إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
قبل أن ندرس قضية العصر، أو موضة العصر؛ العذر بالجهل، والتي تطرح بين وقت وآخر، وتتعرض للخوض الكثير فيها، ونرجو -إن شاء الله- أن نتكلم فيها بمزيد تفصيل، ثم لا نفتحها بعد ذلك ولا نحتاج إلى ذلك بإذن الله، لكن قبل الكلام على قضية العذر بالجهل، نلاحظ في من يكتبون أو يتكلمون في قضايا العذر بالجهل: إما أنهم يخلطون بين أمرين حتى في الأدلة يناقشونها: بين الكافر الذي لم يدخل أصلاً في الإسلام، وبين المسلم الذي ثبت له عقد الإسلام، فتجد بعض الناس تستدل بأدلة هي في حق المشركين الذين لم يدخلوا أصلاً في الإسلام، فمثلاً قوله تبارك وتعالى: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172] * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ [الأعراف:173] إلى آخر الآية في سورة الأعراف، هذه في حق المشركين.
كذلك أيضاً في الطرف الآخر بعض الناس يستدل بقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، هذه أيضاً تحمل على غير معناها.
الشاهد: أن بعض الناس يخلطون في الأمور بين هذين الطرفين، فرق بين من استكبر أن يقول لا إله إلا الله، واستكبر أن يدخل في دين الإسلام، وكفر ولم يؤمن بالله ولا بالرسول ولا بالقرآن، ولا دخل في الإسلام، وبين من دخل في الإسلام، ثم خالف أو وقع في شيء يناقض عقيدة التوحيد، ويناقض عقيدة الإسلام دون أن يعرف أن هذا يناقض الإسلام، أو دون أن تبلغه الحجة الرسالية، فرق كبير بين الطرفين، وسنزيد ذلك بياناً إن شاء الله فيما بعد.
مما يتعلق بقضية العذر بالجهل: قضية أهل الفترة، وكثير ممن يناقشون: هل معرفة الله تدرك بالعقل، أم تدرك بالشرع؟ نعرف -والله أعلم- أن هذه الأشياء تدرك عن طريق التلقي بالوحي لا عن طريق العقل، بل إن الله تبارك وتعالى رغم أنه فطرنا على فطرة الإسلام، وأنزل إلينا الكتب، وبث آياته في الآفاق وفي أنفسنا، لكن الله تبارك وتعالى تفضل وامتن على عباده بأنه لن يعذب أحداً حتى تبلغه حجة الرسل.
فإذاً الحجة تقوم بالأنبياء والمرسلين، وبنصوص الوحي، ولذلك قال عز وجل: (( وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا )) ، فتأتي بعض الأدلة مثل حديث الرجل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أين أبي ؟ قال: في النار، فولى الرجل، فقال له النبي عليه السلام بعد ذلك: إن أبي وأباك في النار} .
فنجد أن ناساً يقولون: إن هذا دليل على أن هؤلاء كانوا في النار؛ رغم أنهم كانوا في أهل الفترة، لكن مع ذلك عذبوا.
إذاً: النقاش فيها سيطول قليلاً -إن شاء الله- فنوضح هذه القضية؛ لأن لها علاقة بما نحن بصدده.
الفترة في اللغة هي السكون والضعف، تقول: فتر الشيء، يعني: سكن بعد حدة، ولان بعد شدة، وتقول: أفتره الداء: أي أضعفه، والفترة: فعلة من فتر الأمر يفتر أو يفتر فتوراً، وذلك إذا هدأ أو سكن، وفي الحديث: {ثم فتر الوحي}، أي: انقطع وسكن.
أما اصطلاحاً فهي: ما كان بين كل نبيين، كانقطاع الرسالة بين عيسى عليه السلام، ومحمد عليه الصلاة والسلام، وكالفترة بين نوح وإدريس عليهما السلام، وقيل: هي ما كانت بين رسولين، فلم يرسل فيها إلى الناس الرسول الأول، ثم لم يدركوا الرسول الثاني، فهذه فترة.
وقال الألوسي رحمه الله: أجمع المفسرون على أن الفترة هي الانقطاع ما بين رسولين، قال الله تعالى: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ [المائدة:19]، وفي الصحيح: {أن الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ستمائة سنة} ، هذا في البخاري ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {أنا أولى الناس بابن مريم، والأنبياء أولاد علات ليس بيني وبينه نبي} ، رواه البخاري ، العلات: الضرائر، كما جاء في الحديث الآخر: {نحن معشر الأنبياء إخوة لعلات، ديننا واحد، وأمهاتنا شتى}، (ديننا واحد) العقيدة، لكن الشرائع تختلف، الحلال والحرام، نظم الطلاق، الزواج، البيوع، الأمور العامة تتفاوت، الشرائع تتغير وتنسخ، لكن العقيدة واحدة من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء كلهم جاءوا ليدعوا إلى الإسلام، (وأمهاتهم شتى): هي الشرائع والأحكام في الحلال والحرام، والأمور العملية، ثم يقول عليه الصلاة والسلام: {ليس بيني وبينه نبي}، فهذا لفظ واضح وصريح في أنه لم يكن هناك نبي بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، خلافاً لبعض الأحاديث الضعيفة التي فيها إثبات نبي من الأنبياء ضيعه قومه، فهذا الحديث صريح في ذلك، وهو أصح: {ليس بيني وبينه نبي} .
ثم بعد ذلك: من هم أهل الفترة؟ وما أحكامهم؟
هل أهل الفترة يكلفون أم لا يكلفون؟
المكلف في الاصطلاح: هو الشخص الذي تعلق حكم الشارع بفعله، وشرط هذا المكلف أن يكون قادراً على فهم الدليل؛ لأن التكليف خطاب الله متعلق بأفعال المكلفين، وخطاب من لا عقل ولا فهم له محال، والقدرة على الفهم إنما تكون بالعقل؛ لأن العقل هو أداة الفهم والإدراك، وبه يمكن الامتثال، ولما كان العقل من الأمور الخفية، وليس شيئاً محسوس نراه، وإذا رأيناه نقول هذا عاقل، فهو أمر خفي غير محسوس، فربط الشرع التكاليف بأمر ظاهر منضبط يدرك بالحس وهو البلوغ، بأن يكون عاقلاً ويعرف ذلك بما يصدر عنه من الأقوال والأفعال بحسب المألوف من الناس، فمن بلغ الحلم، ولم يظهر خلل في قواه العقلية والفعلية والقولية صار مكلفاً، أيضاً يشترط للمكلف أن يكون أهلاً للتكليف.
والأهلية : هي الصلاحية لوجوب الحقوق المشروعة له أو عليه، قال الله تعالى: (( وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا ))، والأهلية تتحقق بالعقل والفهم، من هذه الشروط: أن يكون المكلف عالماً بما كلف به، أو متمكناً من العلم، ليستطيع الفعل والترك؛ لأن التكليف بالمستحيل وبما لا يقدر عليه المكلف محال.
ينقسم أهل الفترة إلى قسمين: قسم بلغته الدعوة، وقسم لم تبلغه الدعوة، فمن بلغته الدعوة من أهل الفترة قسمان: قسم بلغته الدعوة وأشرك بالله، وقسم وحد ولم يشرك بالله.
ابتداءً قدمنا أن أهل الفترة هم الذين يعيشون في فترة انقطاع الرسالة بين نبيين، فلا أرسل إليهم النبي الأول، ولا أدركوا النبي الثاني، لكن هؤلاء بلغتهم الدعوة بصورة أو بأخرى، كالمشركين الذين سمعوا أو علموا شيئاً من دين إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، فقسم واحد من هؤلاء الذين عاشوا في هذه الفترة لم يشرك، إما بفطرته وإما بالاطلاع على بقايا من دين السابقين.
والقسم الثاني: قسم لم تبلغه الدعوة ولكنه غَير وأشرك مع الله، فهذان قسمان ممن بلغته الدعوة من أهل الفترة، هناك قسم آخر من أهل الفترة لم تبلغه الدعوة، وبقي على حين غفلة، هؤلاء تنازع العلماء فيهم على أقوال، بعض العلماء يقول: إن الواحد من هؤلاء يموت ناجياً، والقول الثاني: أنه يكون في النار، والثالث: يمتحن بنار في عرصات القيامة.
أما عن القسم الأول وهم من بلغته الدعوة، ووحد ولم يشرك، كـقس بن ساعدة الإيادي ، أحد حكماء العرب، ومن كبار خطبائهم، كان قس يسكن نجران، ويقال: إنه أول عربي خطب على سيف أو عصا، وهو أول من قال في كلامه: أما بعد. أدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وسئل عنه بعد البعثة، فقال: {يحشر أمة وحده} ، توفي سنة ثلاثة وعشرين قبل الهجرة، أي: أنه لم يدرك بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا قرأتم كلام قس بن ساعدة الإيادي كما حكاه ابن كثير في البداية والنهاية في الجزء الثاني، تجدون توحيداً كثيراً جداً في كلامه، وله خطبة مشهورة من كلماتها: (أقسم قس قسماً لا ريب فيه، أن لله ديناً هو أرضى لكم من دينكم)، فكان يخطب في المشركين ويقول لهم هكذا.
كذلك من هؤلاء الذين هم من أهل الفترة الذين بلغتهم الدعوة، ووحدوا ولم يشركوا: زيد بن عمرو بن نفيل ، وهو أحد حكماء العرب، كان يكره عبادة الأوثان، رحل إلى الشام باحثاً عن دين، ثم عاد إلى مكة ليعبد الله على دين إبراهيم عليه السلام، كان عدواً لدوداً لوأد البنات، وهو والد سعيد بن زيد الصحابي الجليل رضي الله عنه، وكان زيد بن عمرو بن نفيل يقول: اللهم إني لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك، ولكني لا أعلم، ثم يسجد على راحلته، أي: لو أعرف كيف أعبدك وما هي الطريقة التي يمكن أن أعبدك بها، وتكون محبوبة إليك، بل هي أحب الوجوه إليك لفعلتها، لكن لا يعرف، لذا فإن العبادات إنما تعرف عن طريق الوحي، ثم الشيء الذي كان يستطيع أن يفعله هو أن يسجد على راحلته لله تبارك وتعالى، وكان يقول أيضاً:
أرباً واحداً أم ألف رب أدين إذا تقسمت الأمور
وقد أدركه النبي صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه، وكان يتحنث في غار حراء، وكان لا يأكل مما ذبح على النصب، فذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة فقال: {غفر الله له ورحمه، فإنه مات على دين إبراهيم}، هذا النوع ليس محلاً للنزاع؛ لأن النصوص الواردة تدل على أن هناك من ماتوا على التوحيد.
النوع الثاني من أهل الفترة: الذي بلغته الدعوة، ولكنه أشرك وغَير ولم يوحد، وأمثلتهم كثيرة منهم: عمرو بن لحي بن عامر الأسدي ، وهو أول من غير في دين إسماعيل عليه السلام، قدم الشام فوجد أهلها يعبدون الأصنام، فأعجب بها، فأخذ منها وأتى مكة، ودعا الناس إلى عبادتها، وكان آنذاك سيد قومه، فـعمرو بن لحي هو أول من سن عبادة الأصنام؛ فهو الذي بحر البحيرة، وسيب السائبة، ووصل الوصيلة، وحمى الحام، قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت عمرو بن لحي بن خنذف أخا بني كعب هؤلاء يجر قصبه في النار ، أي: يجر أمعاءه في النار، وفي بعض الأحاديث: لأنه أول من سيب السوائب ، وهذا محمول على أنه غير وبدل وأشرك بعد أن بلغته الدعوة.
كذلك أيضاً عبد الله بن جذعان التيمي القرشي ، أحد الأجواد المشهورين في الجاهلية، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة، وكانت له جفنة يأكل منها الطعام القائم والراكب، عن عائشة رضي الله عنها: أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ابن جذعان ؟ فقالت: قلت: يا رسول الله! ابن جذعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذاك نافعه؟ قال: لا، إنه لم يقل يوماً رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين .
من ذلك أيضاً ما ورد في عبد الله بن عبد المطلب أبي النبي صلى الله عليه وسلم، والذي توفي والرسول صلى الله عليه وسلم في بطن أمه، فيما رواه مسلم : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي ؟ قال: في النار، فلما قفا دعاه، فقال له: إن أبي وأباك في النار ، أخرجه مسلم .
كذلك ورد حديث بشأن أم النبي صلى الله عليه وسلم وهي آمنة بنت وهب ، وقد توفيت عنه صلى الله عليه وسلم وهو ابن تسع سنوات، قال عليه الصلاة والسلام: استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي ، أخرجه مسلم، فهذا الحديث يحتمل أنها بلغتها الدعوة، ويحتمل أنها لم تبلغها الدعوة، وهذا النص ليس بصريح؛ لأن النبي نهيَّ عن الاستغفار لها حيث أنها لم تمت على التوحيد، سواء بلغتها الدعوة، أم لم تبلغها. فهذا النوع ليس محلاً للنزاع لورود النصوص التي تفيد بأن الدعوة قد بلغتهم، وذكر بعض العلماء: أن الله أحيا له أبويه، فأسلما على يديه، ثم مات، هذا موجود في رسالة للإمام السيوطي وهذا لا يصح، وقد طبعت هذه الرسالة مؤخراً محققة، لكن لا يصح ذلك أبداً .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى حول هذه الدعوة:لم يصح ذلك عن أهل الحديث، بل أهل العلم متفقون على أن ذلك كذب مختلق، ولو كان صحيحاً لتناقلته كتب الصحاح؛ لأنه من أعظم الأمور خرقاً للعادة، لما فيه من إحياء الموتى والإيمان بعد الموت، وهذا خلاف ما جاء في الكتاب والسنة والإجماع، قال الله تعالى: وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18]؛ فبين الله سبحانه وتعالى أنه لا توبة لمن مات كافراً، وجاء في صحيح مسلم : أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أين أبي؟ فقال: إنه في النار، فلما قفا دعاه فقال: إن أبي وأباك في النار.
يقول شيخ الإسلام : وكذلك حديث الاستغفار، فلو كان الاستغفار جائزاً بحقهما لم ينهه عن ذلك، أي: الاستغفار، فإن الأعمال بالخواتيم، ومن مات مؤمناً فإن الله يغفر له، ولا يكون الاستغفار ممتنعاً، أما زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأمه فإنها كانت بطريقه بالحجون بمكة، أما أبوه فقد دفن بالشام، فكيف أحياه له؟ ولو كان أبواه مؤمنين لكن أحق بالشهرة من عميه الحمزة والعباس والله تعالى أعلم.
هذا هو الكلام في القسم الأول الذي بلغته الدعوة ووحد ولم يشرك بالله، الذي لم تبلغه الدعوة لكنه كان موحداً، من بلغته الدعوة ووحد ولم يشرك كالأمثلة التي ذكرنها، ومن بلغته الدعوة وغير وأشرك كالأمثلة التي ذكرناها أيضاً.
أما القسم الثاني من أقسام أهل الفترة، فهو: من لم تبلغه الدعوة أصلاً، وبقي على حين غفلة وجاهلية، وأكثر أهل الجاهلية هم من هذا النوع، قال الله تعالى: لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ [يس:6] ، والأصل في أهل الجاهلية أنهم كانوا من هذا النوع: من أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة، وبقوا في غفلتهم سادرين، ويقول الله تبارك وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ [السجدة:3] ، وقال تعالى: وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص:46]، فهذا القسم هو محل نزاع بين العلماء، فبعض العلماء حين يناقشون مصير هؤلاء فمنهم من قال: إن من مات ولم تبلغه الدعوة مات ناجياً، ومنهم من قال: من مات ولم تبلغه الدعوة فهو في النار، ومنهم من قال: من مات ولم تبلغه الدعوة فإنه يمتحن بنار في عرصات يوم القيامة.
بعد سرد أدلة الاتجاهات الثلاثة في حكم من لم تبلغه الدعوة أصلاً، وبقي في غفلته سادراً، رجح كثير من المحققين ومن السلف القول الثالث، وهو: أنهم يمتحنون في طرقات يوم القيامة، وهذا الاستدلال لا ينافيه لا ما استدل به الفريق الأول الذي قال: إنهم ناجون، ولا الفريق الثاني الذي قال: إنهم في النار، أما ما استدل به الفريق الأول بما يفيد نفي العذاب عن أهل الفترة، فهذه الأدلة التي تنفي العذاب عن أهل الفترة، لا تدل على أنهم ناجون، ولا تدل على أنهم في الجنة، فيمكن أن تأتلف مع أدلة من قال: بالامتحان، أما أهل الفترة فلا تشملهم هذه النصوص؛ لأن هناك نصوصاً أخرى دلت على أنهم يمتحنون في عرصات القيامة، وهي النصوص التي استدل بها أهل الفريق الثالث.
أما ما استدل به الفريق الثاني من نصوص تفيد أنهم في النار، فيجاب عنها بأن هذه نصوص عامة، وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [النساء:18] ، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [البقرة:161] ، فهذه نصوص عامة ولم تخصص.
أما أهل الفترة الذين لم تبلغهم الدعوة فقد وردت فيهم النصوص التي تخصهم، فيخرجون من هذا العموم، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: فمعلوم أن الحجة تقوم بالقرآن على من بلغه، كقوله تعالى: لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ [الأنعام:19]، فمن بلغه بعض القرآن دون بعض، قامت عليه الحجة لما بلغه من القرآن، دون ما لم يبلغه، فكيف بمن لم يبلغه جميع نصوص الكتاب، فهذا من باب أولى، هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية .
أما حديث: (استأذنت ربي في أن استغفر لأمي) ، وحديث: (إن أبي وأباك في النار) ، فهذه نصوص قد تكون في غير محل النزاع، أو تحمل على أن هؤلاء بالذات الدعوة قد بلغتهم، أما ما نحن فيه فهو قسم آخر غير هذا القسم، وهو القسم الذي لم تبلغه الدعوة أصلاً.
أما استدلال المعتزلة بالعقل، فلا يصح، لأن العقل لا يدرك به التكليف على انفراده، وهذا سنبينه إن شاء الله فيما بعد.
أشرنا أن اختيار أهل التحقيق من كثير من العلماء: أن أهل الفترة يمتحنون، يقول الإمام الحافظ أبو محمد بن حزم رحمه الله تعالى: إن النذارة لا تلزم إلا من بلغته لا من لم تبلغه، وإنه تعالى لا يعذب أحداً حتى يأتيه رسول من عند الله، فصح بذلك أن من لم يبلغه الإسلام أصلاً فإنه لا عذاب عليه، وهكذا جاء النص من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (فيوقد لهم ناراً يقال لهم: ادخلوها، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً).
ويقول الإمام ابن القيم رحمه الله: إن العذاب يستحق بسببين: أحدهما الإعراض عن الحجة، وعدم إرادتها، والعمل بموجبها، والثاني: العناد لها بعد قيامها، وترك إرادة العمل بموجبها، فالأول كفر الإعراض، والثاني: كفر عناد، أما كفر الجهل مع عدم قيام الحجة، وعدم التذكر بمعرفتها، فهذا الذي نفى الله سبحانه وتعالى التعذيب عنه حتى تقوم الحجة بإرسال الرسل.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله: فقد صحت مسألة الامتحان في حق من مات في الفترة والمجنون.
ويقول الشنقيطي رحمه الله : والجمع بين الأدلة واجب ما أمكن بلا خلاف، وإعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما، ولا وجه للجمع إلا بهذا، وهو القول بالعذر والامتحان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر