من السنة صيام يوم عاشوراء الذي هو العاشر من شهر الله المحرم، فقد روى
مسلم بسنده عن
أبي قتادة رضي الله عنه: (
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: يكفر السنة الماضية).
وأيضاً وردت أحاديث في صحيح
مسلم تحث على أنه يُصام يوم بعده أو يوم قبله، فمن ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (
صوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، خالفوا اليهود)؛ وذلك لأن اليهود تعظم هذا اليوم؛ لأنه اليوم الذي نجى الله سبحانه وتعالى فيه موسى وقومه من فرعون.
يقول
ابن حجر رحمه الله تعالى في (فتح الباري): وعلى هذا فصيام عاشوراء على ثلاث مراتب:
أدناها -يعني: أقلها-: أن يُصام وحده. أي: أن يصوم الإنسان يوم عاشوراء وحده، فهذا ينال الثواب والأجر وتكفير ذنوب السنة الماضية إذا صام هذا اليوم. ولا يكره في هذه الحالة إفراد يوم السبت بصيام؛ لأنه هنا يقصد صيام يوم عاشوراء.
أما المرتبة الثانية: فأن يصام التاسع معه. يعني: أن يصوم تاسوعاء وعاشوراء.
وفوقه -وهي المرتبة العليا-: أن يصام التاسع والعاشر والحادي عشر.
فصيام الأيام الثلاثة بلا شك أفضل، وتكون فيه فوائد متعددة:
منها: أنه إذا صام الأيام الثلاثة فيرجى أن يكتب له أجر صيام الشهر كله، على أساس القاعدة العامة وهي: أن الحسنة بعشر أمثالها، (
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر ويأمر بها).
ومنها: أن صوم هذا الشهر أفضل الصوم بعد رمضان: كما صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (
أفضل الصوم بعد رمضان شهر الله المحرم)، فهذا الشهر من الأشهر الحرم، وله حرمة عظيمة، وصيامه من أفضل الصيام بعد صيام شهر رمضان.
وأيضاً من بركات هذا الصيام: أنه يكفر ذنوب سنة كاملة.
وفي مثل هذا يراد -والله تعالى أعلم- أنه يكفر صغائر الذنوب، أما كبائر الذنوب فلابد لها من توبة خاصة.
وقولنا: إنه يكفر الصغائر لا يعني أن الباب قد سُد أمام الكبائر؛ ولكن يعني أن على الإنسان أن يجدد التوبة من الكبائر، والتوبة منها لابد أن تستوعب أربعة أركان أو شروط:
الأول: ترك الذنب والبعد عنه، يعني: الانقطاع عن التمادي في الذنب.
ثانياً: الندم على ما سلف من الذنوب والمعاصي.
ثالثاً: العزم على عدم الرجوع في المستقبل إلى هذا الذنب.
رابعاً: رد الحقوق إلى أهلها إذا كانت المعصية تتعلق بحق آدمي.
ونشرع -بإذن الله تبارك وتعالى- في تفسير سورة النجم.
قال تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1].
قوله تبارك وتعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)، قيل: النجم المقصود به هنا: الثريا، والثريا إذا سقطت تسقط مع الفجر، والعرب تسمي الثريا نجماً وإن كانت في العدد نجوماً، من باب إطلاق المفرد على الجمع.
وقيل: إن المقصود بالنجم النبات الذي ليس له ساق، كما قيل أيضاً في قوله تبارك وتعالى:
وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ [الرحمن:6].
(( إِذَا هَوَى ))، يعني: إذا سقط على الأرض.
وقيل: النجم نجوم القرآن، وعلى هذا فالمعنى: والقرآن إذا نزل؛ لأن القرآن الكريم كان ينزل نجوماً.
يقول
القاسمي رحمه الله تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)) أي: إذا غرب وغاب عن الأبصار، أو إذا انتثر يوم القيامة، أو انقض.
والحقيقة: أنه مر مرور الكرام على كلمة (انقض) مع أنها مفتاح لقول رجحه الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى، وهو: أن المقصود من قوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى): الإشارة إلى حفظ السماء بسبب نزول القرآن الكريم؛ حيث حُرست السماء، وكانت الشياطين تُرجم بالنجوم وبالشهب إذا أرادت أن تسترق السمع، كما سيأتي بيانه.
تفسير الإمام ابن القيم لقوله تعالى: (والنجم إذا هوى)
يقول الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية الكريمة في كتابه (التبيان في أقسام القرآن):
ومن ذلك قوله تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى *
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:1-3]، أقسم سبحانه بالنجم عند هَوِيه على تنزيه رسوله وبراءته مما نسبه إليه أعداؤه من الضلال والغي.
واختلف الناس في المراد بالنجم، فقال
الكلبي عن
ابن عباس رضي الله عنهما: أقسم بالقرآن إذا نزل منجماً على رسوله صلى الله عليه وسلم، يعني: أن النجم هنا هو القرآن، حينما كان ينزل منجماً، يعني: متفرقاً؛ وذلك بأن تنزل أربع آيات، وثلاث آيات، وتنزل سورة كاملة، وكان بين نزول أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة.
وكذلك روى
عطاء عنه، وهو قول
مقاتل و
الضحاك و
مجاهد ، واختاره
الفراء ، وعلى هذا فسمي القرآن نجماً لتفرقه في النزول. فيكون أحد أسماء القرآن الكريم نجماً، لقوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)، يعني: والقرآن الكريم؛ لتفرقه في النزول.
والعرب تسمي التفرق تنجماًً، والمفرق نجماً، ونجوم الكتاب أقساطها، ويقال: جعلت مالي على فلان نجوماً ومنجماً، كل نجم كذا وكذا. هذا هو الاستعمال اللغوي لهذا التعبير، فقول القائل: جعلتُ مالي على فلان نجوماً، يعني: أقساطاً، وقوله: كل نجم كذا وكذا، يعني: كل قسط كذا وكذا.
وأصل هذا أن العرب كانت تجعل مطالع منازل القمر ومساقطها مواقيت لحلول ديونها وآجالها، فيقولون: إذا طلع النجم -يريدون بذلك الثريا- حل عليك الدين.
ومنه قول
زهير في دية جُعلت نجوماً على العاقلة:
ينجمها قوم لقوم غرامة ولم يهرقوا ما بينهم ملء محجم
يعني: أنهم عدلوا عن الثأر وعن القصاص والقتل بأن قبلوا أن تدفع عاقلة الجاني الدية منجمة مقسطة، ولم يسفكوا دماً ولو قليلاً.
ثم جعل كل تنجم تقسيطاً وإن لم يكن مؤقتاً بطلوع نجم، فشاع استعمال كلمة (التنجم) على أنها تساوي التفريق، ولم يشترط أن تكون مرتبطة بالفعل بطلوع النجم.
وقوله: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) إذا كان النجم إذا هوى هو: القرآن الكريم؛ لنزوله منجماً أو على نجوم، فما معنى: (هوى) على هذا القول؟
الجواب: معناه: نزل من علو إلى سفل، أي: والقرآن المنزل المقسط أو الذي جزئ أجزاءً وتفرق إنزاله.
قال
أبو زيد : هوت العقاب تهوي هَوِياً -بفتح الهاء- إذا انقضت على صيد أو غيره.
وكذلك قال
ابن الأعرابي ، وفرق بين الهَوِي لقوله:
والدلو في إقعادها عجل الهَوِي
وقال
الليث : العامة تقول: الهُوِي -بضم الهاء- في لفظة: هَوَى يهوي.
وكذلك قال
الأصمعي : هوى يهوي هو بفتح الهاء إذا سقط إلى أسفل، قال: وكذلك الهَوِي في السير إذا مضى.
وهاهنا أمر يجب التنبيه عليه غلط فيه
أبو محمد بن حزم أقبح غلط، فإنه ذكر في ضمن أسماء الرب تبارك وتعالى الهَوِي، واحتج بما في الصحيح من حديث أم المؤمنين
عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول في سجوده: (
سبحان ربي الأعلى الهَوِي)، وهذا -والله تعالى أعلم- لأن
ابن حزم لم يخالط العلماء مخالطة كاملة كما ينبغي لمن يسلك هذا الطريق، فربما كانت هذه إحدى سقطاته التي تنشأ من مثل هذا، وهذا من الوهم في فهم بعض الأحاديث؛ لعدم التلقي على الشيوخ؛ لأنه ربما لو تلقى هذا عن شيخ ما كان يقع في هذا الفهم الذي استبد به وأوقعه في الخطأ الفاحش، فـ
عائشة تقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجوده: (
سبحان ربي الأعلى الهَوِي)، فظن
أبو محمد أن (الهَوِي) صفة للرب، وليس كذلك؛ فإنه يقال: مضى هَوِي من الليل على وزن فعيل، ومضى هزيع من الليل أي: طرف وجانب، والمقصود بالحديث: أنه كان يقول في سجوده: (سبحان ربي الأعلى) في قطعة من الليل وجانب منه، فالهَوِي هو قطعة ووقت طويل من الليل، فكان يقول ذلك صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المدة، ويفسر ذلك ما صرحت به أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها في اللفظ الآخر حيث قالت: (
كان يقول: سبحان ربي الأعلى، الهَوِي من الليل).
إذاً: إعراب (الهَوِي) أنه ظرف زمان.
يقول الحافظ الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى في قوله تعالى:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1]: وقال
ابن عباس رضي الله عنهما في رواية
علي بن أبي طلحة و
عطية: يعني: الثريا إذا سقطت وغابت.
وهذه هي الراوية الأخرى عن
مجاهد ، والعرب إذا أطلقت النجم تعني به الثريا، قال
الراعي :
فباتت تعد النجم في مستحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
وقال
أبو حمزة اليماني : (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى) يعني: النجوم إذا انتثرت أو إذا انتشرت يوم القيامة.
وقال
ابن عباس في رواية
عكرمة: يعني: النجوم التي تُرمى بها الشياطين إذا سقطت في آثارها عند استراق السمع.
يقول
ابن القيم : وهذا قول
الحسن ، وهو أظهر الأقوال.
فالإمام
ابن القيم يرجح قول
الحسن ، وهو أيضاً قول
ابن عباس في رواية
عكرمة عنه.
يقول
ابن القيم : ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها سبحانه آية وحفظاً للوحي من استراق الشياطين له على أن ما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم حق وصدق. يعني: كقوله تعالى في سورة الشعراء:
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ *
وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ *
إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ [الشعراء:211-212]، وذلك بعدما ذكر صفات القرآن الكريم وأنه تنزيل من الله تبارك وتعالى، وفي هذا ربطٌ بين رجم الشياطين بالنجوم وبين حفظ القرآن؛ كما قالت الجن أيضاً:
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسَاً شَدِيدَاً وَشُهُبَاً *
وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابَاً رَصَدَاً [الجن:8-9]، فحرست السماء إرهاصاً لبعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لأجل صيانة القرآن الذي كان ينزل.
فبين الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى معللاً سبب ترجيحه هذا القول أن المقسم عليه مرتبط ارتباطاً وثيقاً بهذا القسم:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى *
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى *
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:1-4]، يعني: أن المقصود أنه وحي محفوظ، وليس للشياطين أبداً طريق إليه.
يقول
ابن القيم : ويكون سبحانه قد أقسم بهذه الآية الظاهرة المشاهدة التي نصبها الله سبحانه وتعالى آية وحفظاً للوحي من استراق الشياطين له على أن ما أتى به رسوله حق وصدق، لا سبيل للشيطان ولا طريق له إليه، بل قد حُرس بالنجم إذا هوى إرهاصاً بين يدي الوحي -مقدمة بين يدي الوحي-، وحرساً له، وعلى هذا فالارتباط بين المقسم به والمقسم عليه في غاية الظهور، وفي المقسم به دليل على المقسم عليه.
فالمقسم به هو:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ، والمقسم عليه هو ما ضل صاحبكم وما غوى:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].
يقول
ابن القيم : وليس بالبين تسمية القرآن عند نزوله بالنجم إذا هوى. يعني: أن هذا معنىً غير واضح، فهو يرى أن هذا القول مرجوح.
وكذلك يقول: وليس بالبين أيضاً تسمية نزوله هَوِياً، ولا عهد في القرآن ذلك، فيحمل هذا اللفظ عليه. أي: أن القرآن يوصف بأنه نزل أو أنزل، لكن لا يصح أن يقال: إن القرآن هوى، بمعنى: أن القرآن نزل.
يقول
ابن القيم: وليس بالبين تخصيص هذا القسم بالثريا وحدها إذا غابت، وليس بالبين أيضاً القسم بالنجم أو بالنجوم عند انتشارها يوم القيامة، بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلاً لعدم ظهوره للمخاطبين. أي: أن الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى يستبعد أيضاً القول بأن المعنى: والنجوم إذا انتثرت أو إذا انتشرت يوم القيامة، يقول: لأن العادة في القرآن أن الله سبحانه وتعالى يقسم بالآيات الظاهرة البينة للناس. أي: يبعد أن يكون المقصود: والنجوم إذا انتثرت وانتشرت يوم القيامة، ويقول: لأن هذا مما يقسم الرب عليه، والله سبحانه وتعالى يقسم على أن النجوم سوف تنتثر، ولا يحلف بالنجوم إذا انتثرت.
ويقول
ابن القيم : بل هذا مما يقسم الرب عليه، ويدل عليه بآياته، فلا يجعله نفسه دليلاً لعدم ظهوره للمخاطبين، ولا سيما منكرو البعث، فإنه سبحانه إنما استدل بما لا يمكن جحده ولا المكابرة فيه، فأظهر الأقوال قول
الحسن . والله تبارك وتعالى أعلم.
هذا فيما يتعلق بتحقيق الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى للقول الراجح في تفسير هذه الآية.
تفسير العلامة الشنقيطي لقوله تعالى: (والنجم إذا هوى)
أما العلامة القرآني
محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى فقد تكلم أيضاً في تفسير هذه الآية بقوله: اختلف العلماء في المراد بهذا النجم الذي أقسم الله به في هذه الآية الكريمة، فقال بعضهم: المراد به النجم إذا رجمت به الشياطين، وقال بعضهم: إن المراد به الثريا، وهو مروي عن
ابن عباس رضي الله عنهما وغيره، وتطلق لفظة (النجم) على الثريا بالغلبة، فلا تكاد العرب تطلق لفظ النجم مجرداً إلا عليها، ومنه قول
نابغة ذبيان :
أقول والنجم قد مالت أواخره إلى المغيب تثبت نظرة حار
يعني بذلك: الثريا.
وقوله تعالى: (إِذَا هَوَى)، أي: سقط مع الصبح، وهذا اختيار
ابن جرير.
وقيل: النجم الزهرة. أي: كوكب الزهرة، وخصه بالذات؛ لأنه كان هناك قوم يعبدونه.
وقيل: المراد بالنجم نجوم السماء، وعليه فهو من إطلاق المفرد وإرادة الجمع، كقوله:
سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45])، فأطلق المفرد والمقصود الجمع، أي: ويولون الأدبار.
وقال تعالى:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفَّاً صَفَّاً [الفجر:22]، والمقصود بالملك الملائكة.
وقوله تعالى:
أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا [الفرقان:75]، أي: الغرف.
وقال تعالى:
ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلَاً [الحج:5]، يعني: أطفالاً.
وإطلاق النجم مراداً به النجوم معروف في اللغة، ومنه قول
عمر بن أبي ربيعة:
ثم قالوا تحبها قلت بهراً عدد النجم والحصى والتراب
وقال
الراعي :
فباتت تعد النجم في متسحيرة سريع بأيدي الآكلين جمودها
أي: ولو كان النجم واحداً فقط كما هو في اللفظ المفرد لما كانت ستعد النجوم. وإنما هو من باب إطلاق المفرد والمراد به الجمع.
وعلى هذا القول فمعنى هَوِي النجوم: سقوطها إذا غربت، أو انتثارها يوم القيامة.
وقيل: النجم النبات الذي لا زرع له.
وقال بعض أهل العلم: المراد بالنجم: الجملة النازلة من القرآن، فإنه نزل على النبي صلى الله عليه وسلم أنجماً منجماً في ثلاث وعشرين سنة، وكل جملة منه وقت نزولها يصدق عليها اسم النجم صدقاً عربياً صحيحاً، كما يطلق على ما حان وقته من الدية المنجمة على العاقلة، والكتابة المنجمة على العبد المكاتَب.
وعلى هذا فقوله: (إِذَا هَوَى)، أي: نزل به الملك من السماء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقوله: هوى يهوي هُوِياً إذا اخترق الهواء نازلاً من أعلى إلى أسفل.
ثم يقول العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى: اعلم أولاً: أن القول بأنه الثريا وأن المراد بالنجم خصوصها وإن اختاره
ابن جرير وروي عن
ابن عباس وغير واحد ليس بوجيه عندي.
وكما قلنا مراراً: العلامة الإمام
الشنقيطي رحمه الله تعالى لما يقول كلمة: (عندي) فهو أهل لأن يقول (عندي)، لأنه يعتبر -والله تعالى أعلم- من أعلم الناس بالقرآن في هذا العصر المتأخر، صحيح أن الشيخ توفي سنة 1393هـ رحمه الله تعالى؛ ولكن بشهادة جميع تلامذته أنه ما رئي أعلم بكتاب الله منه على الإطلاق، والشيخ
الشنقيطي من الذين علمهم أكبر من كتبهم، يعني: الكتب هذه التي نقرؤها وبخاصة هذا الكتاب المبارك: (أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن)، لا يدل على سعة علمه الحقيقية، ومن الناس من تكون كتبه أكبر من علمه، ومنهم من يكون علمه أكبر من كتبه، كالإمام
الشنقيطي رحمه الله تعالى، ومن سمع تسجيلات الشيخ
الشنقيطي يظن أنه يقرأ، وإنما كان يتناثر العلم منه كالدرر التي لا تنقطع، كالسيل الهادر إذا هجم، ولا يتوقف عن الكلام إلا لسعلة تصيبه أو كحة أو شيء من هذا أو يأخذ نفساً أثناء الكلام، فعندئذ فقط يتوقف.
أما علمه الغزير الذي ما عرف له نظير فهو في علم القرآن الكريم في هذا الزمان بشهادة تلاميذه، وهم أنفسهم أئمة، كالشيخ
بكر أبو زيد والشيخ
عبد الخالق وغيرهم ممن تتلمذوا على يديه، بل ممن تتلمذ عليه الشيخ
ابن باز رحمه الله تعالى، مع جلالة قدره؛ لكنه أخذ عنه شيئاً من العلوم، خاصة في البلاغة واللغة وهذه الأشياء، فالمهم أن العلامة
الشنقيطي وإن كان معاصراً حينما يقول هذا القول: (ليس بوجيه عندي) فهذه كلمة مقبولة، لا كما يتشدق بها الكثير من الأفراخ من طلبة العلم الذين يقول أحدهم: عندي في هذه المسألة القول الراجح كذا، وعندي كذا، فهؤلاء حقيق أن يقال لهم قول الشاعر:
يقولون هذا عندنا غير جائز فمن أنتم حتى يكون لكم عند
يقول الشيخ رحمه الله تعالى: والأظهر أن النجم يراد به النجوم، وإن قال
ابن جرير بأنه لا يصح، والدليل على ذلك جمعه تعالى للنجوم في القسم في قوله تعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75]؛ لأن الظاهر أن المراد بالنجم إذا هوى هنا كالمراد بمواقع النجوم في الواقعة.
وقد اختلف العلماء أيضاً في المراد بمواقع النجوم، فقال بعضهم هي: مساقطها إذا غابت، وقال بعضهم: انتثارها يوم القيامة، وقال بعضهم: منازلها في السماء؛ لأن النازل في محل واقع فيه، وقال بعضهم: هي مواقع نجوم القرآن النازل بها الملك إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له -أي: العلامة
الشنقيطي رحمه الله تعالى-: أظهر الأقوال عندي وأقربها للصواب في نظري، أن المراد بالنجم إذا هوى هنا في هذه السورة وبمواقع النجوم في الواقعة هو نجوم القرآن التي نزل بها الملك نجماً فنجماً، وذلك لأمرين:
أحدهما: أن هذا الذي أقسم الله عليه بالنجم إذا هوى الذي هو أن النبي صلى الله عليه وسلم على حق، وأنه ما ضل وما غوى وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى، موافق في المعنى لما أقسم عليه بمواقع النجوم.
يقول: والإقسام بالقرآن على صحة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى صدق القرآن العظيم وأنه منزل من الله جاء موضحاً في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى:
يس *
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ *
إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ *
عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *
تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ [يس:1-5].
وقال تعالى:
حم *
وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ *
إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنَاً عَرَبِيَّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *
وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف:1-4].
وخير ما يفسر به القرآن القرآن.
إذاً: هذا هو الدليل الأول، استدل بأن المقسم عليه هو هذا القرآن الكريم.
والثاني: أن كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم أنسب؛ لقوله بعده:
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:76].
أي: أنه يفسر آية النجم:
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى [النجم:1] بقوله تعالى:
فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ [الواقعة:75].
يقول: كون المقسم به المعبر عنه بالنجوم هو القرآن العظيم أنسب؛ لقوله بعده:
وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [الواقعة:76]؛ لأن هذا التعظيم من الله يدل على أن هذا المقسم به في غاية العظمة، ولا شك أن القرآن الذي هو كلام الله أنسب لذلك من نجوم السماء ونجم الأرض، والعلم عند الله تبارك وتعالى.
قال تعالى:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى [النجم:3].
قال
قتادة : أي: وما ينطق بهذا القرآن عن هواه ورأيه صلى الله عليه وآله وسلم. وهذا أيضاً فيه تعريض بهم أنهم هم الذين ينطقون عن الهوى.
قال
أبو عبيدة (عن الهوى) أي: بالهوى. ففسر (عن) بـ (الباء)، فتكون كقوله تعالى:
فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرَاً [الفرقان:59]، أي: فاسأل عنه خبيراً، فجاءت (الباء) بمعنى: (عن).
قال
النحاس: قول
قتادة أولى، وتكون (عن) على بابها، أي: ما يخرج نطقه عن رأيه إنما هو بوحي من الله عز وجل؛ لأن بعده:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4].
بيان أن السنة وحي من الله عز وجل
وقوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) حرف (عن) فيه تنزيه لمصدر كلامه في الدين، وأنه لا يصدر عنه كلام في الدين إلا عن الوحي لا غير، ولا يمكن أن يكون صادراً عن هواه، فقوله هذا أبلغ من القول بأن (عن) بمعنى الباء، وأقوى من هذا القول قول من قال في معنى الآية: ما ينطق في أي شأن من شئون الدين عن الهوى، فيستدل بهذا على أن السنة وحي كالقرآن؛ لقول الله تبارك وتعالى بعده مباشرة:
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4] وجملة (( يُوحَى )) صفة مؤكدة لـ(وحي)؛ لأنه إذا جاءت (( يُوحَى )) بعد (وحي) فإنها قطعاً تقطع وتمنع وترفع احتمال أي مجاز.
وأيضاً لتفيد الاستمرار التجددي؛ لأن الوحي كان عند نزول هذه السورة مستمر، فقوله: (يوحى)، يعني: سوف يستمر ويتجدد نزوله إلى أن ما شاء الله سبحانه وتعالى.
وقوله: (( إِنْ هُوَ ))، أي: القرآن، مع أن القرآن لم يذكر آنفاً؛ لكن فُهم من السياق، ولأن كلام المنكرين كان في شأن القرآن الكريم، وأرجعه بعضهم إلى ما ينطق به صلى الله عليه وسلم مطلقاً، أي: أن كل ما ينطق به النبي صلى الله عليه وسلم متعلقاً بالدين فما هو إلا وحي يُوحى، واستُدل بذلك على أن السنن القولية من الوحي، وقواه بما في مراسيل
أبي داود عن
حسان بن عطية قال: (كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياها كما يعلمه القرآن). واستُدل بهذه الآية أيضاً على منع الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم، والصواب هو الأول.
و
القاسمي رحمه الله يرجح أن الضمير يعود إلى القرآن الكريم؛ لفهمه من السياق؛ ولأن كلام المنكرين كان في شأن القرآن الكريم، أي: أنه رد لقولهم: (افتراه)، والقرينة من أكبر المخصصات، وجلي أنه صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يقول بالرأي في أمور الحرب وأمور أخرى، فلابد من التخصيص قطعاً، وبأنه لا قوة في المراسيل لما تقرر في الأصول. يعني: مرسل
حسان بن عطية .
وكلام الإمام
القاسمي رحمه الله تعالى فيه نظر، فقوله: (إنه لا قوة في المراسيل لما تقرر في الأصول) هذا لو كنا نحتج على أن السنة وحي فقط بهذا المرسل، ونحن في الحقيقة غير محتاجين وغير مفتقرين للمرسل؛ لأنه من أقسام الضعيف؛ لكن عندنا ما هو أقوى؛ عندنا أدلة من القرآن نفسه، وعندنا أدلة من السنة، كما سنبين إن شاء الله تبارك وتعالى.
والحقيقة أننا نحتاج إلى أن نقف وقفة يسيرة مع هذه القضية؛ لكن بعد أن نذكر أيضاً كلاماً للإمام
ابن القيم في تفسير هذه الآية.
يقول
ابن القيم رحمه الله: ثم قال سبحانه:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، ينزه نطق رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصدر عن الهوى، وبهذا الكمال هداه ورشده، وقال: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) ولم يقل: وما ينطق بالهوى؛ لأن نطقه عن الهوى أبلغ، فإنه يتضمن أن نطقه لا يصدر عن هوى، وإذا لم يصدر عن هوى فكيف ينطق به؟! فتضمن نفي الأمرين:
نفي الهوى عن مصدر النطق.
ونفيه عن نفسه.
فنطقه بالحق، ومصدره الهدى والرشاد لا الغي والضلال.
يعني: ما يصدر عنه ما هو إلا بالوحي لا عن الهوى، وهذا أقوى من قولك: وما ينطق بالهوى؛ لأنه في هذه الحالة إذا قلنا: (بالهوى) فإن فيه تنزيهاً لنفس النبي عليه السلام أنه لا ينطق بالهوى، وإنما ينطق بالحق؛ لكن حينما نقول: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) يتضمن أمرين:
يتضمن نفي الهوى عن مصدر نطقه.
ثم أيضاً نفي الهوى عن نفسه.
يقول
ابن القيم ثم قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى): فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل.
وآنفاً ذكرنا أن
القاسمي يرجع أن الضمير في قوله تعالى: (( إِنْ هُوَ )) يعود إلى القرآن الكريم، وقال: لأن هذا هو الذي كان الكفار يزعمون أنه مفترى، وذكر أن القرآن هو المفهوم من السياق.
فيقول
ابن القيم رحمه الله تعالى: فأعاد الضمير على المصدر المفهوم من الفعل.
يعني المصدر المفهوم من الفعل (( يَنْطِقُ )) وهو النطق، فمعنى قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) وما نطقه إلا وحي يُوحى، هذا معنى كلامه.
يقول: وهذا أحسن من قول من جعل الضمير عائداً إلى القرآن؛ فإنه يعم نطقه بالقرآن والسنة، وأن كليهما وحي يُوحى، وقد احتج
الشافعي لذلك.
يعني: أن الإمام
الشافعي ينتصر لهذا القول، لأن الآية: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) تفسَّر بمعنى: أن كل ما نطق به النبي عليه السلام في الدين فهو وحي، سواء كان في القرآن أو في السنة.
الحجج على أن السنة وحي من عند الله عز وجل
يقول
ابن القيم : وقد احتج
الشافعي لذلك بقوله: لعل من حجة من قال بهذا قوله تعالى:
وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113]، والعطف هنا يدل على المغايرة، أي: أن الكتاب غير الحكمة، وأرسى قاعدة، وهي: أنه متى ما ورد الكتاب مقترناً بالحكمة في القرآن الكريم في سياق الامتنان على هذه الأمة أو على النبي صلى الله عليه وسلم، فالحكمة هي السنة باتفاق السلف.
فـ
الشافعي قال: لعل من حجة من قال بهذا قوله:
وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113].
إذاً: (الحكمة) معطوفة على (كتاب)، والكتاب أنزله الله، فتكون الحكمة أيضاً أنزلها الله.
قال: ولعل من حجته أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي الزاني بامرأة الرجل الذي صالحه على الغنم والخادم-: (
والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله: الغنم والخادم ردٌّ عليك ..) إلخ الحديث. وذكر أيضاً جملة من الأحاديث والآثار سوف نذكرها.
وقال
الشافعي : أخبرنا
مسلم -يعني:
ابن خالد الزنجي - عن
ابن جريج عن
ابن طاوس عن أبيه: أن عنده كتاباً نزل به الوحي، وما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم من صدقه وعقول فإنما نزل به الوحي.
والعقول: جمع عقل، والمقصود بها الدية.
وذكر
الأوزاعي عن
حسان بن عطية قال: كان جبريل ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسنة كما ينزل عليه بالقرآن، ويعلمه إياه.
وذكر
الأوزاعي أيضاً عن
أبي عبيد صاحب
سليمان قال: أخبرني
القاسم بن مخيمرة قال: حدثني
ابن نضيلة قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (
سعر لنا، قال: لا تسألني عن سنة أحدثها فيكم لم يأمرني الله بها، ولكن سلوا الله من فضله) و
ابن نضيلة هذا يسمى
طلحة .
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (
ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه)، وهذا هو السنة بلا شك، وقد قال تعالى:
وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [النساء:113]، وهما القرآن والسنة.
فنحن نقول: إن (هو) تعود إلى المصدر المفهوم من الفعل (ينطق)، فقوله:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *
إِنْ هُوَ [النجم:3-4] يعني: إن نطقه
إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:4]، وهذا أرجح من قول من قال: إن الضمير يعود إلى القرآن الكريم، وهذا هو أولى الأدلة على أن السنة وحي؛ لأن الأدلة على هذا أدلة من القرآن وأدلة من السنة، وليس فقط مرسل
حسان بن عطية ، إذ ليس هناك أي قضية متوقفة على كلمة
حسان بن عطية .
ومن الأدلة قول الله تبارك وتعالى:
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولَاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [البقرة:151]، الكتاب: القرآن، والحكمة: السنة.
يقول الإمام
ابن حزم رحمه الله تعالى في كتاب (الإحكام): قال الله عز وجل عن نبيه صلى الله عليه وسلم:
وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *
إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4]، وقال تعالى آمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول:
إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ [الأنعام:50] وقال تعالى:
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
وبعض المفسرين وبعض الأئمة كالإمام
عبد الله بن المبارك فهم أن الذكر هنا أيضاً يعم القرآن والسنة، ولذلك لما جاء رجل إلى الإمام
عبد الله بن المبارك يذكر له الأحاديث الموضوعة التي يضعها بعض الناس، فرد عليه قائلاً: (تعيش لها الجهابذة،
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9])، فيفهم من ذلك أن الإمام
عبد الله بن المبارك رحمه الله تعالى كان يرى أن (الذكر) يشمل القرآن ويشمل السنة.
إذاً: هناك تنزيلان:
تنزيل نزل أولاً.
ثم تنزيل آخر أتى مبيناً لهذا الذي أنزل أولاً، فقوله: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ)، أي: السنة (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) أي: القرآن الكريم، يعني: أن السنة تبين القرآن.
يقول
ابن حزم بعدما ذكر هذه الجملة من الآيات: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك.
وتأملوا في هذا الضابط وهذا القيد في قوله: (أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله)، ثم قال هنا: (في الدين)، ليخرج الكلام الذي يكون في الدنيا، كما قال: (
أنتم أعلم بأمور دنياكم)، ويخرج أيضاً الأمور التي حصل فيها اجتهاد، يعني: وإذا قلنا: إنه يجتهد ويخطئ في الاجتهاد فالوحي لا يسكت أبداً على هذا، وإنما يصحح له ويبين له الحقيقة.
يقول: فصح أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كله في الدين وحي من عند الله عز وجل لا شك في ذلك، ولا خلاف بين أحد من أهل اللغة والشريعة في أن كل وحي نزل من عند الله فهو ذكر منزل، فالوحي كله محفوظ بحفظ الله تعالى له بيقين، وكل ما تكفل الله بحفظه فمضمون ألا يضيع، وألا يحرف منه شيء أبداً تحريفاً لا يأتي البيان ببطلانه.
وربما يقول قائل: كيف تقول: إن السنة كلها محفوظة أيضاً كالقرآن، ولا يمكن أن تضيع على جميع الأمة؟
والجواب هو: أن الأحاديث قد تلتبس على بعض الناس، إذ قد يلتبس الضعيف بالصحيح، ولكن نقول: إنما يلتبس على الجهلاء، أما المختصون وأما أهل الحديث فإنها لا تلتبس عليهم.
وقال الإمام
ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه (الروح): والكتاب هو القرآن، والحكمة هي السنة باتفاق السلف، وما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله فهو في وجوب تصديقه والإيمان به كما أخبر به الرب تعالى على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أصل متفق عليه بين أهل الإسلام، ولا ينكره إلا من ليس منهم ، فيا ويل أعداء السنة!
وقد سئل
ابن المبارك عن هذه الأحاديث الموضوعة! فقال: (تعيش لها الجهابذة،
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]) وإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس.
وتخيلوا إذاً ما قاله العقيد
القذافي مثلاً من الضلالات التي قالها في شأن السنة، وأنه يريد أن يفهم القرآن فقط.
ولا يخرج هذا الكلام إلا من ناس مهووسة ومتهمة في عقولها، سواء كانوا من الكتَّاب أو المفكرين أو الضالين، بل كثيراً ما كانت تبدأ فكرة ادعاء النبوة بنفي السنة أولاً، بل هذا شأن كل من يدعون النبوة تقريباً، وهذا ما قاله شيخنا العلامة الشيخ
بديع الدين السندي رحمه الله تعالى، فإنه كان يقول: إن تفتش في سيرة الذين يدعون النبوة تجد كثيراً منهم تقدم ادعاء النبوة بالتكذيب بالسنة.
وهذا فعلاً نجده كثيراً، كما في
مسيلمة السودان المدعو:
رشاد خليفة ، فهو بدأ بإنكار السنة، وقال: هذه السنة وحي من الشيطان! إلى آخر خزعبلاته، ولا نضيع الوقت بذكرها.
فكثير ممن يدعون النبوة يبدءون أولاً بهدم السنة؛ لأن السنة سوف تأتي له بصداع، فإنه يسمع الناس تقول له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
لا نبي بعدي)، وغير هذا من الأدلة، بخلاف أدلة القرآن فإنها قد تكون طيعة في يد صاحب الهوى، كما يقول الشاعر:
وكم من فقيه خابط في ضلالة وحجته فيها الكتاب المنزل
لأن القرآن يحمل أوجهاً شتى، فالقرآن محتاج إلى السنة كي تبينه وتفصله وتوضحه، فمن أجل ذلك فهم يريدون أن يسدوا باب السنة؛ ليبتدعوا ما يريدون، ولذلك وجدنا بعض هؤلاء الضالين يقول: إن الصلاة لا تجب إلا ركعتين في الصبح وركعتين في الليل! ويزعمون أنهم يستدلون بفهمهم السقيم للقرآن.
فحفظ الإسلام لا يتم ولا يُحفظ إلا بحفظ القرآن، والقرآن لا يُحفظ إلا بحفظ السنة، ولا شك في ذلك.
يقول: فإذا كانت حجة الله على عباده لا تقوم إلا بحفظ رسالته وشرعه، فإن هذا الحفظ لا يتم إلا بحفظ القرآن والسنة التي تبينه وتشرحه للناس، فلزم من ذلك لزوماً حتمياً أن يحفظ الله سبحانه وتعالى السنة، وأن يتعهد ببقائها.
فلابد أن تُحفظ السنة أيضاً كي يُحفظ القرآن، وحتى لا يحصل إلحاد في فهم آيات الله تبارك وتعالى.
الأدلة من القرآن على أن السنة وحي من الله عز وجل
الأدلة من السنة على أن السنة وحي