علم أبي بكر وحفظه
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
ما زلنا مع خير هذه الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم، مع الصديق الذي خاطبه الله جل في علاه بالتبجيل والتعظيم والإجلال وقال:
وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ
[النور:22] تعظيماً وتبجيلاً وتوقيراً للصديق رضي الله عنه وأرضاه.
إن فضائله رضي الله عنه كثيرة، فهو أعلم الصحابة على الإطلاق، وأفقه الصحابة على الإطلاق، بل وأحفظ الصحابة على الإطلاق، ودليل ذلك من السنة أن النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته دعاه بلال ليخرج فيصلي بالناس، فلم يستطع إلى ذلك سبيلاً، فذهب بلال يدعو أبا بكر فأحال أبو بكر بلالاً على عمر ، فكلم بلال عمر بن الخطاب ، فذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه فصلى بالناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأبى الله ويأبى المؤمنون إلا أبا بكر) أي: يأبى الله ويأبى المؤمنون تقديم أحد على أبي بكر .
ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي قال: (يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله)، فهذه فيها دلالة على أن أقرأ الصحابة وأحفظهم هو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فقد كان أعلم الصحابة، وفاق في العلم على كثير من الصحابة.
ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم انشغل الناس: هل يغسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثيابه أو لا؟ وهل يدفن في بيته أو يدفن في مقابر المسلمين؟ ولم يوجد هذا العلم عند الصحابة، لكنه قد وجد عند أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
زهد أبي بكر وجوده
إن من فضائل
أبي بكر ما علم عنه من زهد وجود رضي الله عنه وأرضاه؛ فهو الذي أنفق ماله كله على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى الدعوة إلى الله جل في علاه. وكان من أزهد الناس وأتقى الناس، وقد حصل أن عبداً له كان يعمل في الخراج، والعبد إذا كان في يد السيد فكل عمل يستجلب منه مالاً فهذا المال يكون لسيده، فكان
أبو بكر يأخذ عامله بيده ويقول له: من أين اكتسبت هذا المال؟ وفي ذات مرة نسي
أبو بكر أن يسأل هذا العبد: من أين أتيت بهذا المال؟ فقال العبد: بعدما أخذ
أبو بكر المال وأكل منه: لم لم تسألني من أين اكتسبت هذا المال؟ فقال: من أين اكتسبته؟ فقال العبد: هذه كهانة كنت قد تكهنتها في الجاهلية، أي: ادعى العلم بالغيب زوراً وبهتاناً، ولأجله أخذ المال، فأكل
أبو بكر من ذلك المال، فانظروا إلى
أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه، وإلى ورعه وتقواه لله جل في علاه هنا، مع أن القاعدة تقول: إن الإثم مرفوع عن المكره وعن المخطئ وعن الناسي الذي لا يعلم، وقد قال الله تعالى:
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا 
[البقرة:286]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (
رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، و
أبو بكر لم يكن يعلم أن هذا المال من حرام وظنه حلالاً، لكن ورعاً وتقوى من
أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه أدخل إصبعه في فيه حتى استقاء كل ما في بطنه؛ خشية منه أن يدخل درهماً حراماً في جوفه رضي الله عنه وأرضاه!
وصدق عبد الرحمن بن عوف إذ يقول: لو وضع إيمان الأمة -ليس فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم- في كفة، ووضع إيمان أبي بكر في كفة لرجحت كفة أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه.
غضب الرسول لأبي بكر
علو همة أبي بكر في نيل فضل الله تعالى
ترتيب أبي بكر في الفضل عند الصحابة
محمد بن الحنفية هو أحد التابعين، وهو ابن سيدنا
علي رضي الله عنه وأرضاه من أمته التي كان يطؤها من غير نكاح، قال
محمد بن الحنفية : قلت لأبي: أي الناس خير بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال:
أبو بكر . قلت: ثم من؟ قال:
عمر . وخشيت أن يقول:
عثمان ، فقلت: ثم أنت؟ قال: ما أنا إلا رجل من المسلمين.
وقد دب الخلاف بين فقهاء التابعين وأهل السنة والجماعة هل الأفضل عثمان أم علي ؟ فالأحناف والثوري كانوا يقدمون علياً على عثمان وكذلك الإمام الشوكاني علامة اليمن، وهو والصنعاني كانا زيدية، وكانا يقدمان علياً على عثمان ، والصحيح الراجح هو ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية : وأجمعت كلمة الأمة بعد هذا الخلاف على أن الترتيب في الأفضلية هو ترتيب الخلافة: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين.
وحدث أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد أحداً وأبو بكر وعمر وعثمان ، فرجف بهم، فقال: اثبت أحد فإنما عليك نبي وصديق وشهيدان) ويقصد بالصديق أبا بكر رضي الله عنه وأرضاه، فمكانة الصديقية مكانة رفيعة نالها هو، والنبي صلى الله عليه وسلم قد بين أن الشهيد في قبره لا يسأل، مع أنه قد جاءت نصوص عامة تدل على أنه ما من أحد إلا سيسأل، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة الدجال)، ولكن جاء التخصيص لهذا العموم للشهيد بأنه لا يسأل، ولذلك سأل الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم: (لم لا يسأل؟ قال: كفى ببارقة السيوف فتنة).
ثم إن العلماء اختلفوا، هل الصديق ممن يسأل أو لا؟ فقال العلماء: إن قلنا بقياس الأولى والقياس الجلي فسنقول: لا يسأل؛ لأن السؤال في القبر مفاده اختبار لصدق العبد، فالشهيد الذي باع نفسه صادقاً لله قد أظهر صدقه في الدنيا، والصديق أقوى صدقاً من الشهيد، فقالوا: إذاً: الصديق لا يسأل في قبره، لكنا لا نأخذ بهذا القول، فالمسألة توقيفية، وإن كنا نقول: إن الصديق شهيد بل فوق الشهيد بمرحلتين ومرتبتين، لكنه يسأل في قبره، والله أعلم.
تضحيات أبي بكر وبذله في سبيل الله
قال
عروة بن الزبير : سألت
عبد الله بن عمر : ما أشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: رأيت
عقبة بن أبي معيط قد جاء والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي، فوضع رداءه في عنقه فخنقه به خنقاً شديداً، فجاء
أبو بكر حتى دفعه وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟! فوقف وقفة لم يقفها أحد مثله، كما وقف مؤمن آل فرعون أمام فرعون وقومه.
استخلاف أبي بكر لعمر
قال
الحسن البصري : لما حضرت
أبا بكر الوفاة قال: انظروا كم أنفقت من مال الله عز وجل؟ فوجدوه قد أنفق في سنتين ونصف ثمانمائة ألف درهم. قال: اقضوه عني، فقضوه عنه، ثم قال: يا معشر المسلمين، إنه قد حضر من قضاء الله عز وجل ما ترون، ولا بد لكم من رجل يلي أمركم ويصلي بكم ويقاتل عدوكم، فإن شئتم اجتمعتم وائتمرتم، وإن شئتم اجتهد لكم رأيي.
لأنه يعلم أنه سيسأل عند ربه من استخلف على المسلمين؟ وذلك إن اختيار من يكون أهلاً لإحقاق الحق من الشرع بمكان، وهي مسئولية لابد أن يعد الجواب عنها أمام الله جل في علاه.
والإنسان يظهر عندما تأتي الحقائق، والناس يعرفون في المواقف، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا) وأبو بكر وضع في مكانة عظيمة، وقد علم أنه سيقبل على ربه، وأنه سيسأل من ولى على المسلمين؟
ثم قال: وإن شئتم اجتهدت لكم رأيي، فو الله الذي لا إله إلا هو لا آلوكم -يعني: لا أقصر في النفع والنصح لكم- ونفسي خيراً، فبكوا وقالوا: أنت خيرنا وأعلمنا -وحق لهم أن يقولوا ذلك- فاختر لنا، فقال: إني قد اخترت لكم عمر رضي الله عنه وأرضاه، فلما قال ذلك -كما في بعض الروايات التي ذكرها أهل السير-: ضج الناس وقالوا: يا أبا بكر ماذا ستفعل عند ربك عندما تضع علينا هذا الشديد؟! يعني: كانوا يخافون من شدة عمر .
شدة عمر في الحق