إسلام ويب

من نبأ المرسلينللشيخ : صالح بن عواد المغامسي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أنبياء الله ورسله هم أتقى الناس وأخشاهم لله تعالى، وكانوا أكمل العباد في إيمانهم وعبادتهم وأخلاقهم وجميع أحوالهم، لذا فهم القدوة الحسنة، والأسوة المثلى لمن أراد السلامة والنجاة، والعلو والسمو، والنجاح والفلاح في الدنيا وفي الأخرى.
    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، خلق آدم بيده، وأسجد له ملائكته، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً.

    وأشهد أن لا اله إلا الله وحد لا شريك له، أفاض على عباده النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأودع الكتاب الذي كتبه: أن رحمته تغلب غضبه، وأشهد أن محمد عبده ورسوله، نبي ما ترك خيراً إلا ودل أمته عليه، ولا شراً إلا وحذر أمته منه، ولا طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا وآتاه منه علماً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة حتى تركها على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.

    خير من صلى وصام وأفطر، اللهم صلّ وسلم وبارك وأنعم عليه ما لاح برق وأمطر، اللهم وعلى آله وأصحابه أئمة الدين ومصابيح الهدى ومنارات الدجى، اللهم وعلى من تبعهم بإحسان وعلى طريقهم اقتفى إلى يوم الدين.

    أما بعد:

    أيها الإخوة المؤمنون! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    من مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المدينة التي أرادها الله أن تكون مأوىً ومثوىً لخير خلقه وصفوة رسله، من المدينة التي وصف الله أهلها بقوله: وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ [الحشر:9]، من المدينة التي صعد النبي صلى الله عليه وسلم منبرها وقال: (هذه طابة هذه طابة)، من مدينة خير الخلائق، من مدينة مَن أوضح الله به الطرائق قدمنا إليكم أيها المؤمنون! في مدينة جدة.

    نقول هذا غير ممتنين به عليكم ولا على أحد، بل لله العظيم الحليم وحده المنة والفضل، ولكننا نقول من باب التشرف بالمدينة التي قدمنا منها، ومن باب الفرح بالوجوه الطيبة التي قدمنا إليها، وأي ساعة أجمل من لقاء الأحبة! وتدارس صريح الكتاب وصحيح السنة!

    أيها المؤمنون! في هذه الليلة الطيبة المباركة وتحت العنوان الذي أُعلن تكون هذه المحاضرة بعنوان: (من نبأ المرسلين)، فإنه من باب التأصيل العلمي، وحتى نكون جميعاً على بينة فيما يقال فإن الحديث سيكون على جزأين:

    الأول: في ذكر بعض الحقائق العلمية عن رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

    والأمر الثاني: فيما يمكن أن نستقيه ونستفيده وندرسه من دروس وعبر من سيرة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بلا استثناء.

    أما الجزء الأول: فإن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم وأهبطه إلى الأرض بعد الذي كان منه، وتاب عليه ربه وهدى، كان الناس ملة واحدة يعبدون الله وحده ولا يشركون به، ثم اجتالتهم الشياطين وانحرفت بهم عن طريق الحق، فتفرقوا أمماً وشيعاً، وأضحوا على عبادة الأوثان ومحاربة دين الرحمن، فكانت حكمة الله البالغة ورحمته بالعباد أن أرسل الرسل، قال الله جل وعلا: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213]، فكانوا على أمة واحدة -أي: على ملة واحدة- فكان أول رسل الله نوح عليه الصلاة والسلام.

    الفرق بين النبي والرسول

    وقد اختلف أهل العلم في التفريق بين النبي والرسول:

    فذهب جمع منهم إلى أن النبي: من أوحي إليه بوحي ولم يؤمر بتبليغه، والرسول: من أوحي إليه بأمر أو بوحي وأمر بتبليغه، وهذا وإن قاله جمع من العلماء رحمة الله تعالى عليهم سلفاً وخلفاً إلا أنه قد يكون بعيداً من الصواب، ولعل الصواب أن يقال: إن النبي هو من أوحي إليه ليقرر شريعة من قبله، وأما الرسول: فهو من أوحي إليه بوحي جديد على غير شريعة من قبله، وإن كان الأنبياء والمرسلون مجتمعين على لب الدعوة وهي الدعوة إلى توحيد الله جل وعلا وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25].

    الأنبياء والرسل كلهم من البشر

    والله جل وعلا اقتضت حكمته أن يكون رسله بشراً، قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ [فصلت:6]، وكون أنبياء الله بشراً يقتضي أموراً عدة: يقتضي أن يعتريهم ما يعتري البشر، فهم يصحون ويسقمون، ويأكلون ويشربون، قال الله جل وعلا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام: قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ * الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء:75-80].

    وقال الله جل وعلا عن عيسى ابن مريم: وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ [المائدة:75].

    ومقتضى بشريتهم أيضاً أنهم يعملون ويشتغلون فيما جرت عادة البشر أن يعملوا فيه، فقد رُوي عنه صلى الله عليه وسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نجني الكباث -نوع من الثمر-، فقال لنا صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالأسود منه؛ فانه أطيبه، فقلنا: يا رسول الله كأنك كنت ترعى الغنم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: وهل من نبي إلا وقد رعاها).

    فجميع أنبياء الله ورسله رعوا الأغنام فهذا يقتضي ويدلل على أنهم كانوا بشراً، وكلنا يعلم أن كليم الله موسى عليه السلام عمل أجيراً عند العبد الصالح على عفة فرجه وإشباع بطنه عشر سنين، ثمانية اتفاقاً وعشراً وفاء، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27]، فهذا مقتضى بشريته.

    الأمور التي يميز بها الأنبياء عن سائر الناس

    ومع كونهم بشراً إلا أن الله تبارك وتعالى ميز هؤلاء البشر -أي: الرسل- ميزهم بأمور تختلف عن غيرهم من البشر، أي: لا يمكن أن تكون في بشر سواهم، وإن كان لابد من القول أنه وإن ميزهم الله بأمور سيأتي ذكرها إلا أن هذا التمييز لا يخرجهم عن كونهم بشراً، ولا يعطيهم من صفات الألوهية ولا الربوبية شيئاً، فهم كما أخبر الله جل وعلا: قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف:110].

    ومما ميز الله جلا وعلا به أنبياءه ورسله وحيه تبارك وتعالى إليهم، فوحي الله جل وعلا إلى أنبيائه ورسله هو الفرق بين جهد الأنبياء والمرسلين وبين جهد المصلحين من غير المرسلين، فإن رسل الله لا يعتري قولهم خطأ ولا كذب ولا افتراء، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].

    أما جهد المصلحين والأخيار على مرّ الدهور فإنه لا يمكن أن يسلم من الخطأ؛ لأنهم وإن كانوا مأجورين على ما فعلوه وعلى ما اجتهدوه إلا أن اجتهادهم قد يكون خطأ، وأما أنبياء الله ورسله فهم معصومون في التبليغ عن الله تبارك وتعالى.

    صفات وحي الله تعالى إلى أنبيائه ورسله

    فوحي الله جل وعلا إليهم له صفات ثلاث، قال الله جل وعلا: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ [الشورى:51]، فقول الله جل وعلا: إِلَّا وَحْيًا أي: ينفث في روع ذلك النبي ما لا يشك النبي في أنه من عند الله جل وعلا، كما روى ابن حبان في صحيحه قوله صلى الله عليه وسلم: (إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فهذا مما نفث في روعه صلى الله عليه وسلم أن هذا وحي من عند الله جل وعلا.

    والهيئة الثانية في الوحي: أن يكلم الله جل وعلا ذلك النبي من وراء حجاب، كما أخبر الله بصريح القرآن: أنه كلم نبيه موسى، قال الله جل وعلا: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وكلم الله كذلك آدم عليه السلام، فإن نبينا صلى الله عليه وسلم لما سئل عن آدم أنبي هو؟ قال: نعم نبي مكلم، وكلم الله جل وعلا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم في ليلة الإسراء والمعراج.

    الهيئة الثالثة التي يكون عليها الوحي: أن يكون بواسطة الملك، فالملك يأتي بالوحي من السماء فيخبره ذلك النبي، وغالب من يقوم بهذه المهمة هو جبرائيل عليه الصلاة والسلام، قال الله جل وعلا: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:193-195]، فهذا وحي الله تبارك وتعالى إلى رسله وهو الأمر الأول والأعظم الذي ميز الله به الرسل عن سواهم من البشر.

    من خصوصيات الأنبياء أنهم تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم

    المزية الثانية: أن هؤلاء النبيين والمرسلين تنام أعينهم لكن قلوبهم لا تنام، كما روى البخاري في صحيحه من حديث أنس عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ونحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا)، ولما قدمت اليهود على النبي صلى الله عليه وسلم وسألوه عن أمور خمسة قالوا في أولها: (يا أبا القاسم! ما علامة النبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تنام عينه ولا ينام قلبه).

    من خصوصيات الأنبياء أنهم يخيرون عند الموت

    الأمر الثالث الذي ميز الله به رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين: أنهم يخيرون عند الموت، فإذا دنا منهم ملك الموت ليقبض روحهم خيرهم بين الحياة والموت، فيختارون لقاء الله؛ إيثاراً لما عند الله على ما في الحياة الدنيا، ومعلوم قصة موسى والملك لما جاءه وفقأ موسى عينه، وذلك لما خيره بين الحياة والموت.

    ونبينا صلى الله عليه وسلم -وهو صفوة الرسل وذروتهم عليه الصلاة والسلام- معلوم أنه ردد عند موته كما روى الأئمة الثقات في كتب الأحاديث أنه كان يقول: (بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى)، حتى روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت وهي تحكي قصة وفاته صلى الله عليه وسلم قالت: (فأخذته بحة شديدة ثم سمعته يقول: مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً)، قالت أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها: (فعلمت عندها أنه كان يخير بين الحياة وبين الموت).

    والأثر الذي جاء عنه صلى الله عليه وسلم: أنه في آخر حياته لما شعر بدنو أجله بعد عودته صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع كان عليه الصلاة والسلام يكثر من الذهاب إلى البقيع -مقبرة أهل المدينة- فقام ساعة من الليل ومعه مولاه أبو مويهبة فذهب إلى أهل البقيع ودعا لهم واستغفر لهم، وقال: (ليهنكم ما أنتم فيه مما أصبح الناس فيه، أضحت الفتن كقطع الليل المظلم، ثم قال: يا أبا مويهبة ! إنني خيرت ما بين الخلد في الدنيا ثم الجنة، فقال له أبو مويهبة رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي فاختر الخلد في الدنيا ثم الجنة، قال: لا يا أبا مويهبة إنني اخترت لقاء ربي ثم الجنة) صلوات الله وسلامه عليه، فموضع الشاهد منه: أن الأنبياء يخيرون عليهم الصلاة والسلام عند موتهم بين الحياة والموت.

    من خصوصيات الأنبياء أنهم يقبرون حيث يموتون

    كذلك من الأمور التي تفرد بها هؤلاء المرسلون عن سواهم من البشر: أنهم يقبرون حيث يموتون؛ ولذلك فأصحاب نبينا صلى الله عليه وسلم دفنوه عليه الصلاة والسلام في حجرة عائشة ، أي: في المكان الذي مات فيه، بناءً على ما رواه أبو بكر رضي الله تعالى عنه، حيث قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من نبي يموت إلا ويقبر في موضعه -أي: في مكان موته)، ولذلك أجمع الصحابة رضوان الله تعالى عليهم على دفنه صلى الله عليه وسلم في حجرة عائشة كما هو معلوم.

    من خصوصيات الأنبياء والرسل عدم أكل الأرض لأجسادهم

    كذلك مما خص الله به أنبياءه ورسله أن الأرض لا تأكل أجسادهم؛ إكراماً من الله تبارك وتعالى لهؤلاء النبيين وأولئك المرسلين، فقد روى أبو داود والنسائي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء)، وصححه الحافظ وابن خزيمة رحمة الله تبارك وتعالى على الجميع، وهذا من إكرام الله لأولئك الصفوة من النبيين والمرسلين.

    ومما يستأنس به في هذا الخبر: أن الإمام الحاكم روى في المستدرك: (أن موسى عليه الصلاة والسلام لما أراد أن يسري بقومه من أرض مصر ضل الطريق، فقال للملأ من بني إسرائيل: ما هذا؟ فأخبره علماء بني إسرائيل أن يوسف عليه السلام قد أخذ عليهم العهد والميثاق أنهم إذا خرجوا من أرض مصر أن يحملوا عظامه معهم -وعظامه هنا من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل-، فقال: وأين قبره؟ قالوا: لا يعلم قبره إلا عجوز في بني إسرائيل، فقال: دلوني عليها، فأتوا بها بين يديه، فقال لها أين قبر يوسف؟ قالت: لا أدلك على قبر يوسف حتى تأتيني شرطي أو حكمي؟ قال: وما حكمك؟ قالت: أن أكون معك في الجنة، فكأن موسى استثقل هذا في أول الأمر ثم قال لها: لك حكمك، فدلته على بحيرة وأمرتهم أن يجففوها، ثم حفروا فإذا بعظام يوسف عليه السلام -أي: جسده كاملاً-، فحملوه معهم قال صلى الله عليه وسلم: فإذا الطريق مثل فلق الصبح أو مثل ضوء النهار يسترشد به).

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3089199266

    عدد مرات الحفظ

    782709409