إسلام ويب

شرح سنن أبي داود [361]للشيخ : عبد المحسن العباد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • لقد حثنا ديننا على الألفة والمحبة والاجتماع، فإذا مرض المسلم استحب للمسلمين أن يزوروه، وأن يتفقدوه، وأن يدعوا له بالشفاء والصحة، وإذا قدِّر عليه الموت ندب للمسلمين أن يغسلوه، وأن يكفنوه، وأن يتبعوا جنازته، وأن يصلوا عليه، وأن يدعوا له بالمغفرة والرحمة والرضوان. فما أعظمه من دين! يحث على التعاون والمحبة حتى بعد موت المسلم.

    شرح حديث: (إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه..)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ كتاب الجنائز: باب الأمراض المكفرة للذنوب.

    حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي حدثنا محمد بن سلمة عن محمد بن إسحاق حدثني رجل من أهل الشام يقال له: أبو منظور ، عن عمه أنه قال: حدثني عمي عن عامر الرامي أخي الخضر ، رضي الله عنه -قال أبو داود : قال النفيلي : هو الخضر ولكن كذا قال- قال: (إني لببلادنا إذ رُفعت لنا رايات وألوية، فقلت: ما هذا؟ قالوا: هذا لواء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فأتيته وهو تحت شجرة قد بُسط له كساء وهو جالس عليه، وقد اجتمع إليه أصحابه، فجلست إليهم، فذكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الأسقام فقال: إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل، وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه ولم يدر لم أرسلوه، فقال رجل ممن حوله: يا رسول الله! وما الأسقام؟ والله! ما مرضت قط! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: قم عنا فلست منا، فبينا نحن عنده إذ أقبل رجل عليه كساء، وفي يده شيء قد التفّ عليه، فقال: يا رسول الله! إني لما رأيتك أقبلتُ إليك، فمررت بغيضة شجر فسمعت فيها أصوات فراخ طائر، فأخذتهن فوضعتهن في كسائي، فجاءت أمهن فاستدارت على رأسي، فكشفت لها عنهن فوقعت عليهن معهن، فلففتهن بكسائي، فهن أولاء معي، قال: ضعهن عنك، فوضعتهن وأبت أمهن إلا لزومهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه: أتعجبون لِرُحم أم الأفراخ فراخها؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فوالذي بعثني بالحق! لله أرحم بعباده من أم الأفراخ بفراخها، ارجع بهن حتى تضعهن من حيث أخذتهن وأمهن معهن، فرجع بهن) ].

    ثم ذكر أبو داود كتاب الجنائز، والمشهور عند العلماء أنهم يضعونه في آخر كتاب الصلاة؛ لاشتماله على صلاة الجنازة، فغلبوا جانب الصلاة على الأمور الأخرى في الجنائز من التكفين والدفن والتغسيل، فيضعون كتاب الجنائز بجميع أحكامه من صلاة وغيرها في آخر كتاب الصلاة، وأما أبو داود رحمه الله فقد وضعه هنا بعد كتب كثيرة من كتب المعاملات، فلا أدري وجه تأخيره ووضعه في هذا المكان، وهو خلاف المشهور عند العلماء.

    والجنائز: جمع جنازة، والمقصود به الميت، سواءً كان ذكراً أو أنثى.

    ثم أورد أبو داود باب: الأمراض المكفرة للذنوب، ومعلومٌ أن الأمراض والأسقام والبلاء التي تصيب الإنسان إذا صبر عليها واحتسب فإنها من أسباب تكفير الذنوب كما جاء في أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها: (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن إصابته ضراء صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن)، وهناك أحاديث كثيرة وردت في هذا تدل على أن الأمراض والأسقام يكفر الله تعالى بها الذنوب والخطايا، ولكن لا يكون هذا إلا مع الصبر والاحتساب.

    ثم أورد أبو داود هنا حديثاً ضعيفاً عن عامر الرامي رضي الله تعالى عنه ذكر فيه قصة وهي: أنه كان ببلده فرأى ألوية ورايات، فسأل عنها فأخبر بأنها رايات رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أخبر أن رجلاً مر بغيضة وفيها أفراخ طائر فحمل هذه الأفراخ، وأن أم هذه الأفراخ لحقته فكشف لها عن أولادها فنزلت معهن، ثم حدث بالحديث الذي فيه ذكر الأمراض.

    قوله: (إذ رفعت لنا رايات وألوية) الرايات والألوية قيل: هما بمعنى واحد، وقيل: إن أحدهما أظهر وأعم من الآخر.

    قوله: (إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله) يعني: شفاه الله منه، (كان كفارة لما مضى من ذنوبه، وموعظة له فيما يستقبل) أي: من الزمان، ومعنى ذلك أنه يستفيد من ذلك في المستقبل، ويستفيد من ذلك في الماضي، فيستفيد في الماضي بأنه يكفر ما مضى من ذنوبه، ويستفيد مستقبلاً بأن يعتبر ويتعظ، ويكون ذلك حافزاً له إلى أن يعمل صالحاً، وأن يبتعد عن المحرمات.

    [ (وإن المنافق إذا مرض ثم أعفي كان كالبعير عقله أهله ثم أرسلوه، فلم يدر لم عقلوه، ولم يدر لم أرسلوه) ].

    أي: أن المنافق على خلاف المؤمن، فإذا أصابه المرض ثم شفي منه فإنه لا يحرك فيه ساكناً، ولا يلتفت إليه، ولا يعتبر ولا يتعظ به، ويكون كالبعير الذي عقله أهله ثم أطلقوه، فلا يدر لماذا عقلوه، ولا لماذا أطلقوه، أي: أنه لا يستفيد من ذلك في تكفير الذنوب، ولا يتعظ ويعتبر في المستقبل، فهو باقٍ في غيه وضلاله ونفاقه.

    قوله: [ فقال رجل ممن حوله: يا رسول الله! وما الأسقام والله ما مرضت قط؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (قم عنا فلست منا) أي: لست من أهل طريقتنا الذين تحصل لهم تلك الأسقام، فإن فيها التكفير والعبرة والموعظة.

    والحديث -كما عرفنا- غير صحيح.

    قوله: [ فبينما نحن عنده إذا أقبل رجل عليه كساء، وفي يده شيء قد التفَّ عليه، فقال: يا رسول الله! إني لما رأيتك أقبلت عليك، فمررت بغيضة شجر ]، الغيضة: هي الشجر الملتف.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن المؤمن إذا أصابه السقم ثم أعفاه الله منه كان كفارة لما مضى من ذنوبه)

    قوله: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي ].

    عبد الله بن محمد النفيلي ثقة أخرج له البخاري وأصحاب السنن.

    [ حدثنا محمد بن سلمة ].

    هو محمد بن سلمة الباهلي الحراني ، وهو ثقة أخرج له البخاري في (جزء القراءة) ومسلم وأصحاب السنن.

    [ عن محمد بن إسحاق حدثني رجل من أهل الشام يقال له: أبو منظور ].

    محمد بن إسحاق مر ذكره، والرجل من الشام الذي يقال له: أبو منظور مجهول، أخرج له أبو داود .

    [ حدثني عمي ].

    إذن ففي الحديث واسطتان مبهمتان فهو غير صحيح.

    [ عن عامر الرام ].

    وهو صحابي أخرج له أبو داود ، وليس له إلا هذا الحديث.

    وبعض فقرات هذا الحديث لها شواهد تشهد لها، فمسألة أن الأمراض والأسقام تكفر الذنوب لها شواهد كثيرة، منها: حديث صهيب : (عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله له خير، إن إصابته ضراء صبر فكان خيراً له) أي: الأسقام وغيرها من الضرر.

    وقوله في آخره: (لله أرحم) ثابت، فكون الله أرحم بعباده من المخلوق هذا شيء ثابت في الحديث الصحيح في قصة المرأة التي أخذت طفلها فألصقته بصدرها ترضعه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا، قال: لله أشد رحمة من هذه بولدها).

    شرح حديث: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده...)

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وإبراهيم بن مهدي المصيصي المعنى، قالا: حدثنا أبو المليح عن محمد بن خالد ، قال أبو داود : قال إبراهيم بن مهدي : السلمي عن أبيه عن جده، وكانت له صحبة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده)، قال أبو داود : زاد ابن نفيل : (ثم صبّره على ذلك) ثم اتفقا: (حتى يبلغه المنزلة التي سبقت من الله تعالى) ].

    ثم أورد أبو داود حديث رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقال له اللجلاج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا كانت له منزلة عند الله عز وجل لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده، أو في ماله، أو في ولده، ثم صبّره على ذلك حتى يبلغ هذه المنزلة) يعني: أن من أسباب رفعة درجته، وعلو منزلته: أن يُبتلى فيصبر، وهذا من علامات السعادة: أن يشكر عند السراء، وأن يصبر عند الضراء، وهو مثل الذي تقدم في كونه يبتلى فيصبر، وهناك أحاديث كثيرة في كون الإنسان ترفع درجته بسبب الأمراض والأسقام وتكفر ذنوبه إذا صبر على ذلك فيرفعه الله تعالى بذلك درجات، ويحط عنه الخطايا والسيئات.

    وهذا الحديث صححه الألباني، وفيه بعض المجاهيل كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر فلعل له شواهد.

    تراجم رجال إسناد حديث: (إن العبد إذا سبقت له من الله منزلة لم يبلغها بعمله ابتلاه الله في جسده..)

    قوله: [ حدثنا عبد الله بن محمد النفيلي وإبراهيم بن مهدي المصيصي ].

    إبراهيم بن مهدي المصيصي مقبول أخرج له أبو داود .

    [ حدثنا أبي المليح ].

    هو أبو المليح الحسن بن عمر الرقي ، وهو ثقة، أخرج له البخاري في (الأدب المفرد) وأبو داود والنسائي وابن ماجة .

    [ عن محمد بن خالد ].

    محمد بن خالد مجهول، أخرج له أبو داود .

    [ قال أبو داود : قال إبراهيم المهدي : السلمي عن أبيه ].

    يعني أبو داود : أن إبراهيم المهدي -وهو الشيخ الثاني لـأبي داود - نسب محمد بن خالد ، فقال: السلمي ، وأما الشيخ الأول وهو عبد الله النفيلي فإنه قال: محمد بن خالد فقط، ولم يقل: السلمي .

    [ عن أبيه ].

    أبوه مجهول، أخرج له أبو داود .

    [ عن جده ].

    جده لم يسم، ويقال: إنه اللجلاج ، وهو صحابي أخرج له أبو داود .

    ولعل وجه إيراد هذا الباب في أول كتاب الجنائز: أن الأمراض هي مقدمة الموت، فهي سبب من أسبابه، وتكون سابقة عليه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3088521007

    عدد مرات الحفظ

    777095128