الحرب خدعة، فعلى قائد المسلمين أن ينصب الكمائن التي تفتك بالعدو، وينظم جيشه ويصفهم بما يناسب الحال، وإن دعا أحد من المشركين إلى المبارزة فليبعث له من فيه قوة وشجاعة ليقتله، ويكسر قلوب الكافرين بقتله.
نصب الكمائن في القتال
شرح حديث وضع النبي صلى الله عليه وسلم الرماة على الجبل يوم أحد
والكمناء: جمع كمين. وهو القسم الذي يجعل من الجيش في مكان يختفي فيه ليقوم بمهمة في النكاية بالأعداء، هذا هو المقصود بالكمين أو الكمناء.
وأورد أبو داود حديث البراء بن عازب رضي الله تعالى عنهما، وذلك في غزوة أحد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خمسين من الرماة في مكان، وجعل عليهم أميراً عبد الله بن جبير ، وقال: امكثوا في هذا المكان ولا تبرحوه حتى يأتيكم مني شيء، فإن رأيتمونا تخطفنا الطير -أي: هزمنا- فلا تبرحوا من مكانكم حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا ظفرنا وانتصرنا فلا تبرحوا مكانكم حتى أرسل إليكم، فلما حصلت الوقعة وانهزم المشركون في أول الأمر ورأى هؤلاء الذين هم كمناء ما حصل قال بعضهم لبعضهم: الغنيمة! أي: انتصر المسلمون.
فذكرهم أميرهم عبد الله بن جبير رضي الله عنه بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لا يبرحون، سواء انهزم الجيش أم انتصر حتى يأتيهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم من يبلغهم بالشيء الذي يفعلونه.
فلما قال لهم أميرهم ما قال رأى بعضهم ألا يأخذوا بقول الأمير المستند إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم، فخرجوا ولحقوا بالقوم، ثم إنه حصل لهم بعد ذلك الهزيمة، وهؤلاء الذين أسندت إليهم المهمة وهم الكمناء ما قاموا بالالتزام بالشيء الذي أرشدهم إليه الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فحصل ما حصل.
والمقصود من الحديث ذكر الكمين، وأنه يمكن للوالي أو للأمير أن يجعل بعض القوم كمناء بحيث يكونون ظهراً للمسلمين.
يعني: قال بعض أصحاب عبد الله بن جبير الذين معه والذين هو أميرهم: الغنيمة الغنيمة. أي: انطلقوا حتى تأخذوا الغنيمة أو تشاركوا في أخذ الغنيمة. فذكرهم أميرهم عبد الله بن جبير بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنهم يبرحون ولا يتجاوزون المكان إلا بعد أن يأتيهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول يبلغهم بالشيء الذي يريده النبي صلى الله عليه وسلم منهم، فلم يأخذوا بما ذكرهم به عبد الله بن جبير رضي الله عنه.
أورد أبو داود [ باب في الصفوف ] يعني أن الجيش يصف، وأنهم يكونون صفوفاً ولا يكونون بدون تنظيم وبدون اصطفاف، بل يكونون صفوفاً.
وأورد حديث أبي أسيد الساعدي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اصطففنا يوم بدر ].
ومحل الشاهد قوله: [ اصطففنا ] ومعناه أن الجيش يصطف، وقد جاء في اصطففاهم يوم بدر الحديث المشهور الذي فيه أنهم لما صفوا وكان عبد الرحمن بن عوف في الصف كان عن يمينه شاب من الأنصار وعن يساره شاب من الأنصار، فغمزه الذي عن يمينه وقال: يا عم! أتعرف أبا جهل ؟ قال: وماذا تريد منه؟! قال: إنه يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، فلئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا. ومحل الشاهد منه أنهم صفوا وكان على يمين عبد الرحمن شاب من الأنصار والآخر عن يساره، وكذلك غمزه الآخر وقال مثلما قال، فأراهما إياه فانطلقا إليه وقتلاه.
فمن الأمور المهمة في الجيوش التنظيم في الصفوف، وكان عليه السلام يصف أصحابه، وحصل ذلك في بدر كما جاء في قصة عبد الرحمن بن عوف ، وكما جاء في الحديث الذي معنا، وهو أنهم لما اصطفوا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: [ (إذا أكثبوكم -يعني: إذا غشوكم- فارموهم بالنبل) ].
أي: إذا قربوا منكم فأرسلوا النبل إليهم؛ لأن النبل لا يذهب مكاناً بعيداً، فإذا قربوا منهم فإنه ينفع إرسال النبل، وإذا كانوا في مكان بعيد ذهب النبل ولم يصب العدو، فلم يحصلوا من الرمي على طائل.
فقوله: [ (إذا أكثبوكم) ] ليس معناه أنهم وصلوا إليهم بحيث التحموا بهم؛ لأنه إذا حصل الالتحام فالسيوف هي التي تنفع، وأما إذا كان بينهم مسافة بحيث تصل السهام فإنها ترسل السهام إليهم، وإذا كانوا بعيدين لا ترسل السهام، بل يستبقون نبلهم، فقوله: [ (أكثبوكم) ] معناه صاروا قريبين منكم، ولهذا كثيراً ما يأتي التعبير بالوقوف عن كثب، ومعناه: عن قرب.
معنى قوله: [ (فارموهم بالنبل) ] أي: إذا قربوا وصاروا قريبين منكم [ (واستبقوا نبلكم) ] يعني لا ترسلوه إذا كانوا بعيدين؛ لأنكم لو أرسلتموه فإنه يضيع ولا تصيبون الأعداء.
تراجم رجال إسناد حديث أمره صلى الله عليه وسلم أصحاب بدر وقت اصطفافهم برمي العدو بالنبل حال قربهم منهم
أورد المصنف [ باب في سل السيوف عند اللقاء ] يعني عند لقاء العدو، بحيث إذا غشوهم وقربوا منهم واختلطوا بهم فإن السيوف تمضي فيهم، فعند ذلك تسل وتستخدم السيوف، وأما إذا كانوا ليسوا قريبين منهم أو كان بينهم مسافة فيرسل النبل إليهم إذا كانت المسافة قريبة كما مر في الحديث السابق، بحيث تؤثر السهام فيهم، ولا ترمى إذا كانوا بعيدين بحيث لا تصل إليهم السهام، فإذا كان بينهم وبينهم مسافة قريبة ترسل السهام، وإذا غشوهم والتصقوا بهم واختلطوا بهم فعند ذلك تعمل السيوف فيهم.
فقوله: [ (إذا أكثبوكم) ] أي: دنوا منكم وقربوا بحيث يصل النبل إليهم ويصيبهم.
قوله: [ (ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم) ] يعني: لا تسلوها حتى يصلوا إليكم وتصلوا إليهم.
فالالتحام إذا حصل تعمل السيوف عند ذلك، وإذا كان هناك مسافة قريبة وكان هناك حد فاصل بين المسلمين والكفار فإنه يرسل النبل؛ لأن النبل حينها ينفع، وإذا ضربوا بالسيوف فإنهم يضربون في الهواء، فليس عندهم أحد يضرب بالسيوف، لكن إذا وصلوا إليهم بحيث تصل السيوف إليهم تستعمل السيوف ولا يستعمل النبل ما دام قد حصل الالتحام.
تراجم رجال إسناد حديث: (إذا أكثبوكم فارموهم بالنبل ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم)
والحديث ضعفه الشيخ الألباني ، ولعله من أجل المجهول والمقبول، ولكن معناه صحيح من جهة أن النبل يرسل حيث لا يكون الالتحام، وأنه إذا حصل الالتحام تنفع السيوف.
والمبارزة هي بروز فرد أو أفراد من جيش المسلمين مع جيش الكفار فيحصل الاقتتال فيما بينهم خاصة، هذه هي المبارزة، وفيها إظهار القوة والنشاط وعدم الضعف، وأن الكفار إذا تطاولوا وأظهروا أن فيهم قوة فالمسلمون يقابلونهم بقوة أعظم من قوتهم.
فهؤلاء الثلاثة من الكفار، وهم عتبة وابنه الوليد وأخوه شيبة طلبوا المبارزة، فانتدب لهم شباب من الأنصار، أي: قالوا: نحن نبارزكم. فقالوا: من أنتم؟ فأخبروهم، فقالوا: لا نريدكم وإنما نريد بني عمنا. أي: قرابتنا الذين هم من قريش من المهاجرين وليسوا من الأنصار.
قالوا: فهذا فيه دليل على المبارزة وعلى جوازها وعلى مشروعيتها. ومن العلماء من قال: إنها تكون بإذن الإمام ولا تكون بغير إذنه. ومنهم من قال: إنها تكون بغير إذنه؛ لأن الأنصار الثلاثة الذين انتدبوا ما قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: تقدموا. وإنما أبرزوا أنفسهم، ولكن أولئك رفضوا وقالوا: ما نريدكم أنتم، بل نريد بني عمنا. يقصدون المهاجرين.
ولكن كون الأمر يرجع فيه إلى الإمام، وكون الجيش يتصرف بتوجيه الإمام هذا هو الذي ينبغي.
وبدء المعركة بالمبارزة معناه إظهار القوة لاسيما أن أولئك الذين بدءوا كان عندهم تطاول واستعلاء، ومع ذلك فالله سبحانه وتعالى خذلهم، فلا شك أن هذا فيه إظهار قوة المسلمين فيما إذا حصل تغلبهم على من يبارزهم.
وفعل حمزة وعلي رضي الله عنهما حين ساعدا عبيدة كأنه كان سائغاً عند العرب.
تراجم رجال إسناد حديث طلب عتبة بن ربيعة المبارزة يوم بدر
هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه أمير المؤمنين ورابع الخلفاء الراشدين المهديين، صاحب المناقب الجمة والفضائل الكثيرة رضي الله عنه وأرضاه، وحديثه عند أصحاب الكتب الستة.