إسلام ويب

أيام في حياة الرسول صلى الله عليه وسلمللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • سيرة حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم مليئة بالعظات والعبر، كاملة محاسنها، مستفيضة أخبارها، ينبغي على كل مسلم أن يتمعن في سيرة هذا النبي العظيم، فبها تستنير القلوب، وتصفو النفوس، وتعلو الهمم، فهو الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.

    بشارة الأنبياء عليهم السلام بقرب بعثته صلى الله عليه وسلم

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شعار ودثار ولواء أهل التقوى، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، نبي سلم الحجر عليه، ونبع الماء من أصبعيه، وحن الجذع إليه، فصلى الله وسلم وبارك وأنعم عليه، اللهم وعلى آله وأصحابه، وعلى سائر من اقتفى أثره، واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أيها الإخوة المؤمنون! فإن المتصدر لتدريس شخصية ما، وذكر أحوالها ومناقبها، وما آلت إليه، وما قدمته للناس، يجعل النقد أول معاييره حتى يضع الناس على بينة من أمرهم في الصواب والخطأ، والهداية والضلالة، والسداد وعدم التوفيق، لكن الذي يريد أن يتحدث عن سيد الأنبياء وإمام الأتقياء سيدنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فليس عليه إلا أن يطأطئ رأسه، ويخشع قلبه وتسكن جوارحه؛ لأنه يتحدث عن رحمة مهداة، ونعمة مسداة، عن سيد البشر، وخيرة خلق الله وصفوته، عن رسول الهدى، ونبي الرحمة صلوات الله وسلامه عليه، وينبغي أن يعلم في أول الأمر أن السيرة واحدة لا تزيد ولا تنقص، فلا يستطيع أحد أن يزيد شيئاً لم يثبت فيها، ولا يستطيع أحد أن ينقص شيئاً مما ثبت فيها، لكن المسلمين في استسقائهم من سيرته صلى الله عليه وسلم تختلف مواردهم ومناهلهم ومصادرهم، فمن سيرته صلى الله عليه وسلم يستسقي الواعظون، وينهل القادة، ويغترف الساسة، ويتعلم العلماء، ويبحث الفقهاء، ويجد كل امرئ له حظاً من سيرته صلوات الله وسلامه عليه، والأمر كما قيل:

    وكلهم من رسول الله ملتمس غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم

    صلوات الله وسلامه عليه، ثم إنني قلبت الأمور في الوجه الذي أريد أن تخرج به هذه المحاضرة على النحو الأتم، والوجه الأكمل، على ما يسعى الإنسان أن ينال به رضوان الله، ثم نفع إخوانه المسلمين، فبدا لي -والإنسان ناقص مهما سعى إلى الكمال- أن عرض السيرة إجمالاً من الميلاد إلى الوفاة، والوقوف بعد ذلك عند الفوائد والعظات والعبر، أقرب طريق إلى فقه سيرة رسولنا صلى الله عليه وسلم على الوجه الأكمل، والنحو الأتم.

    ونبينا صلى الله عليه وسلم نال الحفاوة كاملة، والاحتفاء التام من ربه جل وعلا، وحفاوة الله بأنبيائه سنة ماضية قال الله جل وعلا في حق نبيه إبراهيم: قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم:47]، وقال جل وعلا في حق موسى: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، وقد نال رسولنا صلى الله عليه وسلم أكمل حفاوة وأتمها من قبل ربه جل وعلا، فلقد مهد الله جل وعلا لذلك من قبل، يقول صلوات الله وسلامه عليه: (إني عند الله لخاتم النيين، وإن آدم لمجندل في طينته).

    ثم لما بعث الأنبياء وبعث المرسلون صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أخذ الله جل وعلا العهد والميثاق أنه إذا بعث رسولنا صلى الله عليه وسلم وهم أحياء يرزقون أن يصدقوه ويؤمنوا به: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [آل عمران:81].

    ثم كانت دعوة أبيه إبراهيم عندما وقف عند البيت: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [البقرة:129]، ثم كانت بشارة عيسى: وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ [الصف:6].

    ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة أخي عيسى، ورؤيا أمي حين رأت أن نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام)، وقال صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي وحسنه: أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، خلق الله الخلق فجعلني في خير فرقة، ثم قسمهم فرقتين فجعلني في خيرهم فرقة، ثم جعلهم قبائل فجعلني في خيرهم قبيلة، ثم جعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً، فأنا خيرهم بيتاً وخيرهم نفساً). صلوات الله وسلامه عليه.

    هذا كله قبل ولادته صلوات الله وسلامه عليه، فلما أراد الله جل وعلا له أن يولد في العام الذي ولد فيه صلوات الله وسلامه عليه كان في ذلك العام إرهاصات وأحداث عظام تدل على أن شيئاً ما سيقع، وأن حدثاً عظيماً سيكون، فكانت ولادته صلى الله عليه وسلم في نفس العام الذي غزى فيه أبرهة بيت الله العتيق، وعاد من ذلك الغزو خاسراً خائباً كما هو معروف لكل أحد.

    مولده صلى الله عليه وسلم

    ولد صلى الله عليه وسلم لأب اختلف العلماء: هل مات قبل ولادته أو بعده؟ والأرجح: الأول، ثم إن الله جل وعلا أراد أن يبين لسائر الناس أن محمد بن عبد الله لم يكن يوماً تلميذاً لشيخ، ولا طالباً في مدرسة، ولا ربيباً لأبوين، وإنما تولته عناية الله في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، ثم بعد ولادته إلى يوم وفاته صلى الله عليه وسلم، فتوفيت أمه وهو صغير لم يبلغ ستاً من الأعوام، وعاش طفولته الأولى بعيداً عن أسرته في بادية بني سعد، حتى لا يقولن أحد بعد ذلك: إن رجلاً أو شخصية ما تولت رعايته، وكونت شخصيته، وألهمته الدروس، وأعطته العبر، وعلمته الكتاب: وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:48-49].

    إرهاصات قبل البعثة النبوية

    فكل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من ربه كان عناية إلهية وفضلاً ربانياً محضاً، ليس لأحد من البشر كائناً من كان فيه حظاً ولا نصيب.

    عاش صلى الله عليه وسلم بعيداً عن أسرته ثم عاد إلى مكة فكفله جده عبد المطلب ، ثم ما لبث أن توفي ذلك الجد، ثم كفله عمه أبو طالب ، ولم يكن دور أبي طالب أكثر من راع معيشي له صلوات الله وسلامه عليه، فلم يكن لدى أبي طالب حظ من علم، أو أثرة من كتاب، يسقي من خلالها رسولنا صلى الله عليه وسلم، حتى تكونت شخصيته فنشأ بعيداً عما فيه قومه.

    وكذلك العاقل إذا رأى مجتمعات الفساد، وأودية الضلال، ومنتجعات الغواية، نأى بنفسه عنها، ولو عاش وحيداً، قال الله جل وعلا: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [مريم:49].

    فالبعد عن أهل الغواية والفساد والشرور والآثام أول طرائق الفلاح والنجاح، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن بعيداً عن محافل الخير، فقد شهد حلف الفضول، وشهد غير ذلك من مآثر قومه في الجاهلية، ثم بدأت إرهاصات البعثة تدريجياً شيئاً فشيئاً من غير أن يعلم صلوات الله وسلامه عليه، فلم يحدث نفسه ذات يوم أنه سيكون نبياً؛ لأنه لا علم له بذلك أصلاً، لكنه عليه الصلاة والسلام كان يرى رؤيا، وكان لا يرى رؤيا إلا وتأتي مثل فلق الصبح حاضرة ناصعة كما رآها في منامه، حتى دنت البعثة فكان يمشي في طرقات مكة فتسلم عليه الحجارة: السلام عليك يا نبي الله! فيلتفت يميناً وشمالاً فلا يرى شخصاً ولا خيالاً، فيسكت ويبقى على حاله.

    نزول جبريل عليه السلام على رسول الله في الغار

    حبب إليه الخلاء فكان يتحنث في غار حراء الليالي ذوات العدد، ثم إنه صلى الله عليه وسلم في ليلة 21 من شهر رمضان على الأرجح لما أتم أربعين عاماً جاءه الملك بالنقلة التاريخية لشخصه، والنقلة التاريخية للكون كله، إذ بعثه الله رحمة للعالمين، رحمة من لدنه كما أخبر جل وعلا، جاءه الملك ولم يكن له صلى الله عليه وسلم عهد بالملك أصلاً فأصابه من الرعب والفزع ما أصابه، قال له الملك: (اقرأ، قال: ما أنا بقارئ)، أي: لا أجيد القراءة أصلاً، (فردد الملك: اقرأ! ورسول الله باق على جوابه: ما أنا بقارئ)، فضمه الملك ثم تركه، ويضمه ثم يتركه حتى يشعره في تلك اللحظات أن هذا الحديث خارج عن حديث أهل مكة، فليست تلك رؤيا يراها أو حديثاً في نفسه يريد أن يتأكد منه، فكان الملك يضمه ثم يتركه حتى يبين له أن هذه ظاهرة منفكة عن حديث مكة، منفكة عن رؤى الأحلام، منفكة عن أحلام اليقظة.

    ثم قال له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ [العلق:1-5].

    هكذا فلتكن زوجات الصالحين

    نزل صلى الله عليه وسلم خائفاً وجلاً إلى زوجته خديجة ، وكان قد ترك النبي صلى الله عليه وسلم عندها أبناءه وبناته فلم تحدثه بما صنع الأولاد، ولا ماذا أصاب البنات، لم تحدثه عن الجوع الذي قاسته، وإنما همومها في جانب همه صلى الله عليه وسلم، آوته إلى صدرها، وضمته إليها، ثم قال لها: (لقد خشيت على نفسي)، فطمأنته رضي الله عنها وأرضاها وجعل الجنة دارها ومثواها، قالت: والله لن يخزيك الله أبداً، ثم عددت مناقبه: إنك لتطعم الفقير، وتعين على نوائب الدهر، وتقول الصدق، وأخذت تسرد له مناقبه وفواضله صلى الله عليه وسلم، فقدمت بذلك أنموذجاً لما ينبغي أن تكون عليه المرأة مع زوجها.

    إن كثيراً من الناس قد يأتي إليك محمولاً بالهموم مثقلاً بالخطايا فليس من الصواب أن تسرد عليه همومك أنت وترده خائباً، لكن ينبغي أن تنسى همومك في جانب همه إذا أردت له النفع والفائدة، ثم أخذته بيده إلى ورقة بن نوفل ابن عمها وكان رجلاً له حظ من علم وأثرة من كتاب، فقال له: ذلك الناموس الذي كان يأتي موسى، فاشتاق صلى الله عليه وسلم إلى الوحي؛ لأنه سمع القرآن لكن الوحي انقطع ولم يأت حتى يذهب الرعب، ويبقى الشوق إلى كلام الله جل وعلا، كيفية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم تلك اللحظات، قال أكثر أهل العلم: إنها بقيت ستة أشهر وهي مرحلة فتور الوحي، أصاب النبي صلى الله عليه وسلم فيها من الحزن ما الله به عليم، حتى نقل الحافظ في الفتح عن الزهري : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ربما يصعد إلى شواهق الجبال يريد أن يتردى منها مما أصابه من حزن ومن شك في النفس عن الحادثة الأولى، لكن بعض المحدثين من العلماء يقولون: إن هذه الرواية على هيئة بلاغ وهي لا تصح وتنافي عصمة الأنبياء والله تعالى أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089188713

    عدد مرات الحفظ

    782570647