-
سبب ترك كتابة البسملة في سورة التوبة
للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال:
يقول العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكتبوا سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) في سورة براءة، وهذا في المصاحف العثمانية، خلافاً لقراءة
ابن مسعود ففيها البسملة؛ لكن في المصاحف العثمانية، لم يكتب الصحابة رضي الله تعالى عنهم سطر (بسم الله الرحمن الرحيم).
واختلف العلماء في سبب سقوط البسملة منها على أقوال:
الأول: أن البسملة رحمة وأمان، وبراءة نزلت بالسيف، فليس فيها أمان، وهذا القول مروي عن
علي رضي الله تعالى عنه و
سفيان بن عيينة ، وقد روى
الحاكم في المستدرك عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: سألت
علي بن أبي طالب رضي الله عنه: لِم لم تكتب في براءة البسملة؟ قال: لأنها أمان؛ أي: لأن البسملة أمان فيها اسم الله تعالى، وفيها الرحمة العامة والخاصة.
ويقولون: لأنها أمان، وبراءة نزلت بالسيف، فنزولها لرفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر بقائه من ذكر اسمه تعالى مشفوعاً بوصف الرحمة، فلم يناسب ذكر اسم الرحمن الرحيم والبسملة لما في ذلك من نقض الأمان وتوعد المشركين؛ ولذا قال
ابن عيينة: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة. فهذه الآية تعلن نبذ العهود، وإعلان الحرب على المشركين بعد المهلة التي سنبينها -إن شاء الله- فهذا يتنافى مع ذكر البسملة التي فيها الرحمة، وفيها لفظ الجلالة واسم الله سبحانه وتعالى، قال الله تعالى:
وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [النساء:94] فإن قيل: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة، فلما كتب إلى أهل الحرب كـ
كسرى و
قيصر كتب: (بسم الله الرحمن الرحيم).
قال: إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم، كانت مرحلة دعوة، فابتدأ هو بالدعوة، ولم ينبذ إليهم، ألا تراه يقول: (
سلام على من اتبع الهدى)، فمن دُعي إلى الله عز وجل فأجاب، فقد اتبع الهدى، فظهر الفرق، أما هنا: فالسياق بخلاف ذلك، وكذا قال
المبرد : إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود؛ فلذلك لم تفتتح بالتسمية.
الثاني: أن ذلك على عادة العرب إذا كتبوا كتاباً فيه نقض عهد أسقطوا منه البسملة، فلما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم،
علياً رضي الله عنه ليقرأها عليهم في الموسم -يعني: الحج- قرأها ولم يبسمل على عادة العرب في شأن نقض العهد، نقل هذا القول بعض أهل العلم ولا يخفى ضعفه.
الثالث: أن الصحابة لما اختلفوا هل البراءة والأنفال سورة واحدة أم سورتان، تركوا بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال هما سورة واحدة، فرضي الفريقان وثبتت حجتاهما في المصحف، وهذا الكلام فيه نظر؛ لأن
الحاكم يقول: استفاض النقل أنهما سورتان، ويقول
أبو السعود في تفسيره: اشتهارها بهذه الأسماء -يعني: إذا كانت السورة اشتهرت بأربعة عشر اسماً- يقضي بأنها سورة مستقلة وليست بعضاً من سورة الأنفال، ومعنى ذلك أن سورة هي أكثر سورة من حيث عدد أسمائها، فكيف بعد ذلك يشك هل هي سورة أم سورتان مع الأنفال؟! فطبعاً اشتهارها بأربعة عشر اسم يؤكد أنها سورة مستقلة، وليست امتداداً لسورة الأنفال؛ لكن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا، كما سنبين إن شاء الله تعالى فيما يأتي، هل هي امتداد لسورة الأنفال؛ بسبب وجود بعض التشابه بينهما أم أنها سورة مستقلة؟
فلما اختلفوا إلى فريقين: فريق يرى أنها امتداد لسورة الأنفال، وفريق يرى أنها سورة مستقلة، كان هناك نوع من الحل الوسط، يرضي الفريقين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فتركوا بينهما فرجة، ففي المصحف العثماني ختمت سورة الأنفال ثم تركت مسافة تكفي لكتابة (بسم الله الرحمن الرحيم)، وهذه الفرجة لا توجد بين أجزاء السورة الواحدة، إنما من شأنها أنها توجد بين السورتين، وفي نفس الوقت لم يكتبوا في الفرجة (بسم الله الرحمن الرحيم) إشارة إلى اختلافهم على مذهبين:
ترك البسملة بناءً على قول من ذهب إلى أنهما سورة واحدة، وإيجاد الفرجة للدلالة على قول من قال: إنهما سورتان، وشأن السورتان أن يفصل بينهما بهذه الفرجة.
يقول
الشنقيطي : ومنها أن الصحابة لما اختلفوا : هل البراءة والأنفال سورة واحدة أو سورتان؟ تركوا بينهما فرجة لقول من قال: إنهما سورتان، وتركوا البسملة لقول من قال: هما سورة واحدة، فرضي الفريقان، وثبتت حجتاهما بالمصحف.
الرابع: أن سورة براءة نسخ أولها، فسقطت معه البسملة، وهذا القول: رواه
ابن وهب و
ابن القاسم ، و
ابن عبد الحكم عن
مالك ، كما نقل
القرطبي عن
ابن عجلان و
سعيد بن جبير : أنها كانت تعدل سورة البقرة.
الخامس: قال
القرطبي : والصحيح أن البسملة لم تكتب في هذه السورة؛ لأن جبريل لم ينزل بها فيها، قاله
القشيري .
قال العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى بعد أن استعرض هذه الأقوال: وأظهر الأقوال عندي في هذه المسألة: أن سبب سقوط البسملة في هذه السورة: هو ما قاله
عثمان رضي الله عنه لـ
ابن عباس ، فقد أخرج
النسائي و
الترمذي و
أبو داود والإمام
أحمد و
ابن حبان و
الحاكم وصححه ، ولم يخرجاه، عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لـ
عثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، ووضعتموهما في السبع الطول، فما حملكم على ذلك؟ فقال
عثمان رضي الله عنه: (
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان إذا أنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده، فيقول: ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا، وتنزل عليه الآيات فيقول: ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر ما أنزل من القرآن، وكانت قصتها شبيهةً بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها)، فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ووضعتها في السبع الطول.
هذا الحديث يؤخذ منه: أن ترتيب آيات القرآن الكريم في السورة الواحدة بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم، وأن هذه الآية في الموضع الفلاني يليها كذا، هذا تم بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، وبلا شك أن ترتيب الآيات توقيفي، ليس عن اجتهاد من الصحابة، وإنما هو بتوقيف من الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يفهم منه أيضاً: أن ترتيب سوره بتوقيف أيضاً، ما عدا سورة واحدة، هي سورة التوبة، وهذا هو أظهر الأقوال، ودلالة الحديث عليه ظاهرة.
التنبيه الثاني: قال
أبو بكر بن العربي المالكي رحمه الله تعالى: في هذا الحديث دليل على أن القياس أصل في الدين، ألا ترى إلى
عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، وقال: إن سورة الأنفال تشبه سورة التوبة، فعند افتقاد النص من النبي عليه الصلاة والسلام على موضع سورة براءة، لجأ الصحابة إلى القياس من حيث الشبه من حيث المعنى، فوجدوا التوبة أشبه من حيث المعنى بسورة الأنفال.
يقول: ألا ترى إلى
عثمان وأعيان الصحابة كيف لجئوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة براءة شبيهةٌ بقصة الأنفال فألحقوها بها، فإذا كان القياس يدخل في تأليف القرآن الكريم فما ظنك بسائر الأحكام، يعني: الأولى أن يعتد بالقياس الصحيح فيها.
شرح أثر عثمان في بيان سبب حذف البسملة من سورة التوبة
وهنا نحتاج لشرح بعض الألفاظ في هذا الحديث، عن
ابن عباس رضي الله عنهما قال: قلت لـ
عثمان ما حملكم -يعني: ما هو الباعث لكم- على أن عمدتم -أي: قصدتم- إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم)، فوضعتموهما في السبع الطول؟ فما حملكم على ذلك؟ يقول بعض العلماء: القرآن يقسم على تقسيم معين، فأول القرآن السبع الطوال، ثم ذوات المئين، ثم المثاني، ثم المفصل، فالسبع الطوال هي: البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، وستأتي السابعة، يلي هؤلاء ذوات المئين وهي السور ذوات المئات التي فيها مائة آية، ثم المثاني، ثم المفصل.
قوله: (الأنفال وهي من المثاني) يعني: من السبع المثاني، وهي السبع الطوال، وقال بعضهم: المثاني من القرآن ما كان أقل من المئين، وهي السور التي تقل عن مائة آية.
وإذا نظرنا إلى عدد آيات سورة الأنفال نجد أنها خمس وسبعون آية، وهي أقل من مائة؛ فلذلك اعتبرها من المثاني؛ لأن المثاني هي ما كانت أقل من مائة آية؛ ولذلك قال: وهي من المثاني، وأنتم تعرفون أيضاً: أن القرآن جميعه أحياناً يسمى مثاني:
مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر:23].
وقال في النهاية: المثاني السور التي تقصر عن المئين، يعني: تقل عن مائة آية، وتزيد عن المفصل: كأن المئين جُعلت مبادئ، والتي تليها مثاني؛ كأن المئين: أول شيء يبدأ بها، والمثاني: ما يثنى به؛ ولذلك قيل: مثاني، فالقرآن كأنه يقسم إلى ما كان فوق المائة وهي المئين والسبع الطوال وما كان دون المائة، وهي المثاني؛ ولذلك سميت الأنفال من المثاني، لأنها أقل من المائة.
وقوله: (عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين) لأن سورة التوبة (129) آية، (فقرنتم بينهما) يعني: مع أن الأنفال ليست من السبع الطوال لقصرها عن المئين؛ لأنها خمسون وسبعون آية، وليست غيرها؛ لعدم الفصل بينها وبين براءة فيقول هنا: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تفصلوا بينهما بسطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطول؟ فما حملكم على ذلك؟
قال
الطيبي : دلّ هذا الكلام على أنهما نزّلتا منزلة سورة واحدة، وكمل السبع الطوال بها، يعني: السبع الطوال متفق على ست منها، وبعض الناس يعد السبع الطوال ابتداء من الفاتحة، فيقول: الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، وعلى هذا القول تنتهي السبع الطوال بالأعراف، وبعضهم يقول: تبدأ بالبقرة، وبعضهم يقول: سابعة السبع الطوال هي الأنفال، وبعضهم يقول: بل السابعة هي مجموع الأنفال والتوبة، وبعضهم يقول: بما أن هناك اختلافاً ما بين الأنفال والتوبة، فالسابعة هي: يونس، وهو قول غريب! فهذا بالنسبة لخلاف العلماء، يقول الإمام
الطيبي : دلّ هذا الكلام على أنهما نزّلتا -أي: الأنفال والتوبة- منزلة سورة واحدة، وكمل السبع الطوال بها، وعلى هذا فالسورة السابعة من السبع الطوال، هي: التوبة والأنفال، مجموعهما، عوملتا كسورة واحدة.
ومن ثم قيل: السبع الطوال هي البقرة، وبراءة، وما بينهما، وهذا هو المشهور؛ لكن روى
النسائي و
الحاكم عن
ابن عباس رضي الله عنهما: إنها البقرة والأعراف وما بينهما، قال الراوي: وذكر السابعة فنسيتها، وهو يحتمل أن تكون الفاتحة، فإنها من السبع المثاني، ونزّلت سبعتها منزلة المئين، ويحتمل أن تكون الأنفال بانفرادها، أو بانضمام ما بعدها إليها.
وصح عن
ابن جبير : أنها يونس، فهذا وجه الخلاف في تحديد السبع الطوال.
المهم: أن
ابن عباس لما قال لـ
عثمان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر ( بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فما حملكم على ذلك؟ فقال
عثمان رضي الله تعالى عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أُنزل عليه شيء يدعو بعض من يكتب عنده من كتبة الوحي -كـ
زيد بن ثابت و
معاوية رضي الله تعالى عنهما وغيرهما- فيقول: (
ضعوا هذا في السورة التي فيها كذا وكذا)، وهذه إشارة إلى ترتيب الآيات داخل السورة الواحدة، وأن هذا الترتيب للآيات كان توقيفياً، قال: (وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة، وبراءة من آخر ما أنزل من القرآن) والتعبير هنا بقوله: (من آخر) دقيق، يعني: كأنه لم يقطع بكونها آخر، باعتبار أن سورة النصر هي آخر ما نزل من القرآن الكريم، قال: (وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها) أي: لم يبين لنا أن التوبة امتداد للأنفال، بخلاف سائر سور القرآن؛ لأنهم كانوا يعرفون ترتيب سورة القرآن بتوقيف من النبي عليه الصلاة والسلام، ما عدا هذا الموضع بالذات.
يقول: (ولم يبين لنا أنها منها، فظننت أنها منها -بناءً على قياس الشبه لما لاحظوا الشبه بين الأنفال وبين التوبة- فمن ثم قرنت بينهما، ولم أكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ووضعتها في السبع الطوال).
-
تفسير قوله تعالى: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين)
قال تبارك وتعالى:
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1].
(براءة) خبر لمحذوف، يعني: هذه براءة، فالمحذوف هو خبر مقدم تقديره: هذه براءة، وتنوين (براءةٌ) للتفخيم.
والبراءة في اللغة: انقطاع العصمة، يقال: برئت من فلان براءة، أي: انقطعت بيننا العصمة، ولم يبق بيننا علاقة ولا رابطة، وانقطعت العصمة والعهد الذي بيننا.
يقول
ابن إسحاق: (نزلت براءة في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: ألا يصد عن البيت أحد جاءه، ولا يخاف أحد في الشهر الحرام، وكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك) والعهود كانت كثيرة مع قبائل العرب، فمنهم من عوهد إلى أجل معلوم، فصلح الحديبية كانت مدته عشر سنوات، ومن سنة ست من الهجرة بدأ تنفيذ صلح الحديبية، وكانت هناك عقود أخرى مع بعض القبائل، لكنها عهود غير مؤقتة، وبعضها كانت عقود مؤقتة، إما أقل من أربعة أشهر، وإما أكثر من أربعة أشهر، فهذه السورة نزلت لبيان انتهاء نوع من هذا العقود كما سوف نبينه إن شاء الله تعالى. قوله: (فكان ذلك عهداً عاماً بينه وبين الناس من أهل الشرك) أي أن أي شخص يريد البيت الحرام فلا يصده أحد؛ كذلك لا يخوف ولا يعتدى على أحد في الشهر الحرام، وكانت هناك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب إلى آجال مسماة، فنزلت فيهم وفيمن تخلف من المنافقين عنه في تبوك، وفي قول من قال منهم، فكشف الله تعالى سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون.
وقال
ابن كثير : وأول هذه السورة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك وهَمّ بالحج، ثم ذكر أن المشركين يحضرون عامهم هذا الموسم على عادتهم في ذلك، ولهم عادة سيئة وقبيحة من بدع الجاهلية أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة بلا ثياب، فكره النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج معهم، وهم يطوفون حول البيت بهذه الهيئة القبيحة، فكره صلى الله عليه وسلم مخالطتهم، وبعث
أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة؛ ليقيم للناس مناسكهم، ويعلم المشركين ألا يحجوا بعد عامهم هذا، وأن ينادى بالناس: (( بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ))، فلما قفل أتبعه بـ
علي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عنه صلى الله عليه وسلم لكونه عصبة له كما يأتي؛ لأن
علي بن أبي طالب من عصبة النبي عليه الصلاة والسلام وابن عمه، فبعدما بعث
أبا بكر لذلك أكد بإرسال
عليليبلغ باسمه المشركين بانقضاء هذا العهد:
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ .
-
تفسير قوله تعالى: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين)
قال تعالى:
فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة:2].
(( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )) فقولوا لهم: سيحوا في الأرض، أي: سيروا في الأرض بعد نبذنا العهد آمنين من القتل والقتال مدة أربعة أشهر، فلكم مدة أربعة أشهر، وهذا الخطاب موجه لطائفة معينة من المعاهدين سوف نبينهم إن شاء الله، أي: لكم أن تسيروا في الأرض بحرية لمدة أربعة أشهر، وقد بيَّن الله تعالى في سورة الأنفال أن المسلمين بينهم وبين المشركين عهد:
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [الأنفال:58]، فهذا نبذ للعهد، وإعلان لانقضاء العهد، وهناك مهلة زمنية لكم تتحركون فيها بحرية لمدة أربعة أشهر لا يتعرض لكم أحد، لكن بعد انتهائها، لا يوجد عهد بيننا وبينكم.
وتبدأ هذه الأربعة أشهر من يوم النحر؛ لأنه بعد ذلك قال:
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ [التوبة:3] أي: يوم النحر، فهي من أول أيام عيد الأضحى إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر.
والمقصود من هذا الأمر: (( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )) أي: أنتم آمنون، فسيروا في الأرض حيث شئتم، فالمقصود تأمينهم من القتل وتفكرهم واحتياطهم ليعلموا أنه ليس لهم بعدها إلا السيف، وليعلموا قوة المسلمين إذ لم يخشوا استعدادهم لهم، وهذه الأربعة الأشهر كانت عهداً لمن له عهد دون الأربعة الأشهر فأتمت له، فإن من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كانت لقوله تعالى:
فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ [التوبة:4]، ويوضح هذا العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى في قوله تعالى:
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ *
فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:1-2]، فيقول
الشنقيطي : ظاهر هذه الآية الكريمة العموم في جميع الكفار المعاهدين: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ ..) فقوله: (الذين) تفيد عموم أي فئة من المعاهدين من الكفار: (( إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))، فظاهر الآية يفيد العموم، عموم كل من عاهده المسلمون، فَيُفهم منها أنه بعد انقضاء أشهر الإمهال الأربعة المذكورة في قوله: (( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )) أنه لا عهد لكافر، فمعناها: بعدما تمر أربعة أشهر، لا يبقى لأي كافر على الإطلاق مهما كانت مدة عهده عهد، وتكون نبذت ونقضت جميع العهود، وفي هذا اختلاف كثير بين العلماء، والذي يبينه القرآن الكريم ويشهد له من تلك الأقوال، هو أن محل ذلك إنما هو في أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، أو من كانت مدة عهده المؤقت أقل من أربعة أشهر، يعني: هذه البراءة وهذا الكلام بلفظ العهود، يتناول طائفتين من الناس، الأولى: هي طائفة أصحاب العهود المطلقة غير المؤقتة بوقت معين، فهؤلاء أول من يقصدون بهذه البراءة، الذين هم أصحاب العهود المطلقة التي لم يحدد لها أجل أو نهاية، هذا هو القسم الأول.
القسم الثاني: من كانت مدة عهده مؤقتة ومؤجلة لأقل من أربعة أشهر.
وقد روى الأئمة هاهنا آثاراً كثيرة فيما يتعلق بنزول هذه السورة المباركة، قال
ابن أبي نجيح عن
مجاهد: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ فأراد الحج -أراد أن يحج في هذه السنة- ثم قال: (
إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج)، أبى النبي عليه الصلاة والسلام أن يحج، والحال أن المشركين على عادتهم القبيحة، فلم يحب أن يحج ولا أن يذهب إلى البيت إلا بعد أن يقضي على هذه العادة القبيحة، فأرسل
أبا بكر و
علياً فطافا بالناس في ذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحاب العهد أن يؤمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات، عشرون من ذي الحجة إلى عشر يخلون من ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم، وآذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يؤمنوا، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فهو له إلى مدته، فخرج
علي بن أبي طالب على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء حتى أدرك
أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فلما رآه
أبو بكر بالطريق قال: أمير أو مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم مضيا، فأقام
أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج الذي كانوا عليه في الجاهلية، حتى إذا كان يوم النحر قام
علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأذن في الناس بالذي أمره به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس! إنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو له إلى مدته، وأجل الناس أربعة أشهر من يوم أذن فيهم، ليرجع كل قوم إلى مأمنهم وبلادهم، ثم لا عهد لمشرك ولا ذمة، إلا أحد كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلى مدة، فهو له إلى مدته. فلم يحج بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان، ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وروى
البخاري عن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعثني
أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في المؤذنين، بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى، يعني: يعلنون للناس في منى: ألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، قال
حميد : ثم أردف النبي صلى الله عليه وسلم بـ
علي بن أبي طالب فأمره أن يؤذن ببراءة، يعلن عليهم هذه البراءة، وقال
أبو هريرة : فأذن معنا
عليفي أهل منىً يوم النحر ببراءة، وألا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، وإنما قيل: (يوم الحج الأكبر)؛ لأن الناس عادتهم أنهم يسمون العمرة: الحج الأصغر، فنبذ
أبو بكر إلى الناس في ذلك العام .. إلى آخره.
وقال
أبو هريرة رضي الله تعالى عنه في رواية أخرى: فكنت أنادي حتى صحل صوتي، -بالصاد- يعني: بح صوتي من كثرة ما كان يعلن في الموسم هذا البيان.
-
تفسير قوله تعالى: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله... وبشر الذين كفروا بعذاب أليم)
-
تفسير قوله تعالى: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً ولم يظاهروا عليكم أحداً... إن الله يحب المتقين )
ثم استثنى تعالى من ضرب مدة التأجيل لمن له عهد مطلق بأربعة أشهر: من له عهد مؤقت، فكل ما مضى يتعلق بطائفتين:
الأولى: من كان له عهد مدته أقل من أربعة أشهر فهذه المدة تكمل إلى أربعة أشهر.
الثانية: من كان له عهد مطلق غير مؤقت بوقت، فإنه يرد إلى أربعة أشهر.
ويبقى هنا استثناء فيمن كان له عهد مؤقت مؤجل إلى مدة مضروبة عوهد عليها تزيد على مدة الأربعة الأشهر، فقال سبحانه وتعالى:
إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة:1] يوجد شرط
ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [التوبة:4].
قوله: (ثم لم ينقصوكم شيئاً) يعني: لم ينقصوكم شيئاً من شروط هذا الميثاق والعهد الذي بينكم وبينهم، فلم يقتلوا منكم أحداً ولم يضروكم قط، وفي قراءة: (ثم لم ينقضوكم شيئاً) يعني: ثم لم ينقضوا عهدكم شيئاً، من النقض، وكلمة (ثم) للدلالة على ثباتهم على عهدهم مع تمام المدة، يعني: مع أن المدة تتطاول وتمر، لكن ثبت أنهم مواظبون وملتزمون بالعهد، فكلمة (ثم) تفيد أنهم ثابتون على العهد محترمون الميثاق مع تمادي المدة؛ لأن هذا التمادي تدل عليه كلمة (ثم لم ينقصوكم شيئاً).
(ولم يظاهروا) يعني: لم يعاونوا عليكم أحداً أي: عدواً من أعدائكم (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ما هي هذه المدة؟ التفسير الأرجح -والله أعلم- أن المدة هي المدة الثابتة في الاتفاق، وقد تزيد على أربعة أشهر، لكن هناك قول لـ
مجاهد أن (أل) هنا للعهد، فالمدة هي إشارة إلى أربعة أشهر.
ثم حرض تعالى على الوفاء بذلك منبهاً على أنه من باب التقوى فقال عز وجل: (إن الله يحب المتقين) يعني: فاتقوه في المحافظة على العهود وعدم نقضها.
-
تفسير قوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم... إن الله غفور رحيم)
قال تعالى:
فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5].
(فإذا انسلخ) يعني: انقضى، (الأشهر الحرم) والأشهر الحرم هي مدة الإمهال، هذا هو الراجح، فلا تفسر بقوله تعالى:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]؛ لأن هذه الأربعة الحرم هي عبارة عن شهر رجب، ثم ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وهذه الأشهر الحرم ليست متصلة؛ لأن شهر رجب منفرد لوحده، ثم هذه الشهور الثلاثة الأخرى التي هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم متصلة؛ لكن سياق الكلام هنا واضح في أن المقصود بقوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) أنها أشهر متصلة بعضها ببعض،
فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ [التوبة:2] فلذلك فإن الراجح هنا: تفسير الأشهر الحرم بأنها أشهر الإمهال الأربعة، وليست الأشهر الحرم التي ذكرت في موضع آخر في هذه السورة الكريمة.
(فإذا انسلخ) يعني: إذا انقضى، (الأشهر الحرم) أي: أشهر الإمهال التي أبيح للذين عوهدوا فيها أن يسيحوا في الأرض وحرم فيها قتالهم: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) أي: في أي مكان في حلّ أو في حرام.
قال
ابن كثير : هذا عام والمشهور تخصيصه بغير الحرم، لتحريم القتال فيه، يعني أن: بعض المفسرين قالوا: (حيث وجدتموهم) هذه عامة في أي مكان تجدوهم فيه حتى لو كانوا داخل الحرم الشريف، لكن الإمام
ابن كثير يقول: هذا وإن كان ظاهره أنه عام، لكن المشهور أنه يخصص، فلا ينبغي أن يقتل الكافر داخل الحرم لتحريم القتال فيه، لقوله تعالى:
وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [البقرة:191].
(( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ )) يعني: ائسروهم أسراً (واحصروهم) أي: احبسوهم في المكان الذي هم فيه، لئلا يتخبطوا في سائر البلاد، (واقعدوا لهم) اقعدوا لقتالهم (كل مرصد) يعني: في كل طريق وممر، (فإن تابوا) أي: عن الكفر، (وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) يعني: اتركوا التعرض لهم.
(إن الله غفور رحيم) أي: يغفر لهم ما سلف من الكفر والغدر.
يوضح
الشنقيطي رحمه الله تعالى هنا المقصود من قوله تعالى: (( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ ))، وقد بينا أن الأشهر الحرم تبدأ من يوم النحر؛ لأنه هو يوم الحج الأكبر على الراجح، وقيل: يبدأ من يوم عرفة باعتبار قول من يذهب إلى أن يوم الحج الأكبر هو يوم عرفة، قال رحمه الله:(فإذا انسلخ الأشهر الحرم)، اختلف العلماء في المراد بالأشهر الحرم في هذه الآية، فقال
ابن جرير : إنها المذكورة في قوله تعالى:
مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ [التوبة:36]، قاله
أبو جعفر الباقر .
لكن السياق يدل على أن المراد بها أشهر الإمهال المذكورة في قوله: (( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ))، قال
ابن كثير : والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه
ابن عباس في رواية
العوفي عنه، وبه قال
مجاهد و
عمرو بن شعيب و
محمد بن إسحاق و
قتادة و
السدي و
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن المراد بها: الأشهر الأربعة المشار إليها بقوله: (( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ )).
ثم قال: (( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ )) أي: إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم قتالهم فيها وأجلناهم فيها، فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم؛ لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر، ومعنى هذا الكلام أن قوله تعالى: (( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ )) فالأشهر هنا (أل) فيها للعهد، وهذا العهد يعود على مذكور وهو قوله: (( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ))، فالعهد يعود هنا إلى مذكور، وهو أولى من أن يعود إلى مقدر وهو الأشهر التي في قوله: (منها أربعة حرم) مع أن هذه الأشهر الأربع الحرم سيأتي حكمها فيما بعد في آية أخرى.
ولذلك يكرر
الشنقيطي هنا قول الإمام
القاسمي رحمه الله تعالى فيقول: ما ذكرناه من أن المراد بالأشهر الحرم، أشهر العهد، هو الذي اختاره الأكثرون، سماها حرماً لتحريم قتال المشركين فيها ودمائهم، فسميت حرماً هنا؛ لتحريم الدماء في هذه الفترة التي هي: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر)، فسميت حرماً لتحريم التعرض للمشركين فيها وتحريم قتالهم خلال هذه الأربعة الأشهر، فالألف واللام للعهد، ووضع المظهر موضع المضمر، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة.
ومعنى قوله: وضع المظهر موضع المضمر، يعني أنه تعالى قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ومقتضى السياق أن يقول الله سبحانه وتعالى (فإذا انسلخت) يعني: الأربعة أشهر التي سبق ذكرها من قبل في قوله: (( فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ))؛ لكنه عدل عن التعبير عنها بسياق الغيبة إلى قوله: (( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ))، لأنه إذا عبر عنها بالغائب، فلن يمكن وصفها بكونها حرماً، لكن لما قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) أمكن هنا: أن توصف بكونها حرماً، بخلاف ما لو استعمل المضمر، فإنه لن توجد كلمة (الحرم) والمقصود بوصفها حرم أنه يحرم فيها قتل المشركين والتعرض لهم خلالها؛ فلذلك يقول هنا: فالألف واللام: للعهد، يعني: الأشهر التي سبق الكلام عليها آنفاً قريباً، ووضع المظهر، وهي كلمة الأشهر، موضع المضمر فلم يقل: فإذا انسلخت، ليكون ذريعة إلى وصفها بالحرمة (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) تأكيداً لما ينبه عنه إباحة السياحة من حرمة التعرض لهم؛ لأن قوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) أي: قولوا لهم: سيحوا وسيروا في الأرض آمنين أربعة أشهر، فهنا وصفها تأكيداً لهذا المعنى، الذي هو الأمان لهم في خلال أربعة أشهر، بأن قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) فهذا تأكيد؛ لأن دماءهم يحرم التعرض لها في خلال هذه الأشهر، مع ما فيه من مزيد من الاعتناء بشأن هذه الأشهر، وقيل: المراد بالأشهر الحرم: رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، روي ذلك عن
ابن عباس و
الضحاك و
الباقر واختاره
ابن جرير وضعِّف، أي: ضعف هذا القول؛ لأنه لا يساعده النظم الكريم، لأنه يأباه ترتبه عليه بالفاء؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: (( فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ))، فهذا مخالف للسياق الذي يقتضي توالي هذه الأشياء: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) يعني: مجرد أن ينقضي تواليها حينئذ تنتهي، فالترتيب بالفاء يدل على التوالي، والأشهر الحرم المذكورة في الآية الأخرى: (منها أربعة حرم) غير متوالية، فرجب مفرد، ثم بعد ذلك: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، على طرد ونسق واحد.
قال
ابن القيم : (الحرم هنا، هي أشهر التسيير: فسيروا في الأرض أربعة أشهر، أولها: يوم الأذان، وهو اليوم العاشر من ذي الحجة، وهو يوم الحج الأكبر، الذي وقع فيه التأذين بذلك، وآخرها العاشر من ربيع الآخر، وليست هي الأربعة المذكورة بقوله:
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]، فإن تلك واحد فيها فرد هو رجب، وثلاثة فرد هي ذو القعدة وتالياه، ولم يسير المشركون في هذه الأربعة فإن هذا لا يمكن؛ لأنها غير متوالية، وهو إنما أجزأ لهم أربعة أشهر، ثم أمره بعد انسلاخها أن يقاتلهم) وبالعقل: لو أن المقصود: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) الأشهر الحرم التي هي رجب وذو القعدة وذو الحجة والمحرم، فإن عندنا الأشهر التي بين رجب وذو القعدة وهي شعبان، رمضان، شوال، وعلى هذا تكون سبعة أشهر، فالأشهر الحرم في قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) يكون معناها: عدوا سبعة شهور وليس أربعة شهور، فالأقرب هنا والراجح: أنها أربعة أشهر كما ذكرنا.
ثم قال تبارك وتعالى: (( فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ ))، الأمر بتخلية السبيل معلّق على شروط ثلاثة:
الأول: (فإن تابوا) أي: عن الشرك، ووحدوا الله سبحانه وتعالى ودخلوا في الإسلام.
الثاني: إقام الصلاة.
الثالث: إيتاء الزكاة، فحيث لم تحصل هذه الشروط جاز ما تقدم من القتل والأخذ والحصر؛ ولهذا اعتمد
الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة وأمثالها.
قال
عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : يرحم الله
أبا بكر ما كان أفقهه! يعني: قتال
أبي بكر رضي الله تعالى عنه لمانعي الزكاة، وليس كل قتال
أبي بكر كان قتالاً للمرتدين، وقد أطلقت كلمة: حرب الردة تغليباً؛ لأن من امتنع من أداء الزكاة قاتلهم
أبو بكر رضي الله تعالى عنه باعتبارهم ممتنعين عن شريعة من شرائع الإسلام، ولا يلزم من هذا تكفيرهم، وهذا موضوع يحتاج إلى تفصيل، ولكن سأشير إليه هنا إشارة عابرة، وذلك لأن بعض الإخوة يتعاملون مع المراجع الفقهية بطريقة تحتاج لنوع من التحذير، فحينما ينقلون إجماع العلماء على أنه يجب على الإمام مقاتلة الطائفة التي تمتنع عن شريعة من شرائع الإسلام، كما هو مشهور ومعروف من كلام
ابن تيمية وغيره من الأئمة، حتى لو ا
-
تفسير قوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ... )
قال عز وجل:
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ [التوبة:6] يعني: إن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، وهذا يكون بعد انقضاء مدة العهد التي هي الأربعة أشهر. (وإن أحد من المشركين استجارك)؛ لأنك تقدر على قتله، فلو كان لفترة العهد يكون غير وارد أصلاً أن يقتل؛ لوجود عهد، ووجود مدة المهلة التي هي أربعة أشهر؛ لكن الكلام هذا بعد انقضاء الأربعة أشهر، ويمكن أن يكون هذا في المشركين الذين لم يكن لهم عهد، وهم الذين نقضوا العهود وأمر بقتالهم.
فالمعنى: إن استجارك أحد من المشركين الذين أمرت بقتالهم، أي: استأمنك، فاستجارك: يعني طلب الجوار والأمان، واستأمنك بعد انقضاء أشهر العهد، فأجره إلى طلبته (حتى يسمع كلام الله) أي: القرآن الذي تقرأه عليه ويتدبره ويطلع على حقيقة الأمر، وتقوم عليه حجة الله به، فإن أسلم ثبت له ما للمسلمين، وإن أبى فإنه يرد إلى مأمنه، فلا تتعرض له، بل لا بد أنك توصله إلى المكان الذي يأمن فيه مثل قبيلته أو بيته أو بلدته، فإذا دخل بيته وداره وأوصلته بأمان فبعد ذلك يمكن أن تقاتله؛ لكن لا بد أن تبلغه إلى المكان الذي يأمن فيه، فانظر إلى عظمة الإسلام، وكيف أنه يحترم العهود حتى مع الكافرين!
(ثم أبلغه مأمنه) تقيم عليه الحجة أولاً، وتعلمه القرآن، وتفهمه التوحيد، ثم بعد ذلك إن أجابك فهو مسلم، له ما للمسلمين، وعليه ما على المسلمين، أما إن أبى فإنه يجب عليك أن توصله إلى مكان الأمان الخاص به إما بيته أو قبيلته التي يأمن فيها، ثم قاتله إن شئت بعدما يأمن ويصل إلى مأمنه.
(ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) (ذلك) يعني: أن هذا الأمر بالإجارة وبإبلاغه المأمن بسبب (أنهم قوم لا يعلمون) أي: أنهم جهلة، فلا بد من إعطائهم الأمان حتى يسمعوا ويفهموا الحق ولا يبقى لهم معذرة.
وقد دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، فالمشرك إذا طلب منك الأمان وأعطيته الأمان يجب أن تحترم هذا العهد وهذا الأمان ولا تتعرض له بسوء، فمن الغدر أن الإنسان بعدما يؤمن شخصاً يقتله.
ومن قلة الفقه ما سمعناه أن بعض الجنود الأفغان الذين يؤمرون بالخروج في جيوش الشيوعيين، وكان هناك بعض المجاهدين الجهلة الذين لم يكن عندهم فقه، يقول لهم الرجل من هؤلاء: لا إله إلا الله، ويبين لهم أنه مسلم، وأنه أكره على الخروج في حرب المجاهدين ومع ذلك فإنهم -هداهم الله- يقتلونه بمنتهى البساطة! فهذا من الجهل، ونظائر ذلك تحصل كثيراً في أماكن أخرى ولا داعي لأن نفجر الجراح من جديد؛ ولكن من أقسى ما سمعناه ما أذيع بالأمس ..، ونرجو أن يكون هذا الخبر كاذباً؛ لأنه لا يتصور أن يصدر من مسلم على الإطلاق، وأنا لا أكاد أصدق أن إنساناً عنده دين أو ينتسب إلى الإسلام -حتى لو كان فاسقاً أو شارب خمر- يفعل هذه الأشياء؛ فقد أذيع بالأمس أنه في الجزائر..، ومعلوم أن الذي يذيع هذه الأخبار وكالات إعلام وأنباء أجنبية، يحتمل أن تكذب وتقصد بذلك التشهير، أن بعض الشباب المسلم في الجزائر أوقفوا سيارة وانتقوا منها من هم في سن التجنيد شباب، وذبحوهم ذبحاً بالسكاكين!
وأرجو أن يكون هذا الكلام كاذباً؛ لأنه ليس من الممكن أن مسلماً يفعل هذا الفعل أبداً بأي صورة، وأن تراق الدماء بهذه الطريقة.
إذا كان الله سبحانه يضع للمشرك نفسه هذه الحرمة أنه إذا استأمنك فإنك تؤمنه، فما بالك بما يحصل الآن؟! وأنا أستبعد أن يوجد من الإسلاميين في الجزائر من يصل جهله إلى هذا الحد، أشياء مؤلمة جداً نسمعها؛ ولكن الذي يخفف عنا أن بعض من يتبع المخابرات الحكومية في الجزائر هرب إلى فرنسا، وأعلن هناك في الجرائد أنه أكره على أن يقوم بقتل بعض المدنيين، ثم يدَّعون بعد ذلك أن المسلمين هم الذين قتلوا هؤلاء، فلعل هذا هو الشيء الوحيد الذي يجعل الإنسان يستريح، وأن تكون يد المسلمين نظيفة من مثل هذه الحماقات وهذا التجرؤ على حرمات المسلمين، والنبي عليه الصلاة والسلام قال: (
.. فكيف بلا إله إلا الله؟!) كما في قصة
أسامة بن زيد .
الوصية الأبدية التي نوصي بها أنفسنا وكل أخ: إياك وإراقة دم مسلم بغير حق، إياك وإراقة الدماء، فإن المرء لا يزال في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً، أما إذا أراق دماً حراماً فهذه من الورطات التي لا يكاد يوجد مخرج لمن أوقع نفسه فيها، فالإنسان يجبن عند دماء المسلم، مهما يكن الأمر لا يتأول ولا يجترئ على هذه الحرمات المقطوع بحرمتها، والمحرمة يقيناً، فلا ينبغي أن تزول هذه الحرمة إلا بيقين مثله.
أما ما يحصل من المهاترات والجهل، جهل هؤلاء الناس بالفقه وبحدود الله سبحانه وتعالى، فإنهم يسيئون من حيث يزعمون الإحسان، فحرمات المسلمين ليست بهذه الخفة وبهذه الحقارة حتى تنتهك بهذه الصورة التي نشهدها.
يقول
القاسمي : دلت الآية على أن المستأمن لا يؤذى، وأنه يمكن من العود من غير غدر به ولا خيانة؛ ولذا ورد في الترهيب من عدم الوفاء بالعهد والغدر ما يزجر أشد الزجر، فروى
البخاري في تاريخه و
النسائي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (
من أمن رجلاً على دمه فقتله، فأنا بريء من القاتل، وإن كان المقتول كافراً)، لأن هذا غدر، والمسلم لا يغدر.
وروى
أحمد والشيخان عن
أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
لكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة)، وقال
ابن كثير : من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء الرسالة أو التجارة أو طلب صلح، أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً؛ أعطي ما دام متردداً في دار الإسلام إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.
يعني: أن أي كافر حتى لو كان المسلمون في حالة حرب مع دولة كافرة -وهذا كلام أهل الفقه وأهل السير والجهاد- فدخل الكافر بعهد وبأمان إلى بلاد المسلمين، فيجب على جميع المسلمين أن يحترموا العهد، أعرف أن هذا الكلام قد يصدم عواطف كثير من الناس؛ لكن المسألة ليست بأمانيكم، وليست بعواطفنا؛ لكنها حدود الله سبحانه وتعالى، فهذا هو حكم الله سبحانه وتعالى: أنه ينبغي ما دام دخل بعهد وبأمان أن يحترم هذا المعاهد ولا يتعرض له بسوء إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه؛ لأن التعرض لشخص أعزل ليست بطولة، ليست بطولة أن الإنسان يتعرض لرجل أعزل ما معه سلاح وما دخل ليقاتل، دخل لسبب من الأسباب بغض النظر عن هذا السبب، فلا يقتل ما دام أنه قد أمّن، وفي هذا العصر الأمان يعتبر: (الفيزة) والتأشيرة، فهذا يعتبر عهد أمان، وكما ينبغي أن يفعل ذلك في ديارنا، فنحن أيضاً لا نخلو من مئات وآلاف المسلمين يذهبون إلى بلاد هؤلاء الكفار للأمان، فهل نقبل أن المسلم يدخل بلادهم بأمان ثم ينقض عهده وأمانه ويتعرض له بسوء في داخل بلادهم؟! فنفس الشيء إذا دخل الكافر بلاد المسلمين بعهد وبأمان فلا ينبغي أن ينقض عهده، وسبق أن نبهنا على هذا المعنى في مناسبة سابقة.
يقول
ابن كثير : من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية أو نحو ذلك من الأسباب، وطلب من الإمام أو نائبه أماناً؛ أعطي ما دام متردداً في دار الإسلام، إلى أن يرجع إلى مأمنه ووطنه.
وقال
القاسمي: وإنما يجار ويؤمن إذا لم يعلم أنه يطلب الخداع والمكر، يعني: لا يعطى العهد إلا لشخص نأمن أنه يريد الخداع والمكر؛ لأنه تعالى علل لزوم الإجارة بقوله: (حتى يسمع كلام الله) لكن لو شككنا في أن أحداً يتجسس، فهذا أصلاً لا يعطى الأمان، والذي يعطي الأمان الآن هي السفارات والقنصليات كما تعلمون.
وقال: تدل الآية على أنه يجوز للكافر دخول المسجد لسماع كلام الله لإقامة الحجة عليه، واستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن كلام الله بحرف وصوت قديمين وهم الحنابلة ومن وافقهم كـ
العضد، قالوا: لأن منطوق الآية يدل على أن كلام الله يسمعه الكافر والمؤمن والزنديق والصديق (حتى يسمع كلام الله) فالذي يسمع كلام الله المشرك، والذي يسمعه جمهور الخلق ليس إلا هذه الحروف والأصوات، فدل ذلك على أن كلام الله هو هذه الحروف والأصوات، وهنا خطأ مطبعي، يبدو أن كلام
القاسمي هو: فدل ذلك على أن كلام الله ليس هذه الحروف والأصوات، فأعتقد أن كلمة (ليس) هذه غير صحيحة.
والقول: بأن كلام الله شيء مغاير لها باطل؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يشير بقوله: كلام الله، إلا لها، وقد اعترف
الرازي -مع أنه أشعري- بقوة هذا لإلزام من خالف فيه، وقد مضى لنا في قوله تعالى:
وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] بسط لهذه المسألة.
التنبيه الأخير: يقول
الرازي دلت الآية على أن التقليد غير كاف في الدين، وأنه لا بد من النظر والاستدلال؛ وذلك لأنه لو كان التقليد كافياً لوجب ألا يمهل هذا الكافر، بل يقال له: إما أن تؤمن وإما أن نقتلك، فلما لم يقل له ذلك، بل أمهل وأزيل الخوف عنه، ووجب تبليغه مأمنة؛ علم أن ذلك لأجل عدم كفاية التقليد في الدين، وأنه لا بد من الحجة والدليل؛ فلهذا أمهل ليحصل له النظر والاستدلال: (فأجره حتى يسمع كلام الله) وتقوم عليه الحجة وتصله البراهين، كما أن النقاش مع الكافر أو دعوته إلى الإسلام لا يشمل دخول: أسلم وإلا أقتلك، لكن إن استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله، فيعطى فرصة ليفهم، وليس هذا فحسب، بل وتبلغه مأمنه.