد أتعبها كدها في بيتها ولم يكن لها خادم، فجاءت إلى بيته تبحث عنه وتسأله خادماً لما علمت أن سبياً أتاه، فلم تجده، فأخبرت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها، ثم أخبرت أم سلمة ، فلما قدم صلى الله عليه وسلم وأخبرتاه زوجتاه بالأمر قدم عليه الصلاة والسلام على علي وفاطمة كما عند البخاري وغيره وهما على فراشهما، فلما همّا بأن يقوما إليه أشار إليهما أن ابقيا على مكانكما؛ حفظاً لعوراتهما، ثم دنى منهما صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس بالشرع، فلما قصا عليه ما طلباه قال عليه الصلاة والسلام: (إلا أدلكما على خير من ذلك؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبحا ثلاثاً وثلاثين، واحمدا ثلاثاً وثلاثين، وكبرا أربعاً وثلاثين فذلك تمام المائة) .
فقد طلبا شيئاً من متاع الدنيا فدلهما عليه الصلاة والسلام على ما ينفعهما في آخرتهما، حتى إذا قبض العبد وقد ذكر هذه الأذكار قبض على عمل صالح، ومن أجل ذلك خلصت نيات المؤمنين وصدقت مع ربهم؛ رجاء أن يقبضهم الله على خاتمة حسنة.
ومما يعين عليها: الإكثار من الأعمال الصالحات، فقلما أكثر عبد من عمل صالح إلا وتوفاه الله جل وعلا على ذلك العمل.
وقبل سنوات غير بعيدة كان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من العامة يمني الجنسية لا يقرأ، فإذا دخل المسجد النبوي ورأى رجلاً خالياً من شغل أعطاه قرآناً في يده وقال له: أقرأ علي من كلام الله، فيمضي الرجل يقرأ وهذا العبد الصالح الأمي يستمع، فقضى أكثر عمره على هذا النحو، فلما أراد الله جل وعلا أن يقبض روحه -وربما كان ذلك العبد صادقاً مع مولاه والحكم على الظواهر- دخل الحرم ذات يوم فقدم المصحف لرجل جالس في الحرم فلما أخذ ذلك القارئ يقرأ وهذا العبد الصالح يستمع إليه مرا على آية سجدة، فسجد الاثنان فرفع الأول منهما وأما ذلك العبد الصالح فقبض الله روحه وهو ساجد في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه لا يهلك على الله إلا هالك، فالصدق مع الله عز وجل أعظم ما يرث فيه العبد الخاتمة الحسنة، وحسن الوفادة والإقبال على رب العالمين جل جلاله.
ومن ينشد الخاتمة الحسنة ينبغي أن يكون سليم الصدر للمؤمنين، فليس في قلبه بغض ولا حقد ولا حسد ولا شحناء لأحد من المؤمنين؛ فإن كثرة الغل والحسد والبغضاء والشحناء لعباد الله أعظم ما يورث به سوء الخاتمة والعياذ بالله.
أورد ابن خلكان رحمه الله في (وفيات الأعيان)، في ترجمة يوسف بن أيوب الهمداني أنه كان عبداً صالحاً محبوباً من الناس، فبينما هو ذات يوم في درسه إذا قام رجل من الصالحين ظاهراً يقال له: ابن السقا ، وكان يحفظ القرآن وعنده شيء من الفقه، فقام ذلك الرجل يسأله مسائل يريد بها أن يسيء الأمر في حلقته، ويشغب عليه وجموع الناس حوله.
لما أكثر عليه قال يوسف بن أيوب لـابن السقا : اجلس فوالله إني لأشم من كلامك رائحة الكفر، وأظنك ستموت على غير ملة الإسلام، فمضت أيام قدم فيه وفد من ملك الروم إلى الخليفة، فلما خرج عائداً إلى القسطنطينية تبعه ابن السقا وذهب معه، واستقر به الأمر في تلك المدينة، فما لبث فيها أيام حتى تنصر والعياذ بالله وأعجبه ما عليه النصارى من دين، وخرج من ملة الإسلام فبقي فيها، وكان يحفظ القرآن، ثم قُدِّر لرجل من أهل بغداد أن يذهب إلى تلك البلدة لتجارة له فوجده مريضاً على دكة وبيده مروحة يذب بها الذباب عن نفسه، فقال له: يا ابن السقا ! إني أعهد أنك تحفظ القرآن فهل بقي من القرآن في صدرك شيء؟ قال: لا، ولا آية إلا آية واحدة: رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ [الحجر:2]، نعوذ بالله من سوء الخاتمة.
وعمر رضي الله تعالى عنه قتل في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم بخنجر ذي نصلين على يد أبي لؤلؤة ، فلما حمل رضي الله عنه وأرضاه وهو هو في علمه وجلالة قدره وصحبته وفضله وضع على الأرض، وشعر بدنو الأجل، فدخل الناس من الصحابة يثنون عليه، وكان فمن دخل عليه عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، فلما رآه أخذ ابن عباس يثني على عمر ويذكره بنصرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر رضي الله تعالى عنه، وكان يعجبه كلام ابن عباس : أعد علي ما قلت، فلما أعادها قال: وإنني مع الذي تقول لو كان لي ملء الأرض ذهباً لافتديت به من هول المطلع.
كل ذلك داخل في سياق ما ذكرناه من أنه ما أهم الصالحين شيء أكثر من حسن الإقبال على الله جل وعلا، وهذا على حسب حال كل إنسان بخاصة نفسه.
وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من يسمع به أن يخرج إليه، وكذلك المؤمن العاقل إذا سمع بالفتن فإنه يفر منها قدر الإمكان، فإذا ابتلي بها واجه ذلك بالبينات من مشكاة الوحيين من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (أنا آخر الأنبياء وأنتم آخر الأمم، فإنه خارج فيكم لا محالة، وما من نبي قبلي نوح ومن بعده إلا وأنذر قومه إياه).
فمن أعظم أماراته الخَلقية: أن عينه اليمنى كأنها عنبة طافية، فهو ممسوح العين والجبين الذي عليها، وبين عينيه ثلاثة أحرف: ك ف ر يقرأها كل مؤمن بنور الله، سواء كان يجيد القراءة أو لا يجيدها، ويغيب عن قراءتها كل كافر ومنافق، سواء أحسن القراءة أو لم يحسن.
وتلك الفتن إنما يهدي الله جل وعلا فيها، ويبين بنور الإيمان والتوحيد الذي في القلوب.
ويمكث في الأرض أربعين يوماً: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامنا هذه، ويعيث يميناً وشمالاً، ويأمر الأرض الخربة أن تخرج كنوزها فتخرجها، فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل، وقبل خروجه يكون جدب في الديار، وقلة في الأمطار، ومع ذلك يأمر الأرض أن تنبت فتنبت، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر؛ فتنةً من الله جل وعلا لعباده، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إن خروج
وأرشد عليه الصلاة والسلام المؤمنين إذا خرج بين ظهرانيهم أن يقرءوا عليه أوائل وفواتح سورة الكهف، قال بعض العلماء: إن المناسب في قراءة فواتح سورة الكهف على هذا الطاغية أن المؤمنين الفتية من أهل الكهف لما خرجوا وقاهم الله جل وعلا برحمته وفضله في الكهف يوم أن ضرب على آذانهم، فوقاهم الله جل وعلا شر الطاغية الذي كان في زمانهم، فمن قرأ من المؤمنين فواتح سورة الكهف أيام خروج الدجال يقيه الله جل وعلا -إن صدق النية مع الله- فتنة الدجال .
فيعيث في الأرض يميناً وشمالاً، وتحرم عليه مكة المدينة فلا يستطيع دخولهما، وفي حديث تميم بن أوس الداري أنه سئل عن نخل بيسان: أيثمر أو لا يثمر؟ فأجابوه: بأنه يثمر، قال: يوشك ألا يثمر، وسأل عن بحيرة طبرية: أفيها ماء أو ليس فيها ماء؟ فأخبروه أن ثمة ماء فيها، فأخبرهم أنه سيأتي يوم لا ماء فيها، وهاتان أمارتان على وقت خروجه وقد قلنا: إنه يخرج أيام المهدي فيقاتله المهدي ، ويلقى المسلمون والصالحون من عباد الله آنذاك كرباً عظيماً الله جل وعلا أعلم به.
وذكره الله في الزخرف قائلاً: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف:57]، ثم قال سبحانه: وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ [الزخرف:61] أي: علامة وأمارة من أمارات الساعة.
وقال جل وعلا عن أهل الكتاب: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159]، فينزل صلوات وسلامه عليه كأن في وجهه بللاً، وإن لم يترشح بالماء، فينزل فما أن يراه عدو الله الدجال حتى يذوب كما يذوب الملح في الماء، لكن عيسى يريد أن يطمئن المؤمنين أن هذا عبد خاسئ لا يملك من صفات الألوهية شيء، فيقتل عيسى الدجال بحربة كانت في يده؛ ليري المسلمون دمه ويطمئنوا على أن عدو الله قد هلك، فيمكث عيسى والمؤمنون الذين معه ما شاء الله جل وعلا لهم أن يمكثوا.
وقد دخل عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم وغيره على زينب بنت جحش قائلاً: (ويل للعرب من شر قد اقترب؛ فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج وحلق صلى الله عليه وسلم بين أصبعيه الإبهام والسبابة)، فهذا يدل على أنهم ساعون في حفره لكن الله جل وعلا كلما حفروا شيئاً منه رد الله جل وعلا ما حفروه على ما كان؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
فلما يأتي اليوم الذي يأذن الله جل وعلا لخروجهم فيخرجون، قال سبحانه: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:96-97]، فيخرجون يعيثون في الأرض فساداً، فيفر عيسى والمؤمنون الذين معه إلى جبل الطور من أرض سيناء، ويمكث هؤلاء يفسدون في الأرض، فيشربون بحيرة طبرية، يشربها أولهم ولا يبقى لآخرهم شيء، ويعيثون في الأرض فساداً.
ثم إنهم لما لم يبق لأحد من أهل الأرض بهم يدان يرمون النشاب إلى السماء فيرد الله رأس الرمح أحمر فتنة لهم، فإذا رأوه أحمر قالوا: قهرنا أهل الأرض وغلبنا أهل السماء.
ثم إن عيسى عليه الصلاة والسلام يدعو الله جل وعلا عليهم فيستجيب الله له، فيبعث الله جل وعلا على رقابهم دوداً يكون هلاكهم على يديه، فيموتون فرسى كأنهم نفس واحدة، فسبحان ربك الذي يحيي ويميت، ويبدي ويعيد، ولا يبقى إلا ملكه، ولا ذلة إلا بين يديه، ولا عزة إلا بطاعته.
فيموتون فرسى كموت رجل واحد، فلما ينزل عيسى والمؤمنون الذين معه يدعو الله جل وعلا عليهم كرة أخرى، فيرسل الله طيراً كأعناق البخت تحملهم وتلقيهم في البحار، ثم ينزل الله جلا وعلا مطراً لا لأهل زرع ولا لأهل ضرع، وإنما ليغسل الأرض من نتنهم وزهمهم، فتصبح الأرض بيضاء نقية.
فإذا نزل عيسى والمؤمنون الذين معه لا يعبد في تلك الفترة إلا الله جل وعلا، ولا يبقى على ظهر الأرض كافر؛ لأن عيسى يخيرهم بين القتل والإيمان، فتوضع الجزية، ويكسر الصليب، ويعيش الناس كأنعم ما يعيشون على وجه الأرض، قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى للعيش بعد المسيح، طوبى للعيش بعد المسيح، كل ذات حمة - أي: كل ذات بغضاء وشحناء وحقد وشر - ينزعها الله جل وعلا من قلبها).
حتى أخبر صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق: (أن الطفل الوليد الرضيع يضع أصبعه في فم الحية فلا تضره ولا تعضه، ويتعرض الوليد الصغير للأسد فلا يضره أبداً، ويكون الذئب بين الغنم كأنه كلبها، ويأمر الله جل وعلا الأرض أن تخرج بركتها، وأن تنبت ثمرتها، فلو أن عبداً من عباد الله غرس حبة على الصفا على صخرة ملساء لأنبت الله جل وعلا غرسها)، وكل ذلك بأمره تبارك وتعالى، فيكون الناس على هذا ما شاء الله لهم أن يكونوا.
ثم يقبض نبي الله تبارك وتعالى عيسى عليه الصلاة والسلام، ثم يقبض المؤمنون، فأرواح المؤمنين تقبض شيئاً فشيئاً، ويقل الخير في الناس، ويقبض الأخيار، ويبدأ الإسلام يوشى كما يوشى الثوب، يعني: يذهب شيئاً فشيئاً، ويسرى على القرآن في ليلة واحدة فلا تبقى على ظهر الأرض آية، ويأتي ذو السويقتين من أرض الحبشة إلى الكعبة فيهدمها ويقلعها حجراً حجراً، ويستخرج كنوزها، ويسلبها حليها ولا يبقي منها شيئاً، ولا تؤم الكعبة بعده ولا تحج، ولا يؤدى فيها عمرة ولا حجة، فتهدم الدنيا تدريجياً على هذا، حتى تخرج الدابة كما قال الله: وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ [النمل:82]، فتخطم الناس وتسمهم على خراطيمهم، فينشأ الناس بعد ذهابها فيشب الصغير ويصبح كبيراً، فإذا باع ثوباً أو اشتراه فسئل من اشتراه منه: ممن اشتريته؟ قال: اشتريته من ذلك الرجل المخطوم، أي: الذي خطمته الدابة ووسمته.
فيخرجون حفاة عراة غرلاً بُهماً إلى أرض بيضاء نقية.
وقد جاء حبر من أحبار يهود فقال: (يا أبا القاسم! أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ قال: هم في ظلمة دون الجسر، قال: فمن أول الناس إجازة؟ قال: فقراء المهاجرين؟ قال: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها، قال: فما شرابهم عليها بعدئذ؟ قال: عين فيها تسمى سلسبيلاً).
وفي يوم العرض أيها المؤمنون تتقطع الصداقات والقرابات وسائر العلاقات من نسب أو رحم، قال الله عز وجل: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14]، وقال سبحانه: فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101] .
ويوم العرض أيها المؤمنون تهتك فيه الأستار، وتظهر فيه الأسرار، قال الله جل وعلا: رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ [غافر:15-16]، فيكون خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام أول من يكسى من الخلائق؛ لأن الخلائق يحشرون عراة، ثم بعد ذلك الصالحون الأمثل فالأمثل، حتى يكون الناس على استعداد للعرض والحساب.
وتدنو الشمس ويلجمهم العرق، وتكون أمور عظام منها الحوض والصراط والميزان، قال الله جل وعلا: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47] .
ثم ينصب الصراط على ظهراني جهنم فيمر عليه الناس كل على قدر عمله، فمنهم من يمشي مشياً، ومنهم كأجاويد الخيل، ومنهم من يمر كالبرق، ومنهم كالريح، ومنهم من يحبو حبواً، ومنهم والعياذ بالله من تختطفه كلابيب جهنم، قال الله جل وعلا: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا * ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا * ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا * وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم:69-72].
فالله تعالى لم يقل: ونرمي الظالمين فيها جثياً، بل قال سبحانه: (وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ)، فمجرد أن يخذلهم الله ويتركهم يكفي أن يكون سبباً في أن يلقوا في جهنم، نعوذ بالله من الحرمان والخذلان.
والجنة أيها المؤمنون نور يتلألأ، ونهر مضطرد، ونعيم لا ينفد، وقرة عين لا تنقطع، وقد كان عباد الله الصالحين في الدنيا يسألونها الله ليلاً ونهاراً، قال الله عز وجل: لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا [الفرقان:16]، وذكر الله خليله وصفيه وحبيبه إبراهيم بقوله: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]، ووقف أعرابي على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو هو ومعاذ رضي الله تعالى عنه، فقال الأعرابي: (أما إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة
فإذا دنت الجنة منهم فتحت أبوابها، وأبواب الجنة ثمانية، وما بين مصراعي كل باب مسيرة خمسمائة عام، وليأتين عليها يوم -مع اتساعها هذا- وهي كضيضة من الزحام، جعلنا الله وإياكم ممن يدخلها آمناً.
وأما أول من يدخلها بعد يوم القيامة فكما بينا هو نبينا صلى الله عليه وسلم، سيد كهولها أبو بكر وعمر ، قال عليه الصلاة والسلام في حديث حسن إسناده بعض العلماء: (
قال عليه الصلاة والسلام: (إن ملكاً استأذن ربه أن يأتيني ويبشرني بأن
من نساءها المنعمات خديجة بنت خويلد , وآسية بنت مزاحم ، وفاطمة بنت محمد ، ومريم ابنة عمران ، فهؤلاء الأربع سيدات نساء أهل الجنة على الإطلاق كما أخبر نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
وممن كتب الله لهم دخولها ممن أخبرنا الله ورسوله صلى الله عليه وسلم عنهم العشرة المبشرون من أصحاب نبينا عليه الصلاة والسلام، وقال العلماء: إنه لن يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، فجميع من كان في بيعة الرضوان في غزوة الحديبية يدخل الجنة برحمة الله جل وعلا وفضله كما صح الخبر عن رسولنا صلوات الله وسلامه عليه.
أيها المؤمنون! إن الجنة نعيم لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع، لهم فيها أطيب المساكن، يدخلونها على طول أبيهم آدم ستون ذارعاً في السماء، جرداً مرداً مكحلين، أبناء ثلاث وثلاثين، وجرداً، أي: لا شعر على أجسادهم، ومرداً: أي لا شعر على وجوههم، أبناء ثلاث وثلاثين، قيل: إنها السن التي رفع فيها عيسى عليه الصلاة والسلام، وطول أبيهم آدم يوم خلقه الله كان ستين ذراعاً صلوات الله وسلامه عليه.
وأما أعظم ما يعطيهم الله جل وعلا إياه: فلذة النظر إلى وجهه الكريم، مع رضائه سبحانه وتعالى الذي لا سخط بعده، وليس بعد هذين العطائين عطاء أبداً.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا دخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار نادى مناد: يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه، فيقولون: وما هو؟ ألم يثقل مازيننا.. ألم يبيض وجوهنا.. ألم يجرنا من النار.. ألم يدخلنا الجنة؟! فيكشف الحجاب فيرون وجه ربهم تبارك وتعالى، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم هو أعظم ولا أجل من رؤية وجه الله تبارك وتعالى).
وممن يدخل الجنة: مؤمنون كتب الله لهم الجنة بلا حساب ولا عذاب، جعلنا الله وإياكم منها.
ومنهم من يرزقون شفاعة نبينا صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من يرزقون شفاعة أهليهم من العلماء والشهداء والصديقين، أو من الملائكة المقربين.
ومنهم من يمن الله جل وعلا عليه برحمته، فيدخله الجنة بشفاعة الله تبارك وتعالى ذاته.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم كما ثبت أن عبد الله بن عمرو بن العاص
وعبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما التقيا عند المروة في مكة فتحدثا قليلاً ثم مضى عبد الله بن عمرو ، فلما مضى بكى عبد الله بن عمر فقيل له: ما يبكيك يا أبا عبد الرحمن ؟ قال: إن هذا -وأشار إلى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه- أخبرني أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر كبه الله على وجهه في النار).فالكبر الذي في الصدور والعياذ بالله أعظم ما يحول بين العبد وبين دخول جنات النعيم، والمؤمن إذا عرف أن الله جل وعلا ذم الكبر وأهله، وأنه تبارك وتعالى أمر سيد الخلق وصفوة الرسل قائلاً: وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37] تواضع كما أمره الله جل وعلا أن يتواضع؛ لأن الكبر والعياذ بالله يسوق العبد إلى كثير من المعاصي والإفساد في الأرض.
إن الظلم أيها المؤمنون حرمه الله على نفسه وجعله بين عباده محرماً، ولأن تلقى الله بكل ذنب دون الشرك أهون من أن تلقاه بظلمك لعباد الله تبارك وتعالى، قال سبحانه: وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنصَرُونَ [هود:113] .
جاء رجل إلى مالك رحمه الله فقال: يا أبا عبد الله ! إنني أعمل عند أناس ظالمين: يظلمون الناس ويجلدونهم بغير وجه حق، وأنا أعمل عندهم خياطاً أحيك لهم الثياب أفأنا من الذين ركنوا إلى الذين ظلموا؟ فقال مالك رحمه الله: بل أنت منهم، فقال: يا مالك ؟ ومن إذاً الذين ركنوا إلى الذين ظلموا؟ قال: يا أخا العرب! الذين ركنوا إلى الذين ظلموا من باعك الخيط الذي تخيط به لهؤلاء.
فالمؤمن يتحرر من كل ما فيه ظلم للعباد، وقد يظن إنسان إن الظلم إنما يكون محصوراً في فئة من الناس، وهذا غير صحيح، فكل من كان تحت يدك وجعل الله جل وعلا لك سلطة عليه فظلمته وبخسته حقه: من زوجة، أو ولد، أو طالب في المدرسة، أو موظف تحت إدارتك، أو أجير، أو عامل، أو خادمة أو سائر ذلك، فظلمته ونهرته وضربته بغير وجه حق دخلت فيمن قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (صنفان من أهل النار لم أرهما).
قال العلماء: للجنة ريح عبقة زكية يتلاقها المؤمنون، فإذا كان هؤلاء النساء على هذا الوضع مما هو مشاهد في زماننا هذا في الفضائيات.. في الأفلام والأغاني.. ومشاهد في كثير من الأسواق.. ومشاهد في كثير من صالات الأفراح.. ومشاهد في كثير من الطرقات.. نساء والعياذ بالله تحررن من عبودية الخالق إلى عبودية المخلوقين، وأصبحن -أردن أم أبين- أداة لأعداء الدين يلعبون بهن كيفما شاءوا، والمؤمنة التي تعلم أنها ستلقى الله جل وعلا تعلم أن الله جل وعلا فرض عليها حجاباً شرعياً، وخير للمرأة ألا ترى الرجال ولا يراها الرجال.
ولقد بذل كثير من علماء المسلمين المعاصرين والسابقين بذلوا كثيراً من علمهم ووقتهم في تبيين الحجج للناس، ودمغ حجج الظالمين ممن يزينون للنساء ترك الحجاب، ويدعون عياذاً بالله إلى التبرج السفور مما حرمه الله جل وعلا ونهى عنه.
فالمؤمنة التقية التي تؤمن بملاقاة الله، وتعلم يقيناً أنها داخلة في عموم قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ [الانشقاق:6] تخشى الله جل وعلا فيما تلبسه، وتتقي الله تبارك وتعالى فيما ترتديه، ولا تكون فتنة لشباب المسلمين أينما كانوا وحيثما نزلوا.
فهذه الطائفة محرومة من دخول الجنة.
فهذه هي الأمور التي تحول بين العبد وبين دخول الجنة.
وأعظم ما يكون سبباً في دخول الجنة: الخوف من مقام الله تبارك وتعالى وتقواه، قال الله تبارك وتعالى: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ [الرحمن:46]، وقال سبحانه: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى [النازعات:40]، وذكر الله الجنة ثم قال: ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ [إبراهيم:14] .
والخوف من مقام الله كل يدعيه، وكل ينتسب إليه لكن الأعمال غالباً ما تكون شواهد على ما في القلوب.
ومن أعظم ما يدل على الخوف من مقام الله: الإئتمار بأمره، والانتهاء عما نهى الله تبارك وتعالى عنه، والبعد عن محارمه، والكف عن معاصيه، وقيام فلق الأسحار، فإن قيام الليل من أعظم الشواهد على أن العبد يخاف مقام ربه تبارك وتعالى؛ إذ قل ما يترك إنسان فراشاً وثيراً، وزوجة محببة إليه، أو رفقة من الإمكان أن يأوي إليهم فيترك ذلك كله وينزوي في بيته في وضع مظلم، أو نور خافت يقف بين يدي ربه، يتلو كتاب الله وآياته، ويتوسل إلى الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجيره من النار، ويدخله الجنة إلا وهو عبد قد خاف مقام الله تبارك وتعالى، قال الله تبارك وتعالى: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ [الزمر:9] .
وكفالة اليتيم من أعظم الذخر الذي يدخره العبد عند لقاء الله جل وعلا، قال صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين، وجمع - عليه الصلاة والسلام - بين أصبعيه السبابة والوسطى) ، وقال صلوات الله وسلامه عليه كما في المسند بسند صحيح: (خير بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه).
وقد بينا مراراً في محاضرات سلفت ومضت: أن موسى عليه الصلاة والسلام سأل ربه أن يريه عبداً كتب الله له أن يكون رفيقاً لموسى في الجنة، فأوحى الله جل وعلا إليه: إن عبدي فلاناً كتبت له أن يكون لك رفيقاً في الجنة، فتبع موسى ذلك العبد ليرى ما الذي يصنعه؟ فوجد ذلك الرجل من بني إسرائيل يعمد إلى كهف فيه أم له عجوز قد بلغت من الكبر عتياً وهو يطعمها ويسقيها ويقوم على خدمتها، فلما خرج منها سأله موسى: من هذه؟ قال: هذه أمي، قال: وما تصنع لها؟ قال: أطعمها وأسقيها وأقوم على خدمتها، قال: فهل تجزيك أمك على ما تصنعه لها شيئاً؟ قال: لا، إلا أنني كثيراً ما أسمعها تقول: اللهم اجعل ابني هذا رفيق موسى بن عمران في الجنة، فقال موسى عليه الصلاة والسلام: أنا موسى بن عمران وقد أوحى الله جل وعلا إلي أن الله استجاب دعوة أمك، فأنت رفيقي في الجنة.
فبدعاء الوالدين وبرهما وغض الطرف عما يكون منهما ينال الإنسان جنات النعيم.
وفي الخبر الصحيح أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أخبر نبينا صلى الله عليه وسلم: (أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر)، وقد جاء في حديث صحيح عند مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا قال العبد: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، قال الله جل وعلا: صدق عبدي، لا إله إلا أنا، ولا حول ولا قوة إلا بي) .
كما أن من أعظم كنوز الجنة كما في حديث أبي موسى الأشعري : (أن يكثر العبد من قول: لا حول ولا قوة إلا بالله)، فبذكر الله تبارك وتعالى والانصراف عن معاصيه ينبت للمؤمن غراس في الجنة.
أن يبني الإنسان لله جل وعلا بيتاً، قال عليه الصلاة والسلام: (من بنا لله بيتاً في الدنيا ولو كمفحص قطاة - أي: ولو كان صغيراً- بنى الله جل وعلا له بيتاً في الجنة).
بل ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أنه قابل رجلاً من الأنصار ومع الأنصاري ابن له، فقال عليه الصلاة والسلام للأنصاري: أتحبه؟ قال: يا رسول الله! أحبك الله كما أحبه، ثم إنه عليه الصلاة والسلام فقد الرجل دهراً، فقال: ما فعل صاحبكم، قالوا: يا رسول الله! مات ابنه، فلما لقيه عليه الصلاة والسلام، قال: أما يسرك أنك لا تأتي غداً باباً من أبواب الجنة إلا وجدته أمامك يأخذ بثوبك حتى يدخلك إياها؟ قالوا: يا رسول الله! -وهذا من حرص الصحابة على الخير-: أله خاصة أم لنا كلنا؟ فقال عليه الصلاة والسلام: بل هي لكم كلكم)، وهذا من رحمة الله بأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
فهذه أيها المؤمنون! جم من الأعمال تعددت مشاربها، وكثرت مناهلها؛ لأن الله جل وعلا لم يخلق العباد على نسق واحد، قال سبحانه: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ [البقرة:60]، وقال جل وعلا: لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا [المائدة:48]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (ألا أدلك على أبواب الخير: الصوم جنة، والصدقة تطفئ الخطيئة، وصلاة الرجل في جوف الليل الآخر، ثم تلا: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:16-17]) .
وليس في الجنة تكليف: قال الله تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10]، وهذا الذكر من التسبيح والحمد يلهمونه إلهاماً كما يلهم أحدنا النفس اليوم في حياته ما دام حياً.
فيتذاكرون مجالسهم في الدنيا، كما أن بين أهل النار خصومة ومحاجة، فالله ذكر أهل النار وذكر خصومتهم ومحاجتهم فقال: قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ * قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ * وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ * إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [ص:61-64] .
ويكون بين أهل الجنة لقاءات وتزاور، قال الله جل وعلا عنهم: وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ [الصافات:27] أي: يتذاكرون مجالسهم في الدنيا، قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ * فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ [الطور:26-27] .
ومن كان له قرين في الدنيا يحاول أن يغويه من أهل الكفر أو الفسق ويظله ثم يمن الله عليه بالثبات على الهداية، يتذكر وهو في الجنة ذلك القرين، قال الله جل وعلا: فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ [الصافات:50-51] أي: من أهل الجنة، إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ * أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ [الصافات:51-53] فيطلع ذلك المؤمن على أهل النار: قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ [الصافات:54]، فاطلع فيراه في سواء الجحيم، فلما يراه على تلك الحال يتذكر نعمة الله جل وعلا عليه من الثبات على الهداية، قال الله جل وعلا بعدها: لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ [الصافات:61] .
وما زلنا وإياكم في دار عمل، وما زالت أرواحنا في أجسادنا، وهذه بعض مما ذكره الله جل وعلا في كتابه وعلى لسان رسوله من جنات النعيم.
فنسأل الله الذي رزقنا الإسلام من غير أن نسأله ألا يحرمنا الجنة وقد سألناه إياها.
اللهم إنك أنت الله لا إله إلا أنت الواحد الأحد، الفرد الصمد، الحي القيوم، الذي لم يلد ولم يولد، ولا تواري عنك أرض أرضاً، ولا سماء سماء، ولا يُخفي عليك جبل ما في وعره، ولا بحر ما في قعره، تعلم ما كان وما سيكون وما هو كائن، لا يخفى عليك شيء من أعمالنا، نسألك اللهم أن تعيذنا من ذل الفضيحة يوم العرض عليك، اللهم أعذنا من ذل الفضيحة يوم العرض عليك، اللهم إن لنا ذنوباً سترتها علينا في الدنيا فأدم يا الله سترها علينا يوم نلقاك، وأدم اللهم علينا عفوك ومغفرتك، وأدخلنا اللهم جناتك مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر