الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:
في بعض الأحيان توجه أسئلة تكون غاية في الموضوعية والجدية، بخلاف كثير من الأسئلة التي تكون في قضايا هامشية أو قشرية؛ فنتعرض للإجابة على بعض الأسئلة الموضوعية تعميماً للفائدة.
السؤال: متى نشأ مصطلح أهل السنة والجماعة، وما هي أهميته بالنسبة للواقع الذي نعيشه؟
الجواب: أول هذه الأسئلة سؤال عن تنبؤ النبي صلى الله عليه وسلم بفرقة هذه الأمة، وما ذكره من هلاك هذه الفرق جميعاً إلا واحدة وهي الجماعة، وهي التي اصطلحت الأمة على تسميتها بأهل السنة والجماعة، فالسؤال هو عن نشأت مصطلح أهل السنة والجماعة، والمقصود به، وأهميته بالنسبة، يعني: الانطلاقة الدعوية بالنسبة للواقع الذي نعيشه الآن.
أما بالنسبة لزمن نشأت مصطلح أهل السنة والجماعة: فالأصل في التسمي بأهل السنة هو ما ورد من نصوص التي تأمر باتباع السنة، ولزوم الجماعة؛ فمضمون التسمية مأثور في السنة وكلام السلف، فمن ثم نقول: إن بداية هذا المضمون هي في ذلك الوقت الذي هو ليلة القدر في إحدى ليالي شهر رمضان المعظم، الليلة المباركة حينما نزل جبريل عليه السلام يأمر النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً له: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1] * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ [العلق:2]، هذه هي البداية التاريخية لمضمون هذه التسمية؛ فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كثيراً ما أمرنا بلزوم السنة واتباعها والحرص على العض عليها بالنواجذ، وذم الشذوذ عنها ومخالفتها.
أيضاً: ما أكثر النصوص التي جاءت تحث على لزوم الجماعة، فمضمون التسمية موجود منذ بداية هذه الدعوة، فالأصل في التسمي بأهل السنة والجماعة هو ما ورد من النصوص في الوحيين التي تأمر باتباع السنة ولزوم الجماعة، فهذا مأثور في السنة وفي كلام السلف.
أما ظهور المصطلح كمصطلح يدل على فئة معينة فلم يظهر في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكمصطلح يدل على اتجاه عقائدي معين؛ لأن المسلمين لم يحصل بينهم فرقة في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فكانوا جميعاً يضمهم اسم الإسلام، وإن وجد أيضاً فيهم مضمون اتباع السنة والجماعة بكل معانيها، لكن إن صدق ظهور المصطلح بظهور الفرقة حينما ظهر أهل البدع، فتميز أهل السنة بهذا اللقب.
لم تقطع أصول التاريخ الإسلامي بتحديد السنة التي ظهر فيها هذا المصطلح، وإن كان مضمونه هو حقيقة دين الإسلام الذي تلقاه الصحابة رضي الله عنهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم.
فالسؤال عن توقيت أو نشوء هذه التسمية للدلالة على اتجاه معين واعتقاد متميز إنما هو سؤال عن بداية التسمي بهذا الاسم، والتميز به، وليس سؤلاً عن نشأت المسمى الذي هو المذهب وأهله، فمن الخطأ البين الخلط بين هذين الأمرين، وأهل السنة والجماعة ليسوا فرقة ولا طائفة طارئة كسائر الفرق المنشقة عنهم وإنما هم الأصل، فمن العسير أن نحدد لهم بداية نقف عندها كما نفعل مع الفرق النارية التي يتيسر لنا بسهولة تحديد منشئها؛ لأنها شذت وفذت عن الأصل، وارتبط التميز باسم أهل السنة والجماعة بظهور البدع التي أعقبت وقوع الفرقة في الأمة، كما تنبأ بذلك الصادق المصدوق صلى الله عليه وآله وسلم، فلما ظهرت البدع والفرقة التي تحيطها هذه البدع برز هذا اللقب الشريف، ليدل على تمسك أهله بالإسلام المحض الخالص عن الشكوك، فقبل حصول الافتراق لم يحتج المسلمون إلى هذا التمييز، إذ ما كان المسلمون يعرفون التمييز بين السنة والشيعة والخوارج وكذا، فقبل حصول الفرقة لم يحتج المسلمون إلى أن يتميزوا باسم أهل السنة والجماعة، فقد كان الإسلام وأهل الإسلام هم الاسم والمسمى، يقول عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19].
فقال تبارك وتعالى: هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا [الحج:78]، يعني: وفي هذا القرآن، لهذا لما سئل الإمام مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن السنة أجاب: هي ما لا اسم له سوى السنة، وتلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
أقدم انشقاق حصل في صفوف الجماعة الأولى، وأول صدع في وحدة العقيدة، هو حركة الخوارج المارقين الذين تنبأ بهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم في قوله: {تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين يقتلها أولى الطائفتين بالحق}، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكان وقوع ذلك بعد مقتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه، ووقوع فتنة صفين، ثم تلا ذلك ظهور بدع غلاة الشيعة الذين ألهوا علياً رضي الله عنه، وادعوا النص عليه، والسبابة الذين يسبون الشيخين رضي الله عنهما، كذلك المفضلة الذين فضلوا علياً رضي الله عنه عليهما، وقد تصدى لهم جميعاً أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وعاقبهم كلاً بحسبه.
غير أن هذا الابتداع لم يؤثر في بداية الأمر في القاعدة العريضة من المسلمين الملتزمين بالسنة وأهلها، ولم يحتج المسلمون حتى ذلك الوقت إلى التميز؛ لأنهم الأصل الذي انشق عنه المخالفون، والأصل لا يحتاج إلى ما يميزه، إنما الذي يحتاج إلى التمييز الفرع المنشق، الذي سرعان ما يشتهر ببدعته حين يتنكب السبيل.
ولذلك لما سئل إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى عن أهل السنة أجاب: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به، لا جهمي ولا قدري ولا رافضي، فقال محمد بن سيرين . وابن سيرين توفي سنة عشر ومائة من الهجرة، قال رحمه الله: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم، وقال عبد الله بن مصعب للرشيد حينما سأله عمن طعنوا على عثمان رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين! طعن عليه ناس، وكان معه ناس، فأما الذين طعنوا عليه فتفرقوا عنه، وهم أنواع الشيع وأهل البدع وأنواع الخوارج، وأما الذين كانوا معه فهم أهل الجماعة اليوم، فأهل السنة والجماعة هم الامتداد الطبيعي للمسلمين الأوائل الذين فارقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض.
وأهل السنة بين الفرق الإسلامية كالإسلام بين الملل، كما أن الإسلام هو الدين الوسط بين اليهودية والنصرانية وغيرها من الملل، ويتميز أهل السنة والجماعة أيضاً بأنهم دائماً الأمة، أو الفرقة الوسط بين الغلاة والجفاة، وبين المفرطين والمفرطين، فمذهبهم لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، وتجد في كل مسائل العقيدة التي خالف فيها أهل السنة أهل البدع تجد إما فريق يذهب إلى أقصى اليمين، وفريق آخر يذهب إلى أقصى اليسار، ثم هم الأمة الوسط العدول، فهؤلاء كانوا أحق الناس بوقف التطرف؛ لأن التطرف يعني الأخذ بأقصى الأطراف والغلو يميناً أو يساراً، فهؤلاء هم المتطرفون، أما الوسط فهو ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ينبغي أن يكون المقياس في كل شيء، انظر إلى ما جاء به الإسلام؛ فهذا هو الواقع، كل ما قال في الإسلام فهو تطرف لا كما يفعل الزنادقة والملاحدة من العلمانيين وأعداء الدين بإيحاء من أعداء الإسلام حين يصفون الملتزمين بدينهم والمعظمين لسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم بالتطرف حقيقة هم الذين تطرفوا في موالاة الشيطان وأوليائه إلى أبعد الحدود، فصاروا حرباً على الإسلام والمسلمين، فكل من شذ عن طريق رسول الله عليه الصلاة والسلام فهو المتطرف الخبيث الهالك.
أما سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام فهي المحجة البيضاء النقية، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، والذي ينحرف عما جاء به رسول الله هو الهالك، وهو المتطرف المنحرف.
المقصود: أن أهل السنة دائماً متوسطون معتدلون، مذهبهم لا مع هؤلاء الغلاة ولا مع هؤلاء الجفاة، وإنما هم مع كل منهم في ما أصابوا فيه، وفي نفس الوقت برآء من باطل كل منهم، فمذهبهم حق جميع الطوائف بعضه إلى بعض، وبالتالي هذا الحق بريء من كل انحرافات كل هذه الفرق الضالة.
ثم برز الذين اتبعوهم بإحسان منافحين عن السنة، كلما ذر قرن البدعة كلما نبغ المبتدعة وظهرت بدعة جديدة تجد يبرز رموز وعلماء أهل السنة باسم أهل السنة والجماعة للتصدي لهؤلاء المبتدعين، كلما ذر قرن البدعة واستفحل خطر الفرقة، فكانوا يواجهون البدعة بالدعوة إلى السنة، ويجابهون الفرقة بالدعوة إلى الالتزام بالجماعة، هكذا ظهر هذا الاسم وبرز في مقابل الانحرافات التي كانت تأخذ مجراها في التاريخ الإسلامي، وبالذات أيام الاشتباك العقلي مع البدع الوافدة.
فعلى ضوء هذه المقدمة التي نقدمها لهذا السؤال، وهو: متى نشأ هذا المصطلح؟ لا نجد أدنى حرج في أن نرفع عقيدتنا مرددين مع أئمتنا: إن مذهب أهل السنة والجماعة مذهب قديم معروف قبل أن يخلق الله أبا حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وأنه مذهب وطريقة الصحابة رضي الله عنهم.
هذا ينبغي أن يكون راسخاً في أذهاننا وقد ترد على هذا الكلام شبهة، إذ بعض الناس تقول: لماذا يشتهر الإمام أحمد مثلاً بأنه إمام أهل السنة، أو ابن تيمية أو غيرهما من علماء الأمة؟
الجواب: أن اشتهار بعض الأئمة بإمامة أهل السنة كالإمام أحمد رحمه الله تعالى لا يرجع إلى أنه هو مؤسس المذهب؛ لأن السنة كانت موجودة معروفة قبله، ولكن يرجع إلى أنه اشتهر بالدعوة إليها، والصبر على أذى من امتحنه ليفارقها، وكان الأئمة الثلاثة وغيرهم ماتوا قبل المحنة، فلما ظهرت فتنة القول بخلق القرآن في حياة الإمام أحمد بعد موت الأئمة قبله رحمهم الله كان الإمام أحمد قد علم السنة رحمه الله، وأظهرها، وثبت عليها، وانتصر لها، ومن ثم صار إماماً من أئمة السنة، وعلماً من أعلامها لا أنه أحدث مقالة أو اتبع رأياً .
حتى إن المأمون نفسه لما تكلم بحق الإمام أحمد ومن اتبعه قال: ونسبوا أنفسهم إلى السنة أهل الحق والجماعة، ولذلك كان بعض العلماء إذا أراد أن يتميز بوضوح إلى أهل السنة قال: وأنا على ما كان عليه الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى، ومن هذا المنطلق صرح الأشعري رحمه الله تعالى في كتاب الإبانة بذلك، فهذا أراد أن يبرئ نفسه من البدع والضلالات والانحرافات، قال: إنني على مذهب الإمام الفاضل، والرئيس الشامل الإمام أحمد بن حنبل الذي نصر الله به السنة.. إلى آخره، وكان أي إمام يريد أن يعلن نصاعة عقيدته، وبراءته من أي مخالفة لعقيدة أهل السنة والجماعة ينتسب إلى الإمام أحمد بن حنبل ، لا لأنه هو الذي أسس المذهب، لكن لأنه الذي انتصر له بإزاء هؤلاء المبتدعة، والإمام أحمد علم على الطريق، ومنارة من المنارات التي تضيء الطريق، لكن ليس هو الطريق بذاته، كذلك ابن تيمية أو غيرهم من أئمة السنة.
فهذه المقدمة كان لابد منها حتى نعرف أن لنا نسباً عريقاً عميقاً ضارباً في أطناب التاريخ الإسلامي، يمتد إلى الأيام الأولى التي ظهر فيها هذا الدين، فمذهب أهل السنة والجماعة أو مذهب السلف أو مذهب أهل الحديث الأثرية ليس مذهباً جديداً طارئاً إنما هو دين الإسلام، وهو منهج أهل الحق والفرقة الناجية، ومن ثم دائماً نوصي الإخوة بالاجتهاد حينما يتعلمون العقيدة أن يرجعوا إلى أقدم الكتب التي ألفت في العقيدة؛ لأننا تعودنا أن نقرأ دائماً في كتب المتأخرين كمعارج القبول وشرح الطحاوية أو حتى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية ، فبالتالي بعض الناس قد يحارون إذا ووجهوا من بعض المجادلين فيقولون له: أنت متبع لـابن تيمية ومذهب ابن تيمية ، لكن حينما تعرف أنت أن تنسب كل قول إلى قائله، وحينما تكون على يقين من أن هذه العقيدة وهذه المفاهيم هي مستقاة من العصور الأولى كالقرن الثاني والثالث والرابع من عصور الازدهار العلمي، وظهور فكر أهل السنة، أو مع عقيدة أهل السنة والجماعة حينئذ تعرف، ثم تعرف أن هذه العقيدة مسندة، بحيث لو فرضنا أن ابن تيمية لم يكن قد خلقه الله، ولم يوجد أصلاً في هذا الوجود، كانت ستبقى هذه العقيدة بأسانيدها المتصلة إلى السلف الصالح فمن بعدهم ممن تبعهم بإحسان.
فالشاهد أن الإمام أحمد وغيره من الأئمة حينما اشتهروا بإمامة أهل السنة، فإنما كانوا كذلك لأنهم هم الذين ابتلوا في زمانهم، وبرزوا كرموز يدافعون وينافحون عن عقيدة الحق، فهو إمام من أئمة أهل السنة، كذلك نستطيع بنفس المضمون أن نقول: إن من أئمة أهل السنة: الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم من الأئمة .
لكن ذكرنا السبب في شهرة الإمام أحمد بالذات بهذا اللقب، ولما صنف العلماء الأولون في أصول الاعتقاد عند أهل السنة، وأرادوا أن يذكروا أئمة أهل السنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم كالإمام اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة، لما أراد أن يذكر أئمة أهل السنة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدأ بذكر أبي بكر رضي الله تعالى عنه، ثم الخلفاء الثلاثة الراشدين من بعده، ثم بقية أئمة العلم والدين من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، في حين مثلاً الإمام عبد القاهر البغدادي رحمه الله حينما أراد أن يذكر أئمة أهل السنة خص ونظر من زاوية أخرى، وهي لا تعارض هذه الزاوية، خص بالذكر بعض السلف الذين كان لهم دور إيجابي في التصدي لأهل البدع من مناظرة ومكافحة، فذكر منهم: أمير المؤمنين علي رضي الله عنه؛ لأنه كان يناظر الخوارج والقدرية.
كذلك ذكر منهم ابن عمر رضي الله عنهما؛ لأنه كان يتصدى أيضاً للقدرية ممثلة في معبد الجهني ، وذكر عمر بن عبد العزيز لأنه أيضاً ناظر القدرية، ذكر الحسن البصري رحمه الله تعالى وزيد بن علي والشعبي والزهري وجعفر الصادق وغيرهم.
فعلى هذا الأساس يقطع بخطأ من أرجع شيوع هذه التسمية إلى القرن السابع للهجرة، يقولون: إن كلمة أهل السنة إنما نشأت في القرن السابع للهجرة، فعلى أساس هذا الكلام نقطع جزماً بخطأ هذا القول، وهم يشيرون إلى القرن السابع إلى ابن تيمية رحمه الله تعالى، لكن نظرة واحدة إلى أسماء الكتب التي صنفها علماء السلف في القرنين الثالث والرابع والتي تحمل اسم السنة كافية في الدلالة على أن التسمية كانت مستفيضة في ذلك الزمن المتقدم بل قبله،
وعلى هذا الأساس ندرك خبث دعوة بعض دعاة التقريب بين السنة والشيعة، مثلاً الذي ألف كتاباً أسماه: لا سنة ولا شيعة، لا نقول: سنة ولا شيعة، كيف ننفي السنة! إذا نفينا السنة نفينا الفرقة الناجية التي بها عصمة هذه الأمة، لكن لا شيعة لأن الشيعة بدعة طارئة شذت عن الأصل الذي هو السنة .
ونستطيع أن نحدد لهم بداية تاريخية معينة ظهرت فيها البدعة وشذت عن القاعدة، أما أهل السنة فليس من الإنصاف أن يوجه إليهم هذا السؤال: متى نشأت جماعتكم؟ أو منذ متى ظهر هذا الفكر أو الاعتقاد؟ هذا السؤال لا يصح توجيهه إلى الفرقة الناجية، بل هي بدأت مع بداية الإسلام؛ لأنهم الاسم وهم المسمى.
أما المفهوم العام للسنة فلها معاني كثيرة من ناحية اللغة، سواء كانت مذمومة أو محمودة، لكن غالباً ما تنطلق إلى المحمودة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: {فعليكم بسنتي}، وهي تعني الدين الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والسنة تطلق أحياناً على سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما هو معلوم وحياته صلى الله عليه وسلم إذا رأيناها في ضوء حديث عائشة رضي الله عنه: {كان خلقه القرآن}، فالسنة هي البيان العملي للقرآن الكريم.
فالسنة تعني الدين الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من العلم والعمل والهدي، ويتفرع عن هذا المفهوم مقابلة القرآن السنة بمعنى المشروع، يعني: بخلاف البدعة يقال: هذا سنة وهذه بدعة.
السنة بمعنى النافلة أو المستحب أو المندوب أو الاتباع أو أصول الدين والاعتقاد السليم، يعني: أهل السنة والجماعة اختلفوا في هذه السيرة على ثمانية مذاهب فقهية أشهرها المذاهب الأربعة، فهم اختلفوا في الأحكام العلمية، لكن في العقيدة هم فرقة واحدة، يحملون جميعاً اسم أهل السنة والجماعة في العقيدة، يعني: هناك حق وباطل، كفر وإيمان، هدى وضلال. أما في الأمور العملية الفقهية أو الاجتهادية فهناك خطأ وصواب، والإمام المجتهد المخطئ مأجور على اجتهاده، ومعصوم عنه خطؤه.
فخطر الاختلاف والشذوذ عن عقيدة أهل السنة والجماعة أمر ليس بالهين، وآية ذلك: أنه لم يختلف الأئمة في التسمي بهذا الاسم، والالتفاف حوله، وإن اختلفوا في القضايا الفقهية حنفية ومالكية وشافعية وغير ذلك، ولكن في العقيدة هم فرقة واحدة هم أهل السنة والجماعة.
فتأتي السنة أحياناً ويطلق الاسم على بعض مسمياته، يعني: السنة تشمل كل الدين، لكن شاع استعمال كلمة السنة للتعبير عن أصول الدين؛ لأنها أهم أركان هذا الدين.. أصول الدين والعقيدة، وأيضاً الاعتقاد السليم الخالص من الشبهات، ويذكر في قضايا الإمامة والتقديم بين الصحابة رضي الله عنهم والكف عما شجر بينهم، وذلك لخطر هذه القضايا، ولأن المخالف فيها على شفا هلكة.
أهل السنة هم المتبعون للسنة المتمسكون بها، وهم الصحابة ومن تبعهم بإحسان من أهل الحديث والعلم ومن تبعهم إلى يومنا هذا، ويدخل فيهم بطريق التبع من اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها.
يطلق على أهل السنة أيضاً الجماعة، وهم الذين اجتمعوا على موافقة الحق والسنة، وأجمعوا عليها، والتحموا بأئمتها، وقد يعبر عنها ببعض أصولها، كما قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: الجماعة أن تفضل أبا بكر وعمر وعثمان وعلي ولا تنتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تكفر الناس بالذنوب، وتصلي على من يقول لا إله إلا الله، وخلف من قال لا إله إلا الله، وتمسح على الخفين. فذكر رءوس مسائل ضل ففيها المبتدعة وشذوا، وإن كان ليس هذه فقط هي خصائص أهل السنة.
وكما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : من قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة. سبب تسمية أهل السنة بالجماعة: أن الجماعة هي الاجتماع، وعدم الفرقة، ولهذا كان الإجماع أصلاً من أصول دينهم .
وأيضاً أهل السنة جماعة مؤتلفة متحدة؛ لأنهم لا يكفر بعضهم بعضاً، وليس بينهم خلاف يوجب التبري والتكفير كما يقع بين الفرق الأخرى، نجد الخوارج تحصل بينهم انقسامات انشطارية داخلية، فينقسمون على بعضهم هذه الانقسامات، ثم تتبرأ كل فرقة من الفرقة الأخرى وتكفرها. أما أهل السنة فلا يقع بينهم ذلك أبداً، ولا يوجد بينهم تبري ولا تكفير.
إذاً: الجماعة هم أصحب الاعتقاد الحق، وكذلك السنة، ومن هنا نقول: إن لفظي السنة والجماعة إذا افترقا اجتمعا وإذا اجتمعا افترقا، كما نقول في الإسلام والإيمان ونظائر ذلك كثيرة.
السنة والجماعة إذا افترقا وذكر كل واحد منهما مفرداً دون أن يربطا فإن اللفظ يشمل أيضاً أهل السنة، فإذا أتى كل منهما على حدة فإنه يشمل الآخر، فإذا قلت: السنة أو أهل السنة فتعبر بهذه الكلمة عن الاعتقاد الحق، وأهل وأصحاب هذا الاعتقاد الحق، إذا قلت: الجماعة فيعني ذلك الاعتقاد الحق، وأهل الاعتقاد الحق، لكن إذا قلت: أهل السنة والجماعة فجمعتهما حينئذ يفترقان في المعنى، ويصير لكل واحد منهما معنى يخصه، فالسنة تعني الاعتقاد الحق، والجماعة تعني أصحاب هذا الاعتقاد والاتجاه الصحيح.
أما بالنسبة لأهمية هذا المصطلح بالنسبة لواقعنا المعاصر الذي نعيشه فنقول: إن منهج أهل السنة والجماعة هو الدواء الأمثل الذي يستطيع التعامل بنجاح مع كل الأجواء والأمراض التي استشرت في واقع المسلمين المعاصر؛ لأنه فعل هذا بالأمة من قبلنا، كما قال الإمام مالك رحمه الله تعالى: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. وإنما صلح أولها بهذا المنهج، وعليه فلن يصلح آخرها إلا بنفس هذا الدواء، فلابد من الأمرين: أن يكون هناك تجمع على الحق وهو السنة، والتجمع هو الجماعة لا تجمعاً على حساب الحق، بأن يحاول أن يجد صيغاً عاطفية بهدف تجميع المسلمين ووحدتهم، لكن على حساب الحق، بهذا لا يلبث أن يتفرقوا من جديد حينما ينكشف ما بينهم من خلافات لم تحسم في ضوء هذا المنهج، فهي تجمع على الحق، وليس تجمعاً على حساب الحق.
فلأهل السنة أو لمنهجهم خصائص متميزة تؤهلهم لأن يشكلوا طريق النجاح والخروج من الواقع الذي يحياه المسلمون في هذا الزمان، ويكفينا أن نجزم بأنه لن تستحق أي حركة تجديدية صفة التجديد إلا إذا كان أصحابها ملتزمين بنهج أهل السنة والجماعة، فهل يكفينا أنه لن يعيد التمكين للإسلام من جديد إلا من كان على هذا الاتجاه، ودليل ذلك حينما تنبأ النبي صلى الله عليه وسلم وذكر المراحل التي تمر بها الأمة فقال: {تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يقطعها الله إذا شاء الله أن يقطعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يكون ملكاً عضاً، ثم ملكاً جبرياً}، إلى أن قال عليه الصلاة والسلام في النهاية: {ثم تكون خلافة على منهاج النبوة} ثم سكت عليه الصلاة والسلام .
فهذا الخلافة التي ستعود بما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم منهجاً قال: (خلافة على منهاج النبوة)، فإذاً التمكين بعد الضعف لن يكون إلا على ما يوافق هذا المنهاج، وهذه العقيدة، فحتى علاج الفرقة وصفه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتركنا هملاً فقال: {اسمعوا وأطيعوا، وإن تأمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة}، ثم قال عليه الصلاة والسلام بعد ما أمر بالجماعة أمر بالسنة فقال: {فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً}، كيف علاج هذا الاختلاف؟ هل نقول: لأهل الخلاف -مهما كان هذا الخلاف- نتعاون فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضاً فيم اختلفنا فيه؟ لا. لم يقل هكذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، إنما قال {فإن من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي}، هذا هو علاج الفرقة {وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور}، فبالتالي لم يفتح أي باب للبدعة {وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار}، كل هذه صيغة عموم فتدل على أن جميع البدع كل البدع ضلال لا هدى فيه، باطل لا حق فيه، وظلام لا نور فيه، وخطأ لا صواب فيه، وقبيح لا حسن فيه، فالرسول يقول: (كل بدعة ضلالة)، وبعض الناس يقولون: هناك بدعة حسنة وبدعة سيئة، الرسول يقول: اجتمعوا على السنة وهناك من يقول: يتسامح في البدع سواء البدع الإضافية أو غيرها، هناك من يتسامح في قضايا الخلاف حتى وصل الانحراف ببعضهم إلى أن خاطب النصارى في إحدى الجرائد قائلاً لهم: نتعاون فيما اتفقنا فيها ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه. ومن قبل خاطبوا الشيعة بنفس العبارة المائعة .. الشيعة أيضاً الذين هم الروافض الخبثاء نتعاون معهم فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضناً بعضاً فيما اختلفنا فيه، فمثل هذه الترهات لا ينبغي التهاون معها؛ لأنها تعني تجمع على حساب الحق، وليس التجمع على الحق الذي يرشدنا إليه معنى كلمة أهل السنة والجماعة، والسنة تجمع الجماعة والبدعة تفرق، ولذلك يسمون أهل السنة والجماعة، ثم يسمى الآخرون أهل البدع والافتراق، فالرفقة ملازمة للبدعة، والتجمع ملازم للسنة، كما قال الله عز وجل: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].
أيضاً أكبر المناهج على فضح سبيل المجرمين هو هذا المنهاج، كما قال الله عز وجل: وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ [الأنعام:55]، خاصة إذا عرفنا أن الإسلام دائماً يتعرض لغزو فكري داخلي وخارجي، ودائماً تطرب آذاننا إلى الغزو الفكري المعاصر من التبشير والتنصير والماسونية والاستشراق إلى آخره، في حين أننا في الحقيقة ننسى غزواً فكرياً أخطر منه يأتي من الداخل، وهو الغزو الفكري القديم الذي يأتي من الداخل؛ غزو فكر الصوفية والشيعة والخوارج والقدرية والجبرية والجهمية. هذا كله تحطيم لمنشأ القوة في هذه الأمة وهي العقيدة، وإفساد لها عن طريق البدع والضلالات، فهذا غزو فكري من الداخل بجانب الغزو الفكري الذي نتعرض له من أعداء الأمة، فمن ذا الذي يستطيع أن يتصدى لكل هذه الضلالات من الداخل أو الخارج إلا أهل الحق أهل السنة والجماعة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بل جعل بقاؤهم حجة على الأمة، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتيهم أمر الله وهم على ذلك}؟
ولعل مما يجسد أهمية التمسك بهذا المنهج والعض عليه بالنواجذ إذا لاحظنا الاهتمام الشديد من قبل أعداء المسلمين وأذنابهم من المنافقين والعلمانيين ببعث فكر هذه الفرق المنشقة عن عقيدة أهل السنة والجماعة، ويشجعونها ويعظمونها، وينفضون التراب عن تراثهم ليعيدوها من جديد، وحتى يضعفوا أهل الحق أهل السنة والجماعة سواء في ذلك الخوارج أو الشيعة، وبالذات المعتزلة أو الفرق الضالة مثل البهائية والقديانية ولو تتبعتهم مثلاً لوجدت فرقة مثل البهائية إسرائيل تحتضنها، وتعتبر أكبر مراكز لها في العالم موجودة داخل فلسطين المغتصبة.
كذلك فرق الباطنية كالنصيرية والدروز يمدوا لهم بالعون المادي والمعنوي، ويوفرون لهم وسائل ومراكز التأثير، في نفس الوقت يتجرأون على التخويف على منهج أهل السنة ومنهج السلف في فهم الإسلام وتصديقه، والنيل منه ومن رموزه، فهذا باختصار الجواب عن هذا السؤال.
السؤال: ما هي السلفية باعتبارها منهجاً في الحق وفي الفهم والسلوك، وهل يجوز أن تحاصر السلفية بحيث يعبر بها عن إطار حزبي معين؟
الجواب: والله أعلم أن السلفية مصدر من السلف الذين هم أهل السنة والجماعة، ومنهج السلفي ليس منهجاً علمياً جافاً ونظرياً مجرداً، بل هو منهج علمي وعملي في ذات الوقت، فعندما أقول: سلفية، فينبغي أن ينطلق ذهننا إلى ذلك النموذج الأعلى الذي طبق في حياة السلف الصالح الصحابة رضي الله عنهم ومن تبعهم بإحسان، من الأخذ بالقرآن والسنة بفهم السلف الصالح رضي الله تبارك وتعالى عنهم، لا ينظر فقط إلى عقيدة السلف، لكن ننظر أيضاً إلى عبادتهم أخلاقهم جهادهم فهمهم للإسلام، واستقلال كلمة السلفية علماً على حزب أو جماعة محددة أو اتجاه معين هذا له سلبيات، وينبغي أن نحافظ على المنهج بعيداً عن أن تحتكره طائفة معينة؛ لأن هذا سيفقد المنهج كونه هو الميزان الذي ينبغي أن تحاكم به جميع الاتجاهات، والمنهج المعصوم، ولكن الذين ينتسبون إليه ليسوا معصومين، وبالتالي إذا احتكرت طائفة اسم السلفية أو اسم أهل السنة والجماعة، وهكذا احتكار مثل هذه الألقاب الشريفة يجعل المنهج خادماً لا مخدوماً، ولا يصلح أن يكون المنهج خادماً لأي تجمع، ولذلك ينبغي أن يبقى بعيداً عن الحزبيات، وحتى يبقى صالحاً لا بد أن يحاكم الناس جميعاً به، ويلزموا به، فالمنهج معصوم والناس غير معصومين، المنهج حاكم والناس محكوم عليهم، المنهج مخدوم والناس خادمون له، كما كان هذا شأنه، ولا ينبغي أن يسخر لخدمة حزب أو تجمع غير معصوم؛ لكي يبقى هو الميزان الأعلى الذي يوزن به الجميع بمن فيهم من ينتسبون إلى هذا المنهج.
أيضاً يخشى من ذلك أن يغذي دائماً واقع راية حزبية، ويغذي الشعور الحزبي والعصبي بين المسلمين، وقد يتوهم بعض منهم بمرور الزمن أن السلفية أو أهل السنة هم جزء مبتور من كيان الأمة الإسلامية أو داخل الأمة.
أيضاً في حالة ما يتغنى حزب أو تجمع بهذا الاسم الشريف أو ذاك، فإن أخطاء هذا التجمع أو أخطاء أفراده سوف تحمل للمنهج، وفي هذا إساءة إلى هذا المنهج، بالإضافة إلى أن التعبير عن هذا المنهج بصورة حزبية أو تكتل معين ففي هذا تحجيم للدعوة السلفية، وحصر لها في إطار محدود، وبالتالي يكون في ذلك الحيلولة دون القاعدة العريضة من الأمة، ودون الانتساب إليه باعتبارها أنها صفة حزبية لا أكثر، ليست صفة منهج لكنها صفة حزب.
أيضاً نعود فنقول: إنه لا مانع من استعمال هذه الألقاب أو التسمي بها إذا كان من استعمالها استعمالاً غير حزبي.
أيضاً لقب شريف كلقب المهاجرين والأنصار من أشرف الألقاب في الإسلام، بل مدح الله تبارك وتعالى أهله أعظم المدح في القرآن فقال: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100].
ومدحهم بالمعنى لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [الحشر:8]. وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ [الحشر:9]، فمدح الله عز وجل المهاجرين والأنصار، وكذلك فعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فلا يوجد أدنى حرج أن يتسمى فلان مهاجري وفلان أنصاري، لكن حدثت حادثة حينما كسع رجل من المهاجرين رجل من الأنصار.. خطأ فردي وقع بين اثنين من المسلمين، كسحه يعني: ضربه على مؤخرته، فقال المهاجري لما ضرب: يا للمهاجرين .. يا للمهاجرين دعا بدعوى الجاهلية، كما كان يتناصر الناس مثلاً، فمن يظلم من قبيلة عبس يقول: يا لعبس، وينادي بأعلى بصوته حتى يأتي إليه كل من كن منتسب إلى قبيلته، بغض النظر هل هو ظالم أو مظلوم؟ كما يحصل من الصراعات الطائفية عند بعض الناس الجهلة الذين لم يتأدبوا بآداب الإسلام، وتجري عصبيات جاهلية لا تمت إلى الإسلام بصلة، فيقول: هذا من أهل بلدي فأنا أنصره ظالماً أو مظلوماً، وكذلك الآخر.
فقال المهاجري يا للمهاجرين وقال الأنصاري: يا للأنصار. فأراد كل منهما أن يستعمل اللقب الشريف استعمالاً حزبياً يفرق المسلمين ويضعف كيانهم، حينئذ بلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب غضباً شديداً فقال: {ما بال دعوى الجاهلية، دعوها فإنها منتنة}، فسماها دعوى الجاهلية، فدل هذا الحديث على وجوب التنازل أو التخلي عن هذه الأسماء إذا صارت علماً على حزبية جاهلية مفرقة للأمة، وقال عليه الصلاة والسلام في حديث آخر: {ليس منا من شق الجيوب، أو لطم الخدود، أو دعا بدعوى الجاهلية}، وقال عليه الصلاة والسلام في أعظم مشهد شهده مع أصحابه رضي الله عنه: {ألا كل شيء من أمر الجاهلية موضوع تحت قدمي}، فهذه دعوى سماها في هذه الحال دعوى الجاهلية {فما بال دعوى الجاهلية دعوها}، هذا أمر وظاهر الأمر الوجوب، إذاً: يجب التخلي إذا صار الاسم علماً على حزب {دعوها فإنها منتنة}، ووصفها بالنتن والخبث، وقد جاء في صفته صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتي إلى الأرض، وقبل أن يولد، وقبل أن يطلق عليه الصلاة والسلام، جاء وصفه ومدحه في التوراة والإنجيل بصفات معينة: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ [الأعراف:157]، فقوله: {دعوها فإنها منتنة}، وصفها بالنتن، والخبث يدل على أنها من الخبائث التي حرمها علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى من يستجيز أن يتسمى بشيء من هذه الألقاب ينبغي أن لا يحدد الفكر لهذا التجمع، لكن ينبغي أن نعلن دائماً للناس أننا خادمون للفكر، وليس هو خادماً لنا، نحن المحكومين بالمنهج ولسنا حاكمين عليه.
ثم ينبغي أن نحذر تربية الناس على الولاء لغاية حزبية، إنما يكون ولاء للمنهج وللأصول، وأن يكون معاملة الناس والتمييز بينهم على حسب ولائهم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، لا على حسب ولائهم لأشخاص أو لطائفة معينة، فلا بد من إحياء هذه المعايير بين وقت وآخر، وإلا انزلقنا إلى ما انزلق فيه غيرنا وسنكون لن نعتبر بهم.
هذا بالنسبة لمسألة تأطير المنهج، أو الفصل بين الفهم والسلوك، صحيح منهج أهل السنة فهم وسلوك وليس فقط قضايا محصورة، إنما هو منهج للتعامل مع كل الظروف، والله تبارك وتعالى في سورة المعارج يقول: إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا [المعارج:19] * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا [المعارج:20] * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:21] * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج:22] * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ [المعارج:23] * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ [المعارج:24] * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [المعارج:25]، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26]، تصديق لابد أن ينعكس في السلوك، ليس فقط يذكر في كتب العقيدة ونحفظ، وهذه هي السلفية، كلا. ليست السلفية مجرد مفاهيم تصب في عقولنا وقلوبنا، وإنما هي مفاهيم تصب في أذهاننا وتستقر، ونعقد عليها قلوبنا، ثم تنعكس على سلوكنا؛ لأن الله تبارك وتعالى قال: وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [المعارج:26]، ثم أردفها بقوله: وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج:27]، مثلاً: الجنة والنار موجودتان أبداً لا تفنيان. هذا كلام المتعلق بالفهم، لكن تستخلص منه وجود الجنة والنار، وينعكس هذا التصديق في سلوكك وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ [المعارج:27] * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ [المعارج:28].
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر